تعتبر بلجيكا من بلدان أوربا الغربية البارزة، نظرا لأهميتها
الإستراتيجية المنبثقة عن موقعها الجغرافي المميز في قلب أوربا حيث
تحيطها بلدان أوربية غربية مهمة مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا ولوكسمبورغ
ويفصلها بحر الشمال عن بريطانيا. هذا الموقع الإستراتيجي الهام سهل
كثيرا في أن يكون هذا البلد مقرا لحلف شمال الأطلسي(الناتو) من جهة
وعاصمة شبه رسميّة لدول الإتحاد الأوربي من جهة أخرى. ورغم هذه الأهمية
الإستراتيجية ورغم صغر مساحة هذا البلد وقلة عدد نفوسه مقارنة بدول
الإتحاد الأوربي الأخرى، إلاّ ان الظروف السياسية الداخلية فيه متأزمة
ومعقدة وغير سليمة!
الأزمة السياسية المستمرة في هذا البلد قد نشأت منذ القدم أي منذ
نشوء بلجيكا كبلد حر ومستقل وذلك في عام 1831م. هذا النزاع السياسي
الطويل بين سياسيي بلجيكا كان مبنيّا على أساس التباين اللغوي. فالشعب
البلجيكي يتألف من ثلاث مجموعات عرقية رئيسية تتكلم ثلاث لغات رسمية
مختلفة، وهي اللغة الفلمنكية التي تشبه والى حد كبير اللغة الهولندية
حيث أن نسبة المتكلمين الأصليين فيها هي 59 في المائة من الشعب
البلجيكي ويسمّون بـ (الفلمنكيين). واللغة الثانية هي اللغة الفرنسية
والمتكلمين الأصليين بها يشكلون نسبة 40 في المائة ويسمّون بـ
(الوالونيين)، وواحد في المائة فقط يتكلم اللغة الألمانية كلغة أم.
التباين اللغوي بين أبناء الشعب البلجيكي قد خلق الكثير من الأزمات
السياسية في هذا البلد وعلى مدار تأريخ بلجيكا، رغم أن هذا السبب كان
في كثير من الأحيان عذرا سياسيا يحمل بين طيّاته أسبابا أخرى معلنة في
بعض الأحيان وكامنة في أحيان أخرى!
هذا النزاع السياسي المستمر بين السياسيين الفلمنكيين والوالونيين
قد مر بأطوار ومظاهر مختلفة من حيث الشدة والدرجة، وبين الفينة والأخرى
تصل حالة التأزم والتعقيد الى درجة التفكير بالإنفصال الكامل والشامل
بين هاتين الكتلتين المتباينتين لغويّا. فكثيرا ما تحدث المحللون
السياسيون عن إحتمالية تقسيم هذا البلد الى دولتين رئيسيتين مستقلتين
هما: الدولة الفلمنكية والدولة الوالونية، وذلك من أجل إنهاء معاناة
مخاض طويل وعسير تمتد جذوره الى أعماق تأريخ الدولة البلجيكية.
أربعة شهور ونصف قد مرّت على تأريخ الإنتخابات والمملكة البلجيكية
بلا حكومة! فالسيّد إيف لوتيرم الفلمنكي المتشدد والمتطرف في آرائه
وشعاراته والذي فاز باغلبية الأصوات يتطلع الى إجراء تحويرات دستورية
هامة تتعلق بقوانين الإنتخابات من جهة، وبإجراء إصلاحات إقتصادية
إجتماعية مهمة تضع حد للمساعدات المادية السخية التي يهبها الفلمنكيون
لميزانية المؤسسات الوالونية.
من جهة أخرى هذه المقترحات الثقيلة قد لاقت رفضا شديدا من قبل
الكتل السياسية الوالونية مما جعل طريق الحوار مسدودا أمام الجميع وصار
البلد يمر في أزمة سياسية خانقة فتحت قرائح المحللين والمنظرين حول
مستقبل هذا البلد ومصيره. لقد عادت الألسن الكثيرة تتحدث عن إحتمالية
التقسيم وعن المصاعب والمضاعفات الناتجة عن ذلك، لأن هذا البلد متداخل
مع بعضه في مدنه وشعبه كتداخل الشعب العراقي في مدنه ومع نفسه! وأي
عملية تقسيم نهائي للبلد سوف تجعل الكثيرين من ابناء الشعب البلجيكي
أقليات في مناطقهم ومدنهم مما قد يخلق أزمات إدارية لها أول وليس لها
آخر. كما أن التقسيم المطروح قد يفتت قوى هذا البلد السياسية
والإقتصادية والإجتماعية ويخلق حالة من عدم الإستقرار السياسي في هذه
المنطقة، فضلا عن إحتمالية إنسحاب المؤسسات العالمية الكبرى العاملة
إداريا في هذا البلد كالبرلمان الأوربي ومجلس الإتحاد الأوربي واللجنة
الإجتماعية والإقتصادية الأوربية وإتحاد دول البنيلوكس ومقر حلف الناتو
وغيرها من المؤسسات العالمية الهامة، إن شعرت هذه المؤسسات بحالة عدم
الإستقرار أو في صعوبة حركتها وعملها في ظل جو سياسي مختنق ومتشنج!
من هنا نستطيع إن نستخلص ونستنبط ومن خلال الوضع السياسي في بلجيكا
الدروس والعبر التالية:
1- تطبيق الديمقراطية في بلدان فيها تباين إجتماعي هام هي عملية
حساسة وخطيرة للغاية، إذ قد يولج البلد غير المحضر لها تحضيرا علميا
صميميا وحقيقيا في متاهات ومصائب لا تحمد عقباها. لأن وجود تباينات
عرقية أو لغوية أو دينية أو طائفية في المجتمع الواحد كفيل بدفع هذه
البلدان في ظل ديمقراطية هشّة وغير منظمة الى نزاعات سياسية محتدمة قد
تقود الى تقسيم البلاد وتفتيتها أو الى الولوج في أتون حرب أهلية تحرق
الأخضر واليابس معا.
حتى في الدول المتقدمة من العالم، فتت الديمقراطية الأواصر الموجودة
وقسمت البلدان، ففي ظل الديمقراطية غدت تشيكوسلفاكيا السابقة دولتين
ويوغسلافيا السابقة دويلات والإتحاد السوفيتي السابق دول. كما أن اقليم
الباسك في أسبانيا يسعى للإستقلال على أسس عرقية عن أسبانيا وايرلندا
الشمالية تتوق للإنفصال عن بريطانيا لأسباب طائفية، والتقسيم على أساس
اللغة في كل من بلجيكا وكندا أضحى قاب قوسين أو أدنى ما لم تنتبه
الشعوب وتحتاط في إختيار ممثليها!
2- الشعوب المتوجهة الى صناديق الإنتخابات يجب أن تكون واعية
ومنتبهة في توجهها ورؤاها، كي لا تنخدع بالشعارات الرنانة التي يرفعها
بعض السياسيين المتطرفين في رؤاهم وبرامجهم والتي قد تقود الى كوارث
سياسية تهدم حاضر البلد ومستقبله. فالتأريخ مليء بالأحداث والأخطاء
التي ارتكبتها الشعوب بسبب قلة الوعي والإنخداع بالشعارات النارية التي
تلهب العواطف وتخدع العقول. ففي المانيا مثلا قد فاز أدولف هتلر
بالإنتخابات وجر بلده وبلدان العالم الأخرى الى طريق الثبور والدمار،
فدفع شعبه وشعوب العالم الثمن لسوء الإختيار! وفي أمريكا فاز جورج
دبليو بوش في الإنتخابات أيضا وجر بلده الى نزيف مستمر بالدم والمال
نتيجة إجتياحه للعراق وإفغانستان. وأمثلة المتطرفين الذين خدعوا شعوبهم
كثيرة في التأريخ سواء كان القديم أو المعاصر.
3- رغم أن الأسباب الظاهرية للأزمات السياسية بين السياسيين تتبرقع
ببرقع العرق أو اللغة أو الطائفة أو الدين، إلاّ أن الأسباب الكامنة
والحقيقية من وراء الحركات الإنفصالية هي غالبا ما تكون مادية إقتصادية
بحته. فان كانت على سبيل المثال كتلة من مجتمع ما تتمتع برخاء إقتصادي
أكبر من الكتلة الأخرى الموجودة في نفس المجتمع فسوف نرى طلبات
الإنفصال والتقسيم صادرة عادة من الفئة الغنية وليس الفقيرة. كما أن
الفئة الفقيرة في ذلك المجتمع تكون عادة الأكثر تمسكا والأشد إلتصاقا
بعرى التماسك والإلتحام. فالفلمنكيون هم الأغنى إقتصاديا في المجتمع
البلجيكي والوالونيون هم الأفقر. والفلمنكيون هم من يشتكي من عبء
الوالونيين المادي عليهم الى درجة أن بعضهم يرنو الى التقسيم
والإنفصال!
4- البلدان التي تتقسم الى مناطق أو دويلات تضعف وتفقد الكثير من
قواها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتقنية وتصبح عرضة للتفتت
والإنهيار في كل جانب من جوانب الحياة، ومن يدعو للتقسيم إنما يدعو
للتفكك والإنحدار. فالإتحاد قوة والتقسيم ضعف وإن كثرت الدواعي وتعددت
الأسباب.
5- من أجل إرساء أسس الديمقراطية الحقة في بلداننا التي لم تر نور
الديمقراطية بعد! على رواد الديمقراطية ومناصريها أن ينتبهوا ويعوا الى
ضرورة توعية شعوبهم بأسس الديمقراطية الصحيحة وأن ينشروا مبادىء ثقافة
الديمقراطية كي لا تنخدع تلك الشعوب وتقع فريسة سهلة بين براثن
المتطرفين والمتشددين أو الفئويين وعشاق الذات. ولكي لا تصبح
الدكتاتورية المرة العنيدة أبهى وأنسب من الديمقراطية الهشة الجديدة
فيضيع الخيط والعصفور وتخرج الشعوب المتعبة من صحراء الدكتاتورية
الجافة لتدخل في نار الديمقراطية الحارقة ويصح عندها المثل القائل:
كالمستجير من الرمضاء بالنار....! |