شبكة النبأ: في الثالث من تشرين الاول
1993 ومن اعلى بناية قريبة، وفرت محطة سي ان ان واحدة من افضل
تغطياتها الاعلامية لاولى لحضات الاقتحام النهائي الذي قام به الجنود
الروس ضد البرلمان في موسكو وضد النواب المعارضين لاصلاحات الرئيس
يلتسن واخذهم بقوة السلاح، اذ تابع العالم تلك الاحداث لحظة وقوعها فقد
امر الرئيس بقصف المبنى التاريخي للبرلمان ليتقدم الجنود لاحتلاله
طابقا بعد طابق.
وعلى مسافة 7500 كم من ذلك المكان، وفي شقته في تورنتو الكندية
راقب فنان معروف بتطرفاته السياسية في اوربا الشرقية تلك الاحداث طوال
الليل كان ذلك هو الفنان (كايولا كا لكو) الذي انتقل منذ عام 1982 الى
كندا هاربا من هنغاريا حاملا معه ذكرياته لانتفاضة بودابست 1956 يوم
اطيح بالحكومة المدعومة من السوفيت.
وتتلاحق الصور كما الاحداث لتنطبع كذاكرة مجردة غير واضحة المعالم
فبعد سحق الجنود السوفيت للتمرد الهنغاري ثم صودرت اعمال (كايو كا لكو)
ودخل السجن لثمانية عشر شهرا عقوبة له، رحل بعدها الى كندا اخذا معه
ذكريات رفاق له اقتيدوا من قبل الجنود في الليل ليقتلوا، تلك الرؤى
والاصداء نفسها عادت وبلمح البرق ومن النصف الاخر للارض وبسرعة الضوء
لتستفز الكامن في روح الفنان ونسيج الانتماء الانساني رغم البعد
الزماني والمكاني للاحداث فتتقرب كعدسة الكاميرا متسربة عبر تجاربه وهو
الفنان الدارس لتاريخ الفنون والمتاهل في فن الكرافيك والاعمال الفنيه،
وياتي التفاعل بعد تلك المشاهد الدامية فيشرع الفنان ( كالكو) في رسم
واحدة من اهم لوحاته على شكل مجموعة متصلة من اللوحات حيث يتزاوج فيها
الماضي والحاضر لتتحول الاحداث الى صور.
فيرى الفنان تسلسل الاحداث ذاتها تكرارا مستنسخا فيطلق على سلسلة
اللوحات اسم ( دورة التاريخ ).
اقتحام البرلمان كان هو الحافز للبحث في الماضي البعيدعن مكافىء ذو
قيمه فنية وجمالية موازية، فيجد ذلك المكافىء التاريخي في نقش بارز من
حجر الكاس عمره اكثر من 4500 سنة قبل الميلاد من مدينة (لكش) السومرية
جنوب العراق القديم . ذلك النقش الذي ابدعه نحات عراقي مجهول الاسم
خالد في فنه والذي اطلق علية الباحثون ( نصب النسور ) او (مسلة
العقبان ) ليخلد انتصار الملك ( أي أنا نم ) حاكم مدينة لكش على اعداءه
. ويظهر في النقش الحجري طابورا من الجنود المخوذين والذين تنتظم
عيونهم وانوفهم المضخمة وبشكل جانبي كانتظام حرابهم ودروعهم ،فيا
تتناثر تحت اقدامهم جثث الاعداء المهشمة .
ولايخفى على الفنان الفرق الكبير بين نصب النسور واحداث موسكو
المنقولة عبر شاشات سي ان ان فالجنود هم الجنود لكن الفنان ميز ذلك
ببعض التشابه الملتوي والمعبر في ذات الوقت بين تلك الممارسه السلطوية
وتصويرها للحدثين تضمن تطبيقا عمليا في دراسته لتاريخ الفن ولاجل
اظهار البناء التحتي للعمل الفني ، فيقسم الفنان عمله على شكل شبكة من
المستطيلات ثم يعرض كل واحدة منها للاشعة السينية ،وبسبب تشوش حافة
الصور بالاشعاع تتداخل تلك الصور في الشبكة ، فالتخطيط النهائي للعمل
الاصلي يبدو غير منسجم وذلك للاسلوب الذي طبقة ( كا لكو ) على قماش
اللوحة في استرجاع الصورة بعد الاشعة السينية واخراجها ليس كصورة سالبة
بل كصورة مطبوعة بالحجم الطبيعي وهنا يدخل الفنان في عالم مؤثر من
المغايرة اذ ياخذ الشكل اللوني الواضح المعالم لثلاثة من الجنود الروس
وهم بالحجم نفسه وفي نفس مواقع جنود لكش المنتصرين ويحشرهم في جانب من
اللوحة وعلى شكل مستطيل ايضا لتبدو كاعلان ملون باز وسط اشكال متماثلة
في الشكل ومتغايرة في اللون لتعطي بعدا من الايحاء والديمومة .
هذه هي لوحة (دورة التاريخ ) كمثال لاعمال الفنان واسلوبه في فرض
الصور على بعضها لاعطاء بعد جديد والاستيحاء من موروث هذه الصور. وتعد
من اعماله المتميزة استعارتة للوحة الفنان (بروكل ) والمسماة ( برج
حكماء بابل ) 1567 وكذلك لوحة الفنان (كودو رني )مجزرة الابرياء 1611
والتي صورت مذبحة الاطفال في بيت لحم بامر من (هيرود ) .
ففي معالجة (كالكو ) للوحة (بروكل )يضيف للشبكة ذات اللون
الواحدالتي تحفظ اللوحة صورا لاخوان رايخ مان و الامير تشارلز ورصيف
الكناري في لندن ، ومثل ذلك في لوحة الفنان (رني ) حيث تسمح الشبكة
للفنان ان يدخل جملا مشفرة تحتية وبالالوان بحيث يتحول المشهد الانجيلي
الى يوغسلافيا التسعينات من القرن المنصرم ، اذ يظهر جندي صربي حاملا
على كتفة مصباحا وتظهر علامة لشركة تجارية امريكية على ملابس
المرأةالتي يسرق طفلها من بين ذراعيها.
ان عنوان ( دورة التاريخ ) يظهر ايمانا عميقا لدى الفنان بان هناك
سوء استخدام دائم للسلطة والقسوة غير المبررة لدى كل الطغاة منذ ولد
التاريخ وحتى يومنا هذا ، اذ نلاحظ تلك الرؤيا السوداوية للحدث بشكل
مثير رغم ان للوحاتة قيمتها الفنية العالية وبالاخص من الناحية
الاسلوبية اذ تفرض ان التشابة امرشاق في عرضة للاحداث ، بحيث ان
الاسلوب ينجذب الى دوائر مغلقة من التكرار والفنان هنا يفترض الاسلوب
الاحتمالي التكاملي او التوحد في العمل فيوحي بمبدأ تنظيمي مركزي حتى
يتمكن من اظهار هذا التوحد بدون مفارقات، ثم ان التجزيء في لوحاته قد
لايكون جذريا كما في اللوحات التكعيبية البناء والتي تقطع سياق الماضي
والحاضر. بل جاءت كخطاب مدارس ما بعد الحداثة في الفن رغم تميزها
باسلوب يحملها قوة مستقبلية، فاذا كانت لوحاتة تقلد التلفزيون في
تاطيرها المختار للمشاهد الاصلية فان الانقطاعات في سطوحها ( بين
احادية اللون والتلوين التام ) وتقادم مجال الرؤية الموحدة تحمل
ازدواجية واضحة في تقليد الشاشات المؤطرة كالتلفزيون، ومقاومة هذا
التقليد ذاته عبر مركز الجذب والانتباه في الجمال الصوري الذي تحتله
وهذا يعوضهاعن مبدأ الانتظام الذي يحكم سائر الاعمال الفنية الاخرى.
* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا
|