كنت قبل فترة زمنية تجاوزت السنة قد وضعت عنوان المقال أعلاه في
سراديب عقلي السرية كمدخل للكتابة عن الموضوع المهم الذي يتعلق بالحياة
التي تعيشها وتمارسها المرأة السعودية في المملكة العربية، وقد أجلته
أكثر من مرة لأسباب شخصية، وها أنا ألان أعود الي التعرض إليه وفقاً
لرؤية أزعم أنها موضوعية وذات أبعاد شاملة ومتوازنة.
وفي الحقيقة أن موضوع كهذا لا يخلو من حساسية وسوء فهم ولذا يحتاج
بادئ ذي بدء إلى تفسير وتحليل هادئ من قبلي للمفاهيم الواردة في عنوان
المقال قبل الحديث عن فحواه حتى لا يأخذ العنوان والموضوع مديات
وتأويلات تبتعد به عن القصد من كتابة المقالة والغاية الحقيقية منها.
المقال يتضمن ثلاث مفاهيم هي:
المرأة السعودية.
صورة الثقافة.
ثقافة الصورة.
أن المرأة السعودية في مقالتي هذه لا تعني الكيان الأنثوي الذي تحمل
الجنسية السعودية كثريا عبيد أو لبنى العليان مثلاً، بل هي المرأة
السعودية التي تتسم بما يلي:
1. تعيش في أرض المملكة العربية السعودية الشقيقة.
2. تحمل وبكلمة أدق _ حُمٌلت بالقهر والأمر لا بالاقتناع _
الفكر الوهابي التقليدي الذي أقل ما يُقال عنه بأنه غير عصري، وذلك لما
يحمله من مضامين معينة تفرض بموجبها على المرأة _ مثلاً _ لبس معين
وتحريم غريب وغير معقول من قيادة السيارة، واكرر كلمة _ مثلاً _ حيث
التابوات الوهمية والخطوط الحمراء التي تحاصر هذه المرأة السعودية مدار
مقالتي كثيرة ونحتاج لمقالات كاملة لتشخيصها وإحصائها.
3. ترفض الأفكار الموروثة أجتماعياً عن المرأة السعودية والتي
تمثل الفكر السلفي الوهابي أكثر من تمثيلها الفكر الأسلامي.
ولرب سائل يقول _ مادمنا لا نزال في بداية المقال _ لماذا المرأة
السعودية موضوع المقال وليس الإماراتية أو العراقية أو غيرها ؟ وهو
سؤال مشروع وذكي وجوابه بسيط يكمن في أن أشهر الفضائيات التي تحاول
تقديم نموذج معين للمرأة مخالف للنموذج التقليدي الذي يقدمه مشايخ
السعودية والتي تنتشر في فضاء الإعلام العربي، هذه الفضائيات تمول من
قبل أمراء السعودية ولهم علاقات وطيدة أيجابية مع النظام السياسي
الملكي السعودي الذي يفرض في ذات الوقت ويدعم الصورة النمطية للمرأة
السعودية !
وهو تناقض صارخ يخلق لدى المرأة السعودية صراعاً كبيراً، حيث تحس
أنها حائرة ليس بين رجعية صورة الثقافة السعودية بالنسبة للمرأة
وعصرية ثقافة الصورة الغير منضبطة فحسب بل حائرة أمام تناقضات نظام
المملكة السعودية في تعامله مع المرأة، وسيأتي الحديث عن هذا الموضوع
لاحقاً في مقال أخر بصورة أكثر تحليلاً وتفصيلاً.
أما صورة الثقافة فهي الصورة النمطية التي وضعتها ورسمتها أقلام
الأفكار التقليدية لمشايخ المملكة العربية السعودية بحيث شكلت الإطار
المرجعي التي تتحرك ضمنه كل الأفكار والرؤى السعودية الأخرى عموماً
والخاصة بالمرأة خصوصاً، وهو الفكر المسئول الأول والأخير عن تشكيل
صورة المرأة في المجتمع السعودي وذلك من خلال تنشئتها الاجتماعية وفقاً
لمقاييسه وضوابطه وقواعده، بل أكثر من ذلك صبغت هذه الصورة فضاء
السعودية الثقافي بلونها القاتم مع الأخذ بنظر الأعتبار ملاحظتين
الأولى إن الوصف بالثقافي هو من قبيل المجاز وليس الحقيقة وهو اقرب إلى
المعنى الشامل الذي يضم مختلف المعارف والأيديولوجيات والأفكار، أما
الملاحظة الثانية فهي أن هذه الصورة الثقافية للمرأة التي تشكلت في
السعودية ليست صدى للصورة النسوية التي يمكن أستنباط رسمها من معالم
القرآن الكريم والدين الإسلامي وإنما هي صدى لموقف متشدد ذكوري
آحادي من المرأة تكون فيه بموجبها كيان منفعل وقابل لا فاعل مبادر.
أما المصطلح الأخير _ وهو ثقافة الصورة _ أي الصورة الفضائية_
فالمقصود منه الثقافة والأفكار والإيديولوجيات والقيم والمثل التي
تصنعها وتشكلها الصورة المتأتية من الفضائيات التي تُبث على مدار
الساعة وتدخل بيوت الغالبية العظمى من الفتيات شاء البعض أم أبى.
فالعصر الحاضر الذي تعيش فيه المرأة السعودية هو عصر الثورة أو
الحضارة الرقمية المتمثلة بالصورة التي تمارس في بعض الأحايين الهيمنة
والسيادة والسيطرة على الكثير من العقول والأفكار بحيث أصبحت مصدر
وأداة من مصادر وأدوات المعرفة وتشكيل الرؤى والأفكار وهي أي الصورة
تزاحم الأدوات المعرفية التقليدية سواء كانت على الصعيد المعرفي
الابستمولوجي أو الثقافي العام أو الاقتصادي أو حتى ألقيمي
الاكسيولويجي، فلم تعد الصورة قضية عفوية عشوائية بل أضحت صناعة وفن
لها قوانين ومبادئ لا تنسحب على مجال المتعة والترفيه فقط بل تمتد إلى
ميادين العلم والمعرفة لدرجة أن صنعت الصورة ثقافة خاصة بها سميت
بالثقافة البصرية (visual culture).
أن المرأة السعودية التي تعيش محاصرة بين صورة الثقافة وثقافة
الصورة، أي بين صورة الثقافة الكلاسيكية الرجعية وثقافة الصورة العصرية
الفوضوية، هذه المرأة السعودية لها تاريخ مع متبنياتها الفكرية أسمحوا
لي أن أتعرض له، فهي قد ولدت وتربت وكبرت وعاشت في المجتمع السعودي
الذي لديه صورة ثقافية معروفه بالنسبة للجميع من حيث ما تفرضه على
المرأة من قيود وأسوار معينة ليست من الدين في شيء، وهذه المرأة
السعودية نفسها التي عاشت في ضل هذه السجون قد حُشر دماغها بمعلومات
وأفكار شكلت لديها صورة ثقافية راكدة سلبية حول العالم والوجود.
وفي الواقع أن هذه المرأة الحاملة لهذه الصورة الثقافية التي كانت
تحوم في فضاء المرأة السعودية قد قُصفت وهوجمت على حين غرة _ في سجنها
وعلى الرغم من حصار المشايخ لها _ من قبل ثقافة جديدة صنعتها الصورة
التي تبثها وتبدعها الفضائيات الغنائية الهابطة المهيجة للغرائز والتي
تمول بعضها من أمراء السعودية ( وهذه هي الغرابة) والتي تحمل قيماً
وتصنع أفكار وتنتج سلوكيات لا تختلف مع صورة الثقافة والتقاليد
والأعراف التي تربت عليها المرأة السعودية فقط، بل تتعارض وتتناقض معها
تناقضاً يكاد يكون مائة بالمائة أن لم يكن أكثر من ذلك أن سمح لنا أهل
الرياضيات وعلمائها التجرؤ وقول ذلك.
ونتيجة لذلك التناقض الصارخ بين صورة الثقافة وثقافة الصورة بالنسبة
للمرأة السعودية فقد وقعت المرأة السعودية تحت وطأة صراعات عديدة قد
أكدتها كاتبة سعودية شابة هي رجاء الصانع في روايتها المثيرة للجدل
والتي عرٌت فيه بعض الجوانب الحياتية للمجتمع السعودي "بنات الرياض"
حينما قالت إن " الفتاة السعودية تعيش صراعا بين أفكار وتقاليد وبين
معتقدات تتوصل إليها بنفسها مع قراءتها واطلاعها وتأثرها بثقافات أخرى
". وان لم تكن قد مارست السيدة رجاء التشريح والتفصيل في هذه الصراعات
التي سوف تكون موضوع مقال أخر أنشاء الله تعالى كما أشرت أعلاه.
أن هنالك أسئلة مهمة وحارقة ربما تكون يوماً قد وردت على لسان أي
بنت سعودية شابة وها أنا الآن أطرح واحد منها:
لماذا هنالك تناقض بين الصورة الثقافية التي تنتشر أفقياً في
المجتمع السعودية وبين ثقافة الصورة التي تنتشر عمودياً في فضاء
المملكة العربية ؟ مع العلم أن مؤثرهما الفاعل واحد وهو النظام الملكي
في السعودية الذي يستطيع التحكم في المؤسسة الدينية التي تصنع الصورة
الثقافية للمرأة والمؤسسة الإعلامية التي تنشر ثقافة الصورة الغير
منضبطة.
أن الصور الفضائية وثقافتها التي تنتشر في المجتمع السعودي تقتل في
مآلها واقع المرأة السعودية التي لم تقتنع بالصورة الثقافية التي
صاغتها أقلام مشايخ السعودية كأنما هي المقصود في قول بودريار في نصه
الجميل " إن الصور هي قاتلة للواقع " الذي يمكن لنا لوي عنقها لنجعله
يصور لنا _ وأن لم يقصد _ حال المرأة السعودية في هذه العصر أما المرأة
التي اقتنعت بالآراء التي يقدمها لها علماء الأعتدال والوسطية وعملت
بها من منطلق الإيمان والاقتناع العقلي فلا أظن أن لثقافة الصورة أثر
جوهري عليها، وهي ليست موضوع مقالي وأحترمها لخياراتها الدينية خصوصاً
وهي ترى المغريات والبهارج الدنيوية محاطة بها ولا تعير لها أهتماماً.
إنني حاولت في مقالتي هذه تشخيص الأزمة التي تعيشها بعض النساء
السعوديات التي لم يقتنعن بالصورة الثقافية السائدة في المملكة ومع هذا
تُجبر على العمل وفقاً لها وبالتالي تفعل ما لا ترغبه ولا تقتنع به
لهذا تراها أسيرة الرقيب الذي ما أن ينفك عن مراقبتها فإنها سوف تفعل
ما يحلو لها من أمور بعضها ربما يكون مخزي ومخل بالقيم السائدة وأخرى
ربما لا تُعد حرام ألا في المنظومة الدينية للمملكة، فإذا قامت امرأة
سعودية وهي خارج المملكة بقيادة سيارة أو أظهار وجهها فان هذا يعد
مخالف للمألوف السائد في المملكة العربية السعودية وليس في دولة غيرها
فضلاً عن الدين الإسلامي.
أن على المسئولين عن صنع وتشكيل الصورة الثقافية للمرأة السعودية
بنمطيتها الحالية اللامعقولة أن يعوا أن هذه الصورة التي يقدموها
للفتاة لن تصمد أمام عالم اليوم الذي تتطاير فيه عشرات الصور المختلفة
ذات الإغراءات المتنوعة التي تخاطب الغرائز المكبوتة وتتسم بالسرعة
والوضوح والتأثير والقراءة السريعة وعليهم أن يرسموا صورة للمرأة تتسم
بالاعتدال والوسطية بحيث تمكن المرأة من النظر إلى نفسها ككيان مستقل
يمتلك عقلاً مفكراً ويتحرك بثقة عالية ترفض التخلف والتشدد والأنطواء
والانغلاق من جهة أولى ولاتقبل التشييء الجسدي والعري الفاضح المستفز
واللحم المُسلع من جهة ثانية والذي لا يُعد في رأي المرأة العاقلة
تحرراً وإنما عبودية واستسلام للجسد كما جاء على لسان الشخصية
الرئيسية في رواية سيمون دي بيفوار المرأة المجربة(La femme rompue)
حينما أعترفت بعد انحطاطها وابتذاله الشديد قائلة (لقد أستسلمت لجسدي).
[email protected] |