مصطلحات ادبية: النقد النفساني والتحليل النفسي

النقد النفساني والتحليل النفسي

Psychological and Psychoanalysis Criticism  

شبكة النبأ: تكمن أهمية علم النفس والتحليل النفسي بالنسبة للنقد الأدبي والأدب في أنه مظلة واسعة تندرج تحتها عدة مسارات هامة: النمو الإنساني ومراحله من الطفولة إلى سن الرشد، وعملية التأويل والتحليل، وكذلك فاعلية الاستشفاء والعلاج. وعلى الرغم من إمكانية فصل هذه المسارات عن بعضها إلا أنها في النهاية تعود لتختلط بمفاهيم الجسد والعاطفة والعقل وتاريخ النمو والتجربة الشخصية. ومن ثم تشتبك مثل هذه المفاهيم الشخصية الفردية بالإطار الثقافي والاجتماعي. فمن منظور النمو تركز النظرية النفسانية على وصف تتابع أفعال النمو ومراحله: كيف ينمو المرء في عملية من المد والجزر (التقدم والانحسار، الانعتاق والكبت) خاصة فيما يتعلق بمراحل النمو الجنسي، وكيف يبني المرء أنساقاً نفسية وعاطفية تتداخل مع علاقاته الأبوية (الأسرية) والاجتماعية والثقافية: انساقاً قد يقبلها أو قد يرفضها. وكيف يتفاعل مع البيئة العاطفية والمادية التي يسكنها ويعيش ضمنها فيعكسها أو يقاومها. وهكذا لا تقتصر نظرية علم النفس على خصوصية شخصية محددة بل هي تحاول دائماً ربط الخصوصية بعواملها الإنسانية والمادية والزمانية ومن ثم ربطها بالإطار الأسري والاجتماعي والثقافي والحضاري.

ومهما قيل عن أن علم النفس يضرب جذوره في حوارات أفلاطون (تأثير المحاكاة العاطفي على حراس الجمهورية الفاضلة) وفي رد أرسطو (المحاكاة تفضي إلى التطهير النفسي للمشاهد أو المتلقي)، فإن التحليل النفسي في النقد والأدب برز فعلياً مع سيغموند فرويد الذي يرى أن العمل الأدبي موقع أثري له طبقات متراكمة من الدلالة ولا بد بالتالي من كشف غوامضه وأسراره، ولئن كان للتحليل الفرويدي أنصاره في النقد الحديث فهذا لا يعني أن التحليل النفسي الفرويدي نفسه لم يتغير ويعيد النظر في مصطلحاته وأطروحاته. بل إنه تعرض كغيره إلى ضغوط التوجهات الجديدة، وتأثر بفرضيات إنتاج النص واستقباله وتغير مفاهيم اللغة وأهميتها وأساليب تقديم الشخصية وعرضها، وما إلى ذلك، لكن بقيت الأرضية الفرويدية (اللاوعي) قائمة كمركز الاهتمام، وفكرة اللاوعي تقوم على مقولة أن المرء يبني واقعه في علاقة أساسية مع رغباته المكبوتة ومخاوفه. ولهذا فإن كل تعبير (سلوكاً أو لغة أو خيالاً) هو مجموعة علاقات معقدة تتوسط وتتدخل في كل ما يعتقد المرء أنه يفعله أو يقوله أو يحلم به، واللاوعي يضرب جذوره في البنى العاطفية والجسدية للحياة الجنسية التي يفترض إشباعها أو كبتها، كما لا يعني هذا أن التحليل النفسي لا يتواءم مع غيره من النظريات النقدية أو أنه يلغيها، بل هو يضيء كثيراً منها خاصة أنه يتعامل مع ويهتم بتمثيل الذات والآخر والجسد والعواطف والعلاقات التي تحكم فعاليات السلوك والخطاب، أي طرق تحويل وترجمة الرغبة والحدث والتجربة إلى ذاكرة وإلى فعل لغوي. ولعل السمة التي لا يتجاوزها التحليل النفسي هي أنه يتبع كافة خيوط العمل الأدبي إلى وعي ولا وعي الذات: ظروفها النفسية وسيرتها الذاتية وتاريخ نموها. ويصبح العمل تعبيراً عن رغبة ما ومحاولة إشباعها سواء كانت الرغبة ناتجة عن علاقة المرء بذاته أو بالبيئة أو العالم من حوله.

ومع فرويد أصبح العمل الأدبي والفني عموماً (وكذلك الأحلام والكوابيس والأعراض العصابية) يتكون من محاولة إشباع رغبات أساسية متخيلة كانت أم وليدة عالم الفانتازيا. ولا تكون الرغبة رغبة ما لم يحل بينها وبين الإشباع عائق ما: كالتحريم الديني أو الحظر الاجتماعي وأعراف القوم وتقاليدهم. وهكذا يحول "الرقيب" بين الرغبة وبين إشباعها سواء كان "الرقيب" هو الوازع الديني أو الأخلاقي أو العرفي الاجتماعي. ولهذا فالرغبة الحبيسة تستقر في مملكة اللاوعي من عقل الفنان أو الأديب (الإنسان عموماً) لكنها تجد لنفسها متنفساً أو قد يسمح لها الرقيب بأن تشبع نفسها خيالياً من خلال صيغ محرفة وأقنعة من شأنها أن تخفي طبيعتها الحقيقية وتخفي موادها عن الأنا الواعية. وهنالك آليات دفاعية لدى الرغبات تستخدمها حتى تتجاوز الرقيب فتحقق الإشباع. من هذه التحريفات والأقنعة: (1) التكثيف: حذف أجزاء من مواد اللاوعي وخلط عدة عناصر من آليات تحريفية حتى يستطيع تطويعه وبالتالي تجاوزه والخلاص من هيمنته، أما جاك لاكان فيجمع بين النظريات الألسنية اللغوية وبين معطيات النظرية الفرويدية بعد أن واءم بينها وبين المفاهيم اللغوية حتى يتسنى له جعل اللغة مادة للتحليل النفسي.

ومع التطورات الحديثة المتعلقة بتشظي (الذات) وتغير مفاهيم (الحقيقة) كان على التحليل النفسي أن يكيف نفسه حسب هذه المتغيرات. فإذا كانت (الذات) مجموعة علاقات متشابكة منها الشخصي ومنها غير الشخصي، والحقيقة لم تعد متعالية على اللغة التي تنسجها وتبنيها، فإن على علم النفس أن يبرر ويفسر سيرورة العملية التي تبني "الذات" وتبني مفهوم "الواقع" ولهذا أصبح الفنان كما أصبح المحلل النفسي على وعي تام بتداخل أفكاره وعواطفه وتجاربه في عملية التحليل وفي نتائجه، كما أصبح مركز الاهتمام منصباً على العلاقة بين الوعي واللاوعي وليس على الكيفية التي يملي بها اللاوعي شروطه على الوعي وعلى السلوك الفردي. فلم يعد اللاوعي منطقة معزولة تؤثر على الوعي فقط، بل أصبح التأثير متبادلاً بين المملكتين إضافة إلى تدخل وعي ولا وعي المحلل النفسي أو الناقد الأدبي. وهكذا أصبحت العملية حركة صيرورة مستمرة بين الوعي واللاوعي من جهة وبين وعي ولا وعي المحلل من جهة أخرى. ومع هذه الخصائص أصبحت عملية التأويل عملية مستمرة وليست حدثاُ يبدأ وينتهي، أي أصبحت عملية مفتوحة، كما هي حال النص الحديث "المفتوح" الذي يقابل العمل المغلق، ولعل جاك لاكان هو بطل التحليل النفسي في الدراسات الأدبية، فقد وظف المقولات الألسنية اللغوية التي نادى بها سوسير ونادى بها ما بعد البنيويين وأرسى أسس التحليل النفسي عليها. ونتيجة لذلك توصل لاكان إلى شعاره المألوف: "إن اللاوعي مبني كما تبنى اللغة".

ومهما يكن من أمر التحليل النفسي وتعقد قضاياه فإن فرضياته التقليدية ما زالت قائمة: 1- هناك دائماً تفاعل بين حياة المؤلف أو القارئ أو المحلل النفسي وبين رغباته وأحلامه وتخيلاته الواقعية وغير الواقعية.

2- يسعى التحليل النفسي دائماً إلى كشف أسباب ودوافع خفية عند المؤلف أو القارئ أو المحلل.

3- معاملة الشخوص في العمل الفني على أنهم أشخاص حقيقيون لهم دوافعهم الخفية وتواريخ طفولتهم المتميزة وعقولهم الواعية وغير الواعية. ولهذا تنحصر موضوعاته السائدة في النزعات الإجرامية والعصاب والذهان والسادية وتعذيب الذات، والانحراف الجنسي، وعلاقة الأب بالابن، أي العلاقة الأوديبية، ولتغطية مثل هذه المواضيع فإن التحليل النفسي يفضل الروايات والمسرحيات على القصائد (خاصة القصيرة منها).

متعلقات

النقد من منظور القارئ(1)

تفترض عملية التواصل لكي تكون فعالة وجود انساق مشتركة بين المؤلف وقرائه، أي نسق اللغة، وأيضا الأنساق الجمالية والايديولوجية. يتعين إذن معرفة "من كان يقرأ – أو من يقرأ، ولماذا": ومعرفة "التكوين الذي تلقاه الكتاب في المدرسة أو خارجها – والتكوين الذي تلقاه كذلك قراؤهم".

 لا يحيا العمل الأدبي إلا إذا قرئ، و»بدون عملية القراءة هذه ليس هناك سوى تخطيطات سوداء على الورق«، كما لاحظ ذلك سارتر في بداية كتابه »ما الأدب؟«؛ غير أن القراءة عملية صامتة لا تترك أثرا مكتوبا، إلا ما ندر؛ وهي من صنيع أفراد معزولين، وفي غالب الأحيان غير معروفين. كل هذا يفسر بدون شك لماذا بقي القارئ لمدة طويلة مهمل النظرية الأدبية.

لقد قدم ميشال كونتا منذ عهد قريب، في جريدة لوموند، أعمال ندوة انعقدت في رانس سنة 1992، لمعرفة »كيف يفعل الأدب«. وعنوان دراسته »عَقد القارئ« جعل من اهتمام النقد اليوم بشخصية القارئ الحدث البارز في السنوات العشر الأخيرة؛ لكن هذا التغيير في توجه الدراسات الأدبية قد مهد له ظهور نظريات القراءة في السبعينيات. وكتاب فنسان جوف في »القراءة« صدر في سلسلة »معالم أدبية« عن دار هاشيت، سنة 1993، يصفها ويحللها تحليلا دقيقا: فتطور اللسانيات قد أهمل وصف سنن اللغة ووجه اهتمامه إلى »أفعال الكلام« وتحققها الفعلي؛ وبذلك ساهم كثيرا في دراسة موضوعية لظاهرة كانت إلى ذلك الحين صعبة التحليل.

وتصف اللسانيات التداولية - التي تطورت خاصة في انجلترا والولايات المتحدة - تأثير المتكلم في المرسل إليه، وتبين أيضا كيف أن المرسل إليه، إذ يتبنى الملفوظ لحسابه، يحول عبارات لها دلالات في نسق اللغة إلى جمل ذات معنى في حالات معينة وفي سياق بعينه.

لقد حولت التداولية مشهد الدراسات الأدبية بإعادتها الأدب إلى وظيفته التواصلية التي حجبتها البنيوية النصية. ومنذ سنة 1973 أعلن هنري ميشونيك في كتابه »لأجل الشعرية«، عن »نهاية الحماقات التي تعدّ أن فعل الكتابة فعل لازم«. فقد أصبحت الكتابة غير منفصلة عن »قول شيء ما لشخص ما«. ولذلك سننهي مسيرتنا عبر حقول النقد محاولين أن نستوعب كيف استطاع التبئير النقدي على فعل القراءة أن يحول طريقة التفكير في الأدب، ويفسر من الآن فصاعدا اشتغال النص من خلال الدور الذي يلعبه المرسل إليه في تكونه، وأيضا في فهمه وفي تأويله؛ لأن الأدب يشّيد تواصلا مؤجلا بين كاتب ما وقراء ليسوا بالضرورة كلهم معاصرين بعضهم لبعض، ولا حاضرين جميعهم في المكان نفسه.

لقد أهمل التاريخ وسوسيولوجيا الأدب، منذ سنة 1950، تحليل العمل الأدبي في علاقته بمؤلفه، أو بالعالم الممثل، واهتما، تحت التأثير القوي لسارتر، بالتواصل المؤسس بين المؤلف وجمهور القراء - الواقعيين أو المفترضين - الذين يتوجه إليهم. وتفترض جمالية التلقي، بتجاوزها لسوسيولوجيا الأدب، أن العمل الفني هو دائما عبارة عن معنى ممكن؛ فهو سؤال وليس جوابا؛ وترفض »معنى المؤلف«، وتقابله بالمعاني المختلفة التي يعطيها القراء لنفس العمل على مر الزمن.

وبالموازاة مع هذه التحليلات التاريخية للأحداث التجريبية للقراءة، طور ميكائيل ريفاتير نظرية القارئ المثالي، أو »القارئ الجامع«، مبينا الكيفية التي يوجه بها النص الأدبي تلقيه ويبرمجه. لقد تمت إذن مراجعة تحليل البنيويين الشكلي، وأصبح في خدمة نظرية القراءة.

وبالقرب منا، يشتغل المحللون النصيون، مع جان بلمان نويل منذ سنة 1983، على إعادة تحديد مفهومي التناص ولاوعي النص، مبينين إبداعية القراءة، ومغيرين إشكالية المعرفة النقدية. إن الاهتمام بـ»حقيقة العمل الأدبي«. قد تم التخلي عنه لصالح التفكير في فعالية الفعل النقدي، سعيا لحث الناقد وقارئه على إحياء »شحنات المعاني المتعددة، بل الخفية« الساكنة »بين سطور« العمل الأدبي.

تاريخ القراء

»سوسيولوجيا الأدب«

أصدر روبير إسكاربيت تحت عنوان »سوسيولوجيا الأدب«، سنة 1985، مؤلفا - برنامجا يحدد أهداف دراسة الشروط المادية والاقتصادية والاجتماعية ومناهجها لإنتاج الأعمال الأدبية ونشرها واستهلاكها، يستجيب به للأماني التي عبر عنها لانصون، في نص كتبه سنة 1929، عنوانه »برنامج دراسات التاريخ المحلي للحياة الأدبية«، ولوسيان فيبر سنة 1953، في »صراعات لأجل التاريخ«، وكلاهما يتمنى مجيء »تاريخ تاريخي« للأدب (فيبر) يأخذ بعين الاعتبار »القراء، هذا الحشد الملتبس الذي ينبغي معرفة ثقافته ونشاطه، إذا كان المراد كتابة [...] تاريخ شروط الأدب الاجتماعية والثقافية« (لانصون).

وعلاقة العمل الأدبي بالعالم الذي شهد ولادته قد درسها شكل آخر من أشكال النقد السوسيولوجي، هو سوسيولوجيا لوسيان غولدمان على سبيل المثال؛ لكن يجب أن تكتمل بتحليل علاقة العمل بقرائه. ويستعمل كل من روبير إسكاربيت ومدرسة بوردو لأجل ذلك مناهج لم يكن يعرفها لانصون. فهم يشتغلون على شكل مجموعات، ويطبقون على تاريخ الأدب الطرائق والإجراءات الجارية في »التاريخ السوسيولوجي«، »المهتم بالفعاليات والمؤسسات، لا بالأفراد« (بارط في »تاريخ أم أدب؟«، 1960). ويندرج تفكيرهم داخل الإطار النظري الذي رسمه سارتر في كتابه »ما الأدب؟«، الذي صدر سنة 1948.

لقد كان لسارتر دور هام في تحولات النقد الحديثة، إذ وضع القارئ والقراءة في مركز تفكيره حول الأدب. فقد أكد في كتابه »ما الأدب؟«، في الفصل الثالث منه، وعنوانه »لمن نكتب؟« - وهو الذي يتلو الفصلين المعنونين »ماذا يعني أن نكتب؟« و»لماذا نكتب؟« - وهو حجر الزاوية في الكتاب، أننا نكتب دائما لأحد ما، وليس »لذاتنا أو إلى الله«، كما »ابتدع« ذلك كتاب ما بعد سنة 1850، إذ جعلوا »من الكتابة اهتماما ميتافيزيقيا، وصلاة، وامتحانا للضمير، فجعلوا منها كل شيء، إلا أن تكون تواصلا«. فهو يعارض نظريات الأدب المعروضة في الفصول السابقة، أي النظريات التعبيرية المنشغلة فقط بالطريقة التي يعبر أنا المؤلف عن نفسه في العمل، وبالنظريات الشكلانية المستوحاة من كانط والكانطية التي ترى »العمل في ذاته«، باحثة في نص ما عما يقوله، في استقلال عن مقاصد مؤلفه. أما سارتر، فلا تهمه سوى العلاقة بين العمل والقراء؛ فهو يعطي الجمهور الأهمية التي يعطيها تين »للوسط«: »فالوسط قوة تضرب في الماضي؛ والجمهور بخلاف ذلك توقع، وفراغ يجب ملؤه، وتطلع، بالمعنى المجازي وبالمعنى الحقيقي«. إنه يسلم مبدئيا بأن فعالية التواصل تفسر العمل أكثر مما تفسره علاقته المحاكاتية مع العالم الخارجي.

وتفترض عملية التواصل لكي تكون فعالة وجود أنساق مشتركة بين المؤلف وقرائه: أي نسق اللغة، وأيضا الأنساق الجمالية والإيديولوجية. يتعين إذن معرفة »من كان يقرأ - أو من يقرأ، ولماذا«؛ ومعرفة »التكوين الذي تلقاه الكتاب في المدرسة أو خارجها - والتكوين الذي تلقاه كذلك قراؤهم«؛ ويتعين أيضا وصف »تحولات الموضة الفنية والذوق« (لوسيان فيير). فبالبحوث في قراءات مختلف الطبقات الاجتماعية يعرف القارئ من خلال »الجمهور« الذي ينتمي إليه. ولابد أيضا من تتبع المسار الاجتماعي للمنشورات الأدبية ورسم مراحله، لأن أنماط الإنتاج المادي وأنماط نشر العمل تحدد الطريقة التي »يفعل بها الأدب«. وتاريخ الكِتاب يأتي لتكملة تاريخ القراء. ويقدم كلود بيشوا، في مقالة له حول »دكاكين القراءة في النصف الأول من القرن التاسع عشر«، فكرة دقيقة عن النتائج التي يمكن أن تتوصل إليها سوسيولوجيا الأدب. ودكاكين القراءة هذه كانت تطل على الشارع، شأنها شأن المتاجر، وكانت مفتوحة من الثامنة صباحا إلى الحادية عشرة مساء؛ وقد ظلت تتكاثر إلى حدود سنة 1863، وتقوم بإعارة الكتب والجرائد، وفي الوقت نفسه كانت مكان التقاء الكتاب والقراء. لقد ساهمت هذه المؤسسة كثيرا في نجاح الرواية في القرن التاسع عشر، وخلقت جمهورا لهذا الجنس - خصوصا من النساء، من الخادمات أو من نساء البورجوازية الصغيرة والمتوسطة - وقادت كبار الكتاب نحو هذا الجمهور. فلأجل دكاكين القراءة هذه كتب بلزاك في بداية مشواره روايات كان يوقعها بأسماء مستعارة.

تبين سوسيولوجيا الأدب إذن الدور الذي يضطلع به جمهور القراء، من خلال قيمه، وأذواقه، وتوقعاته، في تكون الأعمال الأدبية ونجاحها المباشر. لكن حجتها الوحيدة لتعليل النجاح الدائم أو المتأخر هي مسألة الإعجاب المنتزع. وتحاول جمالية التلقي، التي ظهرت في عقد السبعين من [القرن الماضي] مع هانس روبرت ياوس ومدرسة كونسطانس، أن تجيب عن هذه الأسئلة التي أبعدتها سوسيولوجيا الأدب.

جمالية التلقي عند هانس روبرت ياوس

تفترض سوسيولوجيا الأدب أن الكتاب يكلمون معاصريهم، وأن »الأعمال الفكرية [...] يجب أن تستهلك في حينها«، مثل »الموز، يكون ألذ وقت جنيه« (سارتر). ونعرف مع ذلك أن بعض الأعمال الكبرى لم تلق نجاحا كبيرا وقت صدورها، لكن جمهورها تكَّون بعد ذلك بمدة طويلة. فرواية »التربية العاطفية« كان تلقيها سيئا في سنة 1869، واتهمت بأنها »رواية غير روائية، حزينة، وملتبسة كالحياة« (بانفيل)؛ وأضحت فيما بعد معبودة الأجيال اللاحقة: فقد أعجب بها بروست، وكافكا، ويعدها وودي ألن »من الأشياء التي تجعل الحياة تستحق أن تعاش«.

ولاستجلاء القطائع أو الانزياحات التي تشوب علاقة المؤلف بجمهور عصره، ابتدعت جمالية التلقي مفهوم »أفق التوقع«. ويتكون »أفق التوقع« عند جمهور ما من القراء من خبرته السابقة بالجنس الذي ينتمي إليه العمل الأدبي، ومن تراتبية القيم الأدبية لعصر ما. هذا »الرأي العام الأدبي« يمكن قراءته في نص العمل نفسه، لأنه يحيل ضمنيا على أشياء سبقت قراءتها، وعلى عادات في القراءة يروم تحويلها. فليس موضوع الدراسة إذن هو الموقف الفردي والسيكولوجي لقراء معزولين، بل هو التجربة الجمالية المشتركة التي تؤسس كل فهم فردي للنص.

ويفسر مفهوم »أفق التوقع« أيضا آليات تلقي الأعمال والتطور الأدبي. فإذا كان العمل يعيد إنتاج خصائص إنتاج سابق، فإنه سيعرف نجاحا فوريا، لأنه يثير لدى قرائه لذة التعرف؛ أما إذا كان العمل الجديد يخرق قوانين الجنس، فيغير معيارا جماليا ما، فإنه يفشل، أو لا يفهم في حينه، وذلك لأنه لا يستجيب لآفاق جمهوره الأول؛ لكنه يصبح فيما بعد عملا - نموذجا. ففي سنة 1870، كانت جورج ساند تقول لفلوبير: »ما زالوا يدمرون كتابك. وهو مع ذلك كتاب جيد. لكنه سينصف فيما بعد«. فبمقتضى التقليد الذي يقول بـ»الرواية الروائية«، وبمقتضى نموذج الرواية الكلاسيكية، وهو الرواية البلزاكية - المبنية بناء مأساويا - استطاع الجمهور المعاصر لفلوبير أن يحكم بأن »التربية العاطفية ليست رواية«. وبالمقابل، سيجعل كتّاب »الرواية الجديدة« من فلوبير معلمهم، وبذلك سيعتبرون أن صلاحية »الرواية البلزاكية« قد انتهت: لقد فرضت الكتابة الروائية عند فلوبير بقوة معيارا جماليا جديدا.

سيكولوجية الصورة الشعرية في نقد العقاد(2)

 يتناول كتاب(زين الدين المختاري) هذا مخصص – كما يشير العنوان- لبحث النقد النفسي الذي هو نتاج طبيعي لصلة بين علم النفس والادب والنقد تلك الصلة الممتدة الجذور في التراث الإنساني وخصوصا تلك التي تربط الادب بصاحبه وتظهر هذه الصلة في موقف افلاطون من الفن والادب وارسطو في نظرية (التطهير-) ولكن البداية الحقيقية لنضج علم النفس وتطور علاقته بالادب والنقد كانت في النصف الاول من القرن العشرين وهو ما يخصص له المؤلف الفصل الاول من كتابه مستعرضا باختصار ودقة اطروحات مدرسة التحليل النفسي ممثلة في ما قدمه معلم التحليل النفسي (سجمود فرويد 1856- 1939) الذي اقر منذ البدء بان الذين ألهموه نظرية في التحليل النفسي هم الفلاسفة والشعراء والفنانون وتتمثل منجزات فرويد في (طوبو غرافية) الدماغ المتمثلة في الشعور وما قبل الشعور واللاشعور وقوى اللاشعور المتصارعة: الانا والهو والانا الاعلى- حسب قول الكاتب- وصراع غريزة الحياة الايروس) مع غريزة الموت(الثاناتوس) .

والفنان حسب رأي فرويد انسان عصابي أقرب الى الجنون لحظة العملية الابداعية وبعد الفروغ منها يعود الى سويته وقد طبق فرويد آراءه في بحوثه عن ليوناردو دافنشي ودستويفيكي وهملت وغراديفا .اما (أدلر) فهو يعتقد ان الشعور بالنقص هو السبب الرئيسي في نشأة العصاب وان الباعث الاساسي على الفن هو غريزة حب الظهور أوحب السيطرة والتملك بينما يرى (يونغ) ان اللا شعور الجمعي هو المنبع الاساسي للاعمال الادبية والفنية والبوتقه التي تنصهر فيها كل النماذج البدائية والرواسب القديمة والتراكمات الموروثة والافكار الاولى . ولكن الكاتب يرى ان نهج التحليل النفسي يسلب اهم حق للاعمال الادبية والفنية وهو الحق الجمالي والاجتماعي حيث حصر اهتمامه في دراسة شخصيات الفنانين على حساب الاثر الفني وقد حاول ( شارل بودوان) الافادة من أخطاء الفرويديين الذي اعتمد على المتابعة الدقيقة لمكونات العمل الادبي والمعطيات البيوغرافية للاديب . اما (شارل مورون) وهو منشئ النقد النفساني الذي انطلق من عوامل ثلاثة تكون الابداع الادبي هي الوسط الاجتماعي وتاريخة وشخصية الاديب وتاريخها واللغة وتاريخها. اما (سانت بيف) المعروف بصانع الصور ونحات العظماء فقد سار وفق منهج (السيرة الادبية ) او (التاريخ الطبيعي) وجعل النقد خلقا وابتكارا مستمرين.

ثم يخصص الكاتب الفصول الثلاثة التالية من كتابه لتعقب ملامح نظرية النقد النفسي في النقد العربي الحديث من خلال ثلاثة محاور تناول الاول منها النقاد الذين قاموا بدراسة شخصية الشاعر من شعره وسيرة حياته وما يتصل بالسياق النفسي من علم احياء ووراثة ووظائف بيولوجية و فيزيولوجية وجنسية: فيعبتر (العقاد) أحد من تبنوا هذا المنهج وتناول ما يربو على ثلاثين شخصية ادبية وتاريخية قديمة وحديثة مستندا الى المقومات الاتية:

1 - رسم الصورة النفسية والجسدية من خلال التكوين النفسي والخلقي والمزاجي والوصف الخارجي للبنية الجسدية .

2 - استنباط مفتاح الشخصية الذي هو تلك الاداة الصغيرة التي تتيح لنا فك مغالق الشخصية والنفاذ الى سريرتها . فمفتاح شخصية ابي بكر الصديق هو الاعجاب بالبطولة اما مفتاح عمر بن الخطاب فهو (طبيعة الجندي).

3 - اما طريقة الدراسة فتعتمد على منحيين اثنين: المنحى (النفسي الفني) او السيكوفني والمنحى النفسي الجسمي او السيكو سوماتي.

وقد اهتم العقاد بالفكرة الجمالية وفق المحددات الاتية:

1 - الجمال هو انعتاق النفس والجسم من العوائق النفسية والبيولوجية .

2 - التناسب شرط ضروري للجمال ولكنه يزول اذا زالت العوائق النفسية التي تناقض الشعور ومثال ذلك (الزرافة) .

3 - الاحساس بالجمال يخضع للصلة النفسية بين مدرك الجمال والموضوع الجمالي.

4 - للقبيح ايضا قيمة (سيكو جمالية).

5 - العلاقة بين الادراك الجمالي والظاهرة الجمالية علاقة تجريد عقلي.

اما (محمد الفريهي) فقد اعتمد على مفهومين اساسيين هما:

- تنفيس الفنان عن عاطفته وتوصيلها الى الناس.

- وهذا يعتمد على رغبة الفنان في ان ينفس عن عاطفته ، ورغبته في ان يضع هذا التنفيس في صورة تثير في كل من يتلقاها نظير عاطفته .

ودعا الى تمثل المتلقي للتجربة كما عاشها الاديب . ولكنه كان متعسفا في تطبيقاته على نفسية ابي نؤاس وبشار وابن الرومي.

وقد اشار المؤلف – سريعا- الى جهود (محمد كامل حسين) في بحوثه عن المتبني وابي العلاءو( حامد عبد القادر) في تحليله شخصية المعري في كتابه (فلسفة ابي العلاء مستقاة من شعره).

ثم يأخذ الكاتب دراسة (مصطفى سويف) في كتابه(الاسس النفسية للابداع الفني في الشعر خاصة) كافضل انموذج للمنحى الذي يدرس عملية الابداع الفني ذاتها متبعا خطواتها والياتها عند الاديب الى ان يتمخض عنها تشكل العمل الفني ويطرح الكاتب نصا - الاستخيار - الذي وضعه البحث والاجابات التي قدمها الشعراء السبعة والنتائج التي توصل اليها ثم تحليل مسودة قصيدة الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي . ويعتقد الكاتب ان هذه الطريقة قد تكمن اهميتها من حقول معرفية اخرى غير المعرفة النظرية بعلم النفس وستظل دون العملية الابداعية بوصفها عملية معقدة.

اما الفصل الرابع فمخصص لتناول المنحى الثالث والاخير وهو المختص بتحليل الاعمال الادبية تحليلا نفسيا ويبين ان بداية الدعوة النظرية الى هذا الاتجاه كانت على يد جماعة من الاساتذة والأكاديميين منهم : (محمد خلف الله احمد) في كتابه (من الوجهة النفسية في دراسة الادب ونقده) الذي أدخل بمساعدة (احمد امين) مادة (علم النفس الادبي) ضمن مواد تعليم طلاب الدراسات العليا في جامعة القاهرة . و(امين الخولي) في كتابيه (فن القول) و (مناهج التجديد في النحووالبلاغة والتفسير والادب) والذي دعا الى وصل الادب بالاديب لفهمه فهما نفسيا والنظر الى العمل الادبي كوحدة متكاملة ليسهل فهمه وفهم صاحبه . و(حامد عبد القادر) في كتابه (دراسات في علم النفس الادبي) والتي كانت دراسات نظرية لم تصحبها دراسة اجرائية . و(عز الدين اسماعيل) الذي يعده الكاتب احسن من طبق علم النفس على الاعمال الأدبية لتفسيرها تفسير ا نفسيا وان كان هذا التطبيق لا يخلو من المبالغة والاسراف في أحايين كثيرة من تحليله لقصيدة (ثنائية ريفية) للشاعر ( عبدة بدوي) التي ملأها بالفروج والقضبان

ويشير الكاتب الى ان(محمد مندور) قد انتقد هذا المنحى ورأى بأنه سينتهي قتل الادب لانه لا يحدد الادب بعناصره الادبية البحته ولكن (محمد مندور) نفسه لم يسلم من النظرة الاحادية في نقده هو الاخر اذ ظل متشبثا بمنهج ( لانسون) التأثيري القائم على شرح النص الادبي وتذوقه حتى وفاته.

اما الفصل الخامس والاخير فقد خصصه الكاتب لبحث سيكولوجية الصورة الشعرية في نقد (عباس محمود العقاد) كنموذج لدراسة تطبيقة وتحديدا في شعر ابن الرومي . فالصورة الشعرية عند العقاد ليست صناعة بلاغية لفظية وانما هي مظهر من مظاهر الشعور النفسي ، تماما كما هي البلاغة ومزية نفسية مرتبطة بكل نشاط المبدع الحسي والنفسي والذهني ومن هنا كانت ذات دلالة سيكولوجية تظهر من خلال تمازج اليقظة الحسية والباطنية لتشكيل صورة شعورية مشخصة وما الادراك الحسي الا مرحلة اولية تمر بها عملية التصور الشعري لتمتزج بعد ذلك بنشاط الوعي الباطني او ما يسمية (العقاد) ب (يقظة الشعور الباطني) بعيدا عما يمكن ان يفهم من سيمات هذا الوعي الباطن في التحليل النفسي عند غلاة المصورين والرمزيين والسورياليين كما حدد ذلك (بريتون) في بيانه ويقف الكاتب طويلا عند تحليل العقاد لوصف ابن الرومي لرجل احدب بقوله :

قصرت أخادعه وطال قذاله فكأنه متربص ان يصفعا وكأنما صفعت قفاه مرة وأحس ثانية لها فتجمعا.

ملاحظات نقدية:

1. من يقرأ عنوان الكتاب (المدخل الى نظرية النقد النفسي) يتصور ان الكاتب سيقدم صورة شبه شاملة عن النقد النفسي العربي – كما يقول هو او على الاقل في الافكار التي تميز بعض نقادها بهذا المنهج لكن الكتاب في الواقع هو عن النقد النفسي المصري لا العربي.

2. ان من المؤسف ان ينسى الكاتب او يتناسى اثنين من قمم النقد النفسي في الأدب العربي وهما : ( سامي الدروبي في كتابه المعروف (علم النفس والادب) و(جورج طرابيشي) في مؤلفاته الكثيرة التي تكاد ان تشكل مكتبة نقدية نفسية رائعة .

3. ومن الملفت للانتباه هو ظاهرة التكرار الحرفي حيث يكرر الكاتب نصا وحرفيا المقاطع التي يثبتها في بعض الصفحات في صفحات اخرى كما حصل في الصفحات 18 او 64 وغيرها.

سلطة الكاتب(3)

بدأ الاهتمام بالكاتب (أو المؤلف أو المبدع) مع نشأة العلوم البيولوجية والدراسات السيكولوجية. وظهر هذا الاهتمام في المدرسة النفسية، والمدرسة الرومانسية. فإذا أخذنا المدرسة النفسية في الأدب والنقد نموذجاً على (سلطة الكاتب) تبين أن أول من عني بالتفسير النفسي للأدب هو الناقد الفرنسي (سانت بيف) الذي أنشأ سلسلة من المقالات باسم (صور المؤلفين)، ممهداً بها لنقد يحاول اكتشاف (نفسيّة المؤلف)، حيث جمع مواد كثيرة عن أصول المؤلف، ونشأته، وسيرته الذاتية، وعلاقته بمجتمعه، من أجل كشف الحالة النفسية التي تسلطت على الأديب أثناء إبداعه الأدبي.‏

كذلك اهتم (كولردج) بذاتية الأديب، فوضع كتاب (السيرة الأدبية) عام 1817 عدّه النقاد (إنجيل النقد الحديث). وقد أثار فيه قضايا أدبية، منذ اختمارها في نفس الكاتب، حتى ظهورها في شكل فني.‏

ثم جاء فرويد (1856-1939)، فتجاوز المقولات التي تردّ الإبداع إلى الإلهام أو الواقع الاجتماعي، وجعل اللاشعور الشخصي هو المصدر الحقيقي للإبداع. فالإبداع ـ حسب فرويد ـ هو تنفيس عن الصراع المعتمل داخل الشخصية، والمتمثل في القمع والكبت، والمتطلع إلى أنواع شتى من السلوك، أرفعها التسامي الذي يؤدي إلى إظهار العبقرية. وهو رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال. وبهذا يبدو الإبداع تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.‏

وبوساطة التسامي يفرغ الأديب شحنته، مستبدلاً الهدف الذي لم يحققه بهدف ذي قيمة اجتماعية كالكتابة الأدبية. وعلى هذا فإن فرويد يرى الأدباء والفنانين مرضى يخفون عقدهم في إبداعهم. ومهمة الناقد هي البحث في التحولات التي أجراها المبدع لتغطية مكبوتة بمكتوبة.‏

وعلى الرغم من أن (فرويد) يعترف بعجز التحليل النفسي عن إدراك طبيعة الإبداع الأدبي والفني، فإنه نشر ثلاث دراسات عن التحليل النفسي للأدب، عن ليوناردو دافنشي، ودستويفسكي، وينشن: ففي دراسته لدافنشي بنى سيرة للفنان ولمكبوتاته الجنسية التي ظهرت في شذوذه الجنسي. وفي دراسته لدستويفسكي عني بتفسير الصراع الهستيري الذي كان يصيب دستويفسكي، ورغبته الأوديبية في قتل الأب.‏

وقد حقّق التفسير النفسي للأدب فتوحات جديدة: فقد كان تردد (هاملت) مثلاً يُرَدُّ ـ في المناهج النقدية القديمة ـ إلى جبنه، وإلى تأمله الذي أضعف قدرته على العمل، فأصبح ـ في التفسير النفسي ـ يُرَدُّ إلى ضراوة الصراع النفسي الذي يضطرم داخله ويشلّ قدرته على العمل.‏

وقد اعتبر فرويد الأدباء أقدر على تحليل نفسيات شخوصهم عن علماء النفس في عياداتهم، فقال:"إن الشعراء والقصاصين يعرفون أشياء كثيرة ما تزال حكمتنا المدرسية قاصرة عن فهمها. إنهم أساتذتنا في إدراك النفس".‏

لكن أتباع (فرويد) تطرفوا في تفسير الأعمال الإبداعية، فذهب (إدلر) إلى أن الإبداع هو تعويض عن (عقدة النقص) التي يعاني منها المبدع. وقسم (يونغ) اللاشعور إلى نوعين: لا شعور شخصي ولا شعور جمعي. وإذا كان (فرويد) قد ركز على اللاشعور الشخصي ومكبوتاته، فإن تلميذه (يونغ) ركز على اللاشعور الجمعي المتوارث، والذي هو واحد عند جميع الناس. ومنه يستمد الأدباء والفنانون صورهم وأخيلتهم. وعلى أساسه نشأ (النقد الأسطوري) الذي يُعنى بالنماذج الأساسية: كنموذج الولادة الجديدة، والبعث.... الخ.‏

وعلى الرغم من أن النقد النفسي يبدو متطفلاً على الأدب، وإنه يحشر الأدباء في زمرة المرضى، وينسى حياتهم اليومية، فإنه أنار كثيراً من غوامض الإبداع والرموز التي كانت مستغلقة في وجوه النقاد.‏

ـ المنهج النفسي في النقد العربي:‏

يمكن القول إنه في نقدنا القديم (نظرات) نفسية (لا نظريات): فقد أشار إلى المحفّزات على قول الشعر: فقد روي أن عبد الملك بن مروان سأل أرطأة بن سهيّة: "أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أرغب. وإنما يجيء الشعر عند إحداهن"(1). وهذه (البواعث) تثير التوترات النفسية التي تدفع إلى قول الشعر نجدها عند أكثر من شاعر: فدعبل بن علي الخزاعي يقول: "مَنْ أراد المديح فبالرغبة، ومَنْ أراد الهجاء فبالبغضاء، ومَنْ أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومَنْ أراد المعاتبة فبالاستبطاء"(2). وأبو تمام يوصي تلميذه البحتري بقوله: "اجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين".(3).‏

ـ المنهج النفسي في النقد العربي الحديث:‏

في منتصف القرن العشرين، ونتيجة لمثاقفة نقادنا مع الغرب، أُثير الاهتمام بالمنهج النفسي في تفسير الأدب، فتبناه أمين الخولي، وحامد عبد القادر في كتابه (دراسات في علم النفس الأدبي)، ومحمد خلف الله في كتابه (من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده)1947، ومحمد النويهي في كتابه (ثقافة الناقد الأدبي) 1949 الذي حلل فيه شخصية ابن الرومي اعتماداً على بيولوجيته، وأرجع تشاؤمه إلى اختلال وظائفه العصبية والجسدية. ثم وضع كتابه (نفسية أبي نواس)1953 حلل فيه شخصية أ بي نواس اعتماداً على (عقدة أوديب)، التي اكتشفها (فرويد)، وعلى اللاشعور الجمعي الذي اكتشفه (يونغ). وعلّل إدمانه الخمرة بكونها تعويضاً عن مكبوتاته النفسية، وعن حنان أمه التي حرم منها منذ وقت مبكر من طفولته، حين تزوجت بعد وفاة أبيه، فأورثه هذا شذوذاً جنسياً يتمثل في النفور من النساء، بوصفهن ـ كأمه ـ خائنات. وقد دفع به نفوره من النساء إلى البحث عن (تعويض) فوجده في الغلمان حيناً، وفي الخمرة حيناً آخر. فتخيّل الخمرة أنثى، وخلع عليها صفات الأنوثة المغرية المثيرة التي يجدها الرجال العاديين في المرأة، ووصفها بالبكارة والعذرية، وسماها فتاة وبنتاً وجارية وعواناً، وأوهم نفسه أنه حين يمزّق دنّها فإنما يمزق غشاء البكارة عن عذراء.‏

كما اهتم عباس محمود العقاد بشخصيات الشعراء، فتتّبع سيرهم الذاتية، ورصد شخصياتهم، من أجل النفاذ إلى أسرار إبداعهم. فحلّل شخصية ابن الرومي في كتابه (ابن الرومي:حياته من شعره) 1963، درس فيه أصله، ونشأته، ومزاجه، وتكوينه النفسي والجسدي. وأرجع تشاؤمه إلى اختلال في أعصابه، وسخريته إلى خصائصه الجسدية. كما ردَّ عبقريته إلى أصوله اليونانية، وإلى الطيرة التي استحكمت به. ثم وضع كتابه (أبو نواس: دراسة في التحليل النفساني والنقد التاريخي) حلل فيه شخصية أبي نواس، وأظهر (عقده النرجسية) لديه، وعلى ضوئها فسّر مجونه، معتمداً على (فرويد) و(إدلر)، و(يونغ)، و(فروم). ورأى أنه كان جميلاً مفتوناً بمحاسنه، بسبب نقص غدد رجولته، وأنه لقي من أمه دلالاً زائداً بسبب شيخوختها، فاتخذها قدوة، مما وطّد له سبيل الانحراف عن الولع بالنساء إلى الولع بالرجال.‏

وتناول طه حسين شخصية (المتنبي) في نشأته، فرأى أنه كان يتستّر على معرفة أبيه وأمه ويتجاهلهما في الوقت الذي كان الناس فيه يتفاخرون بالأنساب. وأنه اتصل بالقرامطة لأنه كان مثلهم ثائراً على الأوضاع في بغداد. ثم تتبع حياته في بلاد سيف الدولة، فرأى أنه شغل نفسه بحركة الحياة الخصبة التي كان يحياها سيف الدولة، وأنه أظهر نفحة الحزن عند كافور عندما وجد نفسه سجين العناء والمرارة. كما درس طه حسين شخصية (المعري) فردّ ولعه بالتلاعب بالألفاظ إلى أنه عاش نصف قرن (رهين المحبسين): محبس البيت، ومحبس العمى. فطال عليه الزمن حتى ملَّه، فلجأ إلى قتل الوقت بالتلاعب بالألفاظ.‏

ودرس شوقي ضيف شخصية (عمر بن أبي ربيعة) فاستفاد من علم النفس، ووقف عند ظاهرة جديدة في الشعر العربي جاء بها عمر هي تحويل الغزل من المرأة إلى الرجل؛ فالمعهود هو أن يتغزل الرجل بالمرأة، لا العكس كما حدث مع عمر الذي أصبح هو المعشوق لا العاشق. وفسّر الناقد هذا التحول بأن عمر كفلته أمه بعد موت أبيه، فقامت على تربيته، وتعلقت به بوصفه وحيداً وجميلاً. وأغدقت عليه من فيض حنانها ودلالها. فانعكس ذلك إعجاباً بنفسه في شعره: فالنساء هن اللواتي يطلبنه، ويعشقنه، ويرغبن في وصله، بينما يختال هو عليهن، ويتأبى ويتمنّع إعجاباً بنفسه. وهذا الإعجاب الزائد بالنفس هو ما سماه علماء النفس بـ(النرجسية)(4).‏

ثم أصدر عز الدين اسماعيل كتابه (التفسير النفسي للأدب) عام 1963 عالج فيه عملية الإبداع الأدبي، فرآها وليدة اللاشعور، وأنها كالحلم، تتخذ من الرموز أو الصور النفسية ما ينفّس عن الرغبات. كما حلل نفسية المبدع، ورأى أنه قد يكون عصابياً، ولكنه ليس مجنوناً. وعصابه لا دخل له في قدرته على الإبداع، لأنه حين يبدع يكون في حالة جيدة من الصحة النفسية، كما أنه ليس نرجسياً، لأنه حين يبدع يعوّض بإبداعه الأدبي عن نرجسيته.‏

ثم نشر خريستو نجم كتاب (النرجسية في أدب نزار قباني) عام 1983 قرأ فيه شعر نزار على ضوء (عقدة النرجسية) في التحليل النفسي. وهي عقدة مرضية تبتدئ في طفولة كل طفل، حيث يمر بالمراحل الثلاث: الفمية، والشرجية، والقضيبية. وقد تتبع الباحث تطور هذه المراحل في حياة نزار، واعتبر انتحار أخته إسهاماً في تسامي مشاعر الشاعر السلبية. فغدا الشاعر أنثوي الإحساس، يعبّر عن مشاعر المرأة الرقيقة.‏

ولكن عقدة (النرجسية) تنزاح عند الباحث ليجعل من الشاعر انطوائياً! وسادياً! ومازوشياً! وأوديبيا! ودون جواناً! مسلّطاً على شخصية نزار كل هذه العقد النفسية. كما تجاوز الناقد الأخذ من فرويد ليأخذ من معظم المدارس النفسية.‏

لكن المآخذ على النقد النفسي تتمثل في أن ممارسيه، هم في الأغلب، علماء وأطباء لا أدباء أو نقاداً. وقد اتخذوا الأدب وسيلة لخدمة ميدانهم المعرفي، وليس لخدمة الأدب أو النقد. وقد اعترف (فرويد) بذلك حين قال: "إن التحليل النفسي لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، ولا أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني"(5). كما اعترف (يونغ) بذلك فقال: "إن المنهج الذي يمكن الوصول عن طريقه إلى حقيقة الفن لابد أن يكون منهجاً فنياً"(6).‏

كما أن النقاد النفسيين اهتموا بشخصية ا لأديب على حساب أدبه، وتسرّعوا في استخلاص النتائج دون التمثل الجيد لمقولات علم النفس: فالعقاد يرسم لابن الرومي صورة جسمانية تفضي إلى صورة نفسية. والنويهي يمهد لبحثه بمقدمة طويلة في علم وظائف الغدد والأعضاء قبل أن يدخل "فأر التجارب" ابن الرومي إلى المختبر، ثم يعزله عن عصره، وبيئته، ومجتمعه لينتهي إلى تفسير عبقريته بمرضه العقلي، وبعقدة الفشل الناجمة عن عدم تحقيق رغباته التي تتعارض مع الواقع. مما دفع الشاعر إلى التعويض، حسب (فرويد). وهكذا نجد أن سلطة الكاتب (أو المؤلف أو المبدع) التي أعلت المدرسة النفسية والرومانسية من شأنها، قد وصلت إلى ذروة الاهتمام بها لديهما. ولكن الانحسار سيأتي لاحقاً، حيث سيتحول الاهتمام إلى (النص) الأدبي.‏

....................................................

هوامش:‏

(1)ـ ابن رشيق ـ العمدة1/120.‏

(2)ـ نفسه1/121.‏

(3)ـ حازم القرطاجني ـ منهاج البلغاء ـ تونس1966ـ ص203.‏

(4)ـ شوقي ضيف ـ التطور والتجديد في الشعر الأموي ـ دار المعارف بمصر، ص240-255.‏

(5)ـ نقلاً عن فيدوح ـ الاتجاه النفسي في النقد العربي ص213.‏

(6)ـ نقلاً عن مصطفى سويف ـ الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ـ دار المعارف بمصر ـ 1981ص88.‏  

نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4)

1 ـ أزمة العلامه‏

2 ـ نظرته للنص‏

3 ـ النص والأثر‏

4 ـ الممارسة النصيّة‏

ما النّصُّ في معناه الشَّائع؟ إنّه المساحة غير العاديّة للأثر الأدبيّ؛ إنّه نسيج من الكلمات الرَّاسخة في الأثر والمنتظمة على نحوٍ تُفضي فيه إلى معنًى محدَّد ووحيد إنْ أمكنَ. وبالرّغم من الطَّابع الجزئيّ والبسيط لفكرة "النّصّ" (وهو في الآخِر ليس إلاّ موضوعاً قابلاً للملاحظة بواسطة الحاسّة البصريّة)‏

فإنّ النّصّ يساهم في إفراز القيمة المعنويّة للأثر فهو خادمُه البسيط ولكنْ لا غنًى عن خدماته. ولمّا كان النّصّ تقريباً على صلة تكوينيَّة بالكتابة (النّصّ هو ما كُتِبَ) ـ لأنّ صورةَ الحروف ذاتها بالرّغم من أنّها تظلّ خطّيّةً إلاّ أنّها توحي أكثر من الكلام بتشابك النّسيج (النصّ يعني اشتقاقاً النّسيج) ـ فإنّه هو المولِّد ـ في الأثر ـ لضمان الشيء المكتوب الّذي ينهض بوظائف صيانته وذلك من ناحية الثّبات والتّسجيل الدّائم الهادف إلى تجاوز ضعف الذّاكرة وأخطائها، وهو من ناحية أخرى تأكيدٌ لشرعيّة الحرف والأثر السّاطع الذي لا يمّحي للمعنى الّذي أودعه صاحبُ الأثر عن قصدٍ في النّصّ. إنّ النّصّ سلاح في وجه الزّمن والنِّسيان وخُدَع الكلام الذي سرعان ما يتراجع ويتلاشى ويتنكَّر لنفسه. إنّ فكرة النّصّ مرتبطة بعالم بأسْره من المؤسَّسات: الشرائع، الكنيسة، الأدب، التّعليم؛ النَّصّ موضوع أخلاقيّ فهو المكتوب ما دام يشارك في العقد الاجتماعيّ. إنّه يُلْزمُ ويَقْضي بأن نضعَه نصبَ العيْن ونحترمَه ولكنّه في المقابل يسمُ اللّغةَ بصفةٍ لا تقدَّر بثمن (وهي لا تنبثق عن جوهره) إنّها صفةُ "السَّلامة".‏

1) أزمة العلامة:‏

يمثِّل النص, من الناحية الابستمولوجيّة، ومن وجهة نظر كلاسيكية, قسماً من مجموع المفاهيم مركزها (العلامة)، لذلك ندرك الآن أن (العلامة) تمثل مفهوماً تاريخياً وأثراً فنياً تحليلياً (وحتى إيديولوجياً)؛ ففكرة النص تقتضي أن تكون الرسالة المكتوبةُ le message ècrit خاضعةً للتقطيع مثل العلامة: فمن ناحية يوجد الدال (الجانب المادي للحروف وتسلسلها في كلمات وجمل وفقرٍ وفصول) ويوجد من ناحية أخرى المدلول أي المعنى الأول والواضح والنهائي والمحدد بواسطة علامات تحمله. إن العلامة بالمفهوم التقليدي الفيلولوجي هي وحدة مغلقة يترتب على انغلاقها إيقاف للمعنى ومنع له من الحركة ومن الازدواجية ومن التطواف؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى (النص) الكلاسيكي: يغلق الأثر ويقيده بحروفه ويوثقه كتافاً إلى مدلوله. إن دور الفيلولوجيا القديمة هو إعادة ترميم معنى النص المهدد بالتلاشي, لذلك مثل (النص) في القديم مداراً لكل الاتجاهات التأويلية les ghermèneutiques, فعبر ترميم الدال يقع الوصول إلى التأويل المعياري للمدلول: النص يحمل اسم الأثر المسكون بمعنى وحيد, معنى "حقيقي" ونهائي. إن النص إذن هو هذه الأداة العلمية التي تحدد بنوع من التسلط قواعد القراءة السرمدية. إن هذا المفهوم للنص مرتبط بطبيعة الحال بميتافيزيقا الحقيقة mètaphysique de la vèritè. إن تاريخ (الحقيقة) و(العلامة) و(النص) يمتد على قرون, هو نضال من أجل "الحقيقة" باسم "معنى" ما ضدَّ "معنى" آخر؛ هي فصول من الحيرة والقلق والشك أمام ضبابية العلامات وغموضها. إنه تاريخ دموي حينا وقاس أحياناً ربط بين الحقيقة والعلامة والنص؛ ولكنها الأزمة نفسها تطال القرن الأخير في مجال ميتافيزيقا الحقيقة (نيتشه) وتطال اليوم أيضاً مجال نظرية اللغة والأدب عن طريق نقد إيديولوجي للعلامة وذلك بتعويض (النص) الكلاسيكي المرتبط بأهل الفيلولوجيا القدامى بنص حديث. إن هذه الأزمة شرعت أبوابها اللسانيات نفسها. لقد صرفت اللسانيات (البنيوية)، بطريقة غامضة (أو جدلية), لعنايتها العلمية إلى مفهوم العلامة (المقطعة إلى دال ومدلول) مما قد يوحي بأن ذلك ضرب من الانتصار لنوع من ميتافيزيقا المعنى. ولكن اللسانيات أجبرت، بالتسلط نفسه، جهازَ الدلالة l'appareil de la signification على التحرك والتفكك والانقلاب. ففي قمة اللسانيات البنيوية (في حدود 1960) بدأ كثير من الباحثين, غالباً ما أفرزتهم اللسانيات نفسها، في توجيه خطاب نقدي للعلامة وإعلان نظرية حديثة للنص (والتي تسمى في القديم "نظرية الأدب").‏

ففي عمق هذا التحول لعبت اللسانيات دوراً ثلاثياً باتجاه المنطق والشعرية والسيميولوجيا:‏

* اللسانيات/ المنطق: احتكت اللسانيات بالمنطق الذي صار مع كارناب Carnap وريسيل Russel وويتجنستن Wittgenstein عبارة عن لغة عودت الباحث على تعويض مقياس (الصحة) بمقياس (الحقيقة) وعلى إطِّراح كل لغة تحاكم المضمون وتتسلط على المعنى وعلى اكتشاف ثراء التحولات في أبنية الخطاب دقة واتساعاً. فقد نتج من خلال ممارسة الشكلنة على غرار أصحاب المنطق التعرف الكامل على الدال وعلى اكتفائه بنفسه وعلى مدى انتشاره.‏

* اللسانيات/ الشعرية: بفضل أعمال حلقة براق Prague وأعمال جاكبسون عاد إلى الضوء ثانية الكلام على الخطاب: فجزء كبير من الأدب انتقل إلى اللسانيات (على مستوى البحث إن لم يكن على مستوى التدريس) تحت اسم "الشعرية" Poètique (وهي ترجمة كان فاليري Valèry قد رأى فيها ضرورة) وأفلتَ بذلك من نوعٍ من المقاضاة لتاريخ الأدب الّذي كان يُنظَر إليه على أنَّه مجرَّد تأْريخٍ للأفكار والأجناس.‏

* اللسانيات / السيميولوجيا: إن السيميولوجيا علم جديد افترض دي سوسير قيامه منذ بداية القرن ولكنه علم لم يبدأ في التطور إلا في حدود 1960 وقد سار أساساً، على الأقل في فرنسا، باتجاه تحليل أجناس الخطاب الأدبي؛ فاللسانيات تتوقف عند الجملة وتتيح بعناية وصفاً للوحدات التي تكونها (مركبات Syntagmes/ لفاظم monèmes/ صواتم phonemes) ولكنْ ماذا عساه يكون الأمر بالنسبة إلى ما وراء الجملة؟ ما هي الوحدات البنيوية للخطاب (إذا ما تخلَّيْنا عن التقسيمات المعيارية للبلاغة القديمة)؟ هكذا احتاجت السيميائية الأدبية إلى فكرة (النص) باعتبارها وحدة خطاب عليا أو أكثر عمقاً من الجملة التي تبقى من الناحية البنيوية مختلفة عنها: يقول تدروف عن فكرة (النص): "عن فكرة النص لا تقع في المستوى نفسه الذي تقع فيه الجملة [..] ففي هذا الاتجاه ينبغي أن يكون النص متميزاً عن الفقرة وهي وحدة طوبوغرافية من عدة جمل. فمثلما يمكن أن يتطابق النص مع جملة واحدة يمكن أن يتطابق مع كتاب بأكمله [...] إنه يشكل نظاماً لا ينبغي جعله مطابقاً للنظام اللغوي ولكن يجب إقامة الصلة بينهما, إنها صلة من التجاور والتشابه".‏

إنّ النص، من منظور السيميائية الأدبية الصارمة، يعتبر, في وجه من وجوهه، الوعاء الشكلي للظواهر اللسانية؛ ففي مستوى النص تقع دراسة علم مضمون الدلالة sèmantisme de la signification (وليس فقط المضمون الدّلالي للتواصل) والتركيب السردي أو الشعري. إن هذا المفهوم الجديد للنص القريب أكثر إلى البلاغة منه إلى الفيلولوجيا يريد في المقابل أن يكون متوافقاً مع مبادئ العلم الوضعي فيدرس النص في ذاته لأنه لا يمكن الاعتماد على أية إحالة على مضمون أو على مؤثرات تتجاوزه (سواء أكانت اجتماعية أم تاريخية أم نفسية) باعتبار أن النص, كما هو الحال في أي علم وضعي, ليس إلا موضوعاً خاضعاً للرقابة عن بعد من قبل ذات عالمة. لا يمكن إذن الكلام، في هذا المستوى، على تحول ابستمولوجي. فهذا التحول يبدأ عندما تتنزل عن وعي مكتسبات اللسانيات والسيميولوجيا (بعد أن تضفى عليها النسبية تحت غطاء الثنائية: هدم/ إعادة بناء/ في حقل مرجعي جديد محدد أساساً بواسطة التواصل الداخلي لفلسفتين معرفيتين مختلفتين: المادية الجدلية (ماركس Marx, انقلز Engels, لينين Lènine, ماو Mao) والمرجعية الفرويدية (فرويد Freud, لاكان Lacan). فهذا المسلك هو الذي يتيح، يقيناً, تحديد عناصر النظرية الجديدة (للنص). ولكي يكون هناك علم جديد لا يكفي أن يزداد العلم عمقاً أو انتشاراً (وهو ما يحدث عندما نمر من لسانيات الجملة إلى سيميائية الأثر) بل ينبغي أن يكون هناك لقاء بين فلسفات معرفية مختلفة‏

épistémés différentes بله غير معروفة الواحدة منها حيال الأخرى (كما هي حال الماركسية والفرويدّية والبنيويّة) كما ينبغي أن يُنْتَج هذا اللِّقاءُ موضوعاً جديداً (ولا يتعلَّق الأمر بمقاربة جديدة لموضوعٍ قديمٍ) إنّه في هذه الحالة موضوعٌ جديد اسمُه (النَّصّ).‏

2) نظريّة النّصّ:‏

إنَّ اللغة التي نقرر استعمالها في تقديم تعريف للنص ليست قليلة الأهمية لأنه من مقتضيات نظرية النص طرح كل ملفوظٍ على بساط السؤال بما في ذلك الملفوظ المتعلق بالنص تحديداً: نظرية النص حساسة، وعلى نحو مباشر، تجاه أية ميتالغة تتضمن مراجعة لخطاب العلمية، وهنا، وفي الوقت الذي تقتضي فيه نظرية النص تحولاً علمياً حقيقياً، فإن العلوم الإنسانية لم تضع اللغة الخاصة بها موضع سؤال معتبرة إياها مجرد أداة أو ستاراً شفافاً في غاية الصفاء.‏

إن النص هو عينة لغوية تتنزل بنفسها في أفق من اللغات؛ فأن ينعقد التواصل على بعض المعارف أو الأفكار النظرية حول النص فإن ذلك يقتضي التعويل بطريقة أو بأخرى على الممارسة النصية La pratique textuelle. إن نظرية النص يمكن بلا ريب أن تفصح عن صيغة خطاب علمي متماسك أو محايد ولكن يكون ذلك على الأقل وفق حالة ظرفية ومنهجية؛ وإلى جانب أسلوب العرض هذا، سنجد من المشروع جداً أن ندرج في عداد نظرية النص التنوع الهائل للنصوص (مهما يكن الجنس وتحت أي شكل ينضوي النص) التي تعالج انعكاسية اللغة‏

la réflexivité du logage ودورة التلفظ. هكذا يمكن أن يقترب منا النص بواسطة التعريف definition ولكن (وقد يكون بصفة أخصّ) بواسطة المجاز.‏

لقد أنجز تعريف للنص باتجاه غايات ابستمولوجية أساساً من قبل جوليا كريستيفا إذ تقول: [نعرف النص بأنه جهاز مجاوز للغة translinguistique يعيد توزيع نظامها مقيماً الصلة بين كلام تواصلي هدفه الإخبار المباشر وبين ملفوظات مختلفة سابقة وآنية]. فإلى جوليا كريستيفا يرجع الفضل في ضبط المفاهيم النظرية الرئيسية التي يحتوي عليها ضمنياً هذا التعريف للنص: تطبيقات دالة Pratiques signifiantes وإنتاجية productivité وإدلال signifiance وفينو ـ نصّ phéno-texte وجينو ـ نصّ géno-texte وتناص intertextualité

النقد المنهجي و نقد المنهجية(5)

   نقرأ كتابات كثيرةً، كلّ يومٍ، حول كتابٍ، أو مسرحيةٍ، أو قصيدةٍ، وربما أغنية أو خطاب أو رأي ... على أنّ هذه الكتابات تبقى آراء شخصيةً لا تحمل منهجاً نقدياً واضحاً، كما يغيب، في كثير من الأحيان، الهدف المنشود منها. فلا بدّ، إذاً،  من غايةٍ للنقد، في ضوئها تحدد المناهج و التقنيات.

   قد تكون الغاية إزالةَ صعوبةٍ في الكلام (مكتوباً أو مسموعاً)، أو اختيار الأفضل من نصّينِ أو نصوص متعارضة. أو تكوين أحكام للأدب أو عليه. إلا أن الوصول إلى هذه الغايات منفردة أو مجتمعة يبقى مبهماً، ناقصاً، مضطرباً، و احياناً غوغائياً، إذا لم يقترن بمنهجٍ أو تقنية. وعليه فإني أميل إلى عدم استعمال ملفوظة " النقد "، لما تحمل في مضمونها من اختيار بين الجيد و السّيئ ، و بين القبيح والجميل، و بين الراي و الرأي المضاد.

ولما يحمله السوء و الجودة و القبح و الجمال من مفاهيم غامضة نزاعية، تتعلق أكثر ما تتعلق بالذوق و الإرث و الثقافة و الحضارة. لذلك أفضل استعمال ملفوظة " الدراسة " أو " المقاربة ". لأننا في فعل دراسة أي منتج أدبي أو فنّ جميلٍ لا يمكن أن ندّعي امتلاك المعايير و المنهجيات كلها. و بالتالي امتلاك أحكام نهائية أو ثايتة الوقت كلّه.

و المناهج أو المقاربات عديدة ، نذكر منها :

المنهج التاريخي:

يصعب فصل هذا المنهج عن تاريخ الأدب. فهو مقاربة خارجية عن النص. و أحياناً تكون وصفية (= تصحيحية) بحسب أيديولوجية دينية ، أو أخلاقية أو سياسية أو غيرها من الأيديولوجيات.

هي مقاربة " نعتية " بمعنى أنها تضيف كثيراً إلى النص بوساطة إعادة الصياغة. فهي تكثر من التوسط بين المؤلف و النص، بين المنتِج و المنتَج، أو بين النص و القارئ. هي مقاربة تكوّنية تُعنى بالأصل و النشوء أي بأصل و تاريخ الأثر.

و يعتقد أصحاب هذا النهج أنه من الضروري معرفة صاحب الأثر و الأحوال السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في زمانه لكي تُفهم آثاره.

و قد تنشأ من هذا النهج مقاربتان :

1- المقاربة الفقهية (= التاريخية) Philological ، وهي مقاربة أكاديمية معرفية واسعة ، تُعنى بالتحقق من الكتب و المخطوطات من أجل نشرها و تصنيفها. و لهذا فهي تستعين بعلمي الببليوغرافيا Bibliography و التأريخ Historiography .

إنّ المقاربة الفقهية – من الببليوغرافيا إلى التأريخ – تهتم بالأسلوب و التصميم و المقارنات. ما يهمها هو ما قبل النص (l'avant – texte) لأنه السبيل إلى إنشاء طبعة نقدية. وقد تتمهّل أمام التأثيرات المختلفة بين الآثار أو بين أصحابها لتكوّن سجلاًّ تاريخياًّ للأفكار و الذهنيات.

2- المقاربة النفسية أو البسيكلوجية.

غالباً ما يكمّل المنهج النفسي المنهج الفقهي. وهو منهجٌ عاطفيٌّ تبسيطي، يحكي عن صاحب الأثر أكثر مما يحكي عن الأثر عينه. وقد تجنح المقاربة فيه إلى الدهماوية (= الديماغوجية demagogy ) بقدر ما تجنح إلى إعطاء الدروس في أحسن الأحوال. فالمنهج الديماغوجي يسيطر على "النقد" الصحافي : فالصحيفة تمرّر الدعاية على أنها معلومة. و الترويج على أنه رأي، و الإعلان على أنه شعبية. ولا يسعى إلى شرح النص، و إنما إلى توريط القارئ من خلال إلصاق بضع "وصفات" بالنص: فهو يلخّص، يكرّر، يدعو، يُمجّد أو يضحّي ... إلخ.

وباختصار، إنّ المنهجين : الفيلولوجي (= اللغة والأسلوب)، أو البسيطولوجي (الشخصيات و المواضيع الكلامية) لا ينفصلان داخل المنهج التاريخي الذي يقوم على استقدام الأدب إلى الأثر أو إلباسه معطفاً أدبياً، ليكون بذلك نقداً أسلوبياً: ففي المنهج الفيلولوجي الأثر هو أسلوب الكاتب، وفي المنهج البسيكولوجي أسلوب الأثر هو الكاتب. ولنوضح أن الفيلولوجيا، أو الببليوغرافيا تقرأ الأثر في حياة المؤلف (كاتب و مجتمع، أسلوب ولغة). أما البسيكولوجيا أو البيوغرافيا (= سيرة المؤلف) فتقرأ حياة المؤلف (منفرداً أو مجتمعاً) في الأثر (Jean – Marc Lemelin).

المنهج التفسيري / التأويلي

وهكذا راينا أن النقد القديم أو المنهج القديم (= المنهج التاريخي) يزاوج بين الفقهية المعرفية الواسعة و التبسيطية البسيكولوجية : معرّفةً الأثر بالمؤلِّف. أمّا المنهج الحديث ( كما يحلو للبعض أن يسميه )، أو المنهج التفسيري / التأويلي فيُعرّف، بالأحرى، المؤلّف/الأديب بالأثر/ المؤلَّف.

فيبدو بذلك أكثر ذاتية على أنه داخليّ (= داخل النص) أكثر من المنهج التاريخي. و يُعنى بأمرين اثنين :

الأول:

المقاربة الرمزية / الشكلية Formalism/Symbolism 

إنّ مقاربة شكلية / رمزية للأدب تتطلّب قراءة دقيقة للنص. فالشكليون / الرمزيون يؤمنون بأن معرفة الأثر الأساسية و المنشودة، تكمن داخل الأثر عينه. فلا حاجة للإتيان بما هو خارجيٌّ كالمعلومات التاريخية و السياسية و الاجتماعية في زمن الأثر. أو تلك المتعلقة بحياة صاحبه. وهم ،(افتراضا ً), لا يبحثون في الآثار من خلال المنهج النفسي (البسيكولوجي)، أو الميثولوجي أو الأنثوي، أو غيرها من نقاط الاستشراف. كما لا يهمهم تأثير العمل الأدبي في القارئ أو السامع.

فهم يعتبرون أن المواضيع (الكتابة أو الكلام) تتحقق في الصور و الخيال و المجاز والمتخيّل و التّهكّم و المفارقة (= الموهم للتناقض) و الاستعارة. وكلها على شكل رموز ( غاستون باشلار ). و إذا كانت هذه الرموز تمثل أساطير أو خرافات فعندها يمكن التحدث على نقد ميثولوجي (= أسطوري) يستمد مادته من الميثولوجيا أو من علم الأعراق البشرية ( = الاثنولوجيا ) ( كلود ليفي شتراوس).

و أما إذا كانت مرتبطة بالتعقيدات النفسية فيجوز عندها الدخول فيما يسمى بالنقد النفساني الذي يستعين بالتعاليم الفرودية (Freud) أو الجنجية (Jung) على السواء.

الثاني:

المقاربة الفكرية (thematic) بحسب الأفكار الرئيسة و موضوع الكلام :

تتشعب و تتكاثر في هذه المقاربة أنواع شتى من المواضيع (themes) : النفسانية و الميثولوجية و الاجتماعية و الفلسفية و النفسية – الاجتماعية و الاجتماعية – التاريخية ( الدينية و الأخلاقية و غيرها ... ).

فإذا ما جمع علم الأفكار المواضيع الفلسفية أو الدينية فعندها يمكن الكلام على النقد الفلسفي . و فيما يلتصق هذا الأخير، من قريب أو بعيد، بالفلسفة الوجودية (جان بول سارتر، دوبرفسكي) ، فإنّ النقد الاجتماعي يلتصق هو الآخر بالفلسفة الاجتماعية أو الشيوعية. و لسنا في معرض الدخول في تفاصيل و تشعبات هذا النقد المعقّد إلا أننا نستطيع التلميح – على سبيل المثال – إلى واقعية لوكاكس Lukacs ، و إلى البنيوية المورّثية / الجينية لغولدمان في الفلسفة و علم الاجتماع الأدبي و علم الاجتماع الروائي. كما نلمّح إلى شخصانية أو وجودية ( فالاردو Falardeau) المنهج الأخلاقي / الفلسفي

يرى أصحابه إلى الأدب بوصفه موجّهاً أخلاقياً و محققاً لمسائل فلسفية. فعلى الآثار الأدبية / الفنية أن تحمل جدّيةً عليا. و على الأدب أن يُظهر نصحاً أخلاقياً أو حكمةً أخلاقية ً ، و أن يذهب مذهب المنفعة و تحقيق الخير الأعظم ( أفلاطون )، كما على الأدب أن يكون ممتعاً مثقّفاًَ منوّراً.

و قد تكون هذه المقاربة نافعة في بعض الروايات أو الحكميات حيث يتصادم الخير و الشر. إلا أنها مقاربة لا ترى إلى الأدب بوصفه "فناً " معزولاً عن التضمينات الأخلاقية. و إنما تعترف بالأدب مؤثراً في القارئ أو السامع، سواء باللطف أو بالمباشرة. و إن رسالته، و ليس "الزينة" الحاملة لهذه الرسالة، هي الأهم.

قد تجتهد في هذه المقاربة كثرة الأحكام (= المحاسبة و إصدار الأحكام و الأحكام المضادة). فالبعض يؤمن بأن يكون الحكم في الأدب أولاَ ( إذا لم يكن فحسب )، على فضائله أو ميزاته الفنية، و ليس على مضمونه الأخلاقي أو الفلسفي.

منهج المساواة بين الجنسين (Feminist) :

يهتم هذا المنهج باثر الجنس (= من حيث الذكورة و الأنوثة) في الكتابة و القراءة. و يبدأ عادةً بنقد الثقافة السلطوية (= الأبوية). كما يهتم بمكانة النساء الكاتبات. وهو يتضمن بحثاً في نظرية المساواة في النصوص. فالنقد القائل بالمساواة بين الجنسين سياسيٌّ. و غالبا ً ما يطالب بتعديل مواقف أو حالات، أو بتغييرها و إصلاحها. و يرى أصحابه أن مخاوف الرجل تُصوّر من خلال شخصيات نسائية. وفي كثير من الأحيان تقول حجتهم إن الجنس (= الذكورة و الأنوثة) يحدد كلّ شيء. أو بالعكس: إن الفوارق الجنسية كلها يفرضها المجتمع، و أن الجنس لا يحدد و لا يقرّر شيئاً.

و إذا أمعنّا في قراءة نتاج الروائيات والشاعرات العربيات خاصةً، و المتعاظم في الآونة الأخيرة، كما في النتاج النسائي عامةً، نلاحظ ثقافة تمر بمراحل ثلاث لا بدّ لمنهج المساواة أن يستعين بها كمادة لمقاربته. فالأولى هي المرحلة الأنثوية (= النسوية)، و تشمل محاكاة الصيغ السائدة و المنتشرة في التقاليد المسيطرة و الغالبة. و محاولة " تذويتها"، بمعنى إضفاء الصفة الذاتية على معاييرها و دمجها في النفس بحيث تصبح مبدأً هادياً (= صفة طبيعية فطرية).

و أما الثانية فمرحلة المساواة بين الجنسين سياسياً و اقتصادياً. و تشمل الاحتجاج ضد هذه المعايير و القيم و تدافع عن حقوق الأقليات و حقوق المرأة خاصة ً .

و أما الثالثة فهي مرحلة اكتشاف الذات و التحوّل نحو الداخل المعتق من تبعية المعارضة و المعارضين: هي بحث عن الهوية و الوجود (محمد العباس و مليحة الشهاب).

ولا شكّ في أنّ هذه المقاربة تساهم في تسوية و إصلاح شأن المرأة التي عانت ولا تزال من فقدان الحضور و المشاركة، و من حقوقٍ إنسانية ٍ عدّةٍ.

على أنها، وهي تدعو إلى المساواة، قد تسخّر النقد الأدبي أو ترميه في معركةٍ سياسيةٍ. وقد تُغفلُ آثاراً لها جدارتها بحجة أنها "سلطوية" .

و قد تسفّ أحياناً لتحيل عملاً نسائياً مميزاً إلى حالةٍ من الانعزال و التطرف مما يحرم الأدب النسائيّ من أن يأخذ مكانته الطبيعية في قائمة الأدب. و هذا كله من المحاذير أو من المساوئ التي قد يقع فيها المقاربون في منهج المساواة. 

الشخصية الدرامية

 (ريتشارد الثالث)

في ضوء نظرية علم النفس الفردي(6)

المقدمة :

يعدّ الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير من أهم كتاب المسرح على الإطلاق، لما تتسم به أعماله من تجليات خالدة على صعيد الفكر والقيم الفنية، حيث أبدع في رسم ملامح شخصيات عظيمة في عوالمها الداخلية وطموحاتها، ويمكن أن نطلق عليه - عن جدارة - بأنه مصمم كبير للنفس البشرية، وتتراوح شخصياته بين العاطفة الجياشة والغيرة القاتلة (عطيل) إلى العقل والتردد (هاملت) إلى الطموح المرضي للسلطة (ريتشارد الثالث) إلى غير ذلك من أنواع التراكيب السايكولوجية للشخصيات.

إن عمق شخصياته وتنوعها جعلها تكون مثار جدل ونقاش منذ القرن السابع عشر إلى الوقت الحاضر، ويعدّ القرن التاسع عشر قرن الآيديولوجيات حقاً، حيث ظهرت فيه الفلسفات باختلاف اتجاهاتها المادية والمثالية، وكشوفات على النفس، واستنتاجات دارون في أصل الأنواع، والنظريات الطبقية الاقتصادية، وغيرها.

كانت تلك الاكتشافات وفي كل الميادين بمثابة منظور جديد للناقد يساعده على اكتشاف مكنون عوالم شخصيات شكسبير، فدخل الصراع الطبقي في تحليل مسرحيات شكسبير مثل (روميو وجوليت) حيث كان الصراع محتدماً بين عائلة مونتاغو وعائلة كابيوليت.. وأصبحا (روميو وجوليت) هما الضحية، وجاءت نظريات التمييز العنصري تطبق على شخصية (عطيل) المغربي الأسود، وفلسفة العبث والتردد عند (هاملت)، وكان لانقسام العالم إلى معسكرين أحدهما - اشتراكي وآخر رأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية دور كبير في تعميق وتنويع وتعدد مثل هذه التحليلات والتفسيرات الخلابة. فالمعسكر الاشتراكي ونتيجة لإيمانه السابق بسلطة العوامل المادية والاقتصاية على الفرد، له تفسيراته الطبقية والموضوعية في التحليل بحيث كان يولي الأهمية القصوى للعوامل الخارجية (وسائل إنتاج علاقات إنتاج) ولذلك فهي لا تعتمد كثيراً على العوامل الذاتية والداخلية للفرد، وهذا ما لاحظناه عندما قام المخرج الروسي كوزنتسيف بإخراج هاملت للسينما، والذي حاول به أن يقرب صورة القلق العلمي والطبقي في عصرشكسبير الذي كانت فيه اكتشافات فرانسيس بيكون في أوجها وحياة الفلاحين وصيادي الأسماك وبين حالات العصر الحاضر، فكان إخراجه قراءة موضوعية مقارنة بين عصرين بينهما خيط مشترك يمثله بؤس المجتمع وبروز السؤال الفلسفي والدعوة إلى العمل والتغيير.

إن مناهج القرن التاسع عشر والقرن الحالي أصبحت منظاراً عميقاً للعودة إلى نتاج شكسبير الخالد في القرن السادس عشر. ولم يقتصر ذلك على التحليل الأدبي والنقد فحسب، بل امتد إلى العروض المسرحية من خلال تحليل الشخصيات الرئيسة وتحديد أبعادها بالصورة التي تتفق مع منهجية التحليل وفلسفته. فأصبح (هاملت) أكثر من هاملت وكذلك (عطيل ومكبث ولير وريتشارد الثالث) يتجددون في كل عصر. ومن تلك المناهج منهج التحليل النفسي الذي تزعمه سيجموند فرويد في بداية هذا القرن، الذي أكد فيه (الأنا - الهو - الأنا الاعلى) والغريزة (الليبدو) وعقدة أوديب، وأرجع علاقة الرجل بأمه إلى علاقة (أوديب الملك) بأمه (جوكاستا). وهي علاقة جنسية لا شعورية تدخل في كيان الولد الطفل منذ ولادته. بالضبط مثل (عقدة إلكترا) في حب أبيها (احاممنون) ومحاربتها لأمها كليتمنستا لقتل أبيها وزواج الأم من عشيقها (ايجستوس).

إن هذه الدوافع الغريزية (الفطرية) صارت تفسر في ضوئها الكثير من الشخصيات ومنها علاقة (هاملت) بأمه (جرترود) في مسرحية (هاملت).

ولم يبق فرويد وحده في ساحة المنهج النفسي، بل إن كثيراً من طلابه انشق عليه مثل يونج، وأدلر (صاحب أسلوب علم النفس الفردي) الذي اعتبر فيه أن لكل شخضية مقومات فردية خاصة لا يصح أن تعمم، وبذلك اختلف مع قوة الدوافع الباييولوجية والغريزية التي أسس عليها فرويد نظريته التي كانت برأي فرويد عالمية وتصلح لكل الأفراد ومن هنا بدأ الاختلاف في الطريقة والأسلوب ضمن المنهج النفساني الواحد.

إن شخصية (ريتشارد الثالث) التي كتبها وليم شكسبير تتمتع بمزايا تفرد كبيرة جداً وسط عالم لا يشببها في هيأتها أو في أهدافها ودوافعها، فكان أسلوب ألفريد أدلر هو الأنسب لتحليل هذه الشخصية الفريدة، وهي محاولة بسيطة على طريق اكتشاف أهمية مثل هذه الدراسات بالنسبة لممثلينا الذين يقومون بتمثيل مثل هذه الشخصيات العظيمة دون تحليل أو تفسير لأي شيء فيها فيؤدونها بعتمة تفسد متابعة ذلك العمق السامي والجليل.

المدخل

تعدّ شخصية ريتشارد الثالث واحدة من تلك الشخصيات الشكسبيرية التي تميزت بعمق أبعادها القابلة للتحليل والاجتهاد والتفسير وفق معطيات العصر الحاضر، وما وفّره للباحثين من وسائل ومناهج للتحليل يمكن أن نسلط الضوء من خلالها على شخصية ريتشارد الثالث من زوايا عدة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية.. إلخ.

وهذا ليس غريباً على عوالم وليم شكسبير وشخصياته لما امتازت به من غنى وشمول إنساني. إن شخصية ريتشارد الثالث، وفي إحدى زواياها البارزة، يمكن النظر إليها من خلال النقد النفساني وبالتحديد وفق مدرسة ألفريد أدلر الذي (سمى أسلوبه الجديد علم النفس الفردي؛ لأنه يركز على فردية كل شخص منكراً عالمية الدوافع البيولوجية والأهداف التي نسبها لنا فرويد) (3، ص76).

وما يعني بالقصور والشعورية، يصبح دافعاً لكثير من الأفعال التي تتسم بحب السيطرة كتعويض ما كان ينقصه من أعضاء جسمانية أو تشوهات خلقية، وما يتيح هذا النقص من تصدع في العلاقة مع المجتمع، بدءاً بالعائلة وانتهاءً بالمجتمع الواسع، وتأسيساً على ما تقدم ومن خلال تبني نظرية أدلر في تحليل شخصية ريتشارد الثالث، لا بد لنا أن نرسم محددات نظرية أدلر النفسية لتكون لنا منطلقاً وهادياً لتحليل الشخصية.

* وهذه المنطلقات كما يحددها دارسو أدلر.. هي:

1- القصور (الشعور بالنقص).

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق).

3- أسلوب الحياة.

4- الذات الخلاقة.

5- الأهداف الوهمية.

6- الاهتمام الاجتماعي. 

1- القصور (الشعور بالنقص)

من منطلق البداية بالمادة المعروضة للتحليل. تبدأ المسرحية بمنولوج طويل يتلوه علينا دوق جلوستر - الذي يصبح فيما بعد ريتشارد الثالث - يوضح فيه ملامحه الفسيولوجية التي تحدد فيما بعد سلوكه إزاء محيطه

(أما أنا، الذي لم أسوَّ في خلقة تبيح لي أن أمارس

أفانين الحب

ولم أخلق لأمتع النظر بصورتي على مرآة حبيبة

أنا الذي خُلق على عجل ولم يؤت من جمال المحبين

ما يخطر به أمام حسناء مختالة لعوب

أنا الذي حُرِم اتساق القسمات

وزيفت الطبيعة الخادعة بنيته

أنا المشوه المنقوص الذي أرسل قبل الأوان

إلى هذا العالم النابض بالحياة ولما يكد يتم خلقه

أنا الذي تنبحه الكلاب إذا وقف عليها

لما تراه من بالغ عجزه وغرابة هيئته (ص، ص 83)

إن هذا المنولوج الطويل يوضح إلى حد بعيد موقف ريتشارد الثالث من العالم ومن نفسه، حيث يقف بمفرده إزاء ما يحيطه، وقد كان شكسبير عظيماً حينما جعل ريتشارد يتلو حواره هذا وهو يقف بمفرده، دون مجد أول الأمر، حيث انطلق من نقطة البداية، أي جعله يوضح نقصه مما يجعل الدوافع واضحة أمام المتلقي حيث (اعتقد أدلر بأن شعور النقص العام موجود دائماً ومهم كقوة مؤثرة في السلوك) 3، ص07).

يتضح القصور من الحركات الجسمانية والإيماءات والحوار الذي يطلقه، فها هو يكرر (أنا المحروم) و(أنا المشوه) و(أنا تنبحه الكلاب) وإلى آخر تلك النعوت التي يعكس فيها حقيقته أمام نفسه أولاً، والتي تجعله قاصراً أمام الآخرين ثانياً، وكلما يواجهه الآخرون بحقيقته وقصوره الفسلجي يواجه نفسه بقسوة ومباشرة حيث يصف نفسه.

(ريتشارد: أنا الأعرج المشوه بصورتي هذه) (2، ص461).

لأن تفرده بنفسه وانزواءه مع قصوره خاصة وأن (وجود مثل هذا العضو القاصر يؤثر دائماً في حياة الشخص النفسية لأنه يحقره في نظر نفسه ويزيد شعوره بعدم الأمن) (4، ص 595).

كما ويؤثر أيضاً على سلوكه مع نفسه ومحيطه؛ لأنه يولّد حالة من القلق وعدم الاطمئنان على مصيره في عالم يتصارع معه ويضمر له الشر (هذا الشعور بعينه هو الذي يدفع ألفرد إلى بذل المزيد من الجهد لتعويض هذا الشعور بالقصور) (4، ص595). وأن يمارس ويحقق هذا التعويض في محيطه على صعيد الأفراد الذين يقاسمونه العيش. ولكن هذا القصور الفسلجي لا بد أن يصاحبه نقص في السلوك وفق تقاليد المجتمع وأعرافه. لا سيما إذا كان (الشعور بالنقص الناشيء عن قصور عضوي أو عدم كفاية في المحيط أقوى من المعتاد، فحينها قد تنشأ أنواع الاضطرابات والتغيرات الجسدية والعاطفية والعقلية التي تظهر بكل عوارض عصابية وذهانية) (5، ص241) فهذه الاضطرابات والتغيرات حالة طبيعية بالنسبة للمصاب بشعور النقص، إذا كانت تحافظ على قوام المجتمع وتنظيماته السلوكية ولكن إذا حاولت - الشخصيات المريضة - ان تغير النظم والنواميس الاجتماعية والاخلاقية فهي بلا شك تسبب حالة شاذة، وتكرارها يتحدد ويشخص كونه مرضاً ينبغي علاجه، ويتأكد من ذلك إذا كان (النقص في أحد الأعضاء يظهر ذاته في تأثيره العام في النفس في أثناء عملها والفكر والأحلام ومن اختيار المهنة وفي الميول الفنية والمقدرات (5، ص931).

وبقدر ما تكون الحالة معزولة عن تأثيرها الاجتماعي تكون طبيعية، خاصة إذا تصرفت تصرفاً طبيعياً وتحولت إلى سلوك إيجابي، لأن (تقدم الفرد ونموه وتطوره ينتج من محاولة تعويض نقائصه سواء أكانت تلك النقائص حقيقة أم خيالية) (3، ص07).

وقد (أوضح أدلر أن الأجزاء أو أعضاء الجسم التي فيها عيب تؤثر في نمو الشخصية من خلال محاولات الفرد وجهوده للتعويض عن النقص) (3، ص17). وخير مثال على ذلك القائد نابليون الذي كان قصير القامة، وشخصية شيشرون الذي كان يتلعثم في نطقه وأصبح فيما بعد أعظم خطيب في روما كلها، لأنه استطاع أن يوظف قصوره توظيفاً إيجابياِ وتفوق بذلك على ذاته المريضة والآخرين، وهنا لا بد أن نشير إلى أن النقص ليس بحدود الشخصية بل هو عامل مؤثر من الممكن أن يكون دافعاً لتحسين النوع الإنساني إذا فكرنا به، ليس من منطلق فردي بل من منطلق حاجة النوع الإنساني إلى الرقي في نواحي العلم والمعرفة والسمو الأخلاقي (فهذا الشعور بالقصور الذي يوجد مع الإنسان في بداية الحياة هو الذي يحفظ للإنسان بقاءه وحياته عبر الأجيال) (42، ص 695). لأنه مطلوب منه أن يتكامل ليتناسب مع تكامل قوانين الطبيعة والعلم، وإلا أصبح نوعاً متخلفاً وغير منسجم وربما قابلاً للانقراض. فهذا القصور الحضاري دافع كبير للنوع وتجاوز الفرد لذاته ودمجه بالذات الكلية للمجتمع، ولكن أدلر يرى أن (القصور مرادف للأنوثة بينما القوة ترادف الرجولة) (42، ص 695). وهذا ما كان واضحاً في شخصية ريتشارد الثالث في علاقته مع أمه الملكة ودوقة يورك وزوجته ليدى آن حيث كان يعاملمها بقسوة واستصغار لشأنهما لأن (هدف التعويض كان الرغبة في السلطة التي يلعب فيها الاعتداء دوراً كبيراً) (3، ص 37). وكانت الأسرة أول الميادين المباحة التي يمارس فيها عدوانيته المريضة. وهذا واضح من (المونولوغ الاستهلالي في مسرحية (ريتشارد الثالث) الذي يصوّر شكلاً آخر من أشكال العزلة المفروضة ألا وهو العاهة الجسمانية التي تفصل بينه وبين الآخرين. وضمير المفرد المتكلم يسود المونولوغ بإيماءات بالعزلة الطوعية الناجمة عن الأنانية وحب الذات، ولكنها كلما يؤكدها تقترن أيضاً بالعزلة المفروضة عليه، عزلة العاهة) (6، ص08).

فهو محصور بين عزلتين حادتين هما الأنانية وحب الذات، مقابل العاهة الأولى التي تخصه، أما نفسه، مرآته العاكسة والثانية في تعامل الآخرين معه من خلال عاهته وكلاهما مرتبط بالأخرى فهي منعزلة، إنها طفح الذات، وفعل طبيعي للعاهة الخارجية، فكلما كان خارج الفرد غير جميل، تتضخم الدواخل بشكل سلبي، وهذا ما حدث لريتشارد في حالة قصوره، فذاته صارت انعكاساً سلبياً لمكوناته الخلقية المشوهة، حتى تضخمت وصارت أنانية مريضة حادة.

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق)

الجرائم البشعة التي اقترفها ريتشارد الثالث والطرق الملتوية التي سلكها لتحقيق أهدافه السلطوية وإرادة السلطة كانت (الحافز نحو التفوق وتأكيد الذات) (1، ص242).

ولكن التفوق كان سلبياً عدائياً وتحقيق الذات صار فعلاً للجريمة؛ لأنه نتاج العاهات، حيث قام ريتشارد بقتل أخيه وأبنائه بتخطيط منه، وقتل ابن عمه الذي كان يتعاون معه في ارتكاب الجرائم (غير أن هذه العاهات بالنسبة لشكسبير هي أكثر من نذير بالشر: إنها رموز الشذوذ الذي فُطِرَ عليه ريتشارد، الصورالخارجية لفساده الداخلي إنها صفة جسدية، تضعه مكرهاً بعيداً عن الناس، وفي ذلك انعكاس للوحدة الداخلية التي ينميها طائعاً بحفاظه على أفكاره لنفسه ورفضه الاعتراف بالعُرى الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم) (6، ص18).

وكان ذلك واقعاً تحت تأثير الشعور العام بالقصور الذي يولد به الإنسان، والعمل المستمر نحو تحقيق هدف السيطرة والتفوق) (4، ص106).

إن الشعور بالقصور أصبح حالة مرضية عند ريتشارد، مما جعله يعاني ويجعل من القصور مرادفاً للتفوق كتعويض عن حالة القصور التي جُبِلَ عليها (ولكن هذا الشعور بالقصور لم يستطع التنفيس عنه من خلال العلاقات السوية المحيطة به، ولذلك تحولت إلى عقدة و(العقدة النفسية بالذات تُثير، على نحو أوتوماتيكي رد فعل قوي على شكل حافز مُلّح نحو التفوّق (1، ص442) لذلك كان سلوكه دموياً ورد فعله سريعاً، وذلك لوقوعه تحت تأثير الحافز الملُح الذي يطالبه بالتفوق على الأقران وتحقيق أهدافه الشريرة المرتبطة بحالة القصور.

إن طموحه في أن يصبح ملكاً ويأتمر بأمره الآخرون، هو إثبات بأن القاصر يمكنه أن يدير دفة المملكة والحكم أسوة بالأسوياء؛ لأن الإنسان وحسب استنتاج أدلر (كان يبحث عن القوة) (4، ص 895).

والسلطة التي تحققت لريتشارد هنا هي بلوغه السلطة السياسية دون تسلطه على ذاته التي يطغى عليها شعوره بالنقص.

وظل مطلب تحقيق الذات وتأكيدها هو الحافز للفعل والسلوك حتى بلغ قمة العرش؛ لأنه في الوقت الذي كان ينتهج طريق الشر كوسيلة لتحقيق ذاته القاصرة أصبح هذا الطريق هو الوسيلة والغاية لأنه دخل في مقومات شخصيته وتكوينها (فالقصور البدني في مثل هذه الحالات يعطي قوة إضافية ونشاطاً تعويضياً لبلوغ هدف ما يؤدي إلى السيطرة والتفوق داخل الذات) (4، ص206).

وعليه، فإن القصور يخلق مسافة شعورية بين الشخص القاصر والآخرين، ولا يمكن ردم هذه الهوة - حسب اعتقاد القاصر - إلا بالقيام بعمل ما، من شأنه أن يرفع من قدرهِ في عيون الآخرين الأسوياء ومشاعرهم، ولا يهم نوع الفعل، فهو يتراوح من الجريمة إلى الأفعال السامية، بقصد تحقيق ذات أشمل وأكبر، حتى يمكن الإحساس بها والإشارة إليها من قبل الآخر، وبالتالي تتحول الرغبة في السيطرة والتفوق إلى حالة مرضية إذا لم تكن تسير في الحدود الطبيعية لمقومات الشخصية الإنسانية السوية.

3- أسلوب الحياة

انتهج رتشارد الثالث أسلوباً عدوانياً في حياته لتحقيق مآربه الأنانية، فتارة يكذب وأخرى يخادع وثالثة يقتل ويزّيف الحقائق، فهو الذي يقول عن نفسه قبل أن يصبح ملكاً:-

(دوق جلوستر إني اقترف الأثم وأبدأ بالشكوى

واتهم الآخرين بأشنع ما دبرت من شرور) (2، ص681)

لقد تدرج في أسلوب حياته بدءاً من الكلام الخادع المنمق والكاذب إلى أن أصبح مجرماً وقاتلاً بالفعل، فتحول من القصد والهدف إلى الفعل، وامتد تأثير فعله العدواني حتى صار له شركاء وأعوان في الجريمة و(من أجل أن يبلغ السيطرة على مشاعر القصور عنده فمن الضروري أن يتخذ أسلوباً محدداً في حياته) (4، ص995).

ومن مظاهر ذلك السلوك خداع المظاهر الخارجية له وزيفها، فيقول:ـ

(دوق جلوستر: المظهر - علم الله - قليلاً ما يتعلق مع طوية القلب، بل إنه قد لا يتفق معها أبداً ) (2، ص 232)

وحول كذبه وتاليبه أبناء أسرته وفتنهم بعضهم بعضاً يقول:ـ

(جلوستر، فلا دخل الآن لأزيده بغضاً لكلارنس بأكاذيب مدعمة أحسن تدعيم بالحجج القوية) (2، ص 641)

ويتعدى تزييفه لحقيقة شخصيته وأهدافه إلى الذي كان عنصراً مهماً وموثراً في تزكية سلوك الإنسان وسمو أخلاقه. ومما يقوله بخصوص تستره بالدين.

(جلوستر: وهكذا استشرى المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المقدس

فأبدو كالقديس وأنا أمضي في تمثيل دور الشيطان) (2، ص851).

لا شك في أن اعتلاله البدني وقصوره هو الذي بلور سلوكه لأن (علته البدنية كانت الوسيلة الكبرى في تشكيل أسلوب حياته) (4، ص106) هذا الأسلوب الذي كان مقيتاً من قبل الآخرين لكنه محبّب لريتشارد نفسه؛ لأنه أصبح طريقه إلى النجاة والحفاظ على شخصيته من الاندثار وتحقيق أهدافه.

ويتخذ (هذا التعويض أحياناً أشكالاً من العنف تبلغ حداً متطرفاً لا تنتظره منه، وهو ما يعرف باسم التعويض النفسي الزائد) (4، ص595).

إن زيادة التعويض النفسي تؤدي إلى خلاف مع المحيط الاجتماعي، وتظهر في أكثر الأحيان على نحوٍ عدائي وبجريمة تنتهي بالدم، حيث يقول ريتشارد:ـ

(ريتشارد الثالث: ولكني قد انغمست الآن في الدماء

ولا بد أن تدفع الخطيئة إلى الخطيئة،

ولا مكان لدموع الرحمة في عيني) (2، ص792).

إن السيطرة والنجاح الذي حققه ريتشارد الثالث على أعوانه وأهله من آل يورك هو حالة تعويض عن الحالة القاصرة التي يحددها بالضرورة (أسلوب حياة الفرد والطريقة التي يهدف بها الفرد إلى تحقيق السيطرة) (4، ص795) وهناك ثلاثة عوامل يعتبرها أدلر من أهم العوامل التي تؤثر في السلوك، وهي:-

1- القوى البيئية

2- العوامل الاجتماعية

3- التنشئة الاجتماعية للفرد) (4، ص995).

 ونلاحظ ارتباط هذه العوامل جميعها بالعالم الموضوعي والمحيط. حيث كانت علاقة ريتشارد بكل هذه العوامل السالفة الذكر علاقة سلبية. ويمكننا أن نفسر الكثير من سلوكه على ضوء أسلوب الحياة، فكان مبدأه في التعامل يتشابه إلى حد كبير مع فلسفة ميكافيلي، من أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا يدخل من باب التفسير السياسي والآيديولوجي للشخصية.

ولكن لو لم تكن هذه العوامل ذات تأثير سلبي على ريتشارد، أي لو أنها تبدلت وعاش فيها ريتشارد، لتغير أسلوب حياته ومن ثم سلوكه (فمع تغيير البيئة واختلاف الذوات الداخلية يختلف أسلوب حياة الأفراد) (4، ص006).

نحصل على شخصية سوية تسلك مسلكاً صحيحاً، ولكن عند ذاك نفقد هذه الشخصية العميقة المؤثرة في تكوينها الجسماني وأسلوب حياتها الذي صار درساً يبتعد عنه كل ذي عقل راجح.

4- الذات الخلاقة

حينما يعاني المرء من عوق ما يصاحب ذلك العوق انفعالات مدمرة، وهذا أمر طبيعي للغاية (وقد تشمل هذه الاستجابات مشاعر اليأس والقلق حول المستقبل وفقدان تقدير الذات) (7، ص002).

وبذلك يصبح إزاء هذه الانفعالات أمر حتمي بحكم قوانين الطبيعة والمجتمع، ولا يمكن تحديد صورة الانفعالات إذا كانت حبيسة الدواخل، لكن الاستجابة لا تتحقق - العدواني منها والسليم - إلا بوجود الآخر الإنسان، الحيوان الطبيعة، وحتى الجماد أحياناً وحسب التفاعل معهم، إذ إن كثيراً من الشخصيات المعاقة فسلجياً أو المشوهة خلقياً تكتم عدوانيتها بطريقة وأخرى أمام آخر مسالم يحاول أن يحتوي عدوانيتها وشرها، وبالعكس تستمر العداوة في حالة الآخر المشاكس.

وإذا لم تجد العدوانية المساحة الكافية التي تتفجر فيها. فإنها تتحول إلى داخل الذات. وهنا تتصاعد العدوانية داخل الفرد وتتحول إلى وسط تعذيب هادىء، لذلك أصبح إيمان ريتشارد بالقصور هو (الحافز الرئيس الذي يدفعه إلى محاكاة قدرات الآخرين) (4، ص595).

فحاول الانتصار عليهم عبر وسائل وأدوات شتى وراح يخطط لنفسه بالسر دون أن يعلن مشروعه لأحد، وكان يبغي التفوق عليهم لسد النقص الفردي بحالة تعويض اجتماعي كبير، فهو تجاوز الفردي نزوعاً إلى السلطة والحكم؛ لأنه المطلب الوحيد الذي يسد القصور الذي ناقشه مع دواخله والذي يفرض من خلاله على الآخرين حاجتهم إليه كرجل سلطة يمتلك الأمر والنهي وتقرير مصائر الآخرين.

(ولكي نفهم الفرد أصبح لزاماً علينا اكتشاف الهدف الذي يرمي إليه في الحياة، وكما يدعي أدلر فإن هذا الهدف يظهر في كل فعل منفرد يقوم به الفرد) (1، ص 342) سوياً كان أو معتلاً. فعلى الرغم من أننا لا نشاطره أهدافه اللاحقة التي كان يصير إليها لكننا لا ننكر رسمه الطريق الذي يسلكه، حيث كان عميقاً ومخططاً له تخطيطاً ذكياً وخلاقاً. فهو إلى جانب الذوات المحيطة به كان أكثرها خلقاً لذاته بتحقيق أهدافه ورسمه للوسائل التي توصله إلى أغراضه وأطماعه خاصة وأن الذات الخلاقة هي (ذات مبدعة تخلق شيئاً لا على غرار سابق تخلق شخصية فريدة فهي إذن ذات خلاقة) (4، ص406).  حيث تتحقق لا من تفرد حاملها فحسب بل ومن ضعف قدرات الآخرين المحيطة بها؛ لأنهم سلكوا طرقاً واستخدموا وسائل بالية في التعامل مع جديد الأحداث والوقائع. وفعلاً هكذا كان ريتشارد في خلقه وتحقيقه وتأكيده لذاته في وسائل حياته وأهدافها. حيث كانت الذات الخلاقة له (يمكن أن يعني ذلك موقفاً لا اجتماعياً قوياً عندما يصبح الشخص الذي لم يؤكد ذاته من خلال إنجازه الموجب مثار انتباه الآخرين بوساطة سلوكه الحياتي المضاد للمجتمع) (1، ص ص 542).

إن تحقيق ذات ريتشارد صار على حساب المجتمع لبلوغه أهدافه بوسائل غير نزيهة، فالكذب والنفاق والقتل كانت وسائله التي تشبث بها لتحقيق مآربه، لذا ارتبطت ذاته بسلوك جنائي معادٍ للمجتمع.

ولو اقتصرت دوافع (ريتشارد على عوقه فحسب، لما استطاع أن يخطط بهذا الشكل البارع؛ لأنه كان يحمل في داخله ذكاء ودبلوماسية خارقة، وكان ريتشارد الثالث يشبّه نفسه بمكايافلي، وهو أمير حقيقي، إنه، في أي حال، أميرٌ قرأ كتاب (الأمير). السياسة له بمكافيلي، فن غايته الحصول على السلطة، السياسة لديه لا صلة لها بالأخلاق، شأنها شأن فن بناء الجسور، أو المبارزة بالسيف) (8، ص 45).

وعلى هذا الأساس، فإنه كان يجمع شخص المعوق، زائداً السياسي، مضافاً إليها بعده عن القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الملوك والقادة، لكنه فقدها فوقعت الجريمة.

5- الأهداف الوهمية

إن سعي ريتشارد المحموم نحو تحقيق ذاته المعتلة وتأكيدها بأساليب غير مشروعة، جعله منجراً لذاته، أي أن نفسه صارت وسيلة دنيئة لتحقيق الأهداف، بمعنى أن أهدافه تجاوزت ذاته وأذلتها؛ لأن تلك الذات التي تحققت بالسيطرة على الآخرين وخلصت إلى تحقيق الهدف المرسوم لم تعد كافية لتغطية الطموح المستجد في مسيرة البطش (لأن السيطرة لا تعني فرض السيطرة على الآخرين وإنما يعني به السيطرة على الذات) (4، ص 895) التي انفلتت عند ريتشارد من عقالها وراحت تبحث عن أهداف أخرى تجاوزها في مسيرته العدوانية الأولى. فبعد أن حقق الأهداف التي أوصلته إلى العرش تولدت أهداف أخرى تحتاج إلى مخططات جديدة، ربما كانت وهمية إلى حد كبير بحيث طغت على شخصيته، وقادته نحو الهاوية (وهكذا تسير العملية من مشاعر القصور إلى محاولة تعويض وبذل جهد لبلوغ أهداف جديدة ومستوى جديد)، (وقد تكون أهدافاً فعلية أو وهمية وهذا جوهر الحياة) (4، ص695).

فإن كان الإنسان سوياً فإنه يبحث عن الأهداف التي يمكن تحقيقها فعلاً؛ لأنها ستكون في متناول يده لتحقيقها، وبالتالي يمارس ذاته عملياً من خلال هذا الواقع دون المساس بأحد. أما بالنسبة لريتشارد فقد انتقل من الأهداف الفعلية التي تحققت على أرض الواقع (قتل، طموحات، صعود غير مشروع للسلطة.. الخ) إلى الأهداف الوهمية التي راح ضحيتها (والهدف قد يكون وهماً وخيالاً؛ لأنه بعيد عن الواقع، كما أنه قد يكون بعيد المنال بالنسبة للذات الخلاقة التي تهدف إلى السيطرة) (4، ص506).

ويرتبط الوصول إلى هذه الأهداف (باللجوء إلى ما لا يحصى من الحيل والوسائل) (5، ص441).

وفعلاً هذا ما قام به ريتشارد في ابتكاره وسائل الخداع والتزييف العديدة لبلوغ أهدافه التي كان دافعها الأساسي الإحساس بالقصور (لأن الإنسان يهدف فحسب إلى السيطرة والرغبة في السيطرة تبزغ من الإحساس بالقصور أو العجز أو عدم الكفاية) (4، ص 895).

ونلاحظ أن القصور يشكل تأثيراً كبيراً على سلوك الشخص وأهدافه في حالة التعويض (وليس ثمة شك أن مثل هذا التعويض للقصور البدني لا يتم بطريقة آلية وبسيطة بل قد يبذل الفرد جهوداً مضاعفة من أجل بلوغ أهدافه) (4، ص206) سواء أكانت الأهداف فعلية أو وهمية، فالمهم رسوخها في الذات؛ لأن ذلك يولد الإيمان بها ويدفع إلى ضرورة تحقيقها، ولأنها سترتبط بالذات وتصبح العنصر المحرك في كيان الفرد لبلوغ أهدافه، لا سيما وأن السلوك مرتبط بغاية على اعتبار (أن السلوك البشري هو غائي، النفس مصممة باتجاه هدف ما عن طريق حركات) (5، ص641).

تلك التي كانت فاضحاً لأهداف ريتشارد ومسالكه الملتوية، فحركاته تضم إشارات وإيماءات تفضح هذا السلوك العدواني مثل محاولته الانتحار بسيف ملتوٍ (فإن الإنسان تحركه توقعاته للمستقبل أكثر مما تحركه خبرات الماضي، فالمستقبل هو الذي يشكل ما سوف تفعله ذاته الخلاقة في أي لحظة معينة) (4، ص406). مستقبلاً، أما الماضي فهو الخزين الذي يوفر أساليب التحرك، ومن هنا ينشأ الوهم؛ لأنه وليد زمن المستقبل الذي تكثر فيه شطحات ذهنية كثيرة. فالغايات المحددة التي تؤمن بها الشخصية هي المحرك الأساس لتلك الشخصية، فالأهداف التي حركت ريتشارد كانت طامعة في السلطة والسلطة إخفاء وتجاوز لقصوره، وكانت هذه الأهداف. واضحة، ومتحققة من خلال سلوكه وتصرفه وعلاقاته لبلوغ هذه الغايات إذ (لا يمكن أن تتكون الشخصية وتنمو إلا إذا كانت النفس تتجه اتجاهاً غائياً؛ لأن الغاية التي يسعى نحوها الشخص وينشط لتحقيقها هي العامل الحاسم في توجيهه) (4، ص506).

ولا شك في أن معرفة غايات الشخص وأهدافه تعرفنا إلى طريقه سلوكه وأسلوبه في الحياة وفي التعامل مع محيطه والآخرين لـ(أهمية الغاية في تفسير الظواهر النفسية جميعها) (4، ص506).

ونتستنج من ذلك أن القصور البدني يولد حالة شعورية متعارضة مع المجتمع، أو في أحسن الأحال متفوقة على المجتمع، وتخلق وضعاً عدائياً إزاء الآخرين، مرتبطاً بأهداف فعلية تتحقق أو وهمية تقود إلى دمار الشخص أو الآخرين، وإن سلوك الإنسان يرتبط بغائية محدودة توضح هذا السلوك وتبين على أساسها المشاعر.

فالغاية ترتبط بالهدف، المرتبط بزمن المستقبل وقد يوصل هذا المستقبل إلى الوهم خاصة عند الشخصيات التي تعيش حالة القصور.

6- الاهتمام الاجتماعي

اعتقد أدلر بأن (الرغبة الاجتماعية أو الشعور الاجتماعي، هي أهم الأهداف في نمو الشخصية والعلاج النفسي) (7، ص74). التي كان يفتقدها ريتشارد حتى من أقرب الناس إليه، فها هي أمه الدوقة تقول له:

(إنك سفاح محب للدماء وبالدماء ستكون خاتمتك) (2، ص713)

لقد اتضح سلوكه بأنه سلبي ومثير للمشكلات، حتى إن الدوقة الأم تنبأت بمستقبله ونهايته الدامية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن علاقة ريتشارد بأمه بعيدة عن الحب وعن كل أشكال التعاطف، بل الكراهية هي الحالة السائدة، ولم يقتصر احتقار ريتشارد وبغضه لأمه فحسب، بل امتد إلى أفراد أسرته جميعهم، إذ إن أهله يذكرونه دائماً بتشويهات خلقته وقصوره العضوي، حيث تقول الملكة ماركريت أرملة أخيه هنري السادس:

(أنت أيها المسخ المشؤوم، أيها الخنزير النهم، يا من كُتب عليه منذ مولده أن يكون وضيع الخلق شريراً) (2، ص081).

فهذه النعوت وتلك الألقاب تجعله يحسّ دائماً بقصوره وتدفعه إلى التعويض بأي وسيلة. لذا، يقول عنه ريشموند ابن هنري السادس:-

(رجل يتخذ كل وسيلة للوصول إلى ما يريد ثم يقتل كل من كانوا وسيلة غايته) (2، ص063).

إن هذه التصورات التي يعكسها محيطه عليه جعلته متفرداً في سلوكه وشاعراً شعوراً زائداً بقصوره البدني و(يقول أدلر عن العوامل الاجتماعية التي تؤثر في حياة الإنسان) (1، ص142).

فالظروف الاجتماعية والعلاقات البشرية التي أحاطته بالاعتراضات والرفض كانت عاملاً منذ ولادته ليكون شخصاً شريراً أولاً ثم منبوذاً ثانياً، فالمجتمع جعل منه إنساناً شريراً بعد أن ساعد على تضخيم قصوره، ثم نبذه لأنه لم يعد يطيعه؛ لأن شره بدأ يؤذي الناس الذين ساهموا به بسلوكهم المناوىء واللاإنساني، خاصة وأن البيئة الجاهلة يمكن أن تخلق للولد صعوبات في الحياة وأن تكون خلقاً تنشأ عنه صفات مختلفة تعتبر عصابية أو ذهانية) (5، ص141).

وهذا ما حدث لريتشارد حيث تضّخم عنده القصور وتحول إلى عقدة تفرز مشكلاتها على من خلقها وساهم في تكوينها منذ الطفولة. (وعلى أي حال ينشأ عن الشعور بالنقص وعدم الكفاية وعدم الشعور بالأمن حافز للتغلب على صعوبات البيئة للحصول على الاطمئنان والأمان والاتزان الاجتماعي) (5، ص441) وعدم الاتزان هذا هو الدافع لقيام الجريمة لتحقيق الذات وتأكيدها، تلك الذات التي صارت خلاقة في إيجاد وابتكار وسائل التنفيس والتعويض الذاتي بالروح العدوانية لا سيما (أن هذه النقائص الخلقية أو الصفات الغريبة تثير بعض السخرية والازدراء وتثير الأسى والعطف، لدرجة أن المرء لا يطوّر شعوراً طبيعياً بالنقص فحسب، وإنما يطوّر (في كثير من الأحيان، عقدة نقص مرضية) (1، ص442).

دفعته إلى احتقار الناس جميعهم من حوله، ولذا قام بفعل القتل واحتقار النساء والأطفال على نحوٍ خاص، وتمثل هذا الاحتقار بزواجه من الملكة آن زوجة أخيه الذي قتله، التي (تدرك أن تشوه ريتشارد علامة لا إنسانية، وعدم شبهه بأي إنسان طبيعي. والصور المجازية التي تستخدمها حين تتحدث عنه تتراوح بين الشيطان والوحش، وهذا ينطبق على إشارات الشخصيات الأخرى أيضاً إليه) (6، ص58).

ويعلن احتقاره للدوقة والدته وقتله لأبناء أخيه إيماناً منه بأن الرجال ينتمون إلى جنس أعلى ويصبحون رمزاً للقوة والعظمة والامتياز، مما يجعل الناس الذين هم في مركز أضعف (الأولاد والنساء والعصابيون) يحسدونهم ويحاولون مناقشتهم والتفوق عليهم) (5، ص741).

وترى ريتشارد يندفع للزواج من زوجة أخيه الملكة آن، وبعد وفاتها يحاول أن يتزوج إحدى بنات الملك هنري، على اعتبار أن شعوره بالنقص يدفعه إلى جعل المرأة عنصراً قاصراً هو الآخر، وينبغي أن يكون الرجل قوّاماً عليهم؛ لأنه كامل (وهذا النوع من الأشخاص يكوِّن علاقات جنسية كي يحكم ويسيطر) (5، ص941).

لذلك كان شعوره بالتفوق الناتج عن شعوره بالقصور يدفعه إلى استصغار كل الناس الذين يحيطون به وعلى نحوٍ خاص النساء والأطفال؛ لأنهم يذكرونه بنقصه الذي لا يتيح له أن يكون ملكاً في الأوضاع السياسية الطبيعية، (إن ريتشارد يدرك في النهاية أن رفضه لكل الروابط والعرى مع الآخرين، وعزله نفسه بعناد عنهم قد دمّراه، وبما أنه رفض حب الآخرين لكيما يحب ذاته وحدها، فإنه يجد الآن أنه عاجز حتى عن حب نفسه، ويتوق لشيء من الحب والشفقة مع الآخرين) (6، ص09) لكنه لم يعثر سوى على الموت الزؤام. 

النتائج:

1- الحافز الأقوى لسلوك شخصية ريتشارد الثالث، تتمثل في عقدة القصور العضلي والتشويهات الخلقية. لذلك انعكست وسائله وغاياته الخسيسة على كل ما يحيطه من بشر.

2- إن الشعور بالقصور هوالذي جعل منه شخصية خلاقة في طريق الشر.

3- يصح تفسير أدلر ونظريته على هذه الشخصية الشكسبيرية الكبيرة على أساس القصور وانعكاسه على سلوك الشخصية وأهدافها.

4- إن ريتشارد الثالث لم تحركه عقدته وشعوره بالقصور فحسب، وإنما امتلاكه وعياً وأسلوباً سياسياً، إضافة إلى أن اطلاعه وثقافته يؤهّلانه لأن يحكم، وإيمانه بأن الغاية تبرر الوسيلة، شعار ميكافلي.

5- وجود الآخرين من أهله الذين لا يحبونه ويشنعون به وبشكله، يعدّ عاملاً مساعداً على تصعيد العقدة عنده، ولو احتضنوه على نحوٍ إيجابي لربما لم يتصاعد الشر فيه إلى هذه الدرجة فالآخرون كانوا هم العالم الذي تاجج به حقده.

هل بقي الأدب والرواية مستودعاً للنظرية النفسية ؟(7)

سئل صاحب مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد ذات مرة وهو في مكتبه عن الأساتذة الذين تعلم منهم فأشار إلى رفوف خزانته التي رصدت عليها أمهات الأدب العالمي. ويعترف في كتابه (حياتي والتحليل النفسي) أن عمله لا يعدو كونه نوعاً من استيحاء ما كان يعرفه الروائيون.

(ثقافة اليوم) تفتح ملف العلاقة الشفائية بين الأدب والرواية والنظرية النفسية قديماً وحديثاً ومستقبلاً وهل بقي الأدب والرواية مستودعاً حقيقياً للنظرية النفسية؟ وهل بقي ضرورة لتكميل شخصية المحلل النفسي أم أنّ ثمة انقطاعاً يشي بعدم أهمية هذه العلاقة؟

حيث طرحنا المحور مع جملة من أساتذة علم النفس وأطبائه المعروفين باهتمامهم الأدبي والروائى.

المبدع يعبّر والعلم يفسر

أول الضيوف هو أ.د أحمد أوزي أستاذ علم النفس في جامعة البحرين وله الفضل في قدح محور الاستطلاع في ذهني وقد ألح د. أحمد على كشف أسبقية الإبداع على الكشف العلمي بفهم الإنسان حيث اقتاده هذا إلى ضرورة التعريف بين لغة الأدب واللغة المتداولة من هذا المنطلق يقول د. أحمد في مشاركته:

(لقد كان الإنسان ولا يزال أحد الموضوعات التي تضافرت مختلف العلوم منذ نشأتها على محاولة فهم وتفسير سلوكه. ولئن كانت بعض العلوم الحديثة كعلم النفس تحدوها الرغبة الأكيدة في الوصول إلى ذلك، فإن الفنون بمختلف أشكالها قد حاولت منذ القديم وصف التجربة الإنسانية واحتوائها بكل أبعادها النفسية العميقة. لذلك كانت الفنون بشكل عام والأدب بشكل خاص، مجالاً خصباً وواسعاً نلتمس من خلاله التعرف على كثير من نواحي السلوك والعلاقات الإنسانية. والأدب حينما يقوم بوصف تجربة الغير يبصرنا في الوقت ذاته بأنفسنا من خلال الحديث عنه.

وقد فطن بعض العلماء إلى ما يمكن أن يلعبه الأدب في ميدان فهم الإنسان وتفسير سلوكه فاستوحوا منه الكثير من أفكارهم ونظرياتهم، ونقلوها إلى مجال التحقق والتجريب العلمي. لذلك فإن الأدب أسبق من العلم في الانشغال بفهم الإنسان ووصفه "إن الكاتب المبدع يعبر، والعلم يفسر. إن الإبداع يسبق الكشف العلمي بزمان" فكأن الفنان المبدع سيكولوجي ومحلل نفسي بطبيعته. إن اختلاف لغة الأدب عن لغة الحياة اليومية تؤدي بالقارئ إلى الوعي بذاته وإنسانيته، لأن لغة الأدب كلام وتفكير في آن واحد. أما لغة الحياة اليومية المتداولة خلال العلاقات بين الناس فهي لا تفيد إلا في إطار مختلف الأفعال.

وبالأدب وحده - الذي كان أول الأمر أدباً شفاهياً يتداوله الناس في الحضارات التي لم تعرف طريقاً إلى الكتابة - أمكن للإنسان التساؤل عن ذاته ومصيره وتاريخيه ووظيفته الفكرية والاجتماعية. ذلك أن مفاهيم الإنسان ورؤاه عن العالم ثبتت لديه عن طريق الاتصال بقراءة الأساطير والسير والملاحم الدينية وغيرها، ثم عن طريق السرد القصصي في مختلف أشكاله كالرواية والقصة والمسرحية التي كانت ولا تزال المعين الخصب الذي لا ينضب لكل قارئ في النفس البشرية.

إن الإنتاج الفني الأدبي بجميع أشكاله يعتبر شكلاً من أشكال التعبير عن الوعي الإنساني وعن العالم الموضوعي. والرواية باعتبارها أحدث هذه الفنون نشأة تعد أهم هذه الفنون وأقواها نفاذاً وتوغلاً في وصف أعمال الطبائع البشرية. كما أنها تخزن في تسلسل حركات شخوصها سير الوعي الإنساني، ومادتها الأساسية هي الإنسان الاجتماعي والذات الشخصية في جميع حالاتها: "إن وظيفة الفن المميزة، هي معرفة الذات. ومادته هي الإنسان الاجتماعي المأخوذ ضمن وحدة كل نوعياته، خواصه وأحاسيسه، أفكاره ونشاطه".

إن الرواية كجنس أدبي حديث، ذات اتصال وثيق بجوانب الإنسان وحياته في مختلف أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية لذلك كانت هي الحياة أو بالأحرى صورة للحياة أو أنها كما يقول "ستندال" مرآة تجوب الشوارع، ولذلك عرفت منذ نشأتها تطوراً مهما لأنها محايثة للإنسان ولتجربته. كما أنها فرضت نفسها وسط الأجناس الأدبية الأخرى بشكل واضح، واستوعبت كثيراً من نتائج علوم عصرها. ويتساءل أحد السيكولوجيين، فيما إذا لم تكن معارفنا عن الذات ومشاعرها المختلفة قد اكتسبناها عن طريق الرواية، إذ المعرفة المباشرة عن الذات، كما تتحدث عنها الفلسفة ليست إلا وهماً ميتافزيقياً.

ومن ثم فإن الأدباء قاموا بوصف حياة الإنسان بشكل يخدم الوعي بالذات وبمشاكلها. ولذلك كان الأدب مجالاً مهماً يخدم الدراسات السيكولوجية. فهو يساعدنا على تتبع ووصف نماذج من الشخصيات البشرية في سوءاتها وشذوذها. كما يقوم بتحليل ووصف دقيق لطبيعة السلوك ودوافعه ورسم معالم مختلف الشخصيات - التي تكون مادته - وربطها بظروفها التاريخية والاجتماعية والثقافية بشكل يصوغ سلوك الفرد ويؤدي به إلى هذا السلوك أو ذاك في مختلف مواقف حياته. فكأن الأعمال الأدبية الروائية أشبه بمختبرات تتكون خلالها نماذج السلوك البشري، لأن الروائي لا يقدم لنا شخصياته الروائية دون ربطها بظروفها الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية التي صنعتها بهذه الكيفية أو تلك.

ليست الرواية وثيقة تعليمية في يد السيكولوجي فحسب، وإنما هي معين خصب للعديد من العلوم الإنسانية الأخري. يقول: سينوب (Seignobos)، وهو مؤرح معروف: "إننا معشر المؤرخين نعتبر الرواية الوسيلة الوحيدة السليمة لمعرفة الحياة الواقعية العامة أو الخاصة للناس وتصورهم للعالم. فالرواية وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة. فالروائي الواقعي يصف الإنسان والمجتمع وهو يقوم بذلك بكامل الإرادة والطواعية، تحدوه الرغبة الأكيدة والصادقة لتقديم الحقائق الاجتماعية والتاريخية. أما الروائي غير الواقعي فهو يقوم بهذا العمل بكيفية لا شعورية. إذا يعتقد أنه يصف الإنسان بوجه عام، في حين لا يصف سوى الإنسان الذي يعرفه جيداً، إنسان مجتمعه المحدود.

إن الرواية لا تمد السيكولوجي بخبايا المشاعر الإنسانية، خلال تفاعلاتا اليومية فحسب؛ وإنما تمده أيضاً بمجال تحرك شخوصها؛ حتى يقوم بربط المشاعر والاستجابات بأريج فضائها الخصب والمتنوع والمتجدد. لذلك نجد طابع العصر ومشاكله وطموح الناس يعتبر مميزاً لمعظم الإنتاج الأدبي، فإذا كانت مشاكل الغرب هي الحيرة والقلق والقيم المادية وغيرها، فإن هذا ينعكس على مشاعر أبطال مختلف الأعمال الأدبية في أوروبا المعاصرة؛ هؤلاء الذين يتميزون بالاستلاب والتمرد والاضطراب والسأم والتفكك الأسري والتواجد في حالة بحث ومواجهة مستمر مع الذات ومع الآخرين. في حين تتميز الأعمال الروائية في الدول النامية بنوع آخر من المشاكل التي تطفح بها مجتمعاتها. كمشاكل الهجرة والقمع والاضطهاد والجنس.. الخ.

انطلاقاً مما سبق نجد أن الرواية والأدب عموماً لا يفيد السيكولوجي في تزويده بموسوعة غنية في وصف الإنسان وفهمه، وإنما تمده أيضاً بمعطيات مهمة لتكوين تاريخ لسيكولوجية الإنسان، حسب كل عصر وحسب كل مجتمع، بالاعتماد على وصف سلوك الإنسان كما يظهر في فترة تاريخية واجتماعية معينة. وعندما يقوم المهتم بتاريخ سيكولوجية الإنسان بجميع أصناف الصور المرسومة للإنسان في الإنتاج الأدبي يحصل على معرفة دقيقة عن الأنسان وتاريخه وسيكولوجيته، فإذا صنفت هذه المعرفة ورتبت بشكل علمي فإنها تقدم لنا صوراً عن مختلف وقائع الإنسان وسلوكه. ولعل هذا النوع من الدراسات التي تجعل مجتمع بحثها الأدب بمختلف أصنافه عرفت طريقها مؤخراً إلى مجال السيكولوجيا في بعض جامعاتنا العربية، وتشكل أحد اهتماماتي العلمية الرئيسية، شخصياً، حيث قمت بدراسة صور الطفل وتمثلاته في المجتمع المغربي من خلال عينة من الأعمال الروائية. فالأدب ليس مجال اختصاصي بقدر ما يشكل أرضية أو مجتمعاً لأبحاثي التي آمل أن تثمر وتخصب مستقبلاً، لأننا لا نستطيع أن نغير الصور المرسومة لدى الفئات الاجتماعية عن موضوع معين، ما لم نطلع أولاً عن نوع الصور والتمثلات التي يكونونها عنه).

مقولة فرويد تجربة خاصة

المدخل الثاني هو الدكتور عبدالزاق الحمد أستاذ مشارك واستشاري الطب النفسي والشاعر والمثقف المعروف الذي اختلف في طرحه حين فضل في تصوير التلاحم والتعامل والانصهار بين النفسي والأدبي في أربع مراحل تنتهي لتؤكد مدى التوحد بينهما، يقول د. عبدالرزاق:

(يقوم التحليل النفسي أساساً على استقراء ما يظهر في السلوك والمشاعر والكلمات لمعرفة ما يجول في العقل الباطن (اللاوعي) من مخزون تراكم على مدار أيام الطفولة وما بعدها، ولكن عملية الاستقراء هذه تعتمد على منهجية تحت دراستها وتطويرها من خلال فهم حالات مرضية نفسية ومتابعتها وتطبيق هذه المنهجية على حالات متكررة متعددة أدت إلى بلورة هذه المنهجية بوضع أسس التحليل النفسي تقوم على فهم لمكونات النفس البشرية من الغرائز والحاجيات والوعي واللاوعي وما بينهما من يدعى تحت الوعي والآليات التي تعمل من خلالها هذه المكونات لترتبط ببعضها البعض وهذه العملية أدت إلى محاولة تطبيق مجموع هذه العمليات النفسية وهذه المنهجية التحليلية على السلوك الإنساني في عمومه سواء كان مريضاً أم سوياً مما أتاح للتحليل النفسي أن يكون مؤثراً في قضايا كثيرة منها الفن والأدب ومنها النقد الأدبي والفلسفي والثقافي ويمتد في مساحات شاسعة في حياة الإنسان وظهرت محاولات كثيرة لدراسة المنتج الأدبي إلى أعمال النفس البشرية في إبداعاتها المتعددة ومنظوماتها الثقافية. وتعددت أساليب التحليل بالذات وكأن بهذا التصور إمكان لدراسة الإبداع الأدبي نفسياً وتحليله بمنهجية التحليل

النفسي ومعرفة مصادر الإبداع ومكامنه وكيفية تشكيله ومخاضه وظروف إنتاجه وصياغته.

وأما مقولة (فرويد) فهي تجربة خاصة به لها مدلولها الذي يجب أن يعتني به من قبل المحللين النفسيين والذين هم قلة وفي ذات الوقت لهم مسارهم الفردي الذي تزكيه اهتماماتهم الخاصة وموهبتهم المتألقة في مجال التخصص وهو التحليل النفسي الذي لا يبدع فيه إلا موهوب ولا يتاح العمل فيه إلا مبحر في العلوم الإنسانية الفلسفة والأدب والفنون وأنواع الثقافة المتعددة. وعليه فإن المعادلة في كلي طرفيها صحيحة وإيجابية وتفاعلية يمكن أن نستقر في بعض جوانبها لنبيِّن صوراً من التلاحم والتفاعل والانصهار.

أولاً: الوصل: يشكل الوصف المرحلة الأولى المشتركة بين الأديب والروائى وبين المحلل النفسي، فالوصف هنا معناه رسم الصورة المعبرة ونقلها في منتهى الدقة والحضور وبكل الشحن النفسي والعاطفي. فالمبدع أدباً وفناً يحكم من خلال إبداعه صورة صادقة تعبر بدقة عن المقصود ومشحونة إلى النهاية بالمؤثر النفسي والمشاعري المتدفق من مخزون الذات اللاواعي والذي يتولد في قالب واع من الصياغة الأدبية بأية لغة كانت سواء شعراً أم نثراً أم رسماً أم رواية أم حركة فنية.

وأما المحلل النفسي فهو الذي يبدأ عمله بوصف الظاهر في السلوك الإنساني سواء في المرض أو غيره فيسعى إلى فهم السلوك المنتج الظاهري من خلال تفكيك مكوناته التي تجتمع لتشكل الرسم المائل والمشهود في السمع والبصر والحس متعمقاً في تركيبته من خلال فصل رموزه وإشاراته وإيماءاته ومصالحه. إنه يصف أولاً ما يجري في ميدان الواقع ويغير هذا الوصف كمرحلة أولى لذا يتمكن من الخطو إلى المراحل التالية: فالمحلل مثلاً يحاول أن يفهم القلق الذي يعيشه المرء بأعراضه وتبعاته وكيف يبدأ وأين ينتهي وما يصحابه وكيف يظهر في آثاره والأفكار التي تبدأه أو تصحبه أو تتبعه.

ثانيا: التجزئة: وهي المرحلة التالية التي حدثت للمبدع دون وعي كامل عكسياً أثناء عملية التكوين للمنتج الإبداعي وتحدده لدى الناقد تماماً كما تحدث لدى المحلل النفسي واللذان بدورهما يخوضان محاولة لفهم مدلولات تلك المكونات المركزة وفهم الإشارات وراء كل رمز أو إشارة أو معلم في الصورة الأدبية.

الناقد الأدبي يستوحي ما وراءها من محاولات للأديب أن يصوغ من داخله في طبيعة المعاناة والتجربة والظرف النفسي والحياتي الذي خاضه الأديب في عمله الإبداعي والمحلل النفسي يتبيّن كيف يمكن رد هذه الرموز والإيماءات إلى أصلها في مخزون النفسي أثناء الطفولة أو أثناء المراهقة وإعادة تلك الرموز إلى شيء مفهوم في إطار حياة الفرد وتجاربه وعلاقاته.

ثالثا: الآليات الميكانيكية: وهنا يفترق النقد الأدبي والتحليل النفسي حيث يقف النقد الأدبي ويستمر التحليل النفسي ليبحث عن الوسائل والمسارات التي مر بها العمل السلوكي الذي هو المنتج الأدبي. هنا فالمحلل النفسي ينظر إلى مفردات العمل وأجزائه ورموزه ليفهم كيف وصلت إلى ما هي عليه وما هي العمليات الكيميائية أو الفيزيائية أو النفسية التي جرت عليها وما هي الآليات التي استخدمها العقل الباطن متفالعاً مع المعاناة والتجربة والمثير حيث تحث تلك العمليات بصورة انفعالية تلقائية، فمثلاً القلق ذاته الذي صدر بتعبير لغوي أو انفعالي حينما تجزئه نجد أن فيه رمزاً للخوف وعدم الأمن والذي يظهر أنه مر بعمليات اختزال أو تكثيف كبيرة صهرته وأجرته بهذه الصورة ولكن هذا الاختزال يحكي مكنوناً نفسياً وحياتياً واسعاً بعيد الأطراف عميق الغور حيث يرجع إلي معاناة مر بها المرء صغيراً حين فقد أحد والديه مما أشعره بعدم الأمن حيث خرج هذا عند اصطدامه وهو في العقل الباطن بمثير حيث فجره فكانت عمليات التركيز والتأشير حيث ظهر بنوع من القلق وهو خوف غير محدد ولكننا حينما تفحصنا صورته وأجزاءه في إطار حياة ذلك الفرد استطعنا أن نفكك رموزه لنعود بها إلى ماضيه.

رابعاً: وتتلو تلك المراحل مراحل أخرى لربط تلك المكامن مع بعضها البعض ومحاولة تجميع الأجزاء في العقل الباطن لتكوِّن لنا تركيبه الأرضية المكونة للمخزون الباطن واللاوعي ذلك لأن المحلل يريد أن يعرف هذا الإنسان في أصول وجذور تكوينه ليفهم المنطق والمنهج أو قل لمعايير التي يتعامل من خلالها مع الواقع والعلاقات والضغوط والأحداث والتجارب الحالية.

وبهذا تبيَّن الارتباط الوثيق بين الأدب المبدع والناقد وبين المحلل النفسي فكلاهما يسبرون غور النفس البشرية ويحاولن أن يتفهموا عملية صياغة العمل الفني والأدبي شعراً أو نثراً أو دواية ولكن المحلل يتعامل في الغالب مع سلوك ظاهر مزعج للفرد والناقد أو الأديب يتعامل مع إنتاج وعمل مبداع.

فلا غنى للمبدع من أن يفهم غور نفسه ودواخلها وللناقد من أن يقرأ في علم النفس والتحليل النفسي والمحلل النفسي ظاهرياً هو من يتخيّل أنه يمارس التحليل النفسي وأما من يمارس التحليل النفسي مساراً وتخصصاً فهو ذو صلة شغوفة بالأدب والرواية والفلسفة وفنون الإبدعات البشرية كلها).

المهنج الأبكم بعيد عن الظاهرة الإنسانية

أمّا الأستاذ الدكتور عبدالحميد صفوت إبراهيم أستاذ علم النفس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فنفى وجود أي صراع بين الأدب والعلوم الإنسانية، بل يجب على العلوم الأخرى أن تبدأ بدراسات أدبية متعمقة.. يقول د. عبدالحميد: أولا: كانت الرواية والأدب ولا تزال مصدراً خصباً للفكر النفسي والاجتماعي والتربوي على مر العصور، ذلك لأن الأدب عموماً هو التعبير الحقيقي والنابض عن المشاعر الإنسانية في لحظات الحماس والحب والكره والحسد والكراهية والاحساس بالجمال، وكان وما يزال التعبير الذي يعتمل في ضمائر الناس في مواقف الوطنية والعبادة والمآتم والأفراح والهزائم والانتصارات، كما ان للفن وظيفة ثالثة هي أنه تعبير عن الفكر والرأي في القضايا العامة والخاصة فأهم ما يميز الشعراء والكتاب هو التصاقهم بجموع الناس وبلورة ما يفكرون فيه وما يطمحون إليه وما يرونه فيما حولهم من مشكلات وآراء وأحكام.

والأمثلة كثيرة ومتنوعة يحفل الأدب العربي بالكثير منها فهناك من الشعر ما استخدم سلاحاً ضد الأعداء وهناك ما أشعل الثورات وهناك ما أسقط الحكام والطغاة وهناك من سخر من عيوب الناس ودفعهم لاصلاحها. من ذلك فالأدب هو مستودع الخبرات الإنسانية وسجل حكمة الشعوب وآلامها وتطلعاتها.

وليس فرويد هو الوحيد الذي استفاد من المسرحيات اليونانية في اكتشافه لعقدة أوديب والكترا فقد استفاد كل من أريكسون وميلاني كلاين ادلر ويونج وسوليفان من الأدب والأساطير الأفريقية في تطوير نظرياتهم التحليلية النفسية فيما بعد فرويد.

أما روسو فقد سجل فكره التربوي في قصته (اميلي) وكانت تلك القصة أساساً لبحوث تربوية عديدة ومثل روسو فنحن لا نستطيع ان نحدد هل كان جان بول سارتر مفكراً أم أديباً أم عالم نفس تماماً مثلما استطاع شكسبير ودستويفسكي قبل أي مفكر نفسي تشريح النفس الإنسانية في حالات الحقد والغضب والحسد والغيرة. أما الدراسة النفسية للشخصية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية فلم تتم في الولايات المتحدة إلاّ عن طريق تحليل مضمون الأدب والفن الياباني.

في الأدب العربي الحديث كانت ثلاثية نجيب محفوظ وهي عمل أدبي قام فيه بتشريح شخوص مواطني القاهرة في عشرينات القرن الماضي أساساً لدراسات نفسية متعمقة منها الدراسة التي حصلت بها على الدكتوراه وقمت فيها بالتحقق من الأفكار التي صاغها محفوظ عن ازدواجية الشخصية عن بطل القصة المسمى بالسيد أحمد عبدالجواد، كذلك كانت شخصية زوجته أمينة المتفانية في خدمة زوجها مثار دراسات نفسية وندوات مطولة عقدت لتأييد أو معارضة ذلك النمط من الشخصيات النسائية. واستفاد العديد من السيكلوجيين العرب من تحليل احسان عبدالقدوس لشخصية المرأة العربية.

ثانياً: يقع الباحثون في مجالات علم النفس والاجتماع والتربية في خطأ فادح كلما ابتعدو عن ضمير المجتمع ومستودع أفكاره وهو الأدب اكتفاء بمناهجهم الوضعية الصماء البكماء والعمياء والتي يلبسونها ثياب الموضوعية فيعرضون نتائج دراسات بعيدة كل البعد عن الظاهرة الإنسانية في حيويتها وتركيبها متباهين بالأرقام والاحصاءات والإجراءات المنهجية - الأمر الذي يجعل من الصعب على أصحاب القرار الاستفادة منها.

والقليل من الباحثين الآن هم الذين استطاعو الخروج من الدائرة الضيقة للمنهج العلمي والاطلاع على مجريات الأدب والفن حتى يكون ذلك ملجأ لهم إذا فشلت أرقامهم في الوصول إلى نتائج ذات معنى أو علاقة بالواقع الإنساني.

ثالثاً: ليست القضية صراعاً بين الأدب والعلوم الإنسانية - بل هي على العكس تماماً فوظيفة الأدب يجب ان تكون موضع الاحترام والاهتمام من جانب الاجتماعيين والتربويين والسيكلوجيين حيث يجب عليهم ان يبدأوا دراساتهم بالتعمق في الأعمال الأدبية التي يظهر أنها تعبر عن مشكلة اجتماعية أو نفسية أو تربوية لدراستها بعد ذلك بالاعتماد على المنهج العلمي وهكذا يلعب كل من الجانبين دوره ويكتسب أهميته من التلاقي بين الأدب وبين هذه العلوم.

الرواية ساعدتني في دراستي

الدكتور إبراهيم الخضير استشاري ورئيس قسم الطب النفسي في مستشفى القوات المسلحة عرض تجربته الممتعة مع قراءة الرواية العربية والأجنبية ملحاً على ان الرواية تقدم الفائدة في التعاطي المميز مع المرض ومؤكد على النقيض من هذا ان عدم القراءة فيها يخدم الطبيب في مجال الأمراض العضوية. لنقرأ ما قال د. إبراهيم لنتعرف على توفيقه بين المتناقضين قال: ما قاله فرويد ربما يعبر عما كان التحليل النفسي في تلك الأيام، أي بداية التحليل النفسي. فالكثيرون لا يعرفون الفرق بين مدارس الطب النفسي. التحليل النفسي مدرسة من مدارس الطب النفسي، والتي كانت ربما أهم مدارس الطب النفسي في عصر فرويد، ولاقت رواجاً كبيراً، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. فبالرغم ان نظرية التحليل النفسي نشأت على يد فرويد في فيينا في النمسا، إلاّ أنها لم تلق الرواج الذي لاقته في الولايات المتحدة الأمريكية، بل أنها قوبلت بالرفض في أوروبا. ومدرسة التحليل النفسي لم تصمد كثيراً في الطب النفسي فبعد سنوات غير طويلة من بداياتها تهاوت هذه المدرسة على يد تلاميذ فرويد بعد ان هاجمها بعنف بعض زملائه أثناء حياة فرويد نفسه.

التحليل النفسي يتفق كثيراً مع ما قاله فرويد في جملته تلك بأنه تعلم الكثير من كتب الأدب، وبالذات الرواية. فالتحليل النفسي يعتمد على نظريات فرويد والتي تقوم تقريباً على مبدأ ارجاع جميع الاضطرابات النفسية إلى حدوث مشاكل في مرحلة من مراحل النشأة والتي ترتبط غالباً بمرحلة جنسية معينة. هذا التفسير للاضطرابات النفسية، قد يجد مجالاً خصباً في الأدب خاصة الروايات، وبالذات الرواية في تلك الحقبة والتي كانت تشريحاً للمجتمع لا يختلف كثيراً عما قاله فرويد نفسه في نظرياته. فالأسماء الكبيرة للروائيين في تلك الحقبة مثل ديستوفيسكي وتولوستوي وبقية كبار الروائيين في ذلك العصر كانت كتاباتهم في واقع الأمر تحليلاً نفسياً للفرد وتشريحاً للمجتمع من خلال أبطال تلك الروايات.

التركيز على الأسلوب وليس التحليل

الدكتورة منى الصواف تؤكد من جديد سقوط مدرسة وبسقوطها يسقط الاهتمام بالأدب والرواية كداعم للشخصية المحللة تقول: في الحقيقة يعتبر سيجموند فرويد هو صاحب نظرية التحليل النفسي وأول من أسسها في مجال الطب النفسي وكانت تعتمد في جزء كبير منها على نظرته الخاصة والتي كونها من اطلاعاته وقراءاته ثم من ملاحظاته خاصة في فترة عمله مع أستاذ وطبيب الأمراض العصبية في فرنسا داتشاركو واعتمد كثيراً على بعض المفاهيم الفلسفية والتي أثبت العلم الحديث خاصة في مجال الطب النفسي البيولوجي عدم تطابقها مع اكتشاف الأسباب البيولوجية وراء الكثير من الأمراض النفسية مثل مرض الفصام. ومرض الاكتئاب ومرض الوسواس القهري.

ولعل من المهم ان نذكر أنه حتى وقتنا الحاضر لا يزال هناك الكثير من الخلط واللبس بين مفهوم الطب النفسي كجزء من الطب الباطني العام وبين علم النفس ونظريات التحليل النفسي.

وفي الحقيقة لم يعد هناك الكثير من الاهتمام بنظرية التحليل النفسي وإنما أصبح التركيز والاهتمام أكثر على ما يعرف ب أساليب "وليس نظريات" التعامل مع المشكلة، ولذلك ليس بالضرورة ان يكون الأدب أو الرواية جزءاً من نظرية المحلل النفسي وكما نعرف جميعاً ان علم النفس التحليلي له قواعد وأصول لابد من المعرفة والالمام بها من قبل كل المحللين النفسيين في أي مجتمع وبالطبع هناك جزء من القدرة التي لدى المحلل النفسي تعتمد على مدى ثقافته واطلاعه وأيضاً على تكوينه الشخصي

...............................................................

المصادر/

1- دونسيل، جي. ف، علم النفس الفلسفي، ترجمة سعيد الحكيم، بغداد: دار الحرية للطباعة 6891.

2- شكسبير وليم، ريتشارد الثالث ترجمة عبدالقادر القط. القاهرة: دار المعارف، 8691.

3- شلتز دوان، نظريات الشخصية، ترجمة حمد ولي الكربولي وزميله، بغداد: مطبعة جامعة بغداد، 3891.

4- غنيم، سعيد محمد، سيكولوجية الشخصية، القاهرة: دار النهضة العربية، 3791.

5- ملاهي، باتريك، عقدة أوديب بين الأسطورة وعلم النفس. ترجمة جميل سعيد، بيروت: مكتبة المعارف 2691.

6- ديلون، جانيت، شكسبير والإنسان المستوحد، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بغداد: دار الحرية للطباعة، 6891.

7- جورارد، سدني م. ولاند زمن تيد، الشخصية السليمة دراسة للشخصية من وجهة نظر علم النفس الإنساني مطبعة التعليم العالي 8891.

8- كوت، يان، شكسبير معاصرنا، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بغداد: دار الرشيد للنشر، 9791.

الشخصية الدرامية

9- آن موريل

ترجمة : إبراهيم أولحيـان / مجلة نزوى

10- عرض: د. حسين سرمك حسن/ جريدة الاتحاد

 11- محمد عزَّام/ جريدة الاسبوع الادبي

 12- أحمد الودرني/ مجلة علامات

 13- د. ميلاد متى/ مجلـة أوتـــار

 14- ألـفــريـد أدلــر/ المجلة الثقافية

 15- أجرى الاستطلاع: محمد عبدالله الهويمل / جريدة الرياض السعودية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 26 أيلول/2007 -13/رمضان/1428