ثائر ليبرالي ام مصلح اجتماعي

نبش في السيرة الذاتية لإدوارد مورغان فورستر

( 1879 – 1970 )

أوزجان يشار

 حفلت مؤلفاته بالنقد الاجتماعي والسياسي وركز على قيم الصدق والتسامح والطيبة ولكنه أعترف أن هيمنة المادية على الحضارة الحديثة جعلت هذه القيم تتراجع أكثر فأكثر. وتصور مؤلفاته عواطف الإنسان ومشاعره وعلاقاته مع الآخرين ومع الطبيعة. وبالإضافة إلى العديد من المقالات والقصص القصيرة والروايات كتب سيرة عمته " ميريان ثورنتون "1956 " والإسكندرية: تاريخ ودليل "1922 ".

ولد ادوارد مورجان فورستر في لندن في اليوم الأول من عام 1879. وعندما بلغ سنتين من العمر توفي أبوه وتولت أمه تربيته، وكانت أمه ابنة أسرة فقيرة ، والواقع أنه كان لها  أثر  عميق في حياته فقد عاش بصحبتها حتى وفاتها عام 1946 عندما كانت في السابعة والستين من عمره. وتوفيت عمته ميريان ثورنتون عام 1887 عندما  كان في الثامنة من عمره، وأوصت له بمبلغ ثمانية آلاف جنيه، وهو مبلغ استطاع فورستر أن يعيش على فوائده المصرفية دون الحاجة إلى  العمل من أجل أجر. وقال في مذكرته: لقد كانت عمتي ميريان هي  وحدها التي جعلت من الممكن أن أتفرغ للكتابة.

وأرسل فورستر إلى مدرسة ابتدائية متواضعة في ايستبورن، ثم أرسل إلى مدرسة في تونبردج، وفي هذه المدرسة شعر بكثير من التعاسة وبمقت للقيم التقليدية للمدارس الحكومية ذلك أنه أعتقد أن هذه المدارس  تضع قيودا صارمة علي خيال التلاميذ وعواطفهم ، وصور تأثير هذه المدارس  في حياة التلاميذ في روايته الثانية " أطول رحلة " وكتب يقول: إن هذه المدرس  تنتج  أجساما سليمة وعقولا  متوسطة الجودة وقلوبا ضامرة.

وفي عام 1897 التحق بجامعة كمبردج، وارتبط في أذهن قرائه بمدينة كمبردج وجامعتها طيلة حياته. وفي الجامعة درس الآداب الكلاسيكي والتاريخ وعشق الأدب الحديث، ومقت السلطة والتسلط.  وتأثر وكثير من مثقفي جيله بأفكار الفيلسوف  الانجليزي جورج ادوارد مور الذي دافع في كتابه ( مبادئ  الأخلاق ) 1903 عن قيم الفن والجمال والعلاقات الفردية.

وبعد أن تخرج في جامعة كمبردج  قضى عدة سنوات  في أعمال  متفرقة وكان كثير الأسفار.

وفي عام 1906 عاد إلى بيت أمه في مقاطعة ( سري ) حيث صادق شابا هنديا أسمه سيد مسعود، ودامت هذه الصداقة طيلة حياته.

وشرع فورستر في كتابة القصص القصيرة  منذ بداية القرن، ونشر أولى رواياته بعنوان" حيث تخشى الملائكة أن تخطو"  عام 1907 وقد استقى أحداثها من حياته الخاصة، وروية " غرفة بمنظر في العام التالي. أما رواية هواردز إند وهي أول رواية عظيمة له فنشرها عام 1910. وبعد ذلك سافر إلى الهند مع عدد من أصدقائه، ومكنته هذه  المرحلة من أن يصف المجتمع الانجليزي بما  عليه من أنانية  وضيق أفق في سياق أوسع.

 وفي هذه  المرحلة كان  فورستر  من أبرز أعضاء  جماعة بلومزبري، وكان يعرف كثيرا من أعضاء الجماعة من أيام دراسته في جامعة  كمبردج وكان أعضاء الجماعة من كبار المثقفين  الذين آمنوا بالقيم الجمالية والعلاقات الإنسانية التي أبرزها فورستر: إن كتب هؤلاء المثقفين  ومؤلفتهم تشير إلى احترامهم العميق للفن واعتقادهم بان شكل العمل، والواقع أنهم كانوا يعتقدون أن الشكل  والمضمون  لا يمكن الفصل بينهما  لأن الفنان لا يستطيع أن يعبر عن عواطفه وأفكاره تعبيرا وافيا إلا في شكل رفيع المستوى. ولم يكن لجماعة بلومزبري صفة رسمية، ووصفت الجماعة بأنها  تمثل حركة فنية. وكان لأعضاء هذه الجماعة مواقف مشتركة منها التشكك في المعتقدات الدينية والتفاعل مع الفن الحديث والتعاطف مع السياسة الليبرالية. واتخذ كثير من الأعضاء مواقف سلبية أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكن فورستر خدم في الصليب الأحمر في الإسكندرية من عام 1915 إلى عام 1918. قبل اندلاع الحرب كتب رواية في السر بعنوان " موريس " عبر فيها لأول مرة عن شذوذه الجنسي، وأهدى نسخا من هذه الرواية لأعضاء الجماعة وظن أنهم سيتفهمون طبيعته ويتعاطفون معه.

وعاد فورستر إلى الهند عام 1921 ليعمل سكرتيرا  لحاكم إحدى الولايات هناك، وصور بعض خبراته هذه المرة في رواية بعنوان " هضبة ديفي " نشرت عام 1953.  وفي أثناء إقامته في الهند  عادت إليه فكرة كانت قد تولدت في ذهنه أثناء زيارته الأولى، وهي كتابة رواية تدور أحداثها في شبه الجزيرة الهندية وتعالج العلاقات بين الهنود والمستعمرين الانجليز. وشرع في كتابة الرواية فعلا بعد عودته إلى انجلترا. وتلقى كثيرا من التشجيع والمساعدة من فيرجينيا وولف وزوجها، ونشرت الرواية عام 1924 ولاقت رواجا عظيما.

ولم ينشر فورستر في الأعوام الستة والأربعين  التي عاشها بعد عام 1923 روايات جديدة ويعود أحد أسباب ذلك إلى الصعوبات إلى التي واجهها في التعبير الصريح عن قضايا تتعلق بالشذوذ. وواصل بعد عودته إلى انجلترا الإقامة مع أمه، ولكنه كان يميل بين فترة وأخرى إلى الهرب من البيت، فاستأجر شقة في لندن حيث استقبل كتابا وفنانين.

وإذا كان فورستر لم ينشر أية روايات بعد عام 1924 إلا أنه ازداد نشاطا في الأوساط  العامة التي اعتبرته رمز الضمير الحر. وفي عام 1927 ألقى العديد من المحاضرات في جامعة كمبردج وجمعت هذه المحاضرات في كتاب بعنوان " فن الرواية ". وفي العام التالي انتخب رئيس للمجلس الوطني للحريات المدنية. وتعالج مجموعتان من المقالات بعنوان " حصاد " ابينجر " 1936 و" تصفيق للديمقراطية " 1951 مواقف الكاتب الليبرالي من السياسة والفن.

وقدم فورستر عدة برامج في هيئة الإذاعة البريطانية  أثناء الحرب العالمية الثانية، وناقش في هذه البرامج طبيعة الحضارة الحديثة ومتطلباتها. وواصل الاهتمام بشؤون الهند وعاد إلى شبه الجزيرة الهندية عام 1945 وذلك قبل استقلالها بعامين. وفي عام 1946 توفيت أمه، فعاد لإقامة في كمبردج حياة سعيدة مطمئنة، ونال في آخر سنوات عمره كثيرا من التقدير، ففي عام 1969 حصل على وسام الاستحقاق، وعند وفاته عام 1970 نشر كتاباه " موريس " و" الحياة القادمة " وكلاهما يعالجان قضايا الشذوذ.

ينتمي فورستر  إلى المذهب الإنساني الليبرالي الذي كان سائد  بين عامي 1900 و1914، ومن أبرز أتباع هذا المذهب أيضا ماثيوارنولد. وقاوم أتباع المذهب التقدمي الصناعي وما جلبه من تأكيد على النواحي المادية للحياة، وأكدوا أهمية الثقافة والتربية والتنوير والتوعية. وهذا ما دعا إليه الفيلسوف جورج ادورد مور في كتابه " مبادئ الأخلاق " الذي قال فيه أن أسمى القيم هي قيم الحب والجمال التي نستطيع الاستمتاع بها عن طريق العلاقات  الفردية وتذوق الفن. وعرف فورستر المؤمن بالمذهب الإنساني في مقالة كتبها عام 1943 عن اندريه جيد قائلا بأنه  يتميز بأربع خصال: الفضول  والذهن المتفتح الحر والإيمان بالذوق الرفيع والإيمان  بالجنس البشري. كان فورستر يعتقد أن الإنسان ليس له بعد اجتماعي فقط ولكن له بعدا  روحيا خاصا، وقد تعزز إيمانه هذا بصداقته مع ادوارد كاربنتر الفيلسوف الذي كان يعتقد أن الإنسان يتمتع بقدرة عظيمة على الكمال والنجاح إذا استطاع التخلي عن قيود المدنية وارتبط بالطبيعة ارتباطا حميما.

وتبرز روايات فورستر أهمية العلاقات الطيبة بين الناس، وتشدد على ضرورة التسامح والنيات الحسنة، وتنتقد مادية الطبقة  المتوسطة في المجتمع الانجليزي، وتقول إن للمادية أثرا مدمرا  على الفرد وعلى المجتمع. وكان فورستر يؤمن بالفن كقيمة فال في إحدى مقالاته: إن للفن قيمة ليس لأنه تعليمي ( مع أنه قد يكون ) وليس لأنه مسل ( مع أنه قد يكون ) وليس لأن كل واحد منا يستمتع به ( فليس الجميع يحب الفن ) وليس لأن الفن يتعامل مع الجمال. إن للفن قيمة لأنه يتعامل مع النظام ويخلق عوالم صغيرة فيها انسجام وتناغم في قلب هذا الكوكب الذي تعيث به الفوضى من كل ناحية.

يقول فورستر في هذه المحاضرات إن أهم ما يميز الرواية كفن أن الكاتب يستطيع فيها أن يتحدث عن شخصياته ومن خلالها، ويستطيع فيها أن يتحدث عن شخصياته ومن خلالها،  ويستطيع  أن يفسح لنا المجال أن نستمع إلى شخصياته عندما تتحدث إلى نفسها. إن الكاتب يعرف شخصياته من الداخل، ولذلك فإنه يستطيع أن بغوص في الشخصيات إلى أن يصل إلى عقلها الباطن. ويقول فورستر إن الواحد منا لا يتحدث  عن نفسه  بصدق ولا حتى لنفسه. إننا نشعر بالسعادة أوالتعاسة  دون أن نستطيع أن نحدد الأسباب بدقة كافية. أما الروائي فانه في وضع يمكنه من الوصول إلى أعماق شخصياته ومن التعبير عن هذه الأعماق. ويقول الكاتب إن القراءة هي السبيل الوحيد للتعرف إلى مضمون الكتب وأن يحاول أن يفهم. ويشكك فورستر في الأساليب النظرية لمناقشة الرواية، والمقياس الذي التزمه  في تقييم أي رواية هو" مدى حبنا لها وولعنا بها "، تماما كالمقياس الذي التزمه في الحكم على الأصدقاء وتقييمه لهم. ويقول فورستر إن فن الرواية على جانب عظيم من الأهمية لصلته الوثيقة  بالطموحات والعيوب الإنسانية. ويقول: تكمن مهارة المؤلف في مدى قدرته على الكشف عن المشاعر المتأصلة في القلب الإنساني.

ويبحث الكاتب أيضا في الجانب الفني للكتابة الروائية، ويقول: إن الحبكة يجب أن تكون موجزة، وحتى عندما تكون معقدة  يجب أن تكون خالية من أية مادة وميتة، وهنا يكمن عنصر الجمال الذي نتبنه في الرواية كشكل فني. ويتحدث الكاتب عن ( الوحدة ) و( التمام ) و( الإيقاع كمكونات للجمال في الرواية. ويقول " إن التاريخ يتحرك، وأما الفن فثابتا، ولذلك فإن الرواية من حيث هي شكل فني هي عمل خالد.

هذه ليست رواية سياسية، ولكن الجانب السياسي منها هوالذي استحوذ على اهتمام القراء وجعلها رائجة في الأسواق. إن الرواية تتحدث عن سيء أوسع من السياسة. إنها  تتحدث عن بحث  الجنس البشري عن وطن أكثر  ديمومة، وتتحدث عن الكون  كما هومجسد في التراب الهندي وتتحدث عن الرعب الذي يجثم في كهوف مارابار. إن  الرواية رواية  فلسفية وشاعرية، ولهذا أخذ فورستر عنوانها من قصيدة مشهورة للشاعر الأمريكي  والت ويتمان والهند في  الرواية بالإضافة إلى كونها شبه القارة المعروفة هي رمز لرحلة كل روح بشرية إلى بيئة  جديدة وثقافة جديدة.

تدور أحداث الرواية في مدينة هندية أسمها شاندجرابور،  وهي مزيج من القديم والحديث. يعيش الهنود  في الأحياء القديمة وبينما يعيش الانجليز في الأحياء الحديثة، وهنا يعمل الدكتور عزيز وهو طبيب  هندي مسلم. تحضر إلى الهند  مسز مور  والدة القاضي روني هيسلوب وبصحبتها فتاة  اسمها اديلا كويستد. تريد مسز مور  واديلا أن تريا الهند "على حقيقتها"، فتقام حفلة تجتمع فيها بمواطنين هنود، ولكن  الحفلة  تفشل  في كسر  الحاجز  النفسي  بين الهنود والانجليز. ويصف فورستر كهوف  مارابار  بالتفصيل، فهي تقع إلى الشمال  الشرقي  من الهند في هضاب  مارابار، وليس في داخلها شيء. ويقترح  الدكتور عزيز أن يأخذ  مسز  مور وأديلا  وعددا من البريطانيين الآخرين  في زيارة  لهذه  الكهوف.  وأثناء الزيارة  تصاب  مسز مور بصدمة  تعقبها أزمة نفسية،  وتخرج  من الكهوف وقد  فقدت كل رغبة في  مواصلة  الحياة.

وتدخل أديلا والدكتور عزيز كهف أخر، وتسأله أديلا كم عدد زوجاته فيشعر بألم وانزعاج. عندما يعود الجميع إلى شاندر ابور يقبض  على عزيز بتهمة محاولة الاعتداء على أديلا. ويزداد التوتر في المدينة ويمثل عزيز أمام المحكمة ثم تثبت براءته.

ويعلم  بأن مسز مور توفيت في طريق عودتها إلى انجلترا. ويخرج عزيز وفيلدينج المفتش التربوي في نزهة، ويريد المفتش تجديد الصدقة مع الطبيب الهندي، فيرد عزيز قائلا إنه من المستحيل أن يكون صديقين حقيقيين قبل أن تتحرر الهند من الاستعمار البريطاني. ويقوإن الصداقة الحقيقية بين الأفراد غير ممكنة إلا على أساس المساواة السياسية ويحاول التقرب من عزيز ولكن دون جدوى.

ويبرز الدارسون والنقاد ما تمتاز به الرواية  من رمزية  وشاعرية. أما القضايا الاجتماعية والسياسية فتأتي في المكان الثاني.  فالناقد جون كولمر مثلا يقول إن  أهم ما تعالجه الرواية  هو علاقة الإنسان  بالله أو محاولة الإنسان أن يفهم أخوته في الإنسانية وأن  يفهم الكون.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 16 أيلول/2007 -3/رمضان/1428