يتحدث العالم كثيرا هذه الأيام عن نظرية صراع الحضارات والتي كتب
عنها بعض السياسيين والكتاب في أمريكا ومن ابرزهم الرئيس الأمريكي
الأسبق ريتشارد نيكسون الذي نظّر بحدوث صراع جديد بين الحضارة
الإسلامية والحضارة الغربية يخلف الصراع القديم بين الشيوعية والغرب،
وبين بأن هذا الصراع سيكون طويلا وتكون الغلبة فيه للغرب. كما أشار
برنارد لويس في مقال له نشر في مجلة "الأطلنطي الشهرية" عام 1990م تحت
عنوان "جذور الغضب الإسلامي" الى أن صراعا غير عقلانيا -كردة فعل
تأريخية- ربما يحصل بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
ثم جاء هينتينجتون بفكرة حتمية الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب
في مقال نشرته له مجلة" القضايا الخارجية" الأمريكية عام 1993م وطور
أفكاره بهذا الشأن لينشر عام 1996م كتابه المثير للجدل والذي كان
بعنوان "صراع الحضارات"، والذي بيّن فيه بأن الصراع العالمي القادم
سيكون مبنيّا على أسس ثقافية -عرقية- عقائدية.
وقد فسر الكثيرون بعض الأحداث التي حصلت في العالم وخصوصا أحداث
الحادي عشر من سيبتمبر لعام 2001م والتي أدت الى زوال برجي مركز
التجارة العالمية في نيويورك، على أنها براهين على صحة نظرية صراع
الحضارات. وقد تولّد طبقا لذلك شعور متنامى مع الزمن في نفوس الغربيين
يدعوهم الى التحضير والتصدي لحروب حضارية قادمةّّ متباينة في الطبيعة
والشكل. وهكذا إستغل بعض السياسيين الغربيين هذه النظرية وترجموها الى
واقع حال من أجل تحقيق أهداف سياسية أوعسكرية كانت كامنة أو مخفيّة.
وتجلت هذه الأفعال والتصرفات بصور متباينة ومتفاوتة في الدرجة والطبيعة
والشكل، تراوحت بين الإكتساح العسكري الصرف لدول اسلامية مثل إفغانستان
والعراق أو وضع خطط وستراتيجيات مستقبلية تتعامل مع أنظمة عربية أو
إسلامية مثل "مشروع الشرق الأوسط الكبير" أو الصعود المضطرد في نسبة
الأصوات الممنوحة الى زعماء أوربيين عنصريين أو متطرفين أو طارحين
لشعارات ضد الهجرة أو ضد الأجانب أثناء الإنتخابات الرئاسية في الدول
الأوربية.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح وتعجب هو : هل هناك توجّه واقعي
وحقيقي عند العرب والمسلمين في تبني مشروع لصراع حضاري مع الغرب!؟.
الجواب دون شك ينفي وجود هكذا تطلع أو هكذا إتجاه. والأسباب واضحة
ومعلومة ولا تحتاج الى تبيان أو توضيح ومن أهم تلك الأسباب هو أن
الحضارة الإسلامية الحالية في حالة صراع ذاتي مؤلم ومقيت مع نفسها. هذا
الصراع المخيف يدب في خلايا هذه الأمة المشتتة ويهدد مستقبلها وينخر
بكيانها. فكيف تقدر أمة كهذه أن تصارع حضارة عملاقة متحدة وقوية
ومتطورة كحضارة الغرب!؟.
ان اسباب صراع الحضارة الإسلامية مع نفسها معلومة ومفهومة لدى
الغربيين قبل غيرهم وربما الجزء الأكبر من أسباب هذا الصراع الذاتي هو
من صنيعة أيديهم، ولابد من تذكير القارىء ببعض هذه الأسباب:
1- وجود الكيان الإسرائيلي داخل حدود الحضارة الإسلامية مغروزا في
جسدها هو مصدر رئيسي من مصادر ضرب هذه الحضارة وتشتيتها، حيث يحصل تآكل
ذاتي في كيان هذه الحضارة أشبهه بالتآكل الجسدي الذي يحصل عند الإنسان
حينما يغرز فيه عضو غريب. حيث يتفاعل الجسد عادة أمام هذا الجسم الغريب
بتوليد أجسام مضادة له تسمى " المضادات الجسمية". ووظيفة هذه الأجسام
هو الإجهاز على هذا الجسم الغريب وتدميره وتخليص الجسد منه. إلاّ أنه
في بعض الأحيان يكون الجسم الغريب كبير ومتماسك وقوي ولا يمكن إزالته
أو القضاء عليه من قبل هذه الأجسام، فتتولد عند ذلك حالة فسلجية- مرضية
شاذة تقوم على اثرها هذه الأجسام بضرب الأعضاء السليمة داخل الجسم نفسه
وتحاول تدميرها وتسمّى هذه الأجسام عندئذ بـ "مضادات الذات الجسمية".
الحالة تنطبق تماما على ما يحصل داخل جسد الأمة الإسلامية اليوم
أمام هذا الجسم الغريب"الكيان الإسرائيلي" حيث تولدت "مضادات ذاتية"
تضرب بجسد الأمة الإسلامية وكيانها من الداخل، وقد تجلت هذه بالأفكار
الإرهابية التي تضرب في كيان الأمة قبل أن تضرب أعداءها !. وحينما تصاب
بعض دول الغرب بشرارة إرهابية تائهة لا يعني هذا أبدا حروب حضارات،
إنما هي شرارة حارقة قادمة من حريق عميق وكبير يحرق في جسد الأمة
العربية والإسلامية قبل أن يحرق غيرها!
2- من مظاهر وأسباب صراع الحضارة الإسلامية مع نفسها هو الهوة
الطائفية الكبيرة بين المسلمين التي تكبر وتتسع مع الزمن. وقد لعب
الأمريكان دورا هاما في توسيع هذه الهوّة وتعميق أسسها عندما أجتاحوا
العراق وخلقوا مبدأ المحاصصة الطائفية فيه ليكون مشروعا طائفيا يجر
العراق ودول المنطقة الى صراع طائفي قد يبدأ ولا يستطيع احد أن يتكهن
كيف سينتهي!؟.
3- أن امتلاك إيران للذرة قد يكون محور جديد وخطير لصراع الأمة مع
نفسها، حيث أن إمتلاك إيران للسلاح النووي سيولد خلل ستراتيجي هام في
معادلة القوى في المنطقة وستصبح دول المنطقة بشكل عام محصورة في فكي
كماشة السلاح النووي الإسرائيلي من جهة والسلاح النووي الإيراني من جهة
أخرى.أن هذا الأمر سيولد سباق في التسلح النووي قد يهدد بكوارث وحروب
نووية لها أول وليس لها آخر. واذا قررت أمريكا إزالة الذرة من أيدي
الإيرانيين بقوة السلاح فإن هذا ما سينذر بكوارث عسكرية وبيئية
وانسانية يصعب التكهن بحجمها وسيكون الضحية الأول والأخير فيها هم
أبناء المنطقة من العرب والمسلمين.
4- تتقاسم بعض الدول الإسلامية المياه فيما بينها كتركيا وسوريا
والعراق(نهر الفرات) من جانب ومصر والسودان(نهر النيل) من جانب آخر.
وتشير الدلائل على الأرض بأن هناك شحة مائية واضحة ترجع بأسبابها الى
الإستخدام المتزايد لهذه الدول للمياه التي تمر عبر أراضيها من جهة
والى ظاهرة الإحتباس الحراري التي قد تؤدي الى تناقص ملموس في كميات
المياه مستقبلا. هذا الأمر قد ينذر بحدوث صراعات سياسية قد تتطور الى
صراعات عسكرية بين هذه الدول(حروب من أجل المياه).
5- حالة الفقر والجهل ومخلفات الإستعمار التي تستشري في جسد الأمة
وأوصالها جعلها في حالة نوم عميق واغفال تام لعناصر النهضة والتطور، بل
جعلها تعيش فترة ظلام ثقافي وفكري لم يشهد التأريخ مثله من قبل. وهكذا
فقد انغمست هذه الأمة في خضم واسع وعميق بمشاغلها ومشاكلها المتشابكة
التي تنم عن قصور في النظر وبدائية في التصرف والتفكير. وهذا ما يفسر
المذابح المنتشرة على أرض الجزائر والمفخخات العامرة في شوارع المدن
العراقية. وانغماس السودان في مشاكل أقليم دارفور. وإغلاق الفلسطينيين
لصفحة النزاع بينهم وبين إسرائيل وفتحهم لصفحة جديدة أسمها النزاع
الفلسطيني- الفلسطيني. والجيش اللبناني المنشغل في حربه في مخيم النهر
البارد. والمطاردات المستمرة بين السلطات اليمنية وجماعة الحوثي،
وبرويز مشرّف الذي يتشرّف بفتح الكثير من المعتقلات والسجون للمعارضة
التي تنمو وتكبر كنمو الفطر في مناطق باكستان ومدنها.
وهلم جرّا من المشاكل والأمور التي تشير الى مدى التشرذم والتآكل في
جسد أمتنا الإسلامية التي تجعل المراقب محتارا أمام معنى الحديث عن
المخاوف الغربية من الحضارة الإسلامية الحديثة أو أمام الهواجس التي
بثتها نظرية صراع الحضارات التي تلاقفتها الألسن وأكتظت بها الكتابات.
فمن أي قوم يهاب الغربيون ومن أي حضارة يخشون وعن أي صراع يتحدثون! ألا
يكفيهم صراع الأمة الإسلامية مع نفسها وذاتها، فمع من إذن يتصارعون!؟ |