في الفترة الممتدة من 18-8-2007 وحتى السادس والعشرين من نفس الشهر
عقد في طهران أكثر من مؤتمر ثقافي تناول التراث العلمي والأخلاقي لأئمة
أهل البيت عليهم السلام وقراءتها من خلال أدوات الفكر المعاصر.
المؤتمر الأول كان عن الإمام السجاد (علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب) والمؤتمر الثاني الذي يعقد الآن بصورة سنوية كان عن المهدي
المنتظر, الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت.
تميز المؤتمر الثاني بتنوع المشاركة فيه سواء من الناحية الدينية
(مسلمين ومسيحيين) أو المذهبية (سنة وشيعة) إذ أن الاعتقاد بالمخلص
الموعود يعد قاسما مشتركا بين الأديان والعقائد السماوية بل وحتى غير
السماوية منها.
وبينما يركز الإعلام المسيس حتى الثمالة جل اهتمامه على الصراع
السياسي الدائر واحتمالات المواجهة العسكرية بين إيران والغرب فإنه لا
يبدو مكترثا بهذا النوع من التطورات وكأن الثقافة تعد شأنا ثانويا من
شئون الكون!!.
الأمر إذا يتعلق بحشد ثقافي متعدد الأطياف ومن شتى بقاع العالم
يلتقي في العاصمة الإيرانية مع نظرائهم من الباحثين والمفكرين
الإيرانيين حيث يدلي كل منهم بدلوه فيفيد ويستفيد وتتلاقح الأفكار وهو
ما يجري في كثير من بلدان العالم ومن ثم فلا مجال لتلك القناعة السائدة
لدى البعض والتي ترى أن إيران تسعى لتصدير ثورتها وفرض رؤيتها على دول
المنطقة وربما بلغ الغلو والتطرف بهؤلاء للقول بأنها تسعى لفرض رؤيتها
على العالم بأسره!!.
أثناء زيارتي لآية الله الشيخ جعفر السبحاني في مدينة قم المقدسة
وهو عالم ومفكر واسع الإطلاع والثقافة ومتابع جيد للثقافة العربية دار
نقاش حول القطيعة التي طالت بين قطبي الثقافة الإسلامية, مصر قطب
الثقافة العربية الإسلامية وإيران قطب الثقافة الفارسية الإسلامية وكيف
أن هذه القطيعة أدت إلى فقدان مصر لمكانتها الثقافية التي احتلتها
سابقا في إيران حيث مضى ذلك الوقت الذي كان فيه الكتاب يطبع في القاهرة
وبعد شهر أو شهرين يجري ترجمته إلى الفارسية وطبعه في إيران (وليس
العكس!) كما أعرب الشيخ عن خشيته أن ينسى الإيرانيون مصر وثقافتها
بصورة دائمة!!.
الثابت أن الثقافة الإسلامية خاصة تلك الناطقة بالعربية أقدر على
التأثير من تلك التي تفتقد هذا اللسان فالعربية هي لغة القرآن وهي
اللغة التي تحدث بها الرسول الأكرم وأئمة أهل البيت ومن ثم فهي اللسان
الجامع للأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.
الأمر لا يتعلق بنزعة قومية بل بامتلاك المثقف العربي المسلم لميزة
تنافسية يحتاجها المسلم غير العربي.
من هنا يبدو العجب واضحا من أولئك الذين يعلنون بصورة متواصلة عن
خشيتهم من (الغزو الثقافي) الإيراني للعالم العربي أو ما يسمى بتصدير
الثورة رغم أن الغزو يحدث من الأقوى للأضعف وكأنهم يعلنون بذلك موت
الثقافة العربية وعجزها عن منافسة الثقافة الإيرانية!!.
المؤسسات الثقافية
تعقد هذه المؤتمرات بدعوة من المؤسسات الثقافية الإيرانية وما
أكثرها وكلها مؤسسات غير حكومية تعتمد في تمويلها على المرجعيات
الدينية ولكنها تحظى بدعم وتأييد المؤسسة السياسية ولكنها ليست خاضعة
لها.
كما أن هذه المؤسسات تقوم بدورها في نشر الثقافة الإسلامية في شتى
أنحاء العالم وتصدر العديد من المجلات المتخصصة باللغة العربية ومن
بينها مجلة (آفاق الحضارة الإسلامية) التي أصدرت عددا خاصا عن شخصية
الرسول الأكرم كان لنا مساهمة فيه حيث حظي مقال كاتب هذه السطور (حقيقة
النبوة) ومقال صديقنا الأستاذ علي أبو الخير والذين كانا ضمن عديد
المقالات التي كتبها مفكرون مسلمون من شتى بلدان العالم الإسلامي
بالمرتبة الأولى مناصفة.
من ناحية أخرى فإن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يبدي اهتماما واضحا
بهذه المؤتمرات ويحرص على حضورها حيث ألقى كلمة في افتتاح مؤتمر
النظرية المهدوية عبر فيها عن اعتقاده أن نظرية نهاية التاريخ تعبر عن
رؤية الغرب لذاته في حين أن آفاق التطور الحضاري ما زالت مفتوحة وممتدة
أمام العالم الإسلامي الذي يتعين عليه أن يعيد إحياء واستلهام قيم
الإسلام وتقديمها للعالم وهي القيم التي يمكن لها أن تنهض بالعالم
بأسره خاصة إذا قام المسلمون بإحيائها وتحرروا من القوالب الجامدة التي
وضعوا أنفسهم فيها.
كما أكد الرئيس الإيراني وغيره من المتحدثين أن التمهيد لظهور
الإمام المهدي يكون من خلال حكومة الصالحين الذين يراقبون الله تبارك
وتعالى في أعمالهم ويحرصون على إقامة الدولة العادلة القوية التي ترعى
مصالح الضعفاء وتحول بين المستكبرين وبين مواصلة ظلمهم وتجبرهم.
إنها إذا رؤية أخلاقية ثقافية ذات بعد سياسي وهي أبعد ما تكون عن
الترويج للعنف والتآمر على عكس الصورة التي يشيعها الإعلام الموجه
والذي يلتقط بعض الكلمات والحروف من هنا وهناك ويسعى لترويج نظرية
الخطر الإيراني الكاسح الذي يهدد باجتياح دول الجوار وجوار الجوار وما
بعد دول الجوار!!.
خلال تلك الفترة لم نسمع أحدا من المتحدثين من إيران أو غير إيران
يهدد بشن حرب أو حتى يتحدث عن حرب أمريكية محتملة على إيران كما أننا
لم نر ما يشير للاستعداد لمثل هذه الحرب بل لاحظنا حركة إعمار ضخمة
ومزيدا من الجسور التي يجري إنشاؤها والتي لم يكن لها وجود قبل عام
واحد من الآن أي أثناء زيارتي السابقة عام 2006.
أزمة البنزين!!
قبل فترة أثارت وسائل الإعلام مسألة تقنين البنزين وكأنها جاءت
استعدادا للهجوم الأمريكي الوشيك على إيران حيث سمعنا من الناس أن
السبب في ذلك يرجع إلى تدني أسعار البنزين في إيران التي يوجد بها أكثر
من سبعة ملايين سيارة وكما هو معلوم فإن الإيرانيين يعشقون السفر
والترحال.
من ناحية أخرى فإن انخفاض سعر البنزين شجع على تهريبه إلى الدول
المجاورة وأدى إلى ارتفاع نسبة التلوث وكان الخيار بين تقنين الاستهلاك
أو رفع أسعاره مما يؤدي إلى مزيد من التضخم الذي ستحمل تبعاته في
النهاية الطبقات الفقيرة.
يقول الإيرانيون أن القرار كان موضوعا على مكاتب الرؤساء السابقين
الذين أحجموا عن اتخاذه خوفا من تدني شعبيتهم بين الجماهير ورغبة في
إعادة انتخابهم حتى جاء الرئيس الحالي الذي لا يضع هذه الاعتبارات في
حسابه وأصدر هذا القرار الذي سيوفر على خزانة الدولة أكثر من خمسة
مليار دولار في السنة الواحدة يمكن إنفاقها في مجالات التنمية المختلفة
كما أنه ليس قرارا نهائيا بل سيجري إعادة تقييمه خلال الأشهر القادمة.
والعجيب أن الحركة في شوارع إيران النظيفة تسير سيرها والفارق بين
العام الحالي وما سبقه هو أن ازدحام الشوارع أصبح أقل من ذي قبل.
أخيرا نقول أن الثقافة والفكر هي أهم منابع قوة الأمم والشعوب وأن
تنافس الثقافات واشتباكها عبر الحوار تمثل ضرورة بقاء وثراء لهذه
الثقافات.
كما أن سياسة وضع السدود بين الأمم والحيلولة دون تمازح الثقافات
عبر التواصل والحوار والتبادل الثقافي والحديث الفارغ عن الخطر
الإيراني وقبله عن الغزو الثقافي الغربي يشير إلى حالة من الضعف أكثر
مما يشير إلى القوة والمنعة كما أننا نعتقد أن الثقافة الإسلامية في
ثوبها العربي كانت ولا زالت قادرة على أن تؤثر أكثر مما تتأثر وتقود
ولا تقاد.
[email protected] |