الموت المنبعث _ من ركام الدمار وبقايا الخراب وأطلال الحياة في جسد
بغداد السليب المطعون الغارق في جراحاته اليومية _ يجرني نحو الجانب
الأخر من العالم مع هواجسي وأحلامي وأطيافي وهواماتي كسمكة التهمت
الطعم, وإنا ابكي بقلبي بلا دمع.... بتنهد وحسرة واهات.... وأرتجف في
الصيف حيث كنت أشاهد واسمع وأتحسس واشعر ببغداد التي أضحت مستنقع دم
وبركة أموات وأشلاء ضحايا وحديقة أشباح فارغة وممتلئة في نفس ألان
بالخراب الممهور ببصمات الضياع ونفقه المظلم الذي دخلت بغداد تحت خيمته
من غير أن تدري.
لا أدري كيف أصبحت مثل ريشة فملت عن جادة عالمها وانحرفت نحو تلك
الجراح تاركةً تلك الأصوات, ومعتقة إياها, ومهاجرةً عن مكانها ومن ظنوا
أنني أعيش معهم في لحظات المرور بتلك المشاهد التي تواريت عنها ودفنت
نفسي في جذورها وغصت في أتونها وفي ليلها المتثائب الذي يروم عبثاً
البحث عن نجمة محتضرة تهديه سواء السبيل وتخلصه من ظلامه الدامس الذي
يخفي ورائه أحزاناً كبرى.
على أطلال دمار بغداد اليومي واحتراقه المستمر...دبت في نفسي
الحيرة والمآسي التي تواجدت_على نحو جنيني _ في داخل روحي, وغرقت في
كومة من الضباب الأسود عكس على مشاعري وأحاسيسي جميعها الشعائر الكاذبة
المهزومة للنظم السياسية التي استغرقت جسدي حتى أفلستني من نفسي أو
كادت.
وبشبه معجزة لا أدريها سرحت في تلك الرؤى القديمة ومعي حزني
المتراكم وترسبات العذابات التي عشناها في هذا البلد حتى غرقت في تلك
الصور الاليمة والعوالم السوداء والفضاءات المُعذِبة والمساحات
المدلهمة إلتي أقسمت على دمار بلادي وهلاك أرضي وأستبدال أبتسامة
النخيل المصطنعة في بغداد ألألم بجرح منكوء ذاتي النزيف ابدي الألم.
كنت اشعر أن رقعة الدمار في بغداد مع رائحة الخراب والدم تتسع كل
ثانية, وأن الجرح لم يعد له مكان ولازمان كغيمة نخرت عباب السماء
وتشظّت في قلب الكون....
الجرح في بلادي..
كالفراغات المجهولة التي تملأ ليالينا السوداء المكفهرة الخائفة من
نفسها....
كالصحراء التي تنمو متصلة وهاربة من كل المحاولات اليائسة لإجهاض
التصحر الذي يهاجمنا كالذئب المفترس من كل جهة وحدب وصوب....
كان الدخان المتسخ بلون الموت والغدر يجول ويصول في شوارع بغداد
وطرقاتها, ويسعى لذبح الرؤية التي ولدت فيها ساعات الأحزان الأبدية ,
حيث النيران تشتعل في دواخلي بحرارة فاقت حرارة ظهيرة صيف بغداد القاسي
على أهله الساحب ستار العذاب على حياة البغداديين النافذة في أديم
أغوارهم السحيقة طواحين الإنسان...
فوق أديم بغداد يولد كل يوم وفي صباحه المظلم الذي ما عاد صباحاً
عشرات الجثث الحية التي لا نجد لها ذنب سوى قسوة وبربرية الجثث الميتة
التي قتلتها والتي تمارس الموت وتمتهن الخطيئة وتحترف السادية أمام
مناظر ومشاهد رؤية صراخ الثكالى ودموع الأيتام وعويل الأرامل على
فقيدهم الذي قتلوه بدم مثلج لا بارد فحسب....
لا أعرف لماذا جالت بذهني الكثير من الأنطباعات السوداوية وأنتابتني
حالة غامضة من الشعور الإنساني إزاء نزف الدم المجاني ومطر الأحزان
الغزير القادم إلينا عبر الوجوه المقنعة التي تخترق أصداء أعمالها
الوحشية أعماق أعماق قلوبنا الدامية وأحاسيسنا المكلومة على نحو مستتر
مبددة نسيم الأفراح التي ما زارت بغداد منذ أن سقطت في أيدي الطغاة منذ
عشرات السنين...
أن لبغداد التي كانت جميلة صراعات عديدة لا نعرف أولها ولا
أخرها...ولكن المشكلة ليست في ذلك , بل تمكن المشكلة في أن صراع بغداد
كصراع فالنتين مع إبليس في رواية (فاوست) لغوته....صراع لا ترى عدوها
فيه لكي تقضي عليه أو يقضي عليها...ولذلك فهي لا تعرف ولن تعرف أين
تسدد ضرباتها وطلقات مسدسها الفارغ...
هل هذه فعلاً بغداد التي حدثنا عنها وعن مجدها التاريخ بما يشبه
الأساطير والخيالات ؟
هل هذه بغداد التي كانت عروس الحضارة العالمية البكر؟
كأنها ليست هي...وكأني لست أنا.... فهي تشيح بوجهها عني خجلة من
دمائنا التي تجري فيها...وأنا اشعر بالملال القاتل من ليل بغداد البهيم
ونهاره المظلم الثاوية فيه أحلام محتضرة لكائن يدعى العراق يتسكع حافي
القدمين بثياب رثة أمام سفارات العالم يطلب اللجوء السياسي الإنساني...
أن خريطة بغداد المضرجة بالدماء والممزوجة بالآهات ليست كخرائط بقية
البلدان الأخرى في أرجاء المعمورة.فسيمفونية الأسى والعذاب وإيقاع
الخراب والدمار وإلحان الموت والتقاتل تُعزف جميعها في الآن نفسه في كل
مكان وزمان وتتمرأى في جبين كل عراقي... لتؤكد الحقيقة القاسية التي
تقول بأن...
بغداد لم تعد في بغداد...
لم تعد في
بغداد...
لم تعد في
بغداد....
[email protected] |