سلطة القارئ

حسن آل حمادة

عندما ظهرت المطبوعات الورقية على شكل صحف ومجلات، يومية أو دورية، كان هذا الوضع بمثابة ثورة معلوماتية حقيقة، وقفزة كبيرة حققتها الإنسانية في نشر المعرفة. وإذا كان الوضع كذلك مع الإصدارات الورقية؛ فالمرحلة التي نعيشها الآن في زمن النشر الإلكتروني هي أشبه ما تكون بالخيال والحلم، لا الحقيقة؛ فبإمكانك الآن وفي دقائق معدودة، بل في ثوانٍ؛ أن تبث نتاجك العلمي والثقافي؛ ليقرأه بسهولة إنسان آخر يقطن في بقعةٍ بعيدةٍ على وجه الكرة الأرضية، وربما في باطنها أو فوقها. 

ومع زيادة رقعة النشر الإلكتروني، ربما امتنعت بعض الصحف والمجلات عن نشر أعدادها ورقياً، مكتفيةً بإغواء النشر الإلكتروني، ولا نأتي بجديد عندما نقول إن هيمنة الرقيب على المادة المنشورة قد تقلّصت إلى حدٍّ كبير، بل تكاد أن تكون شبه معدومة؛ إلا في بلدان محدودة لا تزال تعيش بعقلية جاهلية، لذا تراها تعمد لحجب موقع هنا بحجة بثِّه للفتنة، وآخر هناك بذريعة ترويجه للميوعة والانحلال، و...إلخ. والجميل في الأمر أن هذه الدول القمعية، تعلم أن المعلومة كالشمس، لا يمكن حجبها بغربال!!

وماذا عن العلاقة بين الكاتب والقارئ في زمن النشر الإلكتروني؟

هذا السؤال هو جوهر هذه المقالة؛ فحين كان الكاتب -سابقاً- يعمد إلى النشر الورقي، كانت فرص تواصله مع جمهور القرَّاء محدودة، إذ ربما وصلته رسالة بالفاكس، أو بالبريد العادي، من قبل قارئ يُعقِّب على فكرة ما، وقد يتلقى اتصالات هاتفية ضئيلة تناقشه فيما طرح، وفي أحسن الحالات؛ لعلّه يقرأ تعقيبات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهذه التعقيبات عادة ما تكون مكتوبة بأسماء حقيقة.

أما الآن فقد تغيرت الصورة كثيراً؛ فالكاتب ما أن ينشر مادته الكتابية، حتى يُفاجأ بعدد مهول من المعقبين الذين يقضُّون مضجعه ليلاً ونهاراً؛ إن كتب ما لا يرتضونه، وكثير من هؤلاء، هم أشبه بالمخلوقات الخرافية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة؛ لتعمدّهم الكتابة بالأسماء الوهمية.

ولا تستغرب إن عقّب أحدهم مرّات عدة بأكثر من اسم مستعار، في محاولة منه للتأثير على الكاتب، أو للتقليل من شأن كتاباته، أو للتطبيل لها، وكأنها الفتح العظيم. هذا إن لم يلجأ الكاتب لمدح نفسه باسم مستعار؛ ليعيش حالة مرضية مزمنة، لا يُرجى شفاؤه منها؛ إلا حين يُضرب على قفاه، ضربةً، مصحوبة بعبارة: صح النوم يا الحبيب!!

في زمنٍ كهذا قد يسقط الكاتب في الفّخ؛ فإن كُتبت تعليقاتٌ تخدم فكرته وتُبجِّلها؛ فقد يُصاب حينئذٍ بنرجسية فاقعة، وانتفاخ في الذات؛ ليتوهم أنه صاحب الكلمة العليا، والرأي الذي لا يُجارى، وإن قرأ كتابات هزلية أو سطحية، كُتبت بطريقة "شخبط شخابيط"؛ لقرّاء، يقعون تحت تأثير سلطة القارئ؛ فيكتفي الواحد منهم بقراءة التعليقات ليُعْقِّب بدوره عليها، دون أن يقرأ بتمعن المادة التي يناقشها! فالكاتب والحالة هذه قد يلجأ حينئذٍ؛ لكسر قلمه، أو تمزيق أوراقه، وربما أقدم على شدخ كمبيوتره بالجدار، أو رماه من شاهق.. ولا يبقى له بعد ذلك إلا أن ينكفئ على نفسه، ويلعن اليوم الذي تمنى فيه أن يُصبح كاتباً، مع (هيك قرَّا)!

ففي زمنٍ قلّ أن تجد فيه من يُعقِّب على كتاباتك تعقيباً موضوعياً، عليك أن تعتني بمن يكتب لك حرفاً مفيداً، برؤيةٍ نقدية بعيدة عن لغة التعالي؛ إذ لا يمكنك أن ترى قفاك إلاَّ بجمع مرآتين، والمؤمن مرآة المؤمن، كما يشير لهذا المعنى العميق الإمام علي (عليه السلام)، ومع ذلك، إياك، وإياك، وإياك     -حتى ينقطع النفس- أن تخضع لسلطة القارئ؛ الذي يريد تسيير كتاباتك كما يشاء، لا كما تشاء! ولا تنسَ أيضاً؛ أن تغّض بصرك عن مجمل التعقيبات الفاتنة، حتى لا تقع في الإثم، وترتكب الخطيئة، وعليك أن تقرأ -في نهاية المطاف- الفاتحة على الكتّاب والكاتبات، والمشخبطين والمشخبطات، رحم الله الأحياء منهم والأموات.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 3 أيلول/2007 -20/شعبان/1428