اللغة العربية والتمدد رغم القيود

شبكة النبأ: اللغة في اي زمان ترتبط وتتاثر بمدى التجاور الثقافي وتبادل المصلحة بين شعبين لهما لغة مغايرة للغة اخرى وهذا امر طبيعي نجد شواهده بشكل اوضح كلما ازدادت التاثيرات التبادلية بين الشعوب فكل منها تكتسب من الاخرى المفردات المناسبة وهي حالة صحية ودليل تفاعل حميمي بين بنو الانسان.

فكلمة واحدة ناخذها من بين عشرات المفردات العربية، فاسم جنبلاط مثلا عندما نرده الى الاصول التي اتى منها نكتشف بانه اسم فارسي، فجان في اللغة الفارسية معناه الروح وبلاط عندما نعيده الى اللفظ الصحيح فهو بولاد وهو يرجع مرجع عربي ويعني الفولاذ وبهذا يكون معنى الاسم الروح الحديدية او الروح الفولاذية.

ومن هنا وبدلا من الحديث عن "صدام الحضارات" فضّل الباحث أونغر البحث عن تفاعل الثقافات وتلاقحها. في كتابه عن الكلمات العربية في اللغة الألمانية يشرح أونغر الطريق الذي سلكته الكلمات العربية حتى وصلت في شكلها الحالي إلى لغة غوته.

ويشير الباحث الألماني أندرياس أونغر في كتابة الجديد من الجبر حتى السكـر الكلمات العربية في اللغة الألمانية الذي صدر حديثا، إلى أن اللغة العربية هي اللغة الأكثر تأثيراً في الألمانية من بين جميع اللغات غير الأوروبية، وليس الأمر محض صدفة، فمعظم الكلمات العربية وصلت إلى أوروبا في القرون الوسطى عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية مركز إشعاع ثقافي في العالم كله، فمنذ بزوغها، اتسمت الحضارة العربية بالانفتاح تجاه الثقافات الأخرى، باستيعابها والأخذ عنها ودمجها في الثقافة الإسلامية الجديدة.

واستوعب العرب إنجازات الحضارتين الإغريقية الهيلينية والفارسية، ومع ازدهار التجارة مع الصين والهند وإفريقيا تعرف العرب على منتجات تلك المناطق ودخلت بعض كلماتها إلى لغة الضاد.

أدرك العرب القدماء أهمية الترجمة عن اللغات الأخرى لاسيما اليونانية، فنقلوا نصوصاً مركزية كانت أساساً لعلوم جديدة أخذها العالم لاحقاً عن العرب مثل علم الجبر الذي تحدث عنه الخوارزمي لأول مرة في كتابه الشهير المختار في حساب الجبر والمقابلة عبر هذا التلاقح الثقافي في أفضل معانيه، أخذ العرب كلمات أعجمية وعربوها، ثم دخلت هذه الكلمات فيما بعد إلى اللغات الأوروبية باعتبارها كلمات عربية.

التلاقح الثقافي ولد في خضم الصراع

كتاب "من الجبر حتى السكر ـ الكلمات العربية في اللغة الألمانية اللقاء – أو الصدام – الأول بين الغرب والحضارة العربية حدث ـ كما يقول الباحث ـ في إسبانيا وصقلية بعد فتح البلدين، ثم جاءت الحروب الصليبية بكل بشاعتها ودمويتها، فأضحت فلسطين أرضا للمعارك الدينية، غير أنها كانت أيضا ساحة لتبادل المعارف الثقافية، في تلك الفترة انبهر الأوروبيون بتقدم الثقافة العربية الإسلامية ورقيها، فنهلوا منها ما استطاعوا، وهكذا عرفت البلدان الأوروبية أحجاراً كريمة لم تكن معروفة لديهم، فاستوردوها بلفظها، مثل اللازورد، وأخذوا عن العرب بعض الأطعمة والتوابل والعطور، مثل الباذنجان والطرخون والزعفران والياسمين والعنبر والنارنج. كما أدخلوا فنوناً وعادات عربية مثل الأرابيسك ولعبة الشطرنج، وكذلك آلات موسيقية مثل القيثارة. هذا عدا الحيوانات والطيور كـالزرافة والغزالة والببغاء.

مفردات عربية دخلت في قواميس اللغات الأوربية

وكما أخذ العرب عن غيرهم، وطوروا ما أخذوه، هكذا فعل الأوروبيون، فمسحوق البارود مثلاً لم ينل شهرته وفعاليته إلا بعد أن اخترع الأوروبيون ماسورة البندقية، ومع البارود دخلت إلى أوروبا كلمات مثل ترسانة وأرسنال المشتقة من (دار الصناعة) وأدميرال (المأخوذة عن أمير). ومع تفتت الإمبراطورية العربية ابتداء من القرن الثالث عشر، ومع تفشي حالة من الجمود الذي أعقبه الانحدار في مستويات عدة، كاد العرب يتوقفون عن الابتكار والإبداع، بينما واصل الأوروبيون تطوير ما أخذوه عن العرب، ومن هنا اتسعت الفجوة الثقافية بين العرب والغرب، ومع انكماش التبادل التجاري، توقف التبادل اللغوي أيضاً، بل ودعا المفكرون الغربيون إلى إحلال الكلمات اللاتينية محل الكلمات العربية في لغة العلوم والأبحاث، غير أن هذا المنحى تغير قليلاً في القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد تزايد نفوذ الإمبراطورية العثمانية وإشعاعها الثقافي في أوروبا.

الشعر العربي احد الروافد التي نهل منها (غوته)

الشاعر الألماني غوته فُتن بالشعر العربي ونهل منه الكثير ولم تقتصر هذه الرحلة بين الثقافات على الكلمات والمفردات، بل شملت مجالات الأدب والشعر. وأسطع مثال على ذلك هو أمير الشعراء الألمان يوهان فولفغانغ فون غوته الذي تأثر تأثراً ملحوظاً بالثقافة العربية، وقرأ في آواخر القرن الثامن عشر ترجمة إنكليزية لمختارات من الشعر الجاهلي، وقد بلغ افتتانه بالخط العربي إلى أنه راح يحاكيه، وذلك في محاولة منه لتجاوز العائق اللغوي والاقتراب من روح اللغة العربية، على حد قوله، وقد تجلى اهتمام غوته الكبير بالشعر الفارسي والعربي في ديوانه الشهير الديوان الشرقي للمؤلف الغربي الذي صدرت طبعته الأولى عام 1819. وأولى قصائد الديوان بعنوان هجرة التي كتبها غوته بنطقها العربي.

ومن يطالع "الديوان" يدرك مدى حبه للشاعر الفارسي حافظ الشيرازي وتأثره به، غير أن أشعار حافظ لم تكن النبع الوحيد الذي روى ظمأ أمير الشعراء الألمان، فالشعر العربي – لا سيما الجاهلي - كان أحد الروافد التي أمدت قريحته بماء الشعر العذب، وكانت ثمرة هذا التلاقي ديوانه الشرقي الغربي الذي يعتبره عديد من النقاد الألمان أجمل دواوينه على الإطلاق.

الاقتراض اللغوي عبر تاريخ اللغة الألمانية

ظاهرة احتكاك اللغات قديمة قدم اللغات نفسها وليس بدعا على لغة بعينها، اللغة الألمانية استطاعت أن تتسلل إلى العديد من اللغات بفعل عوامل مختلفة، معهد غوتة الألماني ينظم مسابقة لتأصيل الألفاظ الألمانية المهاجرة.

تعتبر عملية الاقتراض اللغوي والتطور الدلالي للألفاظ ظاهرة صحية في مسيرة تطور أي لغة، وعبر مسيرة الاقتراض تكتسي الألفاظ  دلالات جديدة تتلون بتلون العصور واختلاف المجتمعات والثقافات، وبوصف اللغة أداة للتبادل الاجتماعي والتلاقي الثقافي بين الحضارات لا غرابة أن نجد لغة ما تقترض لفظة من لغة أخرى وتدخل في نسيجها البنيوي والسياقي بعد أن تنصهر في القالب التركيبي والصرفي للغة الوافدة إليها، ولكن هذا لا يمنع من وجود ألفاظ حافظت على شكلها كما نقلت عليه من اللغة الأم دون أن تنصهر في اللغة الجديدة، وهناك أشكال متعددة لميكانيكية الاقتراض اللغوي التي يشكل الصراع اللغوي أحد مظاهر هذا الانتقال بالإضافة إلى الهجرة والاستعمار والحروب والتجارة. 

اللغات تتصارع مع بعضها بعضا كما يتصارع البشر، ويكون نتاج ذلك إما السيطرة أو التقهقر أو التمازج و الاقتراض بين اللغتين أو التعايش معاً جنباً إلى جنب دون غالب أو مغلوب، ويتوقف ذلك على عوامل عدة منها:

مدى احتكاك الشعبين الغازي والمغزو وحضارة كل منهما وطبيعة البناء اللغوي، ومن مظاهر التطور الدلالي تضمين المعنى اللغوي القديم معنىً دلاليا جديداً ، حتى يغدو المعنى الجديد بحكم الاستعمال اللغوي حقيقة معرفية في الإشارة إلى المعنى الجديد بدلاً من مدلوله القديم.    

الألفاظ الألمانية لها حضور عالمي

اللغة الألمانية لغة الفلاسفة مثل هيجل ولما كانت اللغة كائنا حيا ينمو ويتطور للتعبير عن حاجات الجماعة التي تنطق بها وتنتقل من حضارة إلى حضارة كالنحلة التي تتنقل من ريحانة إلى ريحانة، فقد ظهر علم من علوم اللغة همه التأصيل اللغوي لهذه المفردات عبر ردها إلى أصولها وكذلك رصد مسار تطورها ومظاهر مدها وجزرها. 

وفي هذا الصدد اهتمت مجامع اللغة بتلك الظواهر، فانكبت على رصد ظاهرة الألفاظ والأساليب والتبادل اللغوي. 

واللغة الألمانية كغيرها من اللغات أثرت وتأثرت بغيرها، وعن هذا تقول الكاتبة المجرية تيريزا مورير، والتي تتخذ من ألمانيا موطنا لها، إنه من السهولة عليها حفظ الكلمات الألمانية التي تشابه ألفاظا مجرية صوتا ومبنى، في إشارة إلى مدى تأثير اللغة الألمانية على المجرية. ولكن يلاحظ أن اللغة المجرية اقترضت من الأسماء أكثر منه من الأفعال، وهذا الاقتراض من الأسماء ليس مستغربا، لاسيما وقد ارتبط بالعديد من المخترعات أو بالنشاطات الثقافية. مثلا كلمة 'Kindergarten'  روضة أطفال أو كلمة "Blitzkrieg" الحرب الخاطفة توجد في لغات مختلفة إما لفظا أو دلالة.

ولاشك أن سيطرة اللغات في العالم ترتبط في كثير من الأحيان بحجم الثقل السياسي والنشاط الحضاري لأمة من الأمم.

وعن سيطرة اللغة الإنجليزية، يقول البروفيسور بيتر لوبوك من قسم اللغة الألمانية في جامعة برلين: سبب ذلك بالتأكيد يعود إلى قوة الولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت من الإنجليزية اللغة الأولى في العالم. وعن اللغة الألمانية يقول: رغم كونها لغة الفلاسفة، إلا أنّ صورتها قد تشوهت في العهد النازي.

مسابقة لغوية

معهد غوتة يعد صرحا علميا كبيرا يعنى باللغة الألمانية أطلق معهد غوتة بالتعاون مع مجمع اللغة الألمانية مسابقة لجمع الكلمات الألمانية التي انتقلت إلى لغات أخرى.

وعن هذا المشروع تقول كاترينا فون روكتشل من معهد غوتة: "من المهم للألمان معرفة أين استخدمت اللغة الألمانية وما السياق الذي انتقلت إليه إلى اللغات الأخرى وما المقاصد الدلالية التي اكتسبتها هذه الألفاظ، وكذلك مهم لنا أن نبين للعالم أن هناك  ألفاظا ذات أصول ألمانية يتم استخدامها وتداولها من لغات عدة، الأمر الذي قد يزيد من فرص التواصل الاجتماعي والتلاقح الحضاري.

ولا شك أن استخدام اللغة الألمانية خارج ألمانيا ارتبط في كثير من مظاهره بحركات الهجرة الألمانية عبر الأزمان سواء إلى شرق أوروبا أو أمريكا الشمالية أو روسيا. 

وعن رحلة هذه الألفاظ إلى روسيا، يقول أوليج زين كوفيسكي من القسم الروسي في إذاعة برلين: عندما جاء الغربيون إلينا جلبوا معهم العديد من الأمور التي لم تكن متوفرة في روسيا مما دفع المرء إلى تسميتها بأسمائها الأصلية. فمثلا   كلمة "Butterbrot" الخبز المنقع بالزبدة ليست بالضرورة أن تكون بالزبدة وقد تكون بالسجق ولكن  تبقى لتسمى الخبز المنقع بالزبدة كما وصلت إلينا من الألمان وإن اختلفنا معهم في الاستعمال.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 3 أيلول/2007 -20/شعبان/1428