مصطلحات سياسية: السلطة

السلطة: Pouvoir

شبكة النبأ: إن تعبير السلطة يستعمل حتى التخمة وفي مفاهيم متنوعة جداً. ويرد هذا التعبير بصورة عامة إلى ثلاثة مفاهيم مترابطة تسمح بعض الشيء بتجديده. ليس ثمة سلطة دون توزيع للموارد. أياً تكن طبيعة هذه الموارد. ولا بد فضلاً عن ذلك. من قدرة معينة على استعمال هذه الموارد. إذا سلمنا جهازاً إلكترونياً (Ordinateur) إلى شبنزي، فإن هذه الأداة لا تنمي سلطته، لا تجاه الإنسان الذي وضع بين يديه هذا المورد، ولا بالنسبة لأي واحد من أبناء جنسه. إن استعمال الموارد يفترض خطة استعمال ومسبقاً توعية بحدها الأدنى تتعلق بشروط هذا الاستعمال ونتائجه. وأخيراً، إن الكلام على الموارد التي يمكن أن تستعمل وفقاً لقدرات من يتمتع بها بشكل طبيعي أو من جمعها قصداً من أجل أغراض حددها هو بنفسه أو عرضت عليه أو فرضت عليه، يؤدي إلى الاعتراف بالطابع الاستراتيجي للسلطة وبأنها تمارس عند الاقتضاء ليس فقط ضد جمود الأشياء ولكن ضد مقاومة الإرادات المخاصمة.

إذا تفحصنا المورد والقدرة على استعمال المورد أو القدرة الاستراتيجية إزاء الآخرين على تعبئة الموارد وجمعها، يمكن أن تعتبر السلطة، إما أنها علاقة تعود إلى تحليل النشاط المتبادل، وإما أنها ظاهرة أكثر تعقيداً (منبثقة) من الاندماج أو من تركيب أنماط متنوعة من النشاط المتبادل الأولي. كان ماكس فيبر الأول بين جميع علماء الاجتماع الكلاسيكيين الكبار، الذي عزل بشكل واضح جداً مفهوم السلطة والذي عمل جهده لمعالجته من خلال وجهة النظر المزدوجة القائمة على النشاط المتبادل وعملية الدمج. ومن جهة نظر ثانية، أضاف تحليلاً ديناميكياً أو على الأقل مخططاً عاماً لهذا التحليل.

تعتبر السلطة بتعابير النشاط المتبادل، علاقة غير متناسقة بين فاعلين على الأقل، يمكننا أن نعرّف هذه العلاقة مع ماكس فيبر بأنها قدرة أ- على إلزام –ب- بفعل ما لم يكن ليفعله من تلقاء نفسه، وما يكون مطابقاً للتبليغات أو التوجيهات الصادرة عن - أ - .

ثمة نقطتان معبرتان في تعريف فيبر. أولاً، يتوقف تصرف – ب- على تصرف – أ -: إن – ب – يستجيب لمبادرات – أ – ورغباته.

وبشكل أعم لطريقة حياة – أ – ثم إبراز هذا النمط من العلاقة في علم الاجتماع الضيق المتعلق بمجموعات النقاش. هكذا سعى (بال) للتمييز بين الأفراد الفاعلين (الذين يطلقون النقاش ويحضرون الحلول ويدفعون إلى تبنيها) والأفراد المتلقين للفعل، الذين يكتفون بتأكيد موافقتهم أو رفضها. أما السمة الثانية لعلاقة السلطة فهي كونها تنمي القدرة الإجمالية لـ - أ -. ولكن ما لم يحدده فيبر، هو ما إذا كان هذا النمو في القدرة يحصل عليه – أ – على حساب – ب -، أو ما إذا كان يمكن نسبته إلى الزوج – أ ب – شرط أن يقوم بين العنصرين شبكة من التقاسم. من جهة ثانية، وبالنسبة لهذه النقطة كان فيبر أكثر صراحة، فثمة مجال للتساؤل حول طبيعة الموارد التي يملكها – أ – ليضمن لنفسه مشاركة – ب -.

ليس ثمة أي سبب لأن نحصر، كما حاول أن يفعل الكثير من قراء ماركس المتعجلين علاقة السلطة بلعبة بين شخصين ذات نتيجة لاغية. وبالفعل، إذا نحن اعتبرنا الرأسماليين كفاعل وحيد، وإذا قمنا بالافتراض التبسيطي نفسه بالنسبة للبروليتاريين، مستندين إلى المصالح المشتركة لكل من هاتين الطبقتين وإلى السمة الخاصة جداً للمنافع التي تسعى إليها كل طبقة، نصل إلى وضعية حيث: أولاً، لا يمكن أن تمارس سلطة الطبقة – أ – إلا على الطبقة – ب – أو بالأحرى ضدها، وثانياً. إن سلطة الطبقة – أ – هي تحديداً مثل عجز الطبقة – ب- إن وضعاً كهذا يتضمن على الأقل حالتين مختلفتين هما: التبعية الكاملة والدائمة لأحد الفاعلين بالنسبة للآخر، والحرب حتى الموت بين المتصارعين. إن أوضاعاً مثل هذه تدخل بالتأكيد في مجال علاقات السلطة، ولكن من المؤكد بنفس المقدار أن ثمة أوضاعاً كذلك لا يمكن تحليلها على أنها ألعاب بين شخصين ذات نتيجة لاغية لأحدهما. فيكفي مثلاً أن يدخل في اللعبة (شخص ثالث) (حكم أو وسيط أو مجرد متدخل متجرد أو على العكس مستغل وقح للإمكانات التي يوفرها له مركزه) ليصبح ممكناً توزيع جديد للمراهنات. فمن المواجهة بين خصمين يريد منها كل واحد الموت للآخر، ننتقل إلى نظام من الإئتلاف، حيث تستطيع القدرة على التفاوض التي تتوقف في آن معاً على الظروف والمعطيات الثابتة نسبياً، من تغيير علاقة القوى الناجمة عن التوزيع الأساسي للموارد، وبالطريقة نفسها، فإن ظهور (فائض) ما يمكن أن يحد من المواجهة بين المتصارعين، إما لأن الفائض لا يمكن أن يستخلص إلا بواسطة التعاون بين هؤلاء، وإما لأن الفائض يحسّن وضع الفريقين دون أن ينسب ظهوره إلى أي منهما (Windfall porfit).

وكما أن السلطة لا يمكن أن تحصر في لعبة بين شخصين ذات نتيجة لاغية لأحدهما، فإن موارد السلطة لا تتحدد في ممارسة القوة وحدها، أي في مجمل الإكراهات الجسدية والمادية (القدرة على القتل والتجويع وإنزال العقوبات غير المحتملة مباشرة أو غير مباشرة) التي يمتلكها – أ – ضد – ب – ليدفع هذا الأخير على المشاركة في تحقيق أهدافه الخاصة، لقد تم إدراك هذه النقطة بشكل جيد جداً من قبل المنظرين السياسيين، وبالتحديد من قبل روسو حين كتب في العقد الاجتماعي أن ما من أحد قوي إلى الحد الذي يمكن أن يكون فيه متأكداً من أنه سيبقى دوماً الأقوى.لا يستتبع ذلك أن السلطة لا علاقة لها بالقوة: يحصل غالباً أن نكون مرغمين على الرضوخ لإرادة الآخر، إما لأنه يرمي بيده علينا، وإما لأنه يكتفي بتهديدنا بذلك. فسلطة أ – على – ب – إذن، لا تستند دوماً إلى عقوبة منفذة فعلياً، التهديد يمكن أن يكفي، ولكن يجب أن يكون، كما يقال، ذات مصداقية، إن العلاقة بين القوة والسلطة هي إذن معقدة إلى أقصى الحدود، وتحويل الواحدة إلى الأخرى لا يشكل سوى وضعاً – محدوداً – حتى ولو كان الإسناد الافتراضي على الأقل، إلى القوة، هو الذي يشكل كل علاقة سلطوية.

إن المورد المضاد للقوة هو الشرعية. فيبر يكثر من استعمال هذه الفكرة، ويبدو أن ليس ثمة بالنسبة له، سيطرة دائمة دون حد أدنى من الشرعية، إن السلطة الشرعية هي تلك القادرة على جعل قراراتها مقبولة كونها قائمة على أساس صحيح، إنها، بتعابير النشاط المتبادل والسلوك، سلطة تكون توجيهاتها محلاً للإذعان أو على الأقل موافقاً عليها، من قبل هؤلاء الذين توجه إليهم. هذا الخضوع أو ذاك القبول الحماسي يساهمان في جعل السلطة التزاماً خلقياً وقانونياً يربط الخاضع بالمسيطر أو بمن يملك السلطة. ولكن لا هذا ولا ذاك يكفيان بما أنه في حال غيابهما، تكون المؤسسة الشرعية قادرة على تحريك عقوبات فعالة ضد المخالف. لم يسع فيبر إلى التمييز بين أنماط الاستقبال التي يحتفظ بها (الخاضعون) لتعليمات (المسيطرين). مع ذلك فهو لم يكن غير مبال كون – ب – يكمل ما أمره – أ – بفعله وهو يجرر قدميه أو بالعكس، لأنه يضع فيه كل جوارحه ولأنه يذهب إلى أبعد مما أمر به – أ -، إن ما يهم فيبر بشكل خاص في الشرعية هي الأسس الأيديولوجية والمؤسساتية التي تمنحها لممارسة الأنماط المختلفة لسلطة: تقليدية أم ريادية (Charismatique)، أم عقلانية – شرعية. يبدو أنه علّق على أسس الشرعية أهمية أكبر من عملية إضفاء الشرعية، إن الشرعية تؤكد توازناً معقداً بين المعطيات المؤسساتية (على سبيل المثال التقليدي البنى بالنسبة للمؤسسة (Establishment) الدينية، أو على العكس مركزية الرئيس التقليدي المعترف به كوريث لجد مشترك، من قبل الرؤساء الآخرين المنتمين إلى سلالة أدنى) والمعطيات الأيديولوجية. من المؤسف أن ما لا تسمح التصنيفية الفيبرية بإدراكه، هو العلاقة بين القوة والشرعية في المحافظة على أنظمة السلطة.

لكي نخرج من التعارض البسيط جداً بين الأوضاع المحض إكراهية والأوضاع الشرعية، يمكننا السعي إلى الدمج بين تحليل الموارد وتحليل الاستراتيجيات. يمكننا بالفعل الافتراضي أن قدرة – السلطة بالمعنى الواسع للكلمة – فاعل فرد أو جماعي تتوقف ليس فقط على طبيعة موارده وكميتها، ولكن على التطابق أيضاً بين موارده واستراتيجياته. يمكننا أن نتخيل فاعلاً يتمتع بموارد غزيرة جداً ولكنه محروم من أية استراتيجية. ثمة مجال للخوف من أن يتخلى عن استعمال موارده أو أن يبددها. لنتخيل استراتيجية دون موارد. فلديها فرص قليلة للتوصل إلى تحقيق غاياتها. إن تقوية سلطة فاعل إلى حدها الأقصى تفترض أن يعرف كيف يلائم موارده واستعمالها بواسطة استراتيجية مناسبة.

يمكننا أن نقول الآن، وبعبارات عامة تماماً، أن السلطة هي سياق مقصود يؤثر بفاعلين على الأقل، كما يؤثر، عبر إعادة توزيع للموارد المحصلة بواسطة استراتيجيات مختلفة، بالمستوى النسبي لقدرات كل منهما، بطريقة متوافقة مع صيغة الشرعية المعمول بها أو متناسبة معها على الأقل. إن السلطة هي علاقة اجتماعية عامة تماماً، ولكن من البديهي أن الموارد والاستراتيجيات يمكن تقديرها بالنسبة لوضع معين وليس في المطلق. ومن البديهي كذلك أننا نستطيع الكلام على السلطة في أي إطار اجتماعي عام، ففي المجتمعات الأكثر ضخامة، كما في المجموعات الصغيرة – سواء تعلق الأمر بمجموعات تحدث عنها بال أو لوين أو مورينو. لدى بال تكرس المجموعات نفسها لحل المشاكل وتنفيذ المهام المحددة نسبياً، والتي ترتدي في أعين المشاركين بعض الأهمية العملية. ويمكن للمراقب أن يكتشف بينهم الأفراد الذين يقدمون الاقتراحات الأكثر ملاءمة والتي تستقبل بشكل أفضل، موجهين هكذا المجموعة، في نهاية الدورة، نحو حل المشكلة التي عرضت عليها. أما في المجموعات على طريقة مورينو، فالسلطة هي الجاذبية التي يمتلكها بعض الأشخاص (النجوم)، وقدرتهم على أن يكونوا (مختارين)، أو أيضاً شعبيتهم. فانطلاقاً من هذه الخيارات أو هذا الرفض الذاتي المتبادل، يكون التحليل القائم على القياس الاجتماعي قادراً على بناء نخب متماسكة ومتضامنة إلى حد ما. أما فيما يتعلق بالمجموعات اللوينية، فهي تتسم ب(المناخ) الذي يسيطر عليها (ديمقراطي أم أستبدادي)، وبطبيعة المراقبة التي تمارسها المجموعة على أعضائها وبالتالي (بديناميكيتها) الخاصة. وإذا أردنا أن نستنتج اقتراحاً مشتركاً بهذه الطرائق الثلاث، نقول أن السلطة هي القدرة التي يمارسها الزعماء في آن معاً على بعضهم البعض، وعلى أعضاء المجموعة، وذلك من أجل مطابقة الدوافع والمصالح غير المتجانسة.

إن ما يحد من عمومية التحليل الاجتماعي الضيق للسلطة هو أنها تبقى في الظل أصل صيغة الشرعية. فالشعبية حسب مورينو هي شكل غامض تماماً للسلطة، بما أنها يمكن أن تمنح لأفراد امتثاليين أو متمردين أو منحرفين. لدى بال، ليست القدرة على حل المشكلة المطروحة على المجموعة أكثر وضوحاً، بما أن هذه القدرة يمكن أن تكون بناء للطريقة التي أدركت بها المشكلة من قبل أعضاء المجموعة، إما نوعاً من الأهلية التقنية وإما نوعاً من الحذق أو التضليل (Social Skill). وأخيراً، إن التفوق الذي يزعمه اللوينيون لمصلحة المناخ (الديموقراطي يستند إلى السمة (الطبيعية) للموافقة الضمنية والتوفيق بين المصالح والآراء، ذلك أن كل صيغة للشرعية هي إلى حد كبير ترسب تاريخي. فحكم الأكثرية على سبيل المثال (Majority nule) ليس قاعدة تأكد تماماً تماسكها المنطقي. إن مفارقات قرار الأكثرية، التي شدد عليها الكثير من المؤلفين ومنهم كوندورسيه وغيبو وآرو، تؤكد ذلك بوضوح، إن حكم الأكثرية هو بناء مصطنع وظرفي إلى حد كبير، لا يمكن تصويب معناه بشكل ملائم إلا بواسطة تحليل تاريخي ومؤسسي خطر جداً.

لنتساءل الآن في أية أوضاع تظهر علاقات السلطة، إنها مرئية بشكل خاص عندما يكون ثمة مجال لتنسيق النشاطات المتعددة والمتشعبة بالقوة. فنموذج تقسيم العمل الذي نستعيره من هيوم يبرز هذا الوضع: لدينا مهمة مشتركة وهي مثلاً تنظيف طريق ضيق من أشجار اقتلعتها العاصفة وأدى سقوطها إلى منع الوصول إلى الحقول المحاذية والعائدة لفلاحين جارين. إن ضم الموارد الفردية إلى بعضها، إذا افترضنا أن ذلك أكثر فاعلية من المبدأ القائل (كل واحد لنفسه والله للجميع)، يفترض في آن معاً تخصصاً في المهام التي تدخل كل واحدة منها في سلسلة الوسائل المطلوبة لتحقيق الهدف الجماعي، وتنسيقاً للجهود. فمسألة السلطة تطرح بالنسبة لهذا التنسيق. هل يأخذ التنسيق صيغة التجمع التعاقدي؟ إذا كان الأمر كذلك فإن سلسلتين من النتائج تنجم عن ذلك. الأولى تتعلق بعلاقات المشتركين فيما بينهم، وبخاصة الطريقة التي يتقاسمون بها الثمار المحتملة لتعاونهم. أما الثانية فتتعلق بالعلاقات بين المشتركين والمندوبين أو المتمثلين الذين يعينونهم عند الحاجة لقيادتهم ومراقبة الطريقة التي ينفذ بها مشروعهم. لعلاقة السلطة إذن رهانان على الأقل هما: مراقبة عملية التعاون وقسمة الفوائد التي تنجم عنه. لكن التعاون، بدل أن يكون ترابطياً يمكن أن يكون تراتبياً. حتى ولو تشكل الرهان من تقسيم الناتج الناجم عن التعاون ومن مخصصات الأشخاص والأدوار في التعاون ولم يتعلق بالموقع النسبي للمتعاونين، يمكن أن ترتدي علاقة السلطة شكلين على الأقل إما ترابطياً وإما تراتبياً. في نظام التنسيق الترابطي تأخذ السلطة شكل التعليمات والبرامج، أما في نظام التنسيق التراتبي فتأخذ شكل الأمر، يمكن للتعليمات أن تترك هامشاً من التقدير المهم للمشاركين، الذين يمكن أن يكون لهم قسط مهم في إعداد البرامج. أما الأمر فيصدر من فوق. وهو يهدف إلى إقامة تماثل دقيق بين توقعات القادة وسلوك المنفذين. يمكننا أن نضيف إلى هذين الشكلين شكلاً ثالثاً سنسميه السلطة المنافسة. لم تعد المهمة وتنظيمها النهائي هي التي تؤخذ كمعيار، إنها الرتبة أي (Pecking order) حسب الأمريكيين، ثمة منحى خاص بالعديد من علماء السياسة (لاسويل وكيلان) يقوم على معالجة السلطة كما لو أن هذه العلاقة يمكن أن تحجم إلى التشبيه أو إلى الخصومة أو إلى المواجهة. ويحصل بالفعل أننا إذا واجهتنا مهمة التعاون، التي نعتبر قواعدها القمعية جائرة أو عبثية، نفضل بالأحرى تحمل الخسائر من ترك الآخرين يربحون. ذلك هو الوضع الذي يصفه المثل الأسباني حول (كلب البستاني الذي لا يأكل ليمنع الآخرين من الأكل). هذه القدرة على الكبح أو التخريب هي سلطة الضرار. يظهر كذلك تعسفياً تحويل السلطة إلى قدرة على الضرر بدلاً من إرادة التعاون التي يضبطها مبدأ الخير العام.

أياً تكن أشكال السلطة، فإن ممارستها خاضعة لبعض الشروط التي تؤدي إلى تحديد مجال عمل الذين يملكونها. يعتبر البرلمان الإنكليزي أنه قادر على كل شيء – ما عدا بالطبع تحويل الرجل إلى امرأة – إن المغالاة أكيدة، طالما أنه بغياب دستور مكتوب، تتمتع إنكلترا بأعراف قوية إلى حد ما ومحترمة جداً تلطف المزاعم المتنافسة للسلطة المختلفة. إن الذين يسعون عبر مواردهم واستراتيجياتهم إلى تأمين مشاركة الإرادات الأخرى للتوصل إلى غاياتهم، مضطرون إلى تأسيس طموحاتهم على مبادئ عامة جداً مثل مبدأ الخير العام والإرادة العامة. يعبر المبدأ الأول عن أن أعمال الإكراه المفروضة من قبل الأقوياء لم تكن إلا (لمصلحة الذين يتحملونها. أما المبدأ الثاني فيوضح أن الموجبات أرادها أو على الأقل رضي بها الذين ارتبطوا بها، إذا تم احترام هذين المبدأين تحكم الشرعية على نفسها مسبقاً بأن هذه السلطة ليست تعسفية وبأنها لا تمارس لمصلحة الذي يقبض عليها وحسب.

يمكن إذن معالجة السلطة باعتبارها واقعة اجتماعية، أولاً، فهي لا تقتصر على القوة الجسدية، حتى ولو شكل استعمالها أو استدعاؤها أحد شروط ممارستها، فضلاً عن ذلك، أنها اجتماعية في المعنى الثلاثي، كونها تستند إلى توقعات واستراتيجيات، وكونها تهدف إلى تحقيق بعض الأغراض المشتركة، التي اشتهرت بأنها جيدة للجماعة المعنية بكاملها أو لجزء منها، وأخيراً، كونها تمارس وفقاً لأصول صريحة إلى حد ما، قواعد اللعبة التنافسية أو التعاونية.

من النادر جداً أن تكون الموارد التي تستند عليها ممارسة السلطة، جاهزة فوراً، وأن تكون دون كلفة. وعلى الأغلب تكون تعبئة الموارد سابقة لممارسة السلطة، وهذا السبق يكون أحياناً شاقاً وغير مؤكد، إن الاستراتيجي الذي ينهد إلى وضعها في العمل عليه أن يحصل مسبقاً على الامتياز أو أن يفاوض من أجله، ما عدا في حالة الاحتكار للثروات الطبيعية غير القابلة للاستبدال إطلاقاً. أو أيضاً في الوضعية الشبيهة بالعبودية التي تخيلها ماركس، حيث يستطيع مالكو وسائل الإنتاج أن يضعوا تحت رحمتهم البروليتاريين الذين لا يملكون إلا قوة العمل، تكون الموارد، التي يعتبر امتلاكها شرطاً مسبقاً لممارسة السلطة، غرضاً لصفقة، حتى ولو كانت حدود التبادل بعيدة عن الإنصاف.

إن امتلاك الموارد هو إذن موضوع خلاف، والأكثر عرضة للخلاف من بينها، هي الفكرة المسبقة الإيجابية للمنفذين وبالتحديد هؤلاء الذين ينبغي تنسيق مساهماتهم من قبل القادة. كما أن التفاوض حول الموارد (Inputs) هي فترة لا تقل أهمية عن تقاسم المنتوجات (Outputs). وبما أن هاتين المرحلتين مرتبطتان الواحدة بالأخرى عبر لعبة السوابق، ينتج عن ذلك أن علاقة السلطة يمكن أن تراقب على الأقل جزئياً. ليس فقط من قبل الذين يمارسونها، ولكن كذلك من قبل الذين تمارس عليهم. إذا قبلنا إذن أن نعتبر السلطة بمثابة كمية، على سبيل المثال باعتبارها الفاعلية الأكبر للتنظيم الجماعي بالنسبة للغايات التي حددها لنفسه، أو بشكل معاكس أيضاً باعتبارها النزوع الطبيعي البارز إلى حد ما للمجموعات والأفراد نحو التعاون، فإننا نتفق على أن هذه الكمية متغيرة، وبأن الأنظمة السياسية بالمعنى الواسع للكلمة، أي أنظمة التعاون التي تحققت من أجل تأمين مشاركة أعضاء المجموعة في تحقيق الأغراض المشتركة، لها نتائج غير متعادلة كثيراً تبعاً للطريقة التي تدفع بها الموارد والأشخاص وأدوارهم وموجباتهم.

سلطة(1)

السلطة هي التمكن و الاستئثار بالقوة والقدرة على التوجيه والإجبار نحو إتجاه معين من السلوك الاجتماعي. فالسلطة هي ثمرة القوة power والقدرة ability على الاجبار obligation بهدف توجيه سلوك الآخر.

وبهذا من الممكن وجود سلطة غير مشروعة إذا استخدم شخص او مجموعة من الأفراد ثمار قوتهم في قهر الآخرين وقسرهم على الطاعة وإجبارهم على أمر معين او سلوك ما.

والأصل ان تكون السلطة مشروعة مستندة إلى القانون الأساسي في الدولة ،وتنسحب إلى وصف قدرة احد مكونات الدولة او الدولة عامة على توجيه السلوك للمحكومين وضمان إلزامهم على ذلك واحترام قواعد المجتمع الأساسية ( الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية)

وهي كسلطة مشروعة متفق على مشروعيتها والقبول الاجتماعي على لزوم إطاعتها تنقسم السلطات في المجتمع المدني الحديث إلى ثلاث سلطات:

تشريعية.

قضائية.

تنفيذية.

كما ظهر من ثمرات المجتمعات القانونية سلطات عديدة أهمها سلطة الرأي العام والذي يمثله توجهات الشارع الشعبي ورغباته. التي قد تختلط في المفهوم مع سلطة الصحافة والاعلام

ولكون الصحافة تملك القدرة على التوجيه نحو سلوك معين تعتبر سلطة شعبية لكونها محرك للرأي العام لها وجودها جنبا إلى جنب السلطات الثلاث التقليدية.

ومن حسن الفكر ان نعطى الصحافة كسلطة إصطلاحا أكثر دقة وهو سلطة الرأي العام كمترادف لاصطلاح سلطة الصحافة ذلك أن السلطة تحمل الحصانة لأفرادها ومنتسبيها وهو الأمر الذي تفتقده الصحافة في ظل الظروف الاستثنائية والحروب ، لذلك حتى إصطلاح السلطة إذا ما أطلقناه على الصحافة يكون توجها مثاليا منا أكثر من أن يكون واقعيا.

أما علاقتها بالسلطات الثلاث بين المساواة والندية، او الحجب والتقليل من قوتها فهو أمر مختلف فيه ومحل نزاع شبه مستمر مع السلطات التقليدية في الدولة.

حول السلطة(2)

 شن مؤخرا عدد من الاشتراكيين حربا منظمة ضد ما يسمونه مبدأ السلطة. يكفي أن تقول لهم أن هذا أو ذاك الفعل سلطوي ليدينوه. لقد تم باستعجال الإفراط في صيغة هذا الإجراء لدرجة أنه أصبح من الضروري النظر للمسألة عن قرب.

تعني السلطة، بالمعنى المستعمل هنا، فرض مشيئة طرف على مشيئة طرف آخر – حيث لا تقوم السلطة إلا على التبعية. والآن، بما أن هذه الكلمات تبدو سيئة، والعلاقة التي تمثلها بغيضة للطرف الخاضع، فالسؤال هو كيفية التثبت من أن هناك أي طريقة لتجاوزها، ألا يمكننا (بناءا على الحالة الراهنة لمجتمعنا) خلق جهاز مجتمع جديد، أين لا تحصل فيه هذه السلطة على مجال آخر وتضطر بالتالي للزوال.

نجد عند فحص الحالات الاقتصادية والصناعية والفلاحية التي تشكل أساس المجتمع البرجوازي الحالي أنها تتجه أكثر فأكثر لاستبدال الأعمال المعزولة بأعمال تتطلب اشتراك الأفراد. فقد تجاوزت الصناعة الحديثة، بمصانعها وطواحنها العظيمة أين يراقب مئات من العمال آلات بخارية معقدة، ورشات المنتجين المنفصلين (المعزولين). كما تم تعويض مجرورات و عربات الطرق المعبدة بقطارات السكك الحديدية، تماما مثلما تم تعويض السفن الشراعية الصغيرة بأخرى بخارية. وحتى الفلاحة تتجه هي الأخرى نحو السقوط بين براثن الآلة البخارية التي تركز ببطء لكن بثبات مكان صغار الملاك كبار الرأسماليين الذين بمساعدة العمال المأجورين يحصدون أراضي بالغة الامتداد.

في كل مكان، تزيح الأعمال المشتركة (combined action) – تعقيدات مراحل معينة تخضع الواحدة منها للأخرى وتتبعها – الأعمال التي ينفذها الأفراد. لكن إذا ما أشار أي شخص إلى الأعمال المشتركة فلا بد أن يتحدث أيضا عن التنظيم (organisation). فالسؤال الآن هو هل من الممكن أن يوجد تنظيم بدون سلطة.

لنفترض أنه تم خلال ثورة اجتماعية ما خلع الرأسماليين. من سيتحكم الآن في السلطة على الإنتاج وحركة الثروة (circulation of wealth). لنفترض – إذا ما تبنينا نظرة اللاسلطويين (anti-authoritarians) كاملة – أن الأرض ومعدات العمل أصبحت الملكية المشتركة للعمال الذين يستعملونها، هل ستزول السلطة أم أنها فقط ستغير من شكلها ؟ لنرى ذلك.

لنأخذ على سبيل المثال طاحونة غزل القطن. يجب على القطن أن يمر بست مراحل متتالية على الأقل قبل أن يتحول إلى حالة الخيط. وتقع هذه العمليات في أغلبها في غرف مختلفة. إلى جانب ذلك فمراقبة الآلات تتطلب مهندسا يسهر على المحرك البخاري وميكانيكي يقوم بالإصلاحات المطلوبة و عمال آخرون يتمثل عملهم في نقل المنتوج من غرفة لأخرى وهكذا دواليك. يجبر كل هؤلاء العمال من رجال ونساء وأطفال على أن يبدؤوا وأن ينهوا عملهم في ساعات تحددها سلطة البخار التي لا تراعي أي استقلالية للأفراد. فيتوجب بالتالي على العمال أولا الاتفاق حول ساعات العمل و الالتزام بها حال تحديدها من طرف الجميع بلا استثناء. بعد ذلك تـُطرح أسئلة محدد في كل غرفة وفي كل لحظة بخصوص أسلوب الإنتاج وتوزيع المعدات الخ. وهذا يتوجب حلا من خلال قرار من طرف مندوب يوضع على رأس كل شعبة عمل أو إن كان ذلك بالإمكان عبر انتخاب الأغلبية. وبالتالي فعلى مشيئة الفرد الواحد أن تخضع دائما. هذا يعني أنه تم حل هذه المسائل بطريقة سلطوية. إن آلات المصنع الضخم الأوتوماتيكية أصبحت أكثر تسلطا مما كان عليه الرأسماليين الصغار الذين يشغلون العمال. على الأقل من ناحية ساعات العمل المكتوبة على بوابات هذه المصانع Lasciate ogni autonomia، voi che entrate (تخلى يا من تدخل هنا عن كل استقلالية !)

إذا ما كان الإنسان قد تمكن بفضل معارفه وعبقريته الخلاقة إلى إخضاع قوى الطبيعة فهذه الأخيرة قد تمكنت من الثأر لنفسها منه بإخضاعه في حدود استغلاله لها لاستبداد حقيقي مستقل عن كل تنظيم اجتماعي. إن الرغبة في إلغاء السلطة في الصناعات الثقيلة مساو للرغبة في إلغاء الصناعة نفسها: تدمير المنسج الآلي (power loom) للعودة إلى العجلة الغازلة (spinning wheel).

لنأخذ مثالا آخر: السكة الحديدية. فهنا أيضا من الضروري للغاية تشارك عدد لانهائي من الأفراد. ويجب تنفيذ الأعمال المشتركة هذه خلال ساعات محددة بدقة كي لا تقع أي حوادث. هنا أيضا يكون أول شرط للعمل مشيئة (قوة) مسيطرة والتي تحل كل المشاكل الناتجة في العمل. وسوى مثل هذه المشيئة مندوب واحد أو لجنة مكلفة بتنفيذ مشيئة الأغلبية المعنية بالمسألة فهناك في كلتا الحالتين سلطة صريحة. إلى جانب ذلك ما الذي يمكن أن يقع لأول قطار منطلق إذا ما تم إلغاء سلطة عمال السكة الحديدية على المسافرين ؟

لكن ضرورة السلطة والسلطة الآمرة لا يمكن أن تبرز أكثر مثل سفينة في عرض البحر. هناك، عند الخطر، تتوقف حياة الجميع على طاعة الكل الفورية و المطلقة لمشيئة الفرد الواحد.

عندما طرحت مثل هذه الحجج على أكثر اللاسلطويين تزمتا لم يكن بإمكانهم أن يقدموا أكثر من هذا كجواب: نعم، ذلك صحيح لكن هناك هي ليست حالة سلطة نتباحثها مع مؤتمرينا بل هي حالة لجنة مؤتمنة ! يعتقد هؤلاء السادة أنهم باستبدالهم أسماء الأشياء قد استبدلوا الأشياء ذاتها. هكذا يسخر هؤلاء المفكرون العباقرة من العالم كله.

إذن لقد استعرضنا من جهة سلطة معينة بغض النظر عن تفويضيتها ومن جهة أخرى خضوع معين. هذان أمران مفروضان علينا بقطع النظر عن كل تنظيم إجتماعي. وهما مفروضان علينا مع جملة الأوضاع المادية التي ننتج و نحرك عملية الإنتاج داخلها.

و لقد رأينا إلى جانب ذلك أن الحالات المادية للإنتاج والدورة الإنتاجية تتطوران بصفة حتمية مع تطور الصناعات الثقيلة والزراعات واسعة النطاق وتنزعان تدريجيا إلى توسيع مجال هذه السلطة. من هنا فمن السخيف التحدث عن مبدأ السلطة على أنه شر مطلق وعلى مبدأ الإستقلالية الفردية على أنه خير مطلق. السلطة والإستقلالية شيئان نسبيان حيث يختلف مجالهما باختلاف مراحل تطور المجتمع. إذا ما اكتفى الاستقلالييون (autonomists) بالقول أن التنظيم الاجتماعي في المستقبل سيحد السلطة فقط عند الحدود التي تكون فيها ظروف الإنتاج حتمية فهنا يمكننا أن نتفق لكنهم تعاموا عن الحقائق التي تجعل الأشياء ضرورية وحاربوا العالم بكل حماس.

لماذا لا يكتفي اللاسلطوييون بالتنديد بالسلطة السياسية: الدولة ؟ يتفق كل الاشتراكيون على أن الدولة السياسية ومعها السلطة السياسية ستختفيان نتيجة الثورة الاجتماعية القادمة. هذا يعني أن تفقد الوظائف العامة طابعها السياسي وتتحول إلى الوظائف الإدارية البسيطة المتمثلة في مراقبة المصالح الحقيقية للمجتمع. لكن اللاسلطويين يطالبون بإلغاء الدولة السياسية في ضربة خاطفة قبل حتى أن يتم تدمير الأوضاع الاجتماعية التي أوجدتها.

إنهم يطالبون بأن يكون إلغاء السلطة أول عمل للثورة الاجتماعية. هل يا ترى شهد هؤلاء السادة أي ثورة ؟ الثورة هي بالتأكيد أكثر الأمور سلطوية؛ إنها الفعل الذي يفرض من خلاله قسم من الشعب مشيئته على القسم الآخر بواسطة البنادق والعصي والمدافع أي بوسائل سلطوية. وإذا أراد الطرف المنتصر أن لا يذهب قتاله سدى فعليه أن يحافظ على حكمه بأساليب ترهيبية بأسلحته تردع الرجعيين. أكانت كمونة باريس لتبقى ليوم واحد لو لم يستعمل الشعب المسلح هذه السلطة ضد البرجوازية ؟ ألا يجب علينا على العكس أن نلومهم على عدم استعمالها بأكثر حرية ؟

إذن فهناك أمران لا ثالث لهما: إما أن اللاسلطويين يتحدثون عن أشياء يجهلونها. في هذه الحالة فهم لا يضيفون شيئا إلا البلبلة. أو أنهم يعرفون. وفي هذه الحالة فهم يخونون حركة البروليتاريا. في كلتا الحالتين فهم يستحقون ردة الفعل المضادة.

تداول السلطة في الوطن العربي(3)

 أين يقع تداول السلطة وفق المعايير والضمانات المعتبرة لتداول السلطة على أساس تنافس سلمي؟ علام يؤشر المسار التاريخي لانتقال السلطة في الوطن العربي؟

هل يعطي واقع الحكم وآليات عمله فرصة لتداول السلطة وإتاحتها للمواطنين على نحو عادل

قائم على تساوي الفرص؟ أم ماذا؟ ما دور البرلمان في تحقيق تداول السلطة وما مدى مرجعيته وتأثيره في اختيار الحكومات وتغييرها؟ كيف تنظم الدساتير العربية – إن وجدت – انتقال السلطة وتداولها وما مدى الالتزام بالدستور وتطبيقه؟ ما الذي تقدمه الأحزاب العربية القائمة علنا والتي تعمل سرا لتفعيل الحياة السياسية على أساس التداول والتنافس السلمي؟ وما قيمة التعددية الحزبية والسياسية القائمة في بعض الأقطار العربية؟ ما هو حال فصل السلطات في الدستور والتطبيق باعتبار ذلك ضمانة للانتصاف من السلطة التنفيذية ومنع تغولها على السلطات الأخرى والحقوق العامة؟

تمثل السلطة واحدة من أهم القضايا التي شغلت الناس والجماعات والنخب والقادة باعتبارها أحد مداخل الإصلاح والتغيير، وكان الوصول إلى السلطة وسيلة معلنة للإصلاح والعدل ومبرر النزاع والحروب والصراعات بين الدول والأسر والجماعات، ويبدو أن العمل السياسي والإصلاحي العربي لم يشتغل كثيرا بآليات تنظيم انتقال السلطة وتداولها على أساس سلمي وعادل ويعطي الفرصة لجميع الناس بالتساوي في التنافس على السلطة واختيار الحاكم.

ويقدم تاريخ انتقال السلطة في الوطن العربي مجموعة من المؤشرات، أهمها:

هناك انفصال مبكر في التاريخ الإسلامي بين الفكرة والواقع في ما يخص مسألة تداول السلطة، فبقدر صفاء وشفافية الفكرة في جانبها النظري، نجد أن التطبيقات قد اختلفت عنها وكررت نماذج إنسانية سابقة من انحصار السلطة في يد عوائل لا تمثل سواد الأمة

أولاً: غلبة حكم الأسر والعائلات التي كانت تتولى السلطة وينتقل الحكم فيها إلى الأبناء والأخوة والأقارب، والملفت أن الدولة الإسلامية بدأت بنموذج متقدم في اختيار الحاكم قائم على الشورى ولا يأخذ بالوراثة، وكان يمكن لهذا النموذج أن يغني التجربة الإنسانية في الحكم ويطورها لو أنه استمر، ولكنه توقف بعد ثلاثين سنة وتطبيقه على أربعة خلفاء (الخلفاء الراشدون) ثم دخلت الدولة الإسلامية في مرحلة من حكم العائلات لم تتوقف، والواقع أن النظام الوراثي في الحكم هو المتبع في المجتمعات الإنسانية كلها تقريبا، ولكن الدول الأوروبية طورت أنظمة الحكم فيها في القرنين الأخيرين تقريبا إلى أنظمة يقوم اختيار الحاكم فيها على أساس الانتخاب، وفي الدول التي اختارت الاستمرار في أنظمة الحكم الملكية تم الفصل بين الملك والحكم، فالملك يترأس السلطات ويشرف عليها ولكن الناس ينتخبون النواب الذين يحددون الحكومة حسب نتائج الانتخابات التي تتنافس فيها قوائم وأحزاب سياسية.

ثانياً: خريطة السلطة القائمة في الوطن العربي منذ قيام الدول الحديثة تشير إلى استمرار الوضع في الوطن العربي كما هو دون تغيير، وفي الدول التي استبدلت النظام الجمهوري بالملكي لم يتغير الوضع فيها كثيرا، وتحولت من حكم العائلات إلى حكم الأفراد الذين ربما يؤسسون لحكم عائلي.

ثالثاً: ومن أهم ملامح خريطة السلطة العربية الانقلابات العسكرية التي اجتاحت الوطن العربي في أواخر الأربعينات ولازمته في الخمسينات والستينات، ولكنها بدأت تتراجع منذ السبعينات حتى كادت تنتهي أو انتهت بالفعل، وقد غيرت هذه الانقلابات من طبيعة وتركيبة الحكم والسلطة في كثير من البلاد العربية مثل سورية ومصر والعراق وليبيا والسودان وأدت إلى تغييرات عميقة اجتماعية وسياسية واقتصادية.

رابعاًً: وبالرغم من أن مفهوم تداول السلطة في التشريعات العربية قد نص عليه في غالبها وحُددت لمؤسسات الحكم مدد قانونية تنتهي بانقضائها إلا أن التطبيقات استمرت تنقص من قيمة تلك التشريعات، إذا غيرت أغلب الدول العربية دساتيرها أو علقتها أو عدلت مواد الحكم فيها بما يخدم توجهات القوى المسيطرة على الحكم. كما توجد دول عربية أخرى لم تضع لها دساتيرا حتى الآن.

لا تتفق التشريعات العربية التي تنص غالبيتها على مبدأ التداول السلمي للسلطة مع تطبيقات أكثر الأنظمة العربية التي تسعى بوسائل كثيرة للبقاء في الحكم من أبرزها التعديلات الدستورية والتلاعب بنتائج الانتخابات

خامساً: وبرغم أنه تجري انتخابات نيابية في كثير من الدول العربية أو معظمها فإن الحياة النيابية العربية لم ترق إلى التأثير في تداول السلطة، ومازال دورها يقتصر على الرقابة والتشريع وتقديم المشورة والرأي، وهي وإن كانت بوضعها الحالي تساهم في تطوير الحياة السياسية وحفظ الحقوق العامة، والرقابة على الحكومات، فإنها لم تكن مرجعية لتداول السلطة كما يفترض أن يكون، والغريب أن التجارب القليلة التي كانت الانتخابات البرلمانية فيها هي المرجعية في اختيار الحكومة هي حالات تاريخية قديمة، وتبدو الانتخابات النيابية تتطور باتجاه احتكار السلطة والنفوذ وتعزيز الفردية والعسكرية بزينة برلمانية، وكان المسار البرلماني عكس ما يفترض إذ بدلا من أن تتطور الحياة السياسية نحو التعددية والتداول السلمي فإنها اتجهت إلى الفردية، ولكن المغرب قدم حالة استثنائية عندما كلف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني رئيس الحرب الاشتراكي (المعارض تاريخيا) عبد الرحمن يوسفي تشكيل الحكومة المغربية، وذلك بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت وحقق فيها الحزب أغلبية نسبية.

سادساً: والأحزاب السياسية تؤشر في قيامها ونشاطها وتنافسها على تداول السلطة والتأثير فيها ويمكن الحديث عن تعددية سياسية في الوطن العربي في كثير من أقطاره، وهي تعددية وإن كانت لم تقدم للحياة السياسية فرص التنافس والتداول سوى حالات قليلة في السودان في فترة من الوقت والمغرب في تجربة واحدة هي الحكومة القائمة حاليا، وفي الأردن عام 1956 لمرة واحدة فقط ومدة زمنية لا تتجاوز السنة الواحدة، وفي مصر قبل عام 1952.

ولكن في عدة دول عربية الأحزاب السياسية قائمة، وتعمل بشكل علني وتشارك في الانتخابات العامة، وهي وإن كانت محدودة التأثير تؤشر على حياة سياسية تملك قدرا من التنافس لا يكفي للتداول ولا تملك هذه الأحزاب الحرية والشروط العادلة التي تتيح الحصول على الأغلبية لأي منافس، والأحزاب القادرة على المنافسة والتأثير وإحراز أغلبية لا يتاح لها العمل أو يحال بينها وبين الحصول على حصتها العادلة في الانتخابات.

تمت في السنوات الأخيرة عمليات توريث للسلطة في أكثر من دولة وراثية، ولكن المستغرب ما تم في دول تتبنى النظام الجمهوري من توريث الحكم للأبناء وهو ما بات حديثا مشاعا في مجموعة من الدول الأخرى

سابعاً: وعند الحديث عن مستقبل تداول السلطة في الوطن العربي والمشكلات والمعوقات التي تمنع قيام ديمقراطية حقيقية تفسح المجال للمواطنين اختيار حكامهم وممثليهم ومحاسبتهم أسوة بمعظم شعوب العالم ومجتمعاته حتى تلك الفقيرة والحديثة التكوين فإن تساؤلا بديهيا يثار عن موقف الإسلام من التعددية السياسية والحريات وتداول السلطة وتنظيم انتقالها على أساس عادل وسلمي، ويبدو الأمر كما في دراسة المفكر الإسلامي راشد الغنوشي حول مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام أن الإسلام يفعّل التعددية السياسية ويدعو إلى المشاركة والعدل والمساواة بما يعني ذلك من حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم، فالإسلام ليس سببا أو أحد الأسباب الثقافية والفكرية لتكريس الاستبداد واحتكار السلطة والنفوذ، فأين الخلل؟ وهل تفتقر الثقافة السياسية العربية إلى القيم والمبادئ الديمقراطية فتكون المشاركة والتعددية مطلبا غير ضروري أو ملح لدى الجماهير العربية، أو هي مجرد هواية تشبه تربية الطيور وجمع الطوابع والتحف الجميلة، أو هي أولوية بمرتبة حماية الزهور والطيور النادرة التي يخشى عليها من الانقراض، أو ما سوى ذلك من الهوايات والمشروعات الأنيقة والمعزولة، أم أن الواقع العربي الذي كونته قرون طويلة من التسلط والاستبداد أفرز تنشئة سياسية واجتماعية تكرس لدى العرب السلبية والامتثال للواقع؟

وحتى لا نظلم الخريطة السياسية العربية فيجب ملاحظة أن قدرا من الانفتاح والهوامش الديمقراطية تحققت منذ التسعينيات، فقد جرت انتخابات نيابية وأطلقت الحياة السياسية في معظم الدول العربية، وهي تحولات وإن كانت إيجابية فإنها لا تعد شيئا بالنسبة لما تحق في أوروبا الشرقية وروسيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول أفريقيا. 

تحول السلطة(4)

 محور هذا الكتاب معادلة فكرية(يعتبرها المؤلف سحرية)ملخصها: "أن من يملك المعلومات يملك العالم". وفد صدرت ترجمتان عربيتان لهذا الكتاب.الأولى صدرت العام 1991 عن إتحاد الكتاب العرب بدمشق وترجمها الأستاذان حافظ الجمالي وأسعد صقر, والثانية صدرت في مصر , وترجمتها الأستاذة لبنى الريدي.والمؤسف أن هذا الكتاب يصل إلى القارئ العربي بعد مضي أكثر من عشر سنوات على صدوره. والمفارقة أنه يعنى بالمستقبليات , وبالتالي فإن التأخر في الإطلاع عليه يقلل من أهميته خصوصا بعد صدور كتاب جديد  للمؤلف صدر العام 1994 تحت عنوان: "نحو بناء حضارة جديد- سياسات الموجة الثالثة" والذي تعتبر طروحاته تطويرا للطروحات المستقبلية التي يضمها هذا الكتاب. لذلك فإننا سنلتزم في هذا العرض , الطروحات المتكررة في ذلك الكتاب الجديد الذي عرضها بصورة أكثر تركيزا.

   بداية يهمني التوقف عند مقدمة الترجمة السورية للكتاب , وفيها إشارة إلى الكتب السابقة للمؤلف مثل:"خرائط المستقبل" و"صدمة المستقبل" و "الموجة الثالثة". الذي ترجمه أحد المثقفين الليبيين.لكن المترجمين لم يتمكنوا من الحصول على هذه الترجمة(مرة أخرى تطرح هنا مسألة سوء الإتصال و التوزيع)... ثم يشبه المترجمان رؤية تولفر بالرؤية الماركسية , فيعرضان نقاط الإلتقاء والإختلاف بين الرؤيتين. أول وجوه التشابه تلك الربطة بين التغيير الإقتصادي وبين تغير شكل السلطة (أو تحولها كردة فعل للإقتصادي).أما الإختلاف فيتجلى بإعتبار ماركس المادي (قوى الإنتاج-عوامل الإنتاج), في مقابل إعتماد تولفر الإعتبار العقلي(يعطي للفرد قيمة منفردة تخرجه من مفهوم أداة إنتاجية). لكن الخلاف الأعمق هو في النظرة الإنتربولوجية.في حين يتكلم ماركس عن"المشاعية البدائية" نجد تولبر توفلر يتكلم عن عصور حضارية. إذ يعمل عصر الصيد (بدائي) ويبدأ في عصر الزراعة (الحضارة الأولى) , ثم عصر الصناعة الصغيرة(الحضارة الثانية) , يليها عصر الصناعات الكبيرة(الحضارة الثانية المتطورة).أما الحضارة الثالثة فهي عصر المعلومات الذي بدأ منذ فترة غير وجيزة(هناك خلاف على تحديد خطة مولده) , والذي يحمل معه تغيرات يكرس المؤلف جهوده للتنبؤ بها , وبإتجاهات التغيير التي تحماه معها.

   وفي نهاية المقدمة يتسائل المترجمان عن إمكانية إيصال مثل هذه الترجمات الضرورية (حاجة الإنسان العربي للإطلاع على مجريات التفكير المستقبلي, الذي يساعده على التموقع في عالم المستقبل), وعن إمكانية إنشاء الدار الموحدة (العربية للترجمة), ثم يعودان للتساؤل : أليس هناك أكثر من مترجم عربي سيكرر عملنا هذا (ترجمة الكتاب) بصورة عفوية ؟.

    وتأتي الإجابة عن هذا التساؤل بعد بضع سنوات إذ تقوم الأستاة الريدي بترجمة الكتاب مجددا. وهي قد تكون سمعت بترجمة إتحاد الكتاب دون أن تستطيع الحصول على نسخة منها؟!.

  بالإنتقال إلى محتويات الكتاب , نجد أنه يطرح إشكاليات عميقة لبغور في الفكر السياسي , المرشح للإعتماد في حكم العالم خلال القرن المقبل . فالقرار يجب أن  يكون مسؤولية مالكي المعلومات ,لأن هذه الملكية تتيح لهم إتخاذ القرارات الصحيحة . وهذا يعني إبعاد الجماهير (التي تعجز عادة من ملكية مقدار كاف من المعلومات) , عن تأثير القرار . لذلك يعتبر المؤلف أن إحدى سخريات التاريخ تمكن في أنه بينما يطمح المواطنون بشغف إلى إستكمال ملكيتهم للحرية , فإن ديموقراطيات الغرب واليابان في طريقها نحو إنهاء عصر ديموقراطية الجماهير. مما يوقع هذه الديموقراطيات في أزمات داخلية طاحنة.

   ويستعرض المؤلف نماذج من هذه الأسئلة الداخلية , فيرى قدرتها على إصابة المجتمع بالتفكك. ذلك أن تقنية المعلومات-الإتصال تستطيع أن تعتمد شرائح إجتماعية بعينها , تاركة الشرائح الأخرى لحملة معلومات آخرين ,بحيث تفقد الجماهير تجانسها , وتتحول إلى جماعات غير متجانسة.

   ويشير المؤلف إلى أن بإستطاعة المصالح الأجنبية إستغلال هذه الناحية , عن طريق إمداد جماعة صغيرة دينية أو عرقية بالمال أو بأي صور المساندة , بحيث يتضخم تأثير هذه الجماعة بصورة هائلة.

      وهذه الإشارة تدفعنا للتساؤل عن إثارة مشكلة الأقليات في الوطن العربي , وعن الجهات الخارجية التي تعطيها الإمدادات والقدرة على التأثير. بل أن هذه الإشارة تدل على إتباع بعض الدول الأجنبية لمثل هذه الدراسة-وللمستقبليات عموما-كأساس للتعاما مع الدول الأخرى-خصوصا العالم الثالث-ولإختبار مدى الفعالية الإجرائية لهذه النظرية المستقبلية أو تلك ؟.

  في المقابل يطرح السؤال, هل نجت الدول الكبرى من عدم تجانس مجموعاتها ؟. والجواب هو لا بالطبع , لأن العالم يسير في هذا الإتجاه. ومن الأمثلة على ذلك نذكر حوادث لوس أنجلوس , والحركات الميليشياوية للبيض الأمريكيين , وكذلك سعي الشمال –الإيطاليين للإنفصال...الخ.

    كما يطرح المؤلف إشكالية حكم الحكومة الخفية , ويعطي مثالا عليها تغير الرؤساء الأمريكيين مع بقاء الحكومة الخفية(يصفها بأنها هي التي تخلصت من الرئيس كينيدي عندما حاول تخطيها) , ثم يعود ليؤكد أن الحزب الفائز (مهما تعددت الأحزاب) هو الذي يشكل الحكومة الخفية التي تتحكم بالرئيس , أو بالزعيم مهما كانت قوة شعبيته. لكن إنتشار المعلومات وسرعة هذا الإنتشار , ستجعل من الصعب على القادة السياسيين أن يمنعوا تسرب المعلومات إلى الجمهور , وكذلك سيصعب عليهم معرفة حقيقة المعلومات الواردة إليهم من مصادر وفي بيانات مختلفة. لذلك إتجهت لعبة المعلومات بإتجاه خفض المعلومات المصنفة سرية , واللعب بمهارة على تسريب ما هو مناسب من هذه المعلومات , وهذه المهارة هي التي تحدد نجاح القادة. كما يشير المؤلف إلى لعبة معلومات أخرى , مفادها حجب المرؤسين لبعض المعلومات عن رئيسهم , حتى يتاح له الدفاع عن نفسه (بأنه يجهلها) إذا ما ساءت الأمور.

     ولتأكيد أهمية المعلومات في عالم اليوم , يشير المؤلف إلى أن القادة قد لا يستعملون الكومبيوتر بشكل شخصي , ولكنهم في المقابل يتخذون قراراتهم بناء على معلومات وتقارير تمت معالجتها بالكومبيوتر من قبل متخصصين. وهو لا يهمل الإشارة إلى إمكانية توجيهها نحو نتائج متناقضة. وهو يسمي هذا الختلاف ب"حرب المعلومات". وفي هذا الإطار يشبه المعلومات , التي تصل إلى القادة بالنور الذي يمر في متاهة من المرايا المحرفة. وهي متاهة من شأنها أن تحدد إنقلاب الصورة أو إنعكاسها أو حتى تشويهها. من هنا حاجة الجميع إلى المعلومة الأصلية , وإزدياد مكالبة الجماهير بالشفافية , وضمان تسهيل حرية وصولها للمعلومات.

     ويتنبأ المؤلف بإزدياد أهمية الجاسوسية في عصر المعلومات المقبل , لكنه يرى حاجتها للتطوير خصوصا بإتجاه التجسس الإقتصادي الذي إزداد أهمية بعد نهاية الحرب الباردة. ويعطي الأمثلة على تورط عدد من الشركات العملاقة الأمريكية في تأمين الغطاء لجواسيس المخابرات الأمريكية , في البلاد التي تعمل فيها هذه الشركات.

    بل أن المؤلف يذكر حكاية ذات مغزى خاص , فيروي قصة وكالة مخابرات خاصة تمكنت من جمع معلومات تتنبأ بإغتيال الرئيس السادات قبل عشرة أشهر من إغتياله. كما تنبأت هذه الوكالة بنشوب الحرب العراقية الإيرانية قبل نشوبها بتسعة أشهر.

     ومع تطور إمكانات رصد المعلومات وإيصالها الفوري , فإن المسألة لن تكون مسألة الحصول على المعلومات بقدر ما هي مسألة قدرة على قراءة هذه المعلومات وتحليلها تحليلا صحيحا. وأهمية القراءة الصحيحة ستعطي للعقل وللقدرات الفردية-العقلية أهميتها في عصر المعلومات المقبل. فهل تصح النبوءة بأن من يملك المعلومات يملك العالم ؟.

السلطة والمجتمع: علاقة رمادية بين الواقع وأحلام الظهيرة(5)

من يسبق من؟! الدولة أم المجتمع. فيما يتعلق بمسألة النشوء والحضور والتكوين؟ الاجابة هنا قد لا تثير التساؤل والتحفظ وانما قد تحفز على فهم العلاقة ما بين عنصرين متداخلين ومتجاذبين، فإن كان المجتمع هو من يُنشيء الدولة، فإن الأخيرة هي المسؤولة عن تنميته وتطويره بما يتواءم مع المعطيات في ظل الممكن والمعقول.

على ان ذلك ينقلنا ـ بالضرورة ـ الى توصيف هذه العلاقة المثيرة للجدل عبر مراحل التاريخ المتشابكة، وهي قد تبدو في حالة من التحول والسيرورة، وتنتظم في تشكلات وابعاد، لا تلبث ان تتحدد ملامحها من خلال الآلية التي تضبط مفهومية هذه العلاقة.

ورغم ما يكتنف تضاريسها من ارتفاعات واعماق ومساحات تبلور مفهوم التغير والتحول، الا ان ثمة عنصراً ثابتاً يحكم هذه العلاقة ويؤسسها حيث يتمثل في «المنتج» و «المنظم» بمعنى ان العلاقة التركيبية لهما تنطلق من «وعاء مجتمعي» منتج لاشكال التواصل والتبادل، و «هيئة» تقوم على تنظيم وضبط هذه الاشكال من العلاقات البشرية. ووفقاً لهذه الصيغة، فإن ثمة ادواراً يضطلع بها كل منهما، وان كانت غير محددة المعالم بشكل أزلي، الا انها تظل ضمن معادلة مرنة تتأثر بالمحيط والراهن من المتغيرات والظروف، وكأنها تعبر عن ديناميكية «اجتماع سياسي» ، تتفاعل مع بعضها البعض بهدف الوصول الى منظومة تتسق فيها العناصر وتتحد فيها العلاقة بين «الثابت» و «المتحول» . غير ان المقام هنا، ليس تحليلاً معرفياً لهكذا علاقة، بقدر ما أنه طرح ينزع الى اثارة دور كل من «الوعاء» و «الهيئة» أي الدولة والمجتمع، ولعل التشريح الذاتي الذي كنت قد كتبته هنا من قبل حول مأزق الذات العربية ومعاناتها، يحتم عليَّ تناول أبعاد المعضلة، وطرح اسئلة دون ان أزعم الاحاطة بها، سبراً واجابة، بل انني سأكتفي في هذا الحيز بالتقاط بعض محاور واشارات وهي بمثابة بحث عن العلل، ووقوف على الخلل، ومهما يكن من أمر، فإن ثمة تساؤلات تبحث عن ذاتها في ظل تلك المحاور والاشارات، لان المنطق يرى ان كل اجابة ناقصة ما هي إلا مساحة لولادة سؤال جديد، ومتى ما ظلت الاجابات غير مقنعة، فإن التساؤلات تبقى عالقة في الذهن.

وعند الحديث عن تلك العلاقة بين الدولة والمجتمع في عالمنا العربي تحديداً فإنه ليس من جديد في القول، بأن ثمة اسئلة حارقة ما زالت عالقة بالتأكيد في الذهن، وستبقى على وضعيتها هذه طالما كانت اجاباتها منقوصة ومشوشة في آن واحد.

ولعل الواقع الراهن، وهو افراز لما سبق من أيام وارهاص للقادم منها، يكشف حقيقة الاشكالية الدائمة بين «الوعاء» و «الهيئة» أو المنتج والمنظم، التي ادت الى تشكيل صورة تتمثل في مجتمعات عربية ضعيفة ومنقسمة ومتخلفة، وحين المواجهة وطرح السؤال، فإن تلك المجتمعات «الغالب منها» وحكوماتها، تعزو ذلك الى السبب الخارجي أياً كان مصدره «مفهوم المؤامرة» ، وبدلاً من الشفافية ومواجهة الذات بشكل موضوعي وواقعي، تجدها تكرس مفهوم «تضخم الانا» فيدعون انهم منبع الحضارات دون النزول الى أرض الواقع حيث الحقائق الناصعة. بيد ان الكارثة لا تكمن في المكابرة فحسب، بل في صراع يعيشه الانسان العربي بين «تضخم الانا» و «واقع مرير محبط» ، لا يلبث ان يدفعه الى حالة متلونة انفصامية بين نزق وقلق داخلي، واحلام نوستالجية موغلة في الخيالات والمثل.

غير ان لب المشكلة لا يكمن في المواطن العربي ذاته، بقدر ما انه نتيجة لاسبابها، بمعنى آخر انه ضحية لظروفه وللمعطيات المحيطة به، وهي عوامل لا يمكن الاستهانة بها، فهي بمثابة العلل ـ كما قلنا آنفاً ـ التي ربما تقودنا الى اجابات مقنعة، لكي نفهم نزوع شعوبنا الى الاستسلام والسلبية فضلاً عن نمطها المحكوم بالجاهزية والقصور وتغليب العاطفة على العقل أو كما وصفها احدهم بأنها مجتمعات مسايرة وانفعالية وتحمل دائماً القدر والظروف مسؤولية الاخطاء، ناهيك عن ثقافتها السطحية واللفظية، ولعل وصف القصيبي بأن العرب ظاهرة صوتية من أدق التعابير التحليلية ان جاز التعبير لوصف سلوك المواطن العربي اليومي المعاش حيث الصراخ بصوت عال وبقدر من التشنج والعصبية والتلويح بالأيدي، وحين تحاوره تجده لا ينفك في ابداء الانفعال والسخط ورفض ما تقوله حتى قبل ان يستمع الى طرحك، فالاصغاء كلمة نادرة في قاموسنا اليومي.

هذه السلوكيات، للأسف، واقع بات ملموساً ومشاهداً، وتفضح بشكل جلي ان العلاقة ما بين «الدولة» و «المجتمع» يشوبها الكثير من الريبة والاختناق والحاجز الذي يتمخض عنه فقدان الثقة والنفاق والازدراء والسخرية والاستخفاف.

نعم.. السلطة السياسية تمارس نهجاً أحادياً على شعبها، الأمر الذي خلق مناخاً استعمارياً واستعبادياً ان جاز التعبير، كان وما زال ضحيته المجتمع، لذا تجد ان مفردات هذه السلطة أو تلك في عالمنا العربي، تتمثل في السلطوية والاستبداد والديكتاتورية والاوتوقراطية، ويبدو أنه على مر الازمنة، بات هذا المناخ مألوفا لدرجة انه صار من النسيج المجتمعي، رغم ان ضحايا السياسة عادة ما يكونون هم الشعوب وهذه «السياسة» قال عنها الشيخ محمد عبده «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس» وكان محقا ايضاً من قال ان كل شيء في الفكر العربي الحديث يبدأ وينتهي بالسلطة السياسية.

يقول الباحث تركي الحمد «كي تحدث المجتمع، لا بد من السلطة، كي تحقق التنوير والنهضة والتنمية والاستقلال والحوار مع الآخر او مقارعته، والديمقراطية والعدالة والمساواة، لا بد من السلطة «السياسية».

بطبيعة الحال، قد تكون السلطة السياسية منتجة وفعالة ووسيلة بناء لا هدم، ولكن في حالتنا العربية فإنها تنتمي الى فضاء الاوتوقراطية.

وهذا يعني، في ما يعني إلغاء لمفاهيم الديمقراطية من مشاركة سياسية وتعددية واحترام حقوق الانسان، وعندما يستند «قرار الفرد» إلى جذور منبتها القبيلة والطائفة والمناطقية والشللية وما إلى ذلك من مصطلحات، فإن النتيجة تقويض لدعائم علاقة طبيعية ما بين «الوعاء» و«الهيئة» وما دام «المنظم» ينزع الى السلطوية، فإنه من الطبيعي ان يرتهن «المنتج» الى كل ضروب الذل والهوان والخنوع فضلاً عن الاستسلام والسلبية.

والحقيقة انه عند افتقاد الشجاعة الادبية في نقد ومواجهة «التابو» و«المسكوت عنه» ، فإنه من الصعوبة بمكان ان نقف امام هيمنة «السلطة والعادات» على ان التوصيف اعلاه لا يفي الموضوع حقه، اذ ان القضية شائكة والعلاقة متداخلة بطبيعتها ومبثوثة في بعضها بهذا المقدار او ذاك، غير ان ما يهمنا هنا استخلاصات أولية لموضوع معقد لم يلبث ان شكل صورة نمطية لمجتمع ما زال مرتهنا لتأثير السلطوية في نسيجه وتوجهاته. صفوة القول ان تلك الاسباب تمثل عائقاً امام بناء المجتمع وتحديثه ومن الطبيعي ان تتم تعرية تلك العوامل حتى نستطيع ان نعرف العلاج، وان كان الاعتراف منا ان التنظير يبدو سهلا مقارنة بالتطبيق، الا ان القضية ما زالت تمثل الهاجس المسيطر على شعوبنا، متسائلة عن الوقت الذي يأتي لتخرج من حالتها الانفصامية، غير ان الكثيرين يرون ان الحل الناجع لا ينبعث من الحيز السياسي وتنظيماته، بل من الفضاء المدني ومجتمعه وجمعياته، وفي هذا الكثير من الصحة، لان المجتمع المدني بآليته وطبيعته سيخلق حالة من التناغم بين «الوعاء» و «الهيئة» او الدولة والمجتمع وستفرز ديناميكية تتفاعل مع بعضها بعضا للوصول إلى تلك المنظومة ذات المعادلة المرنة، ولذلك تبدو هذه الظاهرة «المجتمع المدني» والموجودة منذ زمن بعيد، والتي تنمو الآن بشكل مذهل بسبب العولمة، مطلبا رائجا وحلا ناجعا لتجديد روح المجتمعات كما يرى البعض.

غير انني اعتقد ان المغالاة في هذا التوجه لن تحقق التوازن المطلوب، وستطفو الاشكالية على السطح من جديد ما بين «الوعاء» و«الهيئة» وبالتالي ندور في تلك الحلقة المفرغة.. نعم المجتمع المدني يتكامل مع الدولة، لكنه ليس بالضرورة هو الحل الوحيد لضبط شكل العلاقة معها، وان كان مهماً، فالقضية ليست معادلة رياضية، واضحة المعالم ومحددة نتائجها بدقة، بل هي تنتمي إلى الالوان الرمادية، وبالتالي الحلول قد تكون قاطعة نظرياً، لكنه بمجرد تطبيقها على أرض الواقع ينتفي ذلك القطع والصرامة في صحتها وهذا سائد الى حد بعيد في كثير من القضايا، وملحوظ حتى في عالم البحث العلمي.

على أي حال، يبقى المجتمع المدني ظاهرة بمفاهيمه وطروحاته، وبات مهما لخلق عملية التوازن، ويساهم مع غيره من عوامل اخرى في ضبط علاقة «المنتج» و«المنظم» ، لكن مسألة المغالاة في نجاحه لن تقودنا إلى الغاية التي نقصد.  

السلطة وشرعية السلطة(6)

 السلطة، شرعية السلطة

Authority, Legitimation of Authority

إن ممارسة السلطة هي من أحد أشكال القوة التي توجه جهود الأفراد العاملين في المؤسسات البيروقراطية نحو تحقيق الأهداف العامة والخاصة التي يصبو إليها المجتمع والفرد، أما الأجهزة الرئيسية التي تساعد على نشر النظام وجمع وتوجيه الجهود فهي:

 (1) التبادل (2) المصالح المشتركة (3) التماسك الناجم عن وجود العواطف المشتركة، المعتقدات، الشعور والمصالح (4) القوة التي تكمن في التأثير، السلطة والسيطرة الجبرية.

يتم التبادل عندما يقوم عضو الجماعة بتقديم وظائف وواجبات يستفيد منها بقية الأعضاء. والمصالح المشتركة تظهر عندما يقوم الفرد بإنجاز العمل المطلوب منه لمصلحة شخص ثالث. أما صفة التماسك فتظهر عندما يشعر كل فرد أن عمله مفيد للآخرين ومكمل للأعمال التي يقوم بها بقية الأفراد، وقد تظهر القوة عندما يتأثر سلوك الآخرين أو تتأثر أعمالهم بأوامر شخص يحتل منصباً عالياً في الجماعة.

السلطة إذن هي نوع من أنواع القوة تنظم جهود وواجبات الآخرين من خلال الأوامر التي تصدرها لهم إذ تعتبر هذه فعالة لكونها صادرة من أشخاص شرعيين حسب اعتقاد الأشخاص الخاضعين لمشيئتها. وتختلف السلطة عن السيطرة القسرية أو الجبرية من حيث أن الأخيرة تلزم الأفراد على التكيف لمشيئتها من خلال مقدرتها على فرض العقاب أو تقديم المكافأة.

إن السلطة الشرعية هي السلطة التي تتأثر فعاليتها بالأجهزة التي تعتمدها كالفائدة والمصلحة المتبادلة المشتركة بين قادتها والأشخاص الذين يخضعون لأوامرها ومتطلباتها. فالسلطة قد تقدم المكافأت المادية والمعنوية للأشخاص الذين يقدمون الخدمات لها وتدافع عنهم وقت تعرضهم للمخاطر.

وهناك جملة مصالح مشتركة بين أعضاء السلطة وقادتها من جهة والأشخاص الخاضعين لها من جهة أخرى. وهذه المصالح تتجلى في تحقيق الأهداف الجمعية التي تهم مصلحة الطرفين كتحقيق الانتصار العسكري في الحرب أو إنجاز خطة اقتصادية أو ثقافية أو صحية يستفيد منها المجتمع الكبير. كما أن التماسك الذي يربط السلطة بالجماعة التابعة لها غالباً ما يحقق لها أغراضاً نافعة ومفيدة مثل الفوز في لعبة أو سباق رياضي معين أو رفع المستوى العلمي في الجامعة أو الكلية. لكنه في جميع الحالات نشاهد بأن الجهاز الذي يساعد السلطة على القيام بأعمالها وواجباتها قد يقوى أو يضعف تبعاً لدرجة اندفاع الأفراد على تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من السلطة وهذا ما يؤثر على كمية الاعمال والإنجازات التي تستطيع السلطة تحقيقها لأبناء الشعب. إلا أن الأجهزة التي تستعين بها السلطة في تنفيذ خططها قد لا تعمل بصورة متوافقة ومتناسقة لأسباب مختلفة منها عدم وجود المصالح المشتركة بين السلطة والاشخاص التابعين لها أو ضعف العلاقات المتبادلة بينهما إذ يكره أحدهما الآخر لاسباب معينة، أو قد تكون العلاقات القائمة بينهما غير مقنعة خصوصاً بالنسبة للطرف الذي يخضع للسلطة وذلك لأنه يعتقد مثلاً بأن الجهود التي يبذلها لا تنطبق مع المكافآت والامتيازات التي يحصلها من السلطة (من إدارة المصنع أو الدائرة التي يعمل فيها).

لكن ممارسة السيطرة الجبرية من قبل السلطة الشرعية قد يكون في طريقة ديمقراطية أو غير ديمقراطية. فالممارسة عند الديمقراطية للسيطرة الجبرية قد تخلق مشاكل ومتاعب للسلطة أو للأشخاص الذين يمارسونها أو قد تؤدي إلى تهديم السلطة أو القضاء عليها عن طريق عدم إطاعتها من قبل أتباعها. إذن تعتمد شرعية السلطة على أرجحية الأسلوب أو الطريقة التي تمارس بها السلطة خصوصاً القابلية والجدارة والشخصية الجذابة التي يتمتع بها قائد السلطة.

يقسم العالم الاجتماعي الألماني ماكس فيبر شرعية السلطة إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي:

1- السلطة التقليدية.

2- السلطة العقلية – الشرعية.

3- السلطة الكرزماتيكية.

السلطة التقليدية هي التي تعتقد بأن نظمها ما هي إلا امتداد لنظم كانت موجودة في الزمن السابق أو أن رئيسها تقلد منصبه بموجب مؤهلات معينة كانت شرعية في الزمن الماضي أو أن الأوامر التي يصدرها مدعومة بأوامر كانت ماثلة في الزمن السابق ومتفق على التصرف بموجبها. وهذا يعني بأن الجماعة التي تخضع للسلطة التقليدية تطيع أوامر سلطتها بسبب شرعيتها التاريخية أو سبب تعودها منذ الزمن القديم على إطاعة مثل هذه الأوامر. أما السلطة الشرعية – العقلية فإنها تعتقد بأن نظم وأحكام السلطة ذاتها، الطريقة التي من خلالها يشغل الفرد دور سلطته، وطريقة إدعاء السلطة يجب أن تتم بالطرق والأحكام القانونية العامة.

أما السلطة الكرزماتيكية فتنعكس بشخصية الفرد الذي يتميز ببعض الصفات والمزايا المقدسة التي تدل على قابلياته الفذة وسحر شخصيته وصلاحيته للدور الذي يحتله، في جميع حالات السلطة الثلاثة نشاهد بأن أحكام السلطة وقوانينها والطريقة التي يحتل بها الرئيس مركز قيادته وجوهر الحكم ومبدأ إصدار الأوامر كلها تعتمد على الاعتقاد بأنها متصلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بقوة شرعية نهائية ومطلقة، وهذه قد تكون إرادة الله أو إرادة مؤسسي الخلافة أو المجتمع أو القانون الطبيعي أو إرادة الشعب، إن هذا يعني بأن شرعية السلطات التقليدية والشرعية – العقلية تعتمد على اعتقادها واتصالها بمصدر مقدس أي مصدر كرزماتيكي.

إلا ان السلطتين الأوليين تختلف عن السلطة الكرزماتيكية من حيث أن اتصالها بالمصدر المقدس هو اتصال غير مباشر بينما تكون علاقة السلطة الكرزماتيكية بالمصدر المقدس علاقة مباشرة وعميقة.

لكن الحكام والمحكومين أي أصحاب السلطة والأشخاص الذين يخضعون لها يشعرون باعتقادهم بشرعية السلطة التي يمارسونها أو يخضعون لها. فالحكام يعتقدون بشرعية السلطة لأنهم يرون فيها قوة لحكمهم ولأن لهم حاجة ذاتية تدفعهم للاعتقاد بأن ما يقومون به هو شيء صحيح يتطابق مع القانون الذين يقتدون بنصوصه.

والأشخاص الذين يخضعون للسلطة غالباً ما يعلنون ولاءهم لها بسبب رغبتهم في تكوين علاقة إيجابية وشرعية معها وذلك لحبهم للعدل والنظام ولرغبتهم في مشاهدة أنفسهم بأنهم أعضاء مجتمع يعتقد بالقانون والأحكام الصحيحة التي تجلب لهم السعادة والرفاهية وتدفعهم إلى الشعور بأنهم يخضعون لنفس القوانين التي تحدد واجباتهم وحقوقهم.

لكن القوة تعتبر سيطرة جبرية أكثر مما تعتبر سلطة شرعية عندما تعمل بصورة غير عادلة أي تعمل ضد الأحكام العليا التي تنص على توزيع الأدوار والمكافآت والتسهيلات بصورة ديمقراطية وعادلة. وقد تفقد السلطة شرعيتها عندما تفشل في المحافظة على النظام وفي توزيع الأدوار الاجتماعية على الأدوار والمكافآت والتسهيلات بصورة ديمقراطية وعادلة. وقد تفقد السلطة درجة من الشرعية في حالة مقدرتها المحافظة على النظام وضبطه.

فليس هناك مجتمع يستطيع إعطاء شرعية مطلقة للقوة التي يمارسها أعضاء السلطة لأن الثغرات الموجودة في التماسك مهما يكون التماسك كالتماسك في العقيدة أو التماسك العنصري تعمل على إضعاف صفة الشرعية. كما أن وجود المصالح المتضاربة بين الحكام والمحكومين في المجتمع يضعف من صفة الشرعية التي تتمتع بها الطبقة الحاكمة وهذا ما قد يجر المجتمع إلى الاضطرابات والقلاقل السياسية.

 بيد أن فشل الحكام في المحافظة على شرعية النظام الذي أوجدوه أو أسسوه يجعل نظامهم عرضة للنكسات والهزات التي قد تطيح به أو تغيره. إذن الفشل في المحافظة على الشرعية أي شرعية النظام يزيد من احتمالية تغيره أو تغير الحكام الذين يتزعمونه. 

في مفاعيل السلطة السياسية المطلقة(7)

إذا أردنا الإجابة عن السؤال المتداول حول من يحكم في السياسة العربية، كان الرد المباشر هو السلطة المطلقة. فمن المعروف أن مفهوم السلطة يميل بها دائماً نحو تجاوز الحدود. أي أنه من طبيعة السلطة ألاّ تقنع بحد. ولذلك جاءت القوانين كيما ترسم لكل سلطة حدودها، وذلك بتعيين موضوعها، وطريقة تنفيذها، والأهداف المفترضة التي عليها أن تحققها. بذلك يمكن التمييز بين سلطةٍ مشروعة عن نقيضتها غير المشروعة. إذ عندما تُمارس السلطة خارج تلك الشرعية القانونية التي تمنحها معقوليتها، فلن يكون لها ضابط إلا مدي القوة التي تواجهها في سلطة أخري تعارضها.

ومن هنا يبرز الفاصل الحضاري بين نوعي السلطة، المطلقة أو الطبيعية، والسلطة المنضبطة، أي المدنية. ففي المجتمع المنقوص في مدنيته أو المشكوك في مدي تكوينها وفعاليتها، تكون السلطة أقرب إلي نوازعها في الطبيعة الخام التي تعبر عنها وتفرض أساليب تحقيقها. إذا ما تُركت السلطة إلي هذا الوازع الطبيعي أو الغريزي، فإنها تجنح إلي حدودها القصوي. فتغدو السلطة أقرب إلي التسلط. تصير هدفاً في ذاتها ولذاتها. بينما يكون هم التمدن الأصلي هو في الطريقة القادرة دائماً علي ضبط السلطة مفهومياً وعملياً باعتبارها واسطة. وواسطة لما يتعداها. وينقلها من مستوي القوة الخام والغريزة غير الدارية، أو غير العابئة أصلاً بتوفر مبرراتها الموضوعية، إلي مستوي من القوة المشروعة كما تحددها الجماعة في ظروف اجتماعية وثقافية مناسبة لصلاحيتها. أي أن السلطة حتي تكون حائزةً علي مشروعيتها لا بد لها أن تبرز معقوليتها. ومن يقرّ بهذه المعقولية هو المجتمع الخاضع لأوامرها، عندما يُتاح له أن يدرك مدي المصلحة العامة التي يستند إليها كل أمر سلطوي، كما لو أن المأمور يصبح هو الآمر. وبالتالي يتضاءل، وحتي يتلاشي عنصر الشعور بالإكراه المصاحب عادةً لفعل السلطة. إذ يحل الامتثال الطوعي مكان الشعور بالدونية إزاء قوة السلطة. وهو امتثال يتمتع بموجباته بقدر ما يكون دافعاً للاقتناع بضرورته المنطقية أولاً. وعلي هذا يمكن القول إن أهم ما تتميز به حركات التنوير هو مدي نجاحها في التخلص من أنظمة السلطة المطلقة؛ ومحاولة إعادة تأصيلها إنسانياً واجتماعياً.

لم تتنبه ثقافة النهضة العربية المعاصرة إلي أخطار السلطة المطلقة إلا من قناة وحيدة الاتجاه تنزع إلي تغيير قمة السلطة السياسية. فوقعت في حلقة مفرغة من حيث ان التغيير لا يقع إلا فيما يتعلق بإبدال طاقم من الحكام بطاقم آخر. وجه الحاكم قد يتغير أما المقعد فهو ثابت بكل رموزه. وخلال نصف قرن ونيف لم تنتج السلطة المطلقة إلا صِنْوَها الحكم المطلق. لم تتزعزع أصول هذه السلطة مع مختلف الطوارئ التاريخية والثقافية التي عرفتها المجتمعات العربية المعاصرة. وهذه الأصول ليست من طبيعةٍ سياسية دائماً. إن لها مصادرها الذاتية المتوارثة عبر سياق التكوين البنيوي لنموذج الشخصية العامة. فلا تجلس السلطة المطلقة في مقعد القمة الحاكمة وحدها. إنها تشكل البطانة المغلِّفة لنسيج الجسد الاجتماعي من داخله. مؤسسات العائلة والمدرسة والوظيفة، النادي والحزب والحكومة، المسجد والكنيسة، كلها قائمة علي علاقات القوة فيما بين أعضائها أو ذراتها. لم تتولد ثقافة للكشف والتعرية مقابل تراثات متراكمة فاعلة من أحابيل التغطية والتعمية والتورية وفنونها المعقدة في بدائيتها، والمتراكبة في عِقَدِها المزمنة. فليس أخطر من عقد التسلط المتوارية هذه سوي أساليب الامتناع التلقائي عن فضحها التي تساهم العادات والتقاليد الأخلاقوية في حمايتها، محيطة إياها بهالات التحريم والتقديس والتوهيم الاجتماعي والغيبي. فالسلطة الأخفي هي تلك التي لا تجرؤ اللغة علي تسميتها أو تداول إشاراتها ورموزها. إنها متروكة لثقافة الظلال والتشبيح بالألغاز والأسرار. مجتمع الانحطاط هو المجتمع السلطوي الجاهل لذاته ولحقيقته. والحامي في الوقت عينه لهذا الجهل بأحزمة من قيم النفاق العام الذي تلهج به ألسنة الجميع ضداً علي كل محاولة لشق الحجب، والكشف عن فراغاتها الصماء. فلا سبيل للتصدي لهذه الآمرية الشاملة التي باتت تلف شخصية الجماعة؛ كيما يتمترس وراءها حراس الانحطاط الحضاري، وقد انهار حتي مستوي الانحطاط الإنساني.

يظل الحديث عن التسلط السياسي خالياً من مضمونه الحقيقي، إن لم تُكتشف تلك القنوات السريةُ المبهمة التي تربطه بهذا الخزان اللاشعوري الجمعي من تركات الإحباط الثقافي والتكويني المتكرر، الناجمة دائماً عن تجارب التعجيز الفكري المتمادي عن اجتراح معجزة التنوير، بل عن إشعال شمعات نادرة علي طريقه. لكنه لم يعد خزاناً لنفايات ميتة فحسب، بل إنه ينمو ويتطور إلي ما يشبه مصنعاً أركيولوجياً متمكناً من عمق الشخصية المجتمعية، فعالاً منتجاً لأصول كل الأجيال الجديدة من نماذج الإكراهات العامة، منظماً لآليات تفاعلاتها اليومية، بحيث تبني في ذات الفرد نوعاً من منبرِ رقابةٍ ذاتية، بوظيفة كابحة لإرادة الحرية حتي قبل استشعارها بمعالم أهدافٍ لها، تخصها وحدها.

فالخيبات السياسية التي تُمني بها مشاريع التغيير ذات التطلع النهضوي والبنيوي، ليست أسبابها دائماً من طبيعة سياسية خالصة. أي ينبغي الكفّ عن تفسيرها الوحيد بأسباب بعضها ضد البعض الآخر. كما أنها ليست فقط نتيجة اختراقات دولية خارجية في مختلف أحوالها. هناك حقيقة بنيوية لم يعد يجوز التغاضي عن دورها التحويلي الجذري في مسري السلطات العامة. إنها حقيقة الصراع الغريزي علي مراكز النفوذ ومكاسبها بالنسبة للفائزين بها. فليست الأيديولوجيات أو الآراء أو المواقف هي صاحبة القول الفصل دائماً في مصائر النزاعات، بقدر ما تصير إلي مجرد تعِلاّت فكروية لأهداف الانتهاز الفردي والفئوي. هذا ما يوضح كذلك كيف أن كل سلطة من هذا النوع لا تلبث أن يصير صاحبها إلي متملكٍ لها. وبالتالي يغدو كل (آخر)، سواء كان الحزب المنافس أو الشعب نفسه، بمثابة العدو أو الغريم المريب، الواجب قمعُه وحتي إلغاؤُه.

كيف يمكن أن يُفهم تفكك القضية الفلسطينية اليوم بدون استشراء وباء التسلط بين قياداتها. فما يقال عن خلافات الأيديولوجيات بين فتح وحماس لا يمكن أن يبرر أو يخفي عمق الصراعات الفئوية التي تضرب في كيان كل منهما، وفيما بينهما. فالنزاعات السياسوية ثم الدموية بين (أخوة النضال) لم تعد مجرد طوارئ عابرة ويمكن التغلب عليها بأساليب النفاق اللفظوي المتبادل بين (جبهات) الصف الواحد، وتحت عناوين الحوارات العقلانية الرزينة. لقد أمست مكاسب الحكم المتخيلة لهذا الفصيل أو ذاك تستحق القذف بالأهداف الأصلية في التحرر من الاحتلال إلي هوامش الفعل السياسي والاهتمام المجتمعي العام. صار ينشغل شعب النكبة المستمرة بتطورات الصراع الفردي، وليس الفئوي فحسب، بين أعمدة السلطة. وهي بالرغم من كونها مجرد سلطة زائفة للشعب الفاقد أصلاً لكيانه السياسي وسيادته الوطنية، فإنها تبدو بالنسبة للرؤوس الحامية كما لو كانت سدة المنتهي. ومن المؤسف حقاً أن تجعل صراعات الرؤوس الحامية هذه من وقائعها الدموية والمصيرية مطايا سهلة لأحدث مخططات الفخاخ الاسرائيلية الأمريكية بالمشاركة الفعالة من أسياد النظام العربي (المعتدل). لكن قبل تحقق شروط المصيدة العامة صار لزاماً علي الوعي المعرفي البحث عن أصولها الفردية؛ فقد يجدها متأصلة فيما يُصطلح عليه بالمحصلة الشخصية لذلك القائد أو ذاك. وقبل الخطأ في التقدير أو التنفيذ هناك عامل الغلبة النفسية للدافع الغريزي المكوّن لقاعدة هذه المحصلة الشخصية لمن في يده القرار والمبادرة.

وفي التجربة النهضوية العربية كان الأفراد (القياديون) لاعبين حاسمين في تقرير مصائر مجتمعاتهم أو أحزابهم، وبما يتخطي غالباً وعيها وقدراتها. ولا تزال الأفاعيل السياسية الكبري مرتهنةً للفرديات والفئويات المسيطرة. في حين يتم تحييد ليس الشعوب وحدها، بل ومعها طلائعها الحقيقية الواعية غالباً، بحيث تُحاصر هذه في منطقة رد الفعل المحبط سلفاً علي المبادرات الطائشة للقيادات المفروضة، أو المتزعمة هي نفسها بحسب قانون للصدف العمياء أو لعبقرية الانتهاز الفوري في التقاط الفرص الملائمة أو اختلاقها. فكما لم تستطع المشاريع النهضوية العربية أن تفوز بأفضل إمكانيات شعوبها، كذلك لم تأتِ إلي مراكزها القيادية بأفضل رجالاتها.

هذا النموذج البائس في الإحباط الحضاري بل الإنساني لا يزال يتكرر من منعطف مصيري إلي آخر، بذات معالمه الملتبسة وآليات تحققه العقيمة، إلا في إنتاج أمثلة الخراب بأعطاله المزمنة المعروفة. لكن الجديد في هذا الخراب الفلسطيني الراهن أنه لن تقتصر أعطاله علي وطنه. فقد يمكن لمحنة (غزة) أن تبتكر من ذاتها نموذج سيناريو كارثياً، قابلاً للعدوي والانتشار حوله في الجسم المشرقي المريض المجرّح، وخاصةً إمكان اختراقه السريع للساحة اللبنانية المعطوبة مقدماً بأشكال الاستعصاءات البنيوية الحادة.

فقد سجلت أحداث غزة سَبَقاً في تفعيل تقسيم جديد لما يتبقي من الكيان الفلسطيني الفاقد أصلاً للدولة ووحدتها. بينما يعمل أشاوس الأزمة اللبنانية المتفاقمة علي تقسيم دولةٍ قائمة، وشرذمة مجتمعٍ واحد. هذا فضلاً عن كون العراق قد أمسي حقول تجاربٍ رهيبة لمختلف وحوش التسلط العالمي والإقليمي والمحلي.

لكن الإنسان القيادي العربي يشكل تصنيفاً مفرداً قائماً بذاته في سجل التاريخ السلطوي الكوني. ألا يعني هذا أخيراً ألا نسأل فحسب عن مخططات أمريكا وإسرائيل وأياديها القذرة، وأن نعير بعض الانتباه إلي مرض الشخصية القيادية المصابة به رموز السلطة في مجتمعاتنا. وهو المرض الذي ينبغي ألا يحجب أبداً جذوره المتأصلة في بنية المحصلة الشخصية للإنسان العادي، المقموع ثقافياً اجتماعياً، قبل أن يكون مضطهداً سياسياً.

ذلك هو الوجه الآخر لما يعنيه مركّب الانتكاب المستدام في تلك المجتمعات المغلوبة علي أمرها بفعل أمراضها الذاتية قبل أن تكون بأيدي أعدائها.9

دور المثقف وطبيعة السلطة(8)

يكثر الكلام في هذه الأيام عن الدور الذي يمكن للمثقفين أن يقوموا به  في توعية من يحتاجون إلى التوعية من أفراد المجتمع وفي النهوض السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالمجتمع والدولة صوب تحقيق نوع التنمية المرغوب فيه. غير انه يتعين على الحكومة القيام بدور رعاية المثـقـفـين وإيجاد الجو المواتي لان يقـوموا بذلك الدور.

للظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية  وللتكوين الفكري والنفسي لأفراد المجتمع أثرها في موقف المثقف ونظرته ودوره. وعلى الرغم من أن المثقف جزء من المجتمع ونتاجه بظروفه الاجتماعية المتغيرة فانه يختلف إلى حد ما بحكم ثقافته عن سائر شرائح المجتمع. ويمكنه أن يؤدي دورا أقوى أثراً واشد تميزا في المجتمع. وبالنظر إلى انه اشد وعيا ببعض الأمور من سائر شرائح المجتمع فيتعين عليه، بوصفه مثقفا اكثر وعيا وبوصفه ابن المجتمع وابن الشعب المعاني للأزمات والبؤس والشقاء، أن يؤدي دورا اكبر واشد أثرا. ومرجع هذا الأثر الأكبر هو انه يمكنه من خلال كلمته أو قلمه أن يقوم بمسح المشاكل ووصفها وتحليلها وان يتوصل إلى الاستنتاج وان يشيع فكره على نطاق أوسع وان يكون اكثر علما بمعاني ومضامين ومؤديات السياسات الحكومية والاتجاهات السياسية والاجتماعية القائمة والنزعات القطرية والإقليمية والدولية.

ومن الخطأ القول بان بإمكان المثقف أو بأنه ينبغي له أن يعالج جميع أو معظم المشاكل التي يواجهها أفراد المجتمع. فذلك يتجاوز طاقته. ولكن للمثقف الباحث أن ينخرط في دراسة مجال أو عدد محدود من مجالات حياة المجتمع. والواقع أن البلدان العربية لا يوجد فيها ما يكفي من الهيئات العلمية التي تقوم بالأبحاث في ميادين الطبيعة والمجتمع والنفس والتاريخ وعن التفاعل التاريخي بين هذه المجالات. وبإمكان المثقف الباحث أن يسهم في هذه الأبحاث التي ينبغي أن تنشر لتعميم الفائدة منها وان تعرض أيضا على المتولين للسلطة الحكومية ليطلعوا عليها وليسترشدوا بها في وضعهم لسياسات الدولة.

ولطبيعة مناخ الحرية الفكرية أثره في تحديد مضامين كتابات المثقفين. ولإيجاد هذا المناخ تسهم عوامل هامة منها تقليد حرية التعبير عن الفكر والتسامح مع هذا الفكر، ودور الذين يمسكون بمقاليد السلطة الحكومية وغير الحكومية في تشجيع أو كبح الحرية الفكرية. فللذين يمسكون بمقاليد السلطة اثر في تحديد مضامين كتابات المثقفين الكتاب. الحكومات تختلف بعضها عن بعض في مدى احتمالها لحرية التعبير عن الفكر. وبالتالي تختلف الحكومات بعضها عن بعض في مدى تحديدها لمضامين الكتابات. ومن بين الاعتبارات التي توليها الحكومات أولوية في أهدافها هو مواصلة توليها السلطة. وفي النظم الشمولية والاستبدادية والاملائية ففي نظم حكم الأقلية الثرية أو البيروقراطية أو غيرها وحكم الفرد يولي النظام الاعتبار الأول لبقاء النظام السياسي الحاكم القائم، مما يسهم في لجم فم الكاتب عن الإعراب بحرية عن فكره أو يقيد إلى حد بعيد ممارسة هذه الحرية، وذلك لان اعتبارات مواصلة تولي السلطة تختلف عن اعتبارات توخي التوصل إلى الحقيقة إذا كان ذلك قصد الكاتب لأنها تتعارض في بعض الحالات مع تلك الاعتبارات السلطوية.

  يمكن للمثقف الكاتب أن يعالج مسائل في شتى مجالات السياسة والاجتماع والثقافة والتاريخ والتراث والاقتصاد، وتختلف هذه المسائل بعضها عن بعض في مدى قوة صلتها بعوامل مواصلة ممارسة السلطة الحكومية أو بمدى انقطاعها عنها. ويتوقف مدى هذه القوة على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية والدولية السائدة. ونظرا إلى هذا الاختلاف بين هذه المسائل من حيث صلتها بمواصلة ممارسة السلطة فان من الحاصل طبعا أن المتولين للسلطة الحكومية يبدون قدرا اكبر من المقاومة لكتابات الكتاب الذين يعالجون مسائل لها صلة مؤثرة على طبيعة مواصلة ممارسة السلطة فتبدي الحكومة قدرا اقل من التعرض أو لا تبدي أية مقاومة لكتابات تعالج مسائل ليس لها صلة مهمة تمس بهدف مواصلة ممارسة السلطة.

  وفي ظل نظم الحكم الاستبدادية، الاملائية، الباغية أو الشمولية ثمة حاجة ماسة إلى كبح سطوة وطغيان هذه النظم وبطشها وإلى معالجة الكتاب للمسائل ذات الصلة الأقوى بمواصلة ممارسة الحكومة للسلطة. وبالتالي فان صد المتولين للسلطة للكتاب عن معالجة هذه المسائل في كتاباتهم من شأنه أن يعني صدهم عن معالجة مسائل الممارسات الاستبدادية والباغية والشمولية وان يعني عدم الإشارة إلى تلك الممارسات وعدم نقدها وعدم التنبيه إلى نتائجها الوخيمة فيما يتعلق برفاهة الشعب ومعنوياته وقيمته وحسه بالكرامة وتأكيد ذاته وفيما يتعلق بمصير الدولة ومركزها على الساحة الدولية.

 ويختلف المثقفون الكتاب بعضهم عن بعض في كيفية استجابتهم إلى محاولة الدوائر الحكومية لثنيهم عن معالجة المسائل المتصلة بتولي مقاليد السلطة الحكومية وبالمحافظة عليها. فمن الكتاب من يمتثل لتوجيهات هذه الدوائر وينصاع لها، ومنهم من تتوفر لديه الإرادة على عدم الانصياع وعلى إبداء الرأي النقدي في هذه المسائل، ومنهم من يتخذ في كتاباته سلوكا يقع بين هذا الانصياع وهذه الإرادة. ويتوقف السلوك الذي يتخذه المثقف الكاتب إزاء توجيهات الدوائر الحكومية على عوامل منها مدى الاستغناء المادي للكاتب. فهذا الاستغناء، الذي قد يعتمد على مصادر دخل مختلفة، لا يحوج الكاتب إلى الاستعانة المالية بالحكومة. ومن تلك العوامل أيضا مدى وعي الكاتب بأهمية المعالجة النقدية للمسائل المتصلة بالممارسات الحكومية، وبأهمية دوره الإعلامي والتنويري. ومنها أيضا كيفية تنشئته، فمن شأن التنشئة على الصدق والصراحة والنزاهة والتفاني أن تجعل من الصعب ثني الكاتب عن أداء الأدوار التي يعتبرها ضرورية في حياة الشعب والمجتمع والدولة التي ينتمي إليها.          

 وهكذا فإنه لمن البديهي أن تنشأ علاقة متبادلة بين طبيعة نظام الحكم وحجم الدور الذي يؤديه المثقف. فهو يؤدي دورا فكريا وإعلاميا اكبر في ظل النظم الأكثر ديمقراطية ودورا اقل في ظل النظم الاستبدادية والشمولية والاملائية. ففي ظل النظم الأكثر ديمقراطية يتاح للمثقف متسعاً اكبر لأخذ زمام المبادرة في المجال الثقافي والإعلامي ومتسعاً اكبر للحرية الفكرية وللإعراب عن الرأي على العكس مما هو الحال في ظل النظم الاستبدادية والشمولية. وبالتالي فان المثقف في النظم الأكثر ديمقراطية يؤدي دورا اكبر واشد أثرا في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وفي الإسهام في وضع سياسة الدولة في هذه المجالات وفي تكوين مستقبل البلد والمجتمع وفي تحديد هوية القيم والرؤية التي يستلهمها الشعب. والعكس هو الحاصل في ظل النظم الاستبدادية والشمولية والاملائية التي يكون للسلطة الحكومية فيها الدور الأكبر في تحديد دور المثقف في هذه المجالات والدور الأكبر في وضع سياسة الدولة فيها.

 وتنطوي هذه الحالة - حالة قيام السلطة الحكومية بتقييد دور المثقف في وضع سياسة الدولة في هذه المجالات - على إلحاق ضرر كبير بالشعب والمجتمع والدولة. إذ بقيام السلطة الحكومية بذلك - وهي طبعا محدودة بتفكيرها، شأنها شأن أي جماعة بشرية أخرى تولي الأهمية الأساسية لاعتبارات ومقتضيات مواصلة البقاء في سدة الحكم - تحجب عن نفسها وعن الشعب رؤية بدائل أخرى في حياة الشعب والمجتمع قد تكون اكثر صلاحا من البديل الذي تأخذ السلطة الحكومية به، وتحجب عن نفسها وعن الشعب أيضا رؤية تحديات وتهديدات أو فرص وشيكة أو كامنة أو ممكنة للشعب والدولة. ومن شأن هذا الحجب ألا يتيح للسلطة الحكومية ولأفراد وجماعات من الشعب التصدي بالوسائل الفكرية والمالية والعملية المتاحة لهذه التحديات والتهديدات وألا يتيح لهم بالمجموع سبلاً في كيفية اغتنام الفرص المبشرة بالخير والتي من شأن اغتنامها أن يكون له الأثر الكبير في تحسين حالة الشعب ومستقبله ومصيره.     

مفهوم السلطة(9)

"عَليّ أن أوقف الكتابة، لأن هذه التحليلات ستصلح أرضية للمؤرخين."

فوكو، الحراسة والعقاب.

 من نافلة القول أن نردد بأن الصراع التاريخي يتأتى لأجل تحقيق مصلحة، لكن ليس دائما المصلحة المادية كما يعتقد الماديون. أكثر من ذلك، يمكننا القول، إن المصلحة المادية لا تلعب في كثير من الأحيان غير دور ثانوي (كودليي1973 و1974)، بل إنها كثيرا ما تغيب من بعض الأحداث التاريخية: فكيف يمكننا أن نقترح تفسيرا يرتكز على آليات/إواليات السلطة من أجل فهم مُرْض لهذه الأحداث؟

تعتبر الكتابات التي قام بها فوكوM. Foucault  - وفي مقدمتها "الحراسة والعقاب" وخاصة ج3 الذي يحمل عنوان: التأديب - مجالا رائدا لدراسة السلطة، التي تحتاج منا إلى تصنيم (على غرار ما كتبه ماركس في أول فصول رأس المال: السلعة صنم) [كما اقترح علينا سمير أمين منذ سنة 1988، رغم أنه عجز عن صياغة نظرية خاصة بذلك، واكتفى بتصوره الأتاوي المتجاوز في تفسير التاريخ وأحداثه (1980، 1980، 1981)]. ورغم أننا نعلم بأن كتابات فوكو حول السلطة، أو بالأحرى "ميكروفيزياء السلطة"، مشوبة بالكثير من الغموض والضبابية، فإنه يمكننا أن نستنتج منها الشيء الكثير، لأنها أيضا تمتاز في الوقت نفسه بالعمق والانسيابية، خاصة فيما يتعلق بالسلطة والسياسة، أو إن شئنا "السلطة السياسية"، وإن كنا لا نستطيع، في الواقع، أن نفصل بين ما هو سياسي وغير سياسي داخل السلطة، فالعلاقات شفافة ومتماهية إلى درجة كبيرة. وكان علينا أن ننتظر جيل دلوزG. Deleuze (1987) ليوضح لنا بعض ما غمض من فكر فوكو، لكن حتى هذا المفكر القريب جدا من فوكو لم يستطع فهمه، أو على الأقل لم يفهمنا فوكو كما تمنينا، إذ ظل الغموض أهم صفة مميزة ومرادفة لدراسته.

ينطلق فوكو من تجاهل لماهية السلطة ومصدرها: «إن السؤال ما السلطة؟ أو ما مصدرها أو أصلها؟ قد لا يكون في محله، بل ينبغي بالأحرى أن نتساءل عن الكيفية التي تتحقق بها، أو كيف تمارس نفسها وتظهر إلى الفعل» (دلوز ص78)، لذلك نراه يتجاوز سؤال التعريف، في "إرادة المعرفة"، إلى سؤال الكشف عن التقنيات. منذ الفصل الأول للكتاب (نحن الفكتوريين) يعلن بأن البحث عن تحديد لنظام السلطة / المعرفة / اللذة (في سيرورته ومبررات وجوده) ينتهي بنا إلى أن المهم في العملية كلها هو التوصل إلى معرفة أن تقنيات السلطة متعددة الأشكال (ص12...). لكن، ورغم سؤال المجاوزة هذا، فهو يعطيها تعريفا بسيطا جدا عندما «يعتبرها علاقة قوى، أو بالأحرى أن كل علاقة قوى هي على الأصح علاقة سلطة... والقوة لا موضوع لها سوى القوة، قوة أخرى، لا تدخل في علاقة مع كائن آخر، بل مع قوى أخرى... بالمستطاع إذن، تصور قائمة... لمتغيرات تعبر عن علاقة قوى أو سلطة... كالتحريض والإثارة... والتسهيل والتوعير... والتوسيع والتضييق... تلك هي مقولات السلطة» (دلوز ص87...). فهي إذن مجموعة أفعال تؤثر في مجموعة أفعال ممكنة (فوكو، بحثان حول الفرد والسلطة، ص196، العيادي، ص58). بهذا ففوكو لا يعني بالسلطة ما دأبنا على تسميته بهذا الاسم، أي مجموع الأجهزة والمؤسسات التي تعمل على إخضاع المواطنين، كما لا يقصد بها أشكال الإخضاع التي عادة ما تتخذ، في مقابل العنف، شكل قانون، كما لا يقصد بها، أخيرا، نظام الهيمنة الذي يمارسه عنصر على عنصر آخر أو جماعة على أخرى. (إرادة المعرفة، ص121). إنني عندما أفكر فيها، يقول في مكان آخر (نظام الخطاب، ص71) أسائل نفسي عما كنت أتحدث في "تاريخ الجنون" أو في "مولد العيادة" اللهم إلا عن السلطة، رغم أنني لم أستخدم هذه العبارة، وقد عانيت الكثير في صياغتها، بسبب الوضعية السياسية التي عشناها، جراء التراشق السجالي العنيف بين اليمين واليسار. لكن المشكلة سوف تطرح بحدة عندما يعتبر فوكو أن «من سمات علاقات السلطة أيضا أنها غير معروفة» (دلوز ص81). لسبب بسيط هو أنه ليس هناك في الأصل علاقات سلطة (إرادة المعرفة، ص124). فهو إذن يعتبر أن ما السلطة، ما أصلها ومصدرها، غير ضروري المعرفة (لأن المهم في نظره ليس سؤال الأصل بل سؤال العقل)، ويرى بأنها عبارة عن "علاقة"، لكنه يعود فيرى أن علاقاتها أيضا غير معروفة! (ألم يكن معنا شيء من الحق عندما قلنا بأن فكر فوكو ما زال غامضا رغم عمقه وانسيابيته؟) لكن ما يفيدنا كثيرا في أبحاثه أنه، على خلاف الماركسية والبنيوية الكلاسيكية، قد أعاد لما هم أيديولوجي بعض الاعتبار: «لا وجود لعلاقة سلطة لا ترتبط بنشأة حقل معرفة، ولا وجود لمعرفة لا تفترض علاقات سلطة وتنشئها في الوقت ذاته» (دلوز ص45). ولا بأس أن نشير هنا إلى الالتقاء بين مارسيل غوشيه، الباحث عن أصل الدولة والسلطة السياسية، وميشال فوكو، الباحث عن أصل المعرفة، الذي يرى بأن المهم هو تأسيس سياسة جديدة للحقيقة، لا تلبث أن تتحول بدورها لسلطة، (دلوز ص46)، بينما ذهب غوشيه أبعد من ذلك عندما اعتقد (ص202)، بتفاؤل زائد، بأننا «على وشك الانتقال من تاريخ رفض السلطة إلى تاريخ القبض على حقيقتها... القادر وحده على منعها من أن تمارس»، وهو اعتقاد نرفضه لأن الإنسان لا يستطيع أن يراقب إلا شكلا واحدا من أشكال السلطة، هو "السلطة السياسية"، على أن هذه المراقبة نفسها تظل نسبية ومحدودة، بل إن هذه المراقبة تتحول بدورها إلى سلطة، ومع التعمق في تحليل رموز السلطة وأبعادها سندرك مدى استحالة القبض على السلطة ومنعها من أن تمارس.

لا نختلف كثيرا مع فوكو في استنتاجاته، وإن كنا نرى أن السلطة ممارسة رغم كونها تتضمن علاقة، لكننا نختلف جذريا مع غوشيه الذي توقع أنه سيأتي الوقت الذي نقبض فيه على حقيقة السلطة "القادر وحده على منعها من أن تمارس"!؟ فهو إذن يتصور مجتمعا بدون سلطة، وهذا لا ينبغي أن يعقل، ولا يمكن أن يكون، لأنه لا مجتمع بدون سلطة، كما أنه لا مجتمع بدون أيديولوجيا، إن السلطة تجدد نفسها، إنها بلا حدود، أو إن «السلطة هي حدود السلطة نفسها»  (ألتوسير1981 ص88)، وهي في الوقت ذاته قديمة في المجتمع، إنها أصيلة فيه: «إن أكثر التجارب الاجتماعية بدائية، تفيدنا تماما أن كون الإنسان جزء من جماعة يعني أن يخضع لاحترام بعض الأنظمة وتنفيذ بعض الأحكام، هذا هو في شكله العام، الواقع الاجتماعي للسلطة»  (لابيار1977 ص7).

إن هذه "العلاقة السلطوية" يستحيل فهمها وإدراكها إدراكا تاما بمعزل عن رموزها، لأنها تمارس ذاتها من خلال هذه الرموز والتفاعل بينها، ويصبح بالتالي ضروريا، لإتمام مفهوم السلطة، من تحديد رموزها.

 محاور السلطة

لا ينقسم المجتمع إلى طبقات، إنما إلى أفراد، وإن كان هناك "صراع" فهو صراع أفراد لا "صراع طبقات"، والصراع يدعو إلى التحالف، والتحالف يجر إلى "محاور سلطة" وليس إلى طبقات. والعلاقة بين رموز السلطة، أو الصراع الذي ينشأ داخل المحور الواحد أو بين محاور متباينة، أو التحالف الذي يطفو على السطح أحيانا... مجموع هذه العلاقات نقترح نعتها ب: "علاقات سلطة". 

إن انتماء جماعة من الناس لمحور سلطة واحد، لا يعني أن رموز السلطة التي تحركهم واحدة بالضرورة: فقد تتحرك مجموعة بشرية باتجاه هدف واحد مكونة "محور سلطة" لكن الرموز التي تحرك كل فرد تختلف، فهذا تحرك بدافع اقتصادي والآخر بدافع جنسي والثالث رغبة في الاستشهاد... فرموز السلطة إذن مختلفة رغم أن المحور واحد. وحتى في الحالات التي تكون العقيدة الموجهة للمحور واحدة، نظريا، فإن فهم هذه العقيدة ذاتها يختلف داخل المحور الواحد (الجماعة التي تكونه)، بل ربما من فرد لآخر، وغياب التجانس التام داخل "المحور السلطوي" هو ما يجعله قابلا للانفصام على نفسه في أي لحظة. هكذا نعتقد أننا نؤول الوقائع والأحداث أحسن عندما نقرأها هذه القراءة المختلفة.

في أي علاقة سلطوية، لا وجود للموقف الوسط، الحياد لا وجود له إلا في مخيالنا الجمعي، لأنه عند احتدام الصراع، أي صراع، تتكشف المواقف الحقيقية التي تجعل كل واحد ينضم للمحور الذي يرضي ميوله أو يدافع عن مصالحه، إن "الحياد في زمن الصراع تواطؤ" (كما يقول حيدر حيدر)، ودفع التحليل بهذا الاتجاه يجعل من الحياد مجرد موقف سطحي يخفي الموقف الحقيقي، ويختفي بمجرد احتدام الصراع، أما المحايد فلا محل له من الإعراب (حسين مروة).

لكن هل يعني ذلك أن الصراع يبقى صراع محاور ولا ينزل لمستوى الأفراد داخل المحور الواحد؟

قطعا لا، لأن ممارسة السلطة، كما أسلفنا، تتم على الأفراد أيضا، أي داخل كل محور على حدة تختفي ممارسات سلطوية عديدة: سلطة المال، سلطة الجمال، سلطة الجنس... يجب إذن أن نميز بين "السلطة المحورية"، كسلطة جماعية، و"السلطة الفردية": علاقة الناس بعضهم ببعض كأفراد، أو علاقة الرموز المختلفة، أي ما يكون اليومي في التاريخ، وهي علاقات لا عد لها ولا حصر يسميها بروديل (1987 ص9) بالرتابة: إنها تحريضات واندفاعات وغرائز ونماذج أو طرائق والتزامات... متراكمة شذر مذر، تغرق فيها البشرية إلى النصف، وتشكل اليومي والرتيب. ولأنها تشكل هذا اليومي بالضبط فإن الذاكرة الجماعية، خاصة المدونة، لا تحتفظ بها عادة. وهي لأجل ذلك أيضا تبقى في حدود ممارسة السلطة الفردية التي لا تتدخل بشكل فاعل في التاريخ إلا بعد أن تكتسب أهمية أكبر- وهذا ما اقترحت نعته في مكان آخر (غوردو 2000) بالحدث/خارج التاريخ - أو من خلال السلطة الجماعية. لا يعني ذلك تغييب الفردانية من التاريخ - التاريخ لم يصنعه كل الناس بشكل متساو - لكن فقط التأكيد على التفاعل بين الفردانية والجماعية لتشكيل التاريخ البشري: فحب الزعيم (أي زعيم) لجاريته (أي جارية) يجعلها تمارس عليه سلطة عبر إملاءاتها ونزواتها، لكن ذلك لا يعدو كون هذه العلاقة السلطوية، علاقة فردية، وخطورتها لا شك ستتضاعف إذا قبل الزعيم المعني آراء جاريته، في توريث الحكم مثلا، وطبقها على المجتمع، فتتنزل السلطة على الجماعة، فتؤثر فيها... لتدفعنا إلى التساؤل: كم من عرش عصف به بسبب آراء الجواري؟

يمكن أن نقدم، اعتمادا على الوقائع التاريخية، العشرات من الأمثلة عن "علاقات سلطة" مختلفة، بعضها مثير للغرابة فعلا، تتحكم فيها رموز سلطة تشكل اليومي والرتيب لنا جمعا: إن واقعنا الراهن قد تأسس على عدد كبير جدا من الأحداث التاريخية، لكنه تأسس أيضا، ومن المؤكد طبعا، على أضعاف هذا العدد من الأحداث خارج/التاريخية (المسكوت عنها) والتي تساهم، بصمت، في حركة التاريخ... بعبارة أخرى، يثيرها عادة زملاؤنا الفلاسفة، إلى أي حد تتحمل رفة جناح الفراشة المسؤولية عن الاضطرابات الهوائية والأعاصير المدارية؟

هذه أمثلة عن علاقات سلطة داخل المحور الواحد والتي تسبب في كثير من الأحيان في تفجيره وبروز الصراع داخله، أما الصراع بين "محاور السلطة" فيعني في العمق أن تضادا ما قد وقع بين هذه المحاور في مصالحها، أو أن محورا ما يحاول احتواء محور، أو محاور أخرى، عبر أعمال العنف التي تجر إلى القتل والنهب والاغتصاب... وهي أفعال يرفضها المجتمع بين أفراده، وإن نظريا، بفعل أيديولوجيا القانون كعقد اجتماعي، لكن الحرب والثأر، وإبداعات بشرية أخرى، تحمل ضمنيا أيديولوجيا مبيحة، بل مشجعة على هذه الأفعال "الكلبونية" ضد المجتمعات الأخرى/الأعداء، حيث يتحول أكبر السفاحين إلى "بطل" يحق له أن يفخر ببطولاته/جرائمه (غوردو 2004).

 مع التنصيص على أن كل "محور سلطة" يظل، هو نفسه، قابلا للتصدع والانشقاق في أية لحظة، رغم أن عقيدة المحور الواحد تفترض ضمنيا رفض العنف بين أعضائه، بيد أن استحالة الحفاظ على هذه الوَحَدَة (بفتح الحاء) - بفعل تلاشي الانسجام المفترض نظريا بين أجزائها - يعود إلى غياب تجانس مطلق بين هذه الأجزاء، نظرا لخاصية الوعي التي يتمتع بها الكائن البشري دون غيره من الكائنات.

في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي(10)

السلطة (في المعاجم اللغوية): الُملك والقدرة. وفي المعاجم الفلسفية، هي مفهوم سياسي اجتماعي اقتصادي، يشير إلى النفوذ المعترف به كليّاً لفرد أو نسق من وجهات النظر، أو لتنظيم، ذلك النفوذ المستمدّ من خصائص معيّنة أو من تقديم خدمات معيّنة. والسلطة أنواع: دينية، شرعية، نفسية، روحية، أبوية، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، استبدادية، شمولية، ديموقراطية الخ...

كما أنّ السلطة عنصر هام من عناصر الدولة، والسلطة العامة كوظيفة اجتماعية، تمارس من قبل جيش، وبوليس، وموظفين، ومحاكم، وأنظمة العقاب والزجر المختلفة. وحسب الماركسية؛ في مجتمع تهيمن فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تكون الدولة دائماً أداة قمع في أيدي الطبقة المستغِلة السائدة، فالسلطة هنا تستخدم لقهر الجماهير المستغَلة، بغض النظر عن شكل وطبيعة الحكم. ويرى لينين أنّ "أشكال سيطرة الدولة قد تكون مختلفة. فرأس المال يظهر سلطته على صورة ما حيث يوجد شكل ما، وعلى صورة أخرى حيث يوجد شكل آخر؛ ولكن من حيث الجوهر، تبقى السلطة في يد رأس المال: فسواء وجد الحق المقيد أو غيره، أو وجدت الجمهورية الديموقراطية، وبالأحرى بمقدار ما تكون هذه الجمهورية ديموقراطية، تظهر سيطرة الرأسمالية هذه بفظاظة أكبر وقحة أكبر. إنّ إحدى الجمهوريات الأكثر ديموقراطية في العالم هي الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية؛ وليس في العالم مكان (ومن زار هذه البلاد بعد سنة 1905 يتصور ذلك دونما شك) تظهر فيه سلطة رأس المال، سلطة قبضة من أصحاب المليارات على المجتمع كله بمثل الفظاظة التي تظهر فيها في أمريكا، بمثل الرشوة السافرة التي تظهر فيها في أمريكا. فرأس المال، مادام موجوداً، يسيطر على المجتمع كله، وليس من جمهورية ديموقراطية أياً كانت، ليس من حق انتخابي أياً كان، يمكنه أن يغير شيئاً في فحوى الأمر".

تطور مفهوم السلطة، وآلية الحكم في الدولة العصرية. وأصبحت السلطة تحتاج إلى مجموعة من الصفات، والشروط، كي يعترف بها، ولتمتاز بالشرعية، والديمومة، ولتستطيع البقاء.. ومن أهم هذه الصفات: الرضا والقبول من أبناء المجتمع، والتداول السلمي، والمساواة القانونية والحرية، لتبني دولة لجميع أبنائها. ويعرف أحمد زكي بدوي السلطة "أنها القدرة على التأثير، وهي تأخذ طابعاً شرعياً في إطار الحياة الاجتماعية، والسلطة هي القوة الطبيعية، أو الحق الشرعي في التصرف، أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته" (انظر:

Ahmed Zaki Badawi, A Dictionary of the social sciences English –

French – Arabic with an Arabic – English Glossary and a French – English Glossary (Beirut: Librairie du Liban, 1978)

وبيّن فوكو الطبيعة الحيوية ـ السياسية لصيغة الحكم الجديد، أو السلطة؛ مؤكداً أنّ "القوة الحيوية هي أحد أشكال القوة التي تنظم الحياة الاجتماعية من داخلها، عبر اتباعها وتعقبها وتفسيرها واستيعابها وإعادة صياغتها. فالسلطة لا تستطيع بلوغ القيادة الفعالة لمجمل حياة السكان إلاّ حين تصبح وظيفة عضوية حيوية يبادر كل فرد، طوعاً، إلى احتضانها وإعادة تفعيلها: "لقد أصبحت الحياة الآن... أحد أغراض السلطة" كما يقول فوكو. أما الوظيفة الأسمى لهذه السلطة فهي إغناء الحياة أكثر فأكثر، في حين تتركز مهمتها الأولى على إدارة هذه الحياة. وبالتالي فإنّ القوة الحيوية تشير إلى حالة يكون فيها إنتاج نفسها، وإعادة إنتاجها، موضوع الرهان المباشر في عملية السلطة.

حين تصبح السلطة سياسية ـ حيوية بصورة كلية، فإنّ الجسد الاجتماعي كله يغدو متضمناً في آلية السلطة، ومتطوراً بصيغته الافتراضية. وهذه العلاقة تبقى علاقة مفتوحة ونوعية ومؤثرة... وبالتالي يعبر عن السلطة على أنّها رقابة تمتد إلى أعماق السكان، وتخترق كياناتهم على أصعدة الوعي والجسد ـ وعبر العلاقات الاجتماعية بكليتها في الوقت نفسه". (انظر: الإمبراطورية ـ إمبراطورية العولمة الجديدة ـ تأليف: مايكل هاردت، وأنطونيو نيغري ـ تعريب: فاضل جتكر ، راجع النص: رضوان السيد ـ ص53-54)

ومن المعروف تاريخياً أنّ الصراع الفكري حول أنظمة الحكم والسلطة تركز بين مذهبين أساسيين:

ـ مذهب الحكم المطلق: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض، ويستند في أيديولوجيته إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، الذي أسس للنظام الأبوي البطريارخي Patriarchalism ، ووجد في السلطة الشمولية والاستبدادية استمراراً له.

ـ مذهب " العقد الاجتماعي Social Contract : الذي يفسر نشأة الدولة والسلطة على أساس تعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... ويمثل ذلك نقلة نوعية باتجاه الحكم الديموقراطي، حكم الشعب الحر..

وفي هذا السياق عرفت المجتمعات البشرية السلطة الاستبدادية، والسلطة الشمولية، والسلطة الديموقراطية متعددة الصيغ والأشكال...

السلطة الديموقراطية:

أثمر نضال الشعوب الأوربية بناء دول تقوم على القوانين والدساتير وفصل السلطات، مما حد من السلطة البطريارخية والاستبدادية، وأسس للسلطة الديموقراطية... والوسيلة الأساسية للانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية هي إعمال العقل وعقلنة العلاقات الاجتماعية، والاقتناع بأنّ الحكام ليسوا مقدسين، ولا يملكون أي حق إلهي في حكم الشعوب.. والتوصل إلى المبادئ الديموقراطية في الحكم...

نستطيع إجمال المبادئ التي حددها المفكرون، لخلق مجتمعات وبنى اجتماعية تكفل مبدأ العدالة والمساواة في الفرص المتاحة لجميع الناس في الأنظمة الديموقراطية، فيما يلي:

ـ بناء نظام سياسي اجتماعي وفق عقد اجتماعي أساسه التراضي بين الحكام والمحكومين..

ـ فصل السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وتنظيم العلاقة بينها وفق أسس وقوانين واضحة، وعدم هيمنة أية سلطة على الأخرى..

ـ سيادة القانون والمساواة أمامه، والتطوير المستمر للقانون بما ينسجم مع التطور الاجتماعي..

ـ الحرية بالمعنى العام هي منطلق الديموقراطية والمساواة في الاستفادة من الفرص المختلفة لتطور الفرد والمجتمع..

مرت الديموقراطية بمراحل مختلفة حتى وصلت إلى الشكل والصيغة الحالية المعروفة على الصعيد الإنساني، ولكل مجتمع صيغة، أو شكل خاص من أشكال ممارسة الديموقراطية، وفي الوقت نفسه لها ميزات وصفات عامة مشتركة... ومن أشكال الحكم التي عرفت بالديموقراطية، وتحتاج إلى نقد ما سمي بالأنظمة الديموقراطية الشعبية، التي تعد من وجهة نظرنا، ديموقراطية الشكل، ديكتاتورية المحتوى.

فالديموقراطية الشعبية فكرياً هي استمرار وتطبيق لمفهوم ديكتاتورية البروليتاريا في دول أوربا الشرقية والمجتمعات ما قبل الرأسمالية... أما النظام الاجتماعي والسياسي الذي وجدت في كنفه، فقد عرف بالنظام الشمولي.

يتأسس النظام الشمولي على قيم أيديولوجية قريبة من القيم الدينية المقدسة، يخطها مفكرون مقدسون، ويطبقها زعماء مقدسون أيضاً... وهكذا يتشابه النظام الشمولي مع النظام البطريارخي، الذي يستمد مشروعيته من المقدس.. ومع التطور الاقتصادي والاجتماعي يصطدم هذا النظام مع متطلبات التطور والنمو، وتعجز الأيدولوجيا المقدسة عن إيجاد الحلول لمسألة النمو، وينحسر مريدو النظام في السلطة الحاكمة، التي تعمل على ابتلاع المجتمع وتتحول إلى سلطة استبدادية...

السلطة الاستبدادية:

يرى بعض المفكرين والباحثين أنّ السلطة الاستبدادية هي التي هيمنت في مختلف بقاع العالم ومراحل تطوره التاريخية، وقلما عرفت المجتمعات البشرية السلطة الديموقراطية... فما هي ميزات السلطة الاستبدادية، وما هي عناصر قوتها، وهل هي مرتبطة بعرق، أو قومية، أو طائفة... وهل تستمد وجودها وعناصر قوتها من طائفة، أو قومية معينة في المجتمع؟

السلطة الاستبدادية نقيضة الحرية. وتستغل السلطة الاستبدادية كافة جوانب الحياة والنشاط الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي لتعزيز سطوتها؛ وهي مطلقة الصلاحيات، تكتسب عن طريق الانقلابات، أو الوراثة. في ظل سلطة الاستبداد يشمل العسف والظلم جميع مجالات الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عن طريق توحيد القوى المستفيدة منها: السياسية والاقتصادية والمالية والدينية والعسكرية، وفي الوقت نفسه تشتيت وإضعاف القوى المعارضة لنهجها.

وتمر عملية بناء السلطة الاستبدادية بمراحل متعددة؛ تبدأ بالإجراءات المناهضة للحرية والديمقراطية، مثل إيقاف العمل بالدساتير الديموقراطية، وسن دساتير تلائم السلطة الاستبدادية، وتعطيل، أو حل البرلمانات، وتشكيل مجالس جديدة من المؤيدين لنهجها (الذين عرفوا بالمصفقين في الأرض)، والحكم بموجب قوانين الطوارئ، وحل الأحزاب، أو تحديد مجالات نشاطها، والهيمنة على وسائل الإعلام والصحافة.. وسن القوانين والأحكام التي تعزز هيمنتها القانونية والتشريعية على المجتمع، ويترافق ذلك مع إجراءات على الصعيدين السياسي والاقتصادي تؤمن لها جميع وسائل الهيمنة والتدخل في شؤون الاقتصاد والمجتمع، يساعدها في ذلك، غالباً، قطاع الدولة الذي تسميه القطاع العام، الذي يعزز قوة السلطة، ويجعل قبضتها تمتد "إلى تحديد أرزاق الناس وماذا يأكلون ويشربون، حيث أصبحت المواجهة بين الدولة والمواطنين مواجهة معيشية يومية متصلة وغير متكافئة"، كما يقول خلدون النقيب. (خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي"، ص202). وعلى الصعيد الاجتماعي تلغي مؤسسات المجتمع المدني، وتبادر إلى تشكيل بنى اجتماعية وجماهيرية ونقابية وتقيد نشاطها بالقيود، والقوانين، وآلية الانتخاب، التي تجعلها خاضعة باستمرار لمراقبتها والحد من نشاطها... وهكذا تخلق آلية لإعادة إنتاج سلطة الاستبداد باستنادها على بنى وقوانين ووظائف محددة تشمل المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية وأدوات الحكم، التي تتلخص مهمتها في حماية السلطة، ولا تستثنى من ذلك المؤسسات الدينية، وكما يقول صادق جلال العظم؛ فإن كل نظام حكم عربي، لا تنقصه المؤسسة الإسلامية التي تفتي بأن سياسته تتفق مع الإسلام. (انظر: صادق جلال العظم، "نقد الفكر الديني" ـ بيروت: دار الطليعة، 1969، ص 45-46( .. وهكذا تبنى "الدولة المخابراتية الأمنية" التي تقوم على القوة والعنف والاستبداد، وتستمد أسباب استمرارها من الرعب وليس من الشرعية.

وتتخذ هذه السلطة كافة التدابير لفرض هيبتها، خاصة عن طريق قمع القوى المعارضة لها، وتشديد مساءلتهم ومحاسبتهم، مع غياب مساءلة ومحاسبة الموالين الذين يقدسونها، فينمو الرعب، والخوف، والتقديس معاً. ومع تـفشي القمع والقهر وتهديد مصادر العيش، يهيمن الإذعان والطاعة والخنوع، لدرجة العبودية. كل ذلك لزيادة السيطرة على المجتمع، فتلغى حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية، لتحل محلها حقوق الموالين والمناصرين فقط، من كل طائفة وقومية ودين.. وتهيمن حالة من انسداد الأفق على كافة الصعد..

ومن ميزات الدول التي تهيمن فيها السلطة الاستبدادية استشراء الفساد في مختلف مفاصلها، ونظراً لأنّ الفساد ينشأ ويترعرع في أدوات وبنى سلطة الاستبداد الفوقية، وبطانيتها والموالين والمقربين منها، تصبح العلاقة بين الفساد والاستبداد عضوية، ويصبح كل شخص أو هيئة أو فئة غير فاسدة عدواً لسلطة الفساد، التي تبني وتّولد شبكة عنكبوتية اخطبوطية لحماية نفسها والفساد، وترويع من يتجرأ على انتقادها، ويصبح أي تغيير أو إصلاح بمثابة نافذة تهدد مصالح الفاسدين المحميين بآلة القمع السلطوية، التي تعمل على نشر ثقافة الفساد وتقديس السلطة التي تحميه، يساعدها في ذلك وسائل الإعلام التي تهيمن عليها، وأبواق بعض المثقفين وأصحاب الأقلام المأجورة... التي تصور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على أنّه في أفضل حال، فلا أزمات اقتصادية، ولا سياسية، أو ثقافية. ويصور الحال، في هذه الدول مهما كان نظام حكمها: ملكياً أم جمهورياً، رأسمالياً أم (اشتراكياً) على أحسن صورة.. فهذه وزارة الإعلام السعودية تصرح بأن ـ "الدولة والشعب يسيران في طريق واحد في ضوء الشريعة الإسلامية"، كما أنّه "ليس في المملكة مشكلات اجتماعية، لأن الدولة تكفل المجتمع بأكمله.." (انظر: المملكة العربية السعودية في المحيط الدولي، كتاب وزارة الإعلام، 2002.) كما تردد وسائل الإعلام في الدول (الاشتراكية) ودول (التقدم الاجتماعي)، التي تحكمها سلطات استبدادية، نفس الرأي، فالدولة والشعب يسيران معاً على هدى فكر الحزب القائد، والزعيم الملهم، ولا وجود لأية أزمات أو مشكلات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية...

كما تمتاز المجتمعات التي تحكمها السلطات الاستبدادية بالركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والتفاوت الكبير في توزيع الدخل الوطني.. ووجود فئة طفيلية فاسدة قليلة لا تتجاوز 5% من مجموع السكان تملك أكثر من 90% من الثروة الوطنية... من أراضٍ وعقارات وأموال، وثروات مع الجاه والنفوذ، وتتحالف مع السلطة السياسية التي تحول البلاد إلى مزارع خاصة بأفراد الحاشية والزبائن، بينما تعاني الغالبية الحرمان والفقر فضلاً عن فقدانها الممارسة السياسية... هكذا مع تعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، يولد الاستبداد السياسي وغياب الحريات والديموقراطية، يولد الاستبداد الاقتصادي.. ويترافق ذلك مع تدني وضع حقوق الإنسان فيها وانعدام أو التضييق الكبير على الحريات السياسية... ونظراً لمحاصرة وتقييد بل القضاء على المجتمع السياسي، وعدم السماح لتشكيل البنى والأحزاب السياسية والجمعيات بشكل سليم، تصبح هذه الدول والمجتمعات تربة مناسبة لظهور التطرف السياسي والديني، الذي يضيق الخناق على المجتمع أكثر فأكثر، في الوقت الذي تعتمد القوى الدينية المتطرفة نهج التكفير لكل من لا يوافقها الرأي، ويزداد التضييق على الحريات المصادرة أصلاً. هكذا تتم محاصرة وابتلاع المجتمع بمختلف طبقاته، وطوائفه وقومياته.

بؤس التفكير الطائفي المنغلق:

يربط البعض الحكم الاستبدادي بثقافة الشعوب، وهناك من يقول، على سبيل المثال، إن الثقافة العربية والإسلامية تؤسس وتبرر الإرهاب، ويضرب أمثلة كثيرة حول الفترات الطويلة من معايشة العرب والمسلمين وخضوعهم للحكم الاستبدادي... إلاّ أنّ الثقافة العربية والإسلامية التي أنتجت ابن رشد، والكواكبي ورفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الشهبندر، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وفرج الله الحلو... وشهداء آب (أغسطس) 1915 في بيروت و6 أيار (مايو) 1916 في دمشق، وغيرهم من شهداء الحرية في فلسطين وباقي الدول العربية، وملايين المناضلين الذين قضوا خيرة سنوات عمرهم في السجون دفاعاً عن الحرية، تدحض هذه المزاعم... والثقافة العربية مثلها مثل ثقافة باقي الشعوب، ليست موضوعات جامدة بل هي نتاج الحياة وتتطور بتطورها.. كما أثبتت التجربة التاريخية أن الاستبداد ليس حكراً على قومية أو طائفة، أو دولة دون أخرى، بل إنّ بعض المجتمعات التي عرفت بالرقي والتحضر، والديموقراطية، هي عرضة لأن يحصل فيها نكوص، لتحل فيها سلطة استبدادية، تسخر الجيش والبوليس والدين والبنى الاجتماعية، وفق آليات ومؤسسات معينة، لتخدم وتحمي السلطة المطلقة والاستبدادية... ومن غير المنطقي لصق تهمة الاستبداد بهذه القومية أو الطائفة دون غيرها.. والسلطة الاستبدادية تفرض عند توفر الظروف والشروط الملائمة لولادتها، ومع تغيرت تلك الظروف تنتفي إمكانية وجودها..

وكون السلطة الاستبدادية قد تنشأ في وسط معزول، أو من منبت طائفي، أو قومي ضيق، لا يعني تطابق مصالح تلك الطائفة، أو القومية، التي ينشأ فيها زعماء السلطة، وتطلعاتها بمجملها مع تلك السلطة الاستبدادية..

فمتى تكون السلطة الاستبدادية طائفية؟ وهل تتحمل طائفة بعينها وزر الحكم الاستبدادي؟

من الأمثلة المعروفة عن السلطات الاستبدادية والحكم الشمولي التي عرفتها البشرية في القرن الماضي: الحكم القيصري في روسيا، الحكم النازي، والفاشي، الحكم الشمولي في دول أوربا الشرقية، وفي أمريكا اللاتينية حكم الديكتاتور بينوتشيت الذي نصبته وكالة المخابرات الأمريكية بعد قضائها على الحكم الديموقراطي برئاسة سيلفادور أليندي في تشيلي، كما نصبت ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية في تنصيب أسرة الديكتاتور سوهارتو في أندونيسيا على جماجم مئات آلاف الشيوعيين، ودعمت تلك المخابرات عشرات السلطات الاستبدادية في العالم، وحكم بوكاسا وغيره في أفريقيا، وحكم البعث الصدامي في العراق وغيره، وشبيهه كثير في العالم، وفي البلدان العربية.

ألم تكن تلك السلطات متشابهة، من حيث البنية والأساليب والأدوات التي اتبعتها في الحكم؟ هل نستطيع أن نقول إن الجورجيين هم المسئولون عن السلطة الشمولية الستالينية. وهل تقف طائفة وحدها وراء ديكتاتورية بوكاسا أو بينوشيت؟‍! هل صحيح أنّ الطائفة السنية هي المسئولة عن ديكتاتورية صدام حسين...؟؟ وقس على ذلك.

تحمل مقاربة هذه المسألة الحساسة الكثير من المخاطر، وأهمها سوء فهم من يطرحها، ومحاولة نزع الأفكار من سياقها، ووضعها في خدمة فئة، أو طائفة، أو سلطة... وتبقى المقاربة العلمية الموضوعية هي السبيل الصحيح لتشريح هذه الظاهرة، والبحث عن الحلول الملائمة لمعالجتها...

إنّ عملية اغتصاب السلطة عن طريق الانقلابات، تسمح باستيلاء أشخاص، أو فئات على السلطة لا يملكون ثقافة ووعياً حقيقيين في مجمل المسائل السياسية، والفلسفية، والاجتماعية، يجعلهم يفرضون تصورهم الخاص في الحكم والسلطة، ويسنون قوانين، ويلزمون فئات الشعب على الانضواء في بنى ومؤسسات خاضعة لسلطة مخابراتهم... وفي نفس الوقت يبحثون عن مناصريهم ومؤيديهم ويقدمونهم ليحتلوا المراكز الحساسة والمفصلية في السلطة بغض النظر عن إمكاناتهم وثقافتهم ووعيهم، فتجد مساعداً يأمر جنرالاً، وتجد مراقباً فنياً يأمر مهندساً ودكتوراً في الهندسة، وتجد بائع ثلج يصبح نائباً لرئيس دولة، بل تجد رقيباً يرأس دولة.. ويصبح المعيار الأساسي هو مدى الولاء للسلطة، ويلغى الولاء للوطن، فما بالك بالكفاءة والنزاهة.. وكما قلنا تلغى حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية، لتحل محلها حقوق الموالين والمناصرين فقط، من كل طائفة وقومية ودين... حتى الولاء للقومية، أو الطائفة، أو الدين، أو الوطن يلغى، ويبقى الولاء للزعيم وللسلطة... وكل مؤيد لهذه السلطة، بغض النظر عن طائفته، أو عرقه، أو قوميته، أو إمكانياته، ينال نصيبه من العطاءات المنهوبة من الثروة الوطنية... وينال كل معارض، مهما كان انتماؤه الطائفي، سواء أكان من طائفة الجهة المهيمنة على السلطة، أو من غيرها ـ ينال أقصى حد من العقاب الذي يصل إلى حد التصفية الجسدية، أوفي الحد الأدنى التصفية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، عن طريق المحاصرة والتهميش... وتستخدم السلطات الاستبدادية سلاح التفرقة والتمييز بفعالية، فتفرق بين الطوائف وبين أبناء الطائفة الواحدة، وبدلاً من تلاحم المتضررين من هكذا سلطات ينكفئون ويتشرذمون، ويعادي بعضهم بعضاً لأسباب واهية، وترتفع أصوات بعض الذين يعانون من البؤس الفكري تعادي جميع أبناء طائفة زعامة تلك السلطات، بدعوى أنّهم يستفيدون منها ويحمونها، "فمن لا يستفيد مادياً يستفيد معنوياً" من هذه السلطات، على حد زعم هؤلاء... متجاهلين حقيقة التدمير الشامل الذي تسببه نلك السلطة والذي يطال جميع أبناء الوطن، من جميع الطوائف والأديان دون استثناء.. لكم تصدم هذه المواقف المسبقة، والمزاعم والاتهامات مواطنين وشخصيات يتجاوزون الطائفية ولا يقرون إلاّ بالانتماء الوطني، ويدفعون ثمن مواقفهم الوطنية المتحررة من قيود الولاءات، ويزيد في الحرقة أن يوجه هذه المزاعم والاتهامات، من يستفيد نسبياً من هذه الحالة، أو من يدعي أنّه علماني بعيد عن التفكير الطائفي، في الوقت الذي يُخشى فيه أنّ يصب مثل هذا الطرح أو التفكير والإدراك واللاشعور، الصادر عن بعض (العلمانيين، والذين يعتقدون أنّهم متحررون من التفكير الطائفي) يصب، من حيث الجوهر، في دائرة التفكير طائفي، الذي يظلم مروجيها بالدرجة الأولى، ويفقد المجتمع من وحدة القوى المناهضة للاستبداد، فضلاً عن ظلم من توجه إليهم هذه الاتهامات جزافاً... إنّ فقدان منهج التفكير السليم يؤدي إلى عدم رؤية الغابة المنتصبة وراء شجرة... والأمثلة كثيرة على ذلك؛ وهي جلية بسيطة تصادفنا يومياً... لنأخذ، مثلاً، أداة واحدة من أدوات السلطات، وليكن جيش المخبرين، هل هم حكر على طائفة بعينها، أم أنّهم من جميع الطوائف... ومن سيقوم بطباعة هذا المقال وتقديمه... هل هو من طائفة محددة؟؟.. لقد تراقص حول سلطة ص. حسين، على سبيل المثال، منافقون ليسوا من السنة فقط، بل ومن الشيعة والأكراد والمسيحيين وغيرهم... كما أنّ السلطة الاستبدادية لم تضطهد طائفة دون أخرى، بل كان من بين المضطهدين سنة وشيعة وأكراد وتركمان ومسيحيين وكلدان وآشوريين..الخ. ومن المنطقي التساؤل إن كان اضطهاد تلك السلطة الاستبدادية للمفكرين والمثقفين من مختلف الطوائف والقوميات متفاوتاً أو مختلفاً، هل كان اضطهادها للجواهري والبياتي وكاظم السامرائي وغيرهم أنعم، أو أرق، أو أخف، أو أقسى من اضطهادها لهادي العلوي، وجبرا إبراهيم جبرا، وحمزة الحسن، ورزكار عقراوي وغيرهم كثر، مع التقدير للجميع، والمعذرة عن عدم إمكانية ذكر الأسماء، لأنّ ذلك يحتاج إلى مجلدات؟؟!! ألا تضم المقابر الجماعية رفات مناضلين من مختلف القوميات والطوائف والأديان، بما في ذلك طائفة الحاكم المستبد؟؟!! كما بجل أئمة مساجد وكنائس من مختلف الطوائف، الطغاة، ووقف وراء هؤلاء الأئمة رعاياهم مبجلين خاشعين... لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ السلطات الاستبدادية تعتمد على الموثوق بهم، وكثيراً ما تجدهم في العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة المقربة، لكن هذا لا يعني أنّ تلك السلطات لا تجد أضعاف هؤلاء من المنافقين والوصوليين والانتهازيين في الطوائف الأخرى، التي تبدو من حيث الشكل متضررة، وفي الواقع فالمجتمع ككل بمختلف طوائفه هو المتضرر... كما أنّ اعتماد تلك السلطات على المقربين من طائفة الزعيم لا يعني أنّها تخدم هذه القبيلة أو العشيرة أو الطائفة.. إنّها بطبيعتها لا تخدم إلاّ ذاتها... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إذا كانت الطائفة تمثل أقلية في مجتمع ما، فهي بطبيعة تعدادها تجعل السلطة مضطرة لعدم الاستغناء عن المناصرين لها من باقي الطوائف... وعند محاسبة السلطات الاستبدادية من المنطقي محاسبة كل من دعمها وساندها من مختلف الطوائف، وليس من طائفة محددة...

والشيء عينه ينطبق على السلطات الاستبدادية في جميع دول العالم، بما فيها العربية... فهل كانت سلطة بينوتشيت سنية، أم شيعية أم من طائفة مسيحية منفردة، وهل كانت سلطة بوكاسا أو تشاوشيسكو وغيرها من السلطات الاستبدادية،، سنية أم شيعية أم طائفية؟؟!!

لا تزروا طائفة وزر سلطة...

إنّ السلطة تتغذى وتقتات من مختلف شرايين المجتمع، وتتطفل على جميع طوائفه التي تحاصرها.. قد تسخر فئات من طائفة معينة أكثر من غيرها في بعض وظائفها، خاصة البوليسية والأمنية، إنما مصدر قوتها ينبع من إنهاك المجتمع ككل، وخضوع جميع الفئات والطبقات لهيمنتها، وتزويدهم لها بعناصر القوة... والجميع يتحمل مسئولية ديمومتها... ولو قدر إجراء إحصاءات دقيقة لعدد المستفيدين من هذه السلطات في أي بلد، من أفريقيا إلى آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا لوجدتهم من جميع الطوائف والأعراق والقوميات، والمتضررين كذلك...

من الضروري عدم استخدام هذه الآراء في سياق تبرير أي ظلم أو اضطهاد حلّ بأية طائفة أو قومية من السلطات الاستبدادية... على العكس تماماً من الضروري محاسبة تلك السلطات على ما اقترفته، ومن أكبر الأخطاء القول: عفا الله عمّا مضى، ويوازي هذا القول، من وجهة نظرنا، جرائم المستبدين... والمحاسبة تكون موضوعية بمعرفة جوهر المسألة وكنهها الحقيقي... ولن يتم ذلك إلاّ من خلال بناء دولة على أسس عصرية متحضرة تبني مؤسسات تحدد مفهوم السلطة ولا تدعه عرضة لنزوات الأشخاص، يسود فيها العقل وحق المواطنة السياسية والاقتصادية، لجميع أبناء الوطن دون تمييز أو استثناء...

إنّه لمن الضروري تذكر حقيقة أن شهداء آب (أغسطس) عام 1915 في بيروت، وشهداء 6 أيار (مايو) 1916 في دمشق، وغيرهم من الشهداء اللاحقين، وسجناء الحرية، ضحوا بأغلى ما يملكون في سبيل بناء الدولة الوطنية الحرة.. وخير ما يمكن أن نقدمه لتخليد ذكراهم، هو بناء أسس دولة المواطن والقانون المتحررة من الظلم والاستبداد، ومن كل تمييز قومي أو طائفي... لتسمو الأوطان حرةً متحررةً من الاحتلال والاستبداد، ملبية وصايا الشهداء حافظة لذكراهم العاطرة.

مفهوم السلطة وتأريخ الحقيقة استراتيجية صراع وإرادة هيمنة(11)

حمل مفهوم السلطة عبر العصور، الكثير من المخلّفات الميتافيزيقية، وحتى اللاهوتية، وبقي هذا التصوّر هو السائد المسيطر، الأمر الذي جعل الفكر السياسي هو المحتكر الوحيد، للحديث عن السلطة،إذ كان غالبًا ما تُعَرَّف السُلطة، بأنَّها سلطة الدّولة ، أو السلطة السياسية ، وأنَّها عبارة عن مؤسساتٍ وأنظمةٍ وأجهزةٍ، تُخضِع المواطنين أو الرعايا لقوانينها داخل حدود دولة ما .

لذلك فإن مفهوم السلطة بهذا المعنى يُشَكِّلُ  نظامًا من السيطرة، والهيمنة، التي تمارسه فئة ما على فئة أخرى، مُتَّخِذَةً بذلك صُورًا عدّة ، منهاصورة العنف تارة وصورة القانون تارة . بهذا الوصف، تبدو السلطة كظاهرة، أداة إيديولوجيِّة، وأداة قمعيِّة، تسعى لإعادة إنتاج شروط الانتاج وعلاقاته، بهدف تغليف تناقضات مجتمع ما، وربطه وتوحيده.

هذا المفهوم الذي ساد عن السلطة في أذهان الناس، أخذ يتفكك مع بعض الفلسفات المعاصرة، ويُعد نيتشه من أوائل من حاول تفكيك مفهوم السلطة، مركِّزًا على العنصر التفاضلي , لتحديد و توليد القيم أيًّا كانت، الأمر الذي يقسِّم البشر والمجتمعات, بكل موضوعاتها المتعلقة بها ورموزها، الى تعارضات متنوعة ومُختلفة ، فيغدو العالم من وجهة نظر نيتشه، مجموعات متنافرة متناحرة، تتصارع بهدف الاستحواذ على كميّات الواقع.

كما ان بعض التيارات الفكرية والاتجاهات السوسيولوجية، حاولت أن تنتزع من الفكر السياسي ، إحتكار مفهوم السلطة، ومع هذه التوجهات السلطة السياسية ماهي إلا أحد أوجه السلطة، وما هي إلا الأشكال التي تنتهي اليها السلطة، فهناك سلطة الأسرة، والعمل، والمال، والعقائد، وتأويل النصوص, والمعرفة ........

لقد استطاع ميشال فوكو ، أن يَستلهم نيتشه، في حديثه عن القيم والأخلاق، ليتكلَّم عن السلطة، متجاوزًا الطرح المنهجي نحو الطرح الأركيولوجي، من خلال ماعُرف بال"جينيولوجيا" أي تاريخ الحقيقة، فهذه الأخيرة تُعدُّ الأداة التي تسمح للفلسفة بأن تلتقي بالتاريخ؛ بجعل الفلسفة تتخلى عن منطلقاتها الميتافيزيقية، والدفع بالتاريخ إلى أن يكون اهتماما بما يحدث فعلا في جميع مستوياته المختلفة.

لقد انطلق فوكو من أرضيّة متحركة لعلائق القوى، التي تُولَدُ دونما انقطاع، وبهذا المنظور، فليست السلطة بالضرورة هي رأس الهرم وحسب، وليست هي نابعة دائمًا من الأعلى، فهي ليست فوقية دائما، بل هي "محيطة" تأتي من كلّ صوب ، وذلك بسبب انها متولّدة، تتفاعل في كل لحظة، فالكائن يقع تحت سلطة مكوَّنَة من شبكة علائقية من مجموعة سلطات متفاعلة فيما بينها بشكل دائم ومستمر.

فالفرد محكوم بسلطة الادارة التي يعمل بها، وسلطة منظومته العقائدية التي يؤمن بها، وسلطة العادات والتقاليد التي يمارسها، وسلطة الأسرة التي ينتمي اليها، وسلطة الدولة التي يعيش فيها، وهكذا فالإنسان محكوم بسلسلة لا متناهية من السلطة المحيطة به بشكل دائم، ومستمر، ومتفاعل و"مولد" ومركب في آن، مجموعة هذه التفاعلات تشكِّل له واقعه .

وبهذا التوصيف  فإن التركيبات المجتمعية، لا تقوم على الثنائية الضدية ، فالمجتمع لا ينقسم الى أقوياء وضعفاء ، رؤساء ومرؤوسين ، بل هناك مجموعة علائقية لقوى متنوعة متعددة، تتكوّن منها أجهزة الانتاج وتعمل من خلالها، وتُشكِّل المؤسسات الحامل للانقسامات والنزاعات والرابط بينها .

والسلطة بهذا الاعتبار ليست إلا حركة، بواستطها تُحوّل القوى فتخفف من حدَّة قوى لحساب قوى أخرى، أو تزيد من حدّة قوى، أو تعمل على قلب موازين بفعل الصراعات التي لا تتوقف .إذن السلطة هي الاستراتيجيات التي تؤثر في القوى وتجسد أهدافها، وتتبلور من خلال مؤسسات الدولة وأجهزتها كما تتبلور في القوانيين وكافة أشكال الهيمنة المجتمعية الأخرى .

يمكن القول أن السلطة بهذا المعنى ليست "منصبًا" او شيئًا ملموسًا، نمسك به، ونحتكره، ونتصارع عليه، فالسلطة استراتيجية ممارسة ، تنطلق من نقاط لا تنحصر في خضم بحر من العلاقات المتحركة، وغير المتكافئة، مهمتها الأساس أن  تنتج الواقع في أحدى مستوياته بكل تعقيداته وتعدده وغليانه .

إنّ أهمية جنيالوجية الحقيقة هذه، تكمن في كونها، أبرزت علاقة الحقيقة بالسلطة، فهذا الجانب هو الذي استعاده فوكو من نيتشه، وطبقه على موضوعات لم يكن تاريخ الفلسفة يحفل بها. فلقد لاحظ فوكو أن ما ندعوه حقيقة، هو نتاج لصراع القوى، ودخول قوة في علاقات مختلفة تتسم بالصراع، ومن ثم بالهيمنة، وبالسيطرة لأن ما يسمى بالواقع ليس ذلك المجال الساكن والهادئ الذي ينتظر فاعلا من الخارج لكي يؤثر فيه، بل الواقع يعج بالصراعات التي لا تنتهي . إذ حينما يلتقي فعل بفعل آخر ينتج عنه صراع القوى، فتنزع كل قوة إلى الهيمنة والسيطرة. لهذا من العبث إقامة تاريخ للحقيقة دون الاهتمام بصراع القوى؛ فما يسمى، عادة، حقيقة ما هو إلا تجسيد لقوة انتصرت على قوة أخرى. وبالتالي فإن السلطة هي هيمنة وسيطرة قوة على أخرى، هذا ما يجعلها تأتي من كل مكان، وتنتج بمجرد ما يقع هناك التقاء لقوة بأخرى.

إذ أن كل نقطة في الواقع قادرة على إنتاج السلطة، أي علاقات قوى. لهذا يتحدث فوكو، في سياق الفكر النيتشوي، عن إرادة للحقيقة همُّها إقامة فَصل بين ما يعتبر حقيقة، وبين ما يعتبر خطأ ووهما وضلالا. ولن نفهم شيئا من تاريخ الحقيقة، إذا نحن اكتفينا بالنظر إلى الحقيقة باعتبارها الصدق والحق الذي انتصر على الخطأ، لأن هناك ماهية تميِّز كل واحد في ذاته، وتجعل كل طرف من أطراف "بنية" الحقيقة ينفصل عن الآخر بمجرد ما نعرف أن الحق حق، والخطأ خطأ. بيد أنّ الفصل ليس فصلا تامًّا ونهائيًّا، فما يُعتبرُ حقيقة يمكن أن ينقلب وينتقل إلى ما يناقضه؛ وهذا ما يظهره تاريخ الحقيقة. حيث نلاحظ، أن حقيقة ما لا تبقى ثابتة ولا أزلية.

 فالحقائق متعددة في التاريخ، تبعًا لتعدد القوى المُشكِّلَة له من جهة، ولنمط العلاقات التي تقوم بين القوى من جهة أخرى. فعندما نتابع، في التاريخ، كيف انتصرت قوة على قوة أخرى، وكيف أنّ استراتيجية تحكَّمت في صراع القوى، نفهم لماذا تمَّ الرفع من مكانة حقيقة ما، واعتبرت صدقًا على حساب ما تمَّ إقصاؤه على أنه خطأ.

فِي هذا المنحى، فإن إقامة تاريخ للحقيقة، انطلاقا من صراع القوى، ما كان ليتم لولا الربط "الحدث الأركيولوجي" 

وبهذه المعاني المتقدمة ستتخذ إشكاليات السياسة والسلطة والحقيقة والمعرفة ، معاني أُخَر فلن تعود المسألة تحديد مواقع الحقيقة والسيادة الطبقية، بل إنّ مفهوم الحقيقة ذاته سيصبح عبارة عن مجموع الاستراتيجيات والعمليات التي يتم بفضلها إنتاج العبارات وتوزيعها وتداولها ، فالأمر لا يتعلّق بتحديد منهج الوصول الى الحقيقة، وإنَّما بتحديد الجهات التي تنتمي اليها هذه الحقيقة اوتلك ، فالأركولوجيا لا تعني الانتصار لقيمة على قيمة أخرى ، وإنما البحث في قيمة القيم وتحديد نظام الخطاب وسياسة الحقيقة .

والسؤال الذي يُراود الأذهان هو: هل يمكن إيجاد واقع لا سُلطَةَ فيه؟ وهل هناك كيفية يمكن للفرد أن يعتمدها  للالتفاف على السلطة التي تواجهه في كل مكان، والتي تقيم سياجًا من الضبط والمراقبة، يحيط بكل سلوكاته وتصرّفاته ؟

إن على الفرد عدم التوَّهم أنّ هناك واقِعًا لا سلطة فيه . إن عملية التحرر الفعلِّي من السلطة لا تتمّ إلا عندما يخضع القوة، من أجل امتلاكها، لذاته؛ انطلاقا من الذات نفسها، مما يعني أن على الفرد أن يجعل من قوته قوة تؤسس الحقيقة، عندما يطوي الخارج عنه لكي يصبح داخلا فيه.

والحقيقة عندها ، هي استعادة لما سبق أن وقع، ولكن بشكل مختلف. ذلك أنّ التنوّع في تلك الحالة ،هو محرك التحوّل الذي تعرفه الحقيقة، والذي يجعل من الحقائق التي يتمُّ الرَّفع من مكانتها كحقائق، حصيلة ثني واستيعاب قوة لقوة أخرى.

.......................................................

المصادر/

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

2- كتبها فريدريك انجلز سنة 1872 في إيطاليا.

3- نشرت سنة 1874 بإيطليا في Almanacco Repubblicano

ترجمة : وجدي حمدي / ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 4- فضائية الجزيرة

 5- المركز العربي للدراسات المستقبلية

 6- زهير الحارثي/ الشرق الاوسط

 7- شبكة النبأ المعلوماتية

 8- مطاع صفدي/ العراق للجميع

 9- د. تيسير الناشف   /    انفاس نت

 10-  د. عبد العزيز غوردو/  مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية

 11- شاهر أحمد نصر/ الحوار المتمدن

 12- مروة كريديّة  /    موقع ناشري

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 28 آب/2007 -14/شعبان/1428