العمامة الحائرة

حسن آل حمادة

كأطفالٍ صغار لم تبرز عوارضهم بعد؛ كنا نلعب كرة القدم في الساحات المجاورة لبيوتنا، وربما لعبنا بين الأزقة الضيِّقة؛ لنلبي حاجتنا للعب، وما أن يمر بقربنا الشيخ -أي شيخ- حتى نفتعل السكينة والوقار؛ فنعيد ثيابنا عند مروره لوضعها الطبيعي، بعد أن قمنا بتخبئة الجزء السفلي منها تحت السروال؛ لنهيئ أرجلنا لركل الكرة بحرية، أو لنهرب بسرعة البرق، خوفاً من ملاحقة أصحاب البيوت المتضررين لنا.. بعض الأطفال حين يمر الشيخ كان يهرول مسرعاً ليتبرك بالسلام عليه، وما أن يمضي في طريقه حتى نعود لطريقتنا الأولى، وربما شتم أحدنا الآخر أو اكتفى بركله فقط.

العمامة كانت تمثل لنا في تلك المرحلة رمزاً للطهر.. للإيمان.. للعلم.. للمحبة.. للعفة... وكل ما في القاموس العربي والفارسي من كلمات جميلة، هكذا كنّا ننظر إليها قبل أن تلوثها المصالح، وتنقطها الأهواء، وتحركها العصبيات، ويغذيها الحسد.. وقد وفقنا الله لنستمع تحت أعواد منابر المعممين أن العلماء حازوا نصيب الأسد من الحسد!

صورة الشيخ المُعمم لم تعد تأسر القلوب والأفئدة، كما كانت إبان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما صاحب ذلك من زيادة ملحوظة في أنشطة الحركات الدينية؛ السرية منها والعلنية.. فأضحى شأن الشيخ كشأن المعلم الذي يعمل في أي مرفق تعليمي، بعد أن تكاثرت أعدادهم كالفطر؛ لتجدهم تحت كل حجر ومدر!

حينما أتذكر أنني وقريبي (عزّت) كُنّا نتداول أمر الهجرة إلى إيران بينما نحن واقفين بجوار صندقة الحمام؛ تنتابني الآن نوبة من الضحك، فقد كان خيار الالتحاق بالجمع المهاجر خياراً من الخيارات التي وضعنا لها أولوية كبيرة في حياتنا؛ إذ تصورنا بأن ثواب العمل في بلاد المقدسات سيكون ثواباً مضاعفاً، إضافةً إلى أننا سنرتدي العمامة أيضاً!

وماذا عن لون العمامة التي ستعتمرها؟ هكذا فاجأني عزّت بسؤاله؛ فأجبت: بالطبع عمامة ناصعة البياض، فقال: دع البيضاء لي، أما أنت فينبغي أن تعتمر البيضاء المُنقّطة بالسواد؛ كونك من الميرزويين!

شخصياً كنتُ أتهيب في تلك الفترة من الجلوس حتى مع أصغر المعممين سناً ومعرفةً.. ولا أنسى أنني سألتُ بعضهم أسئلة سطحية كنت أعرفها، ولكنني ظننت أن الإجابة عندما تأتي منهم فهي بمثابة الدواء الشافي، ومع مرور الوقت وجدت أنها أجوبة عادية يحفظونها بطريقة تلقينية في الحوزة؛ لنسمعها من بعضهم بلهجة مطاطية مملة.

لا أدري لماذا بدأتُ أتململ من بعض المعممين الذين لم أجدهم يجيدون تمثيل دور القدوة الحسنة، ومنذ أن علمت كيف ينبغي أن أكون، وأنا لا أطيق لغة التعالي والأوامر التي تبدو جليّة في سلوك البعض منهم.. بدأت أنفر من لغة: افعل ولا تفعل.. سر في هذه الطريق وتجنب تلك.. اقرأ لهذا الكاتب واحذر سواه.. استمع لهذا الخطيب وإياك أن تُصغي لغيره!

توجيهات كهذه تشعرك أن المتحدث هو من يمتلك المفاتيح السحرية للوعي والنجاح، أما أنت فلا يسعك إلا أن تكون عبداً مطيعاً؛ فإذا تكلم العالم سكت الجاهل؛ وإلا ستقع حينئذٍ في الضلال والحيرة، وسترتكب الخطيئة وأنت ثمل بين الناس.

في يومٍ من الأيام جلست مع أحد المعممين، وقلت له إن الشيخ فلاناً أصدر كتاباً، فقال: أجل فهو فارغ البال، وليس مثلنا نحن معاشر الخطباء، أو أئمة الجماعة!! دهشت من منطقه هذا، وفوجئت أكثر عندما قلت للكاتب منهما في مناسبة أخرى إن الشيخ فلاناً خطيب جيد، فقال: أمر الخطابة هينٌ، فهذا الخطيب قد لا يستطيع أن يكتب مقالة صغيرة فضلاً عن كتاب!!

ذكرني هذا الحدث بقصة الشيخين اللذين حلا كضيفين على أحد المزارعين؛ فوصف كل منهما الآخر -منفرداً- بصفة حيوانية، فقال الأول إن صاحبه حمارٌ، وقال الثاني إن صاحبه بقرة؛ فأحضر لهما المزارع البرسيم والعشب، فافتُضِح أمرهما وهما يكشفان الأغطية!

ولا أظن أني سأنسى الشيخ المُعمم الذي سألته يوماً عن آخر كتابٍ قرأه، فرد عليّ بأنه لم يقرأ شيئاً هذا اليوم! فقلت له: وماذا قرأت بالأمس؟ فرد بنفس الإجابة، فقلت: وماذا قرأت خلال هذا الأسبوع؟ فذهلت عندما قال: إنني لم اقرأ أي كتاب! وحين سألته عن السبب قال: إنك تعلم عن وضع التيار الكهربائي وانقطاعه المتكرر في حي السيدة زينب بالشام!!

لم أستوعب هذه الإجابة؛ فذكّرته بقصة الشيخ الشهير الذي تروى حكايته من على أعواد المنابر؛ إذ كان يقرأ لِفقره وعِوزه؛ تحت النور الخافت المنبثق من فوانيس الحمامات العمومية في العراق، حتى أصبح علماً من الأعلام!

ومن الطرائف أن هذا الشيخ الذي لم يقرأ كتاباً خارج الدرس الحوزوي أصبح الآن خطيباً يرتقي أعواد المنابر، ولا تسألوني عن قوة المادة العلمية التي يطرحها على المستمعين؟ يكفي أن أقول لكم إنه الآن حسب التصنيف المحلي لأخينا (عزّت) صار من أصاحب (العمائم التائهة) أو (العمائم الحائرة).. إذ بهاتين العبارتين كان عزّت يُعَلِّق على بعض المعممين الذين لم تضف عمائمهم أي تميِّز يذكر في حياتهم.. فبعض المعممين -كما يقول- وجدوا أن العمامة تمثل عبئاً ثقيلاً عليهم؛ لذا وجدوا أن التخلص منها أسلم؛ فهي تضعهم في مواقف محرجة أحياناً، وترغمهم على تصنُّع حالة من النفاق الذي قد لا يرتضونه لأنفسهم، مع أن آخرين، بقي على اعتمارها كمظهرٍ خالٍ من الجوهر! حتى سمعتُ أن أحد المعممين قال لأولاده ذات يومٍ: "الحظ لو زين صرت زيّ عمكم في أرامكو، بس يالله، هذا المقسوم يا أولادي"!

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 26 آب/2007 -12/شعبان/1428