المهجّرون... داخل العراق

عدنان عباس سلطان

شبكة النبأ:(((المسافة نفسها التي يقطعها كل يوم من الشارع العام الى بناية المخازن الغذائية، ومن ثم ارض غير مأهولة تمتد لمسافة كيلو متر واحد وهو يستطيع منذ البداية ان يرى الاكواخ الملتاذة ببعضها الخائفة من شئ ما، احس وهو يتطلع اليها بشدة شمس آب وانفاس الصحراء الحامية.

لكنه تصور اين يكون كوخهم قد انزوى واين الآن هي ربما تخيلها تطور في رؤيتها للحلم واستعادة الحياة التي عاشتها في الزمن القديم، وربما ايضا تعد نفسها ان تعود في القريب الى بيتها بعد نجاته من الفيضان الرهيب، وربما تزمع ان تقيم دور الحول على ابي علاء.. قالت في مرة امامه ستنقضي الثلاث اشهر وتاتي دورة السنة على استشهاد والدك.

هي .. ماذا تبغي ان يكون.. اهي لا زالت تحلم بان يكون موظفا بعد الدراسة، ايكون بمستطاعه ان يعبر السنين القادمة كلها ليحقق حلمها المستحيل؟.

شعر برغبة في رمي كتبه المدرسية كما رغب ان يصرخ باعلى صوته ..انت غلطانة امي الدنيا غلطانه الصحراء الليل النهار نحن في ماكنة الغلط نبحث في المتاهة عن كنوز مزعومة نبحث عن شئ مستحيل.

رمى كتبه امامه وغطى وجهه وطأطأ، والشمس تلسعه دون ان يكترث بالامر بل شعر برغبة في ان تلسعة بالمزيد من لهيبها المستعر.))

هي ذي حالة سامر الولد الوحيد لإمه بعد ان رحل عنهم الاب شهيدا مغدورا واجبرت الام على استصحاب ولدها من قبل القوى الارهابية وترك بيتها وكل ما يحوي ذلك البيت وتهاجر الى هذه المحافظة طلبا للامان على ولدها الوحيد من الغدر.

وليست ام سامر الوحيدة في المصيبة انما يتقاسمها كل من يسكن هذه المخيمات والاكواخ في المناطق النائية من ارض الله.

وهو حال الشباب الذين في سن الدراسة وللظروف البائسة التي يعيشونها فقد ترك العدد الغالب منهم الذهاب الى المدرسة والعدد الذي استمر باستئناف الدراسة انما مآله الى تركها ايضا ان لم يجبره سوء استيعابه الى تركها في نهاية السنة الاولى كما فعل سامر ليتلكأ في الاسواق لعله ياتي بالقليل الى امه لأجل العيش اليائس.

ان الظروف الصعبة التي يعيشها المهجرون والمتمثلة بقلة الغذاء وعدم صحية المكان وانعدام الموارد جعل من مسالة الدراسة امر مستحيل تحت ضغط العوز المفرط.

فأم كاظم تقول ان اولادها الثلاث قد تركوا الدراسة، وزوجها معوق حرب لا يستطيع ان يعمل مما اضطرهم الى البحث عن عمل يداوي حالتهم في سوق ترتفع اسعاره باستمرار، بعد ان هجِروا من مسكنهم وارضهم الزراعية الصغيرة التي كانوا يعتاشون منها.

امرأة شابة مع امها وطفلين تقول متساءلة كيف يكون حالي لو لم تكن امي معي؟. فانني لا استطيع ان اعمل في البساتين سدا للعوز الظالم..الطفلين سيكونان عثرة كبيرة.

وطفليها اسراء سبعة سنوات وقد كانت في العام الماضي قبل التهجير في الصف الاول الابتدائي.

وعمران خمسة سنوات لازال لم يصل الى سن الدراسة، قالت اسراء لأمها في وقت سابق ان عمران عندما يكبر سوف تعتني به وتوصله معها الى المدرسة.

كان ابو احمد يدق بوتد الخيمة عندما قال متسائلا: اي دراسة ونحن نحترق في أتون الحياة المستعر؟.

ثم قال ايضا ( الكوم كايمة والغراب يعشعش) ويعني بهذا المثل الذي يتداوله العراقيون، ان الحرب قائمة والغراب يبني عشه في ذلك الاضطراب.

وقال: اليس الطالب يحتاج الى نقود وكتب وملابس وغذاء وهل يعقل ان يفعل كل ذلك دون مورد يسد به جوع البطن؟.

وابي احمد لم يقل في حديثه غير مجموعة من الاسئلة وربما لديه المزيد منها وبصورة لانهائية بقدر الالم والمعاناة النامية في هذا المحيط المدقع بالفقر والعوز.

اكواخ وخيم وحِجر شبه متداعية تتحرك فيها او خارجها النساء والاطفال، ويتراءى للناظر خفق قطع الكارتون على وجوه متعبة لعلها تقلل من الحرارة الشديدة في ذلك الهجير.

فيما تكون اغلب الخيم او الصرائف قد اجنحت بطونها لعلها تصطاد شئ من هواء وان كان في حرارة التنور!.

ابي جاسم يقول: كنا ننتظر من الدولة التي عنوانها في الدستور إسلامي ان تعطينا ما يصل بنا الى حدود الكرامة وصرف رواتب ولو بقدر 300 الف دينار لكل عائلة ولا تجعل نساءنا يداومن على ابواب المنظمات الانسانية من اجل حفنتين من الرز او علبة معجون او قنينة زيت... ما كان منتظرا منها ان تخذل مواطنيها لهذه الدرجة، وان تبتذل الكرامة في وضع مضطر وقسري وضعنا فيه.

بعضنا قد يكون لديه راتب تقاعدي وربما متحصلات مالية قديمة، لكن الراتب الذي تماطل عليه السياسيون لمدة اكثر من ثلاث سنوات لايكفي والمتحصلات ضاعت وسط العوز وتاسيس ادارة جديدة للعائلة وتلاقفته السوق التي ترتفع باستمرار.

المسؤولون ربما زارنا بعض منهم لكنهم يتعاملون وفق ما متاح لديهم اي بمعنى ليس هناك إلزام رسمي لتهيئة ظروف مناسبة للمهجرين، اي عدم وجود قرار يتخذ القوة القانونية في طرحه على الواقع الذي يعيشه المهجرون.

كنا نأمل في ان يصدر قرار فوقي بحق المهجرين وحل مشكلتهم التي يواجهونها حاليا، وكذلك مشكلة عودتهم الى ديارهم ولعل المشكلة الاخرى تخضع لظروف معقدة ففيها بعض الاعذار لكن المشكلة الحالية ضاغطة بإفراط وتحتاج الى حلول حقيقية وعاجلة، وليس الى حقن تخدير كما جرت العادة.

السيد رشيد يعتب على المنظمات في انها لا تستطيع او انها لا ترغب في ان تاتي الى موقع المهجّرين وتوزع المساعدات ميدانيا بدلا من ان يذهب المهجرون على ابوابها وهم يحتاجون ان يدفعوا للنقل واضطرار بعضهم الى بيع شطر من تلك المساعدات الضرورية ليسدوا اجور النقل.

ان اليوم الراهن كأن يكون يوم ثلاثاء مثلا فهو مشكلة كبيرة يحتاج فيها المهجر ان يبذل كل ما بوسعه لكي يعبر يومه وساعاته الاربعة والعشرين.. واذاً فان المشكلة تضغط آنيا بحيث نعدها معضلة ان ينتهي يوم من الايام، لتبدأ لدينا مشكلة اليوم التالي الذي هو الاربعاء وهكذا.

الماء معضلة، الكهرباء معضلة، وربما تكون هذه النقائص مشتركة لكن التميز ان المهجرين لايملكون شيئا، وليست هناك دراسة قائمة لدى الشباب او الصغار ممن هم في سن الدراسة فان حصولها شبه مستحيل في ظروفهم المادية الصعبة، والاهل الذين يرسلون اولادهم سرعان ما يندمون على ما صرفوا في امر لاجدوى فيه. حيث تتميع وتتلاشى رغبة الصغار في طلب العلم للمعاناة النفسية والجسدية التي يلاقونها.

والطلاب الذين وصلوا للاعدادية او المتوسطة او الخريجين والجاهزين ان يسجلوا في الكليات قد وضعهم ظرفهم في نقطة الصفر من الرغبة الدراسية، وهبّوا باتجاه تحصيل الرزق الشحيح بقلوب يائسة وحياة تزداد مرارتها وتسابق الحنضل.

عندما يكون الشعب تحت سندان الارهاب ومطرقة التضاربات السياسية فانه شعب يتيم ينبغي عليه ان يبحث عن أبوّة حقيقية وذلك باعادة النظر باختياراته مجددا، وان لا يصطبغ اصبعه إلا لمن يرى انسانيته تصطبغ بها القلوب.

هذا قول حكيم قد تفوه به احد المهجرين وهو ابا احد المغدورين في ضاحية من ضواحي بغداد.

وقال ايضا نحن بحاجة الى حاوية من نوع ثقافة الشعب العراقي التي كانت على دوام الحقب التاريخية وليس حاوية متشظية متنافرة تحت هاجس الطائفة او العنصر او المذهبية التي افرزتها المصالح المستجدة باصطناع والتي تتقاطع مع مصلحة العراقيين الحقيقية.

وربما نصل الى الكفاية التي نختم بها كلماتنا بأن ما حدث ربما يكون مستوى جيد من الدروس والعبر وان ظهور الحقائق رغم المرارة والألم والتضحيات فانها دروس اجبارية وقسرية تنفع لليوم القادم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 23 آب/2007 -9/شعبان/1428