القراءة داخل الصندوق.. القراءة خارج الصندوق

عدنان عباس سلطان

شبكة النبأ: عندما نتعرض الى موضوعة القراءة فانما نقصد شتى انواع القراءة وهي كثيرة فالمشاهدة قراءة.. والاستماع قراءة.. العمل بما يحتوي على نجاحات او اخفاقات فهو قراءة جدية ومتفحصة ودقيقة ايضا.. تغيّر الفصول.. والامطار.. سنوات الجدب.. سنوات النماء.. الحرارة.. البرودة.. الحكايات الشفاهية.. الحكم المستقاة من الواقع الماضي والحاضر.. التخمين قراءة مستقبلية.. التصور قراءة اخرى.. وهكذا تتعدد القراءات وياتي دور قراءة المكتوب والمدون على القرطاس.

وان غالب القراءات التي حافظت على نمطيتها قد استحقت التقديس وهذا التقديس عزلها جذريا عن التجديد والتحديث، مما ساهم على الاستمرار بخمول الحياة حتى يتصدى احد المغامرين ليحدث شرخا بليغا في ذلك التقديس او التجميد الذي استعان حتى ببعض ادبيات دينية ليركز الهالة المعنوية في الاذهان اواحالته الى الكينونة التاريخية كثراث الاجداد وعماد كرامتهم وارثهم المحترم.

وهذا في الواقع واجه الاسلام بكونه دينا جديدا مغايرا لما درج عليه المجتمع من قراءاته السابقة، وظلت تلك العثرة الكأداء صامدة في طريق نضاله المستمر والتي يمكن اختزالها بـ هكذا وجدنا آباءنا.

هذه العثرة لازالت تتفاعل لحد هذا الزمن في العقل العربي الذي لا ينزع البالي حتى يكون جزءا من جلده المدبوغ ببقايا الصحراء.

وقد اعيد انتاج الاسلام في بعض الرؤى الغالبة على المشهد الواقعي بما يتلائم مع القراءة القديمة التي ظلت محافظة على قداستها بنسبة معينة بل ربما عززت هذه القراءة المنتجة من رفد الثقافة الصحراوية وعززت الرمال على العيون الدامعة بما يجعلها ان تذرف مزيدا من الدمع والبكاء المفرط على التلال ومضارب القبيلة وايام الغزو واستلاب الآخرين الضعفاء وتهميشهم او القضاء عليهم، على صورة الجهاد المنعكس بصورة او بنحو ما عن الغزو القديم.

وهذا يقودنا الى استنتاج مفاده ان القراءة في هذه الحالة لا تستطيع عزل المكونات الماضوية في النمط القرائي وانما تستخدم نفس الادوات والسبل واستحضار الكتل المقدسة وتاويل الخطاب القرائي باتجاهها وتعزيزها بما يضمن الفاعلية لتلك المكعبات القديمة.

بالنسبة للقراءة في مجال القصة او الرواية او الشعر فانها تخضع الى ذات العلة والقراءة تنقسم الى صنفين اوليين.

صنف من القرّاء يقرا من داخل الصندوق وهو متمنطق بمعرفيات او احكام او اساليب تجعله ان لا يتصور سيارة بدون اطارات ومقود ومصابيح اي انه لا يستوعب ان تكون السيارة مثل مركبة فضائية وحتى لو راى المركبة الفضائية فانه لايتصور ان هناك جيلا خامسا او عاشرا مختلفا عنها في النوع والكيفية.

في خمسينيات القرن العشرين ما كان احد يصدق بان غاغارين قد وصل القمر في حين هلل البعض بأن الشهب قد اودت بحياة المتجرئين على ملكوت الرب في حادثة جالنجر المأساوية.

ولا زالت القصائد الصحراوية التي تغازل الجمل والخيمة تهز الوجدان من خلال هزها للماضي وقدسيته في الذاكرة الصلدة التي لاتقبل ان تستوعب من الحاضر غير انها تستسلم وترضخ للامر الواقع كما تستسلم لقدر قسري بكثير من الشك والحيرة.

فالقارئ داخل الصندوق لا يتصور قصة فيها محاكاة للشعر ولا يتصور ها بلا حبكة  او حل لتلك الحبكة اي انه لايعقلها بدون ان تاتي بلا قالب درج عليه الآباء والاجداد، ودليله على سقود النص انه يخالف: هكذا وجدنا آباءنا.

ففي منظور هكذا قارئ ان النص مكتوب اساسا ليتلائم مع القالب الوردي المنحوت على فخار قديم، واذا كان قد تطور هذا القارئ وصار عصريا فانه لا يستطيع ان يقرا نص بدون قالب جاهز فقد يحيلك لكبار النقاد في البنيوية والتفكيكية وهم نقاد لهم مكانتهم في القرن الماضي لاكنهم مع الاسف لا يتصلون بنا لكانوا قالوا لنا لا تضعوا علبة الجبن في الثلاجة لمدة نصف قرن.

ومعلوم ان النقد الحديث يجعل من النص مناسبة لكتابة نص نقدي آخر ينطلق من اشعاع النص القصصي او الروائي والنص القصصي انما يضع شروطه ومعطياته وتسعيرته ويمليها على الناقد ليتحرك الآخر بالسير المبدع في كتابة نص آخر وتاويل مضاعف للنص الاصل.

فماذا يراد من القصة ان تفعله لكي تكون مقروءة.

ان الذي تفعله هو ما تفعله كل البضائع المطروحة للتجربة هو ببساطة الاغراء والاغواء واستغلال الرغبة لتركيز سلطة بدرجة ما على القارئ، وقطعا ليس ذلك عن طريق الحكمة باسلوبها القديم فقد كانت الحكمة على قلتها في الازمان الغابرة فهي كانت مطلوبه في ظل المظالم وتخريب الديار وكانوا الحكماء الذين تقصدهم العرب معروفين وربما معدودين وذلك ظل موجودا الى ازمان متاخرة كان العرافين مقصودين بين القبائل حتى في زمن الاقطاع  وقد حل محلهم الشيوخ في آخر المطاف، وقد تناقلت الالسن سيرهم بين الفلاحين وحكايات المضيف او الديوان ولا زالت ذيول تلك الحكايات يمكن روايتها بحسرة على ذلك الزمن ولم يجرا احد على تدوينها في الكمبيوتر او الانترنيت!.

ان الكتابة حكمة كبيرة بحد ذاتها لكننا نرى في الزمن الحديث كثرة الحكماء.. من السراقين.. والقتلة.. وقطاعي الطرق.. ومتدينين مزيفين.. وسياسيين مخضرمين.. وبائعي خضروات غشاشين.. ودافعي عربات قفاصين.. وسماسرة.. وموظفين.. كل واحد منهم بامكانه ان يقول الحكمة ويناضر في الاخلاق ويفهم اين يقع الطريق السوي.

وبعد هذا هل يمكن للقصة ان تقول الحكمة؟.، بالتاكيد ان يكون بامكانها ان تفعل ذلك.

ولكن هل تقولها كما كانت تقولها على الدوام، وتكون في المقياس التاثيري صوت خافت من تلك الاصوات، ام انها تستنبت نفسها من داخل الملل الحكمي لتقول الحكمة بشكل وصورة ونمط وادوات واساليب غير مالوفة؟.

هناك اشياء اخرى يمكن تقنيع الحكمة بها وهناك دائما ازياء انتجها الذوق الحديث يمكن ان تكون الحكمة في ياقاتها الطويلة او في شناشيل السفلية للثوب او ربما على حزام الخصر

هناك امكنة كثيرة ومتنوعة في الازياء التي بامكان الحكمة ارتدائها ولا غضاضة من ان تتزين وتضع احمر الشفاه وان تدير المسكارة على رموشها بكونها عروس القلم زفت بهذه الحلة البهية الى الانسان.

القراءة الحرة تحتاج الى عقل مرن في الحقيقة وتحتاج ايضا الى الخروج من الصندوق وتمتلك من الحرية قدرا يتيح لها ان تتصور اي شئ وتدخل في اي عالم دون ان تكون لها مرجعيات واحكام مسبقة او قوالب جاهزة.

ان الفرق بين القراءة داخل الصندوق والقراءة خارج الصندوق هو فرق جوهري ينبع من الرؤية المنحوتة والرؤية اللدنة القابلة للتطويع.

هذه الجدلية هي جدلية الحياة وناموس التغيير فيها وهي السمة التي توصمها على الدوام بما يخلق من فرصة اخرى وسانحة بعد الصراع التقليدي بين الماضي والحاضر، وغالبا ابطال هذا التغيير هم الذين قفزوا بالمظلة والمنطاد اول مرة رغم الخطر الرهيب الذي كان محدقا بهم ودخلوا التجربة المرعبة نيابة عن الآخرين وهم المغامرون الذين استنبتوا الجينات وزرقوا ابرة التخدير في اجسادهم لينقذوا البشرية من المرض والموت، هولاء ابطال فعلا لانهم كانوا مثل كتل هائلة من الكونكريت وهم يواجهون الاحباطات والعذل والتثبيط.

وهاهي الانسانية تنعم بانجازاتهم كونهم اصلا خارج الصندوق وهو ما تفعله الكائنات على طول تعاقب اجيالها، او كما يقول مايك فانس ان الخروج من البيضة هو خروج من الصندوق الى العالم الفسيح.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21 آب/2007 -7/شعبان/1428