إستبدادي: Autoritaire, Authoritarian

إستبدادي: Authoritarian

شبكة النبأ: هذه الصفة، مأخوذةً على حدة، لا يمكن أن تدل في أشد معانيها إبهاماً إلا على نمط سلوكي أو مزاج سياسي. فهي لا تكتسب المفهوم التصنيفي taxonmique إلا مصحوبة بكلمة نظام (نظام إستبدادي)، أو أيضاً بالنسبة إلى سلّم مواقف "الشخصية الاستبدادية".

الشخصية الاستبدادية: سلّم مواقف الشخصية الاستبدادية صاغه عالم النفس الاجتماعي تيودور ادورنو في نهاية الحرب العالمية الثانية. جرى اختبار هذا السلّم في معسكرات الأسرى الألمان في الولايات المتحدة بناءً على طلب الجيش الأمريكي، وكان في الأصل يهدف إلى تحري "إمكانية فاشية" لدى الجنود المأسورين، وكان الأمر يتعلق في الواقع بمنهج يقاس به التركيز العرقي ومعاداة السامية والمحافظة السياسية والاقتصادية لدى الأشخاص الذين أخضعوا للاختبار. وكانت جملة الملاحظات التي دُوّنت على سلم نهائي (echelle F) تعبر عن "ميول ضمنية مضادة للديمقراطية".

الأنظمة الاستبدادية:

تغطي هذه الفئة القسم الأكبر من المساحة القائمة بين الديمقراطيات التعددية والمنظومات الموصوفة بالكليانية، وهكذا أمكن تطبيقها على الإمبراطورية الفرنسية الثانية (البونابرتية) كما على الإمبراطورية الألمانية، وفي عهد أحدث على إيطاليا الفاشية أو حكم الأميرال هورتي في هنغاريا (وليس على النظام النازي المنسوب إلى الكليانية) ومؤخراً على العديد من الحكومات من الدكتاتوريات المدنية (فرانكو، سالازار) إلى الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وأنظمة الحزب الواحد المدعومة عسكرياً كما في أفريقيا تحت الصحراوية، أو أيضاً الأنظمة الشيوعية العاقلة من النمط البولندي، الهنغارية، أو اليوغوسلافية.

خوان ج. لينتز حدد بشكل أكثر دقة هذه النمطية في الحكومات نسبةً إلى مفهوم "التعددية المحدودة". وكان يعني بذلك أنه إذا كانت هذه الأنظمة حكماً دكتاتورياً، وإذا كانت المنافسة على السلطة تبقى مقنعة وتفلت من إرادة المحكومين، فهي تتدبر أمرها للمحافظة على نوع من التعبير السياسي، غير أنه تعبير يقتصر على القطاعات التي تطابق بما يكفي توجهات القادة الأساسية، أو التي يمكنهم توجيهها بغية توسيع قاعدتهم في المجتمع على حساب السماح بقيام معارضة، هذا المعيار في التعددية المحدودة لا يغطي إلا جزءاً من جملة أشكال الاستبدادية: إما الأنظمة التي، وعلى صورة دكتاتوريات جنوب أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو بلاد البلقان خلال الحربين العالميتين، فرضت نفسها على مجتمعات المسألة فيها المعارضة بالقوة لتأثير التيارات الثوروية أو فقط تأثير اليسار (الحالة المقابلة لأنظمة تعددية محدودة تقدمية النبرة تستثني اليمين من حقل التعبير السياسي المسموح به، كمثل الحكومة العسكرية في البيرو خلال السنوات 1968 – 1974). من وجهة نظر أخرى، جددت هانا أرندت مجال الأنظمة الاستبدادية بمعارضتها للقمع الانتقائي الذي يمارسه عادة الحكام الاستبداديون فقط ضد أخصامهم الناشطين، العلنيين أو المفترضين، بواسطة الإرهاب الشامل الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية على مجمل الشعب.

وتجدر الإشارة أيضا إلى صفة أكثر عمومية للأنظمة الاستبدادية، فبعكس المنظومات الكليانية التي تحركها رؤية ترمي إلى صياغة إنسان جديد موجه نحو تأسيس مجموعة اجتماعية يعاد تشكيلها بكاملها ويمحي منها أي حد بين الدولة والمجتمع، يكتفي المنطق الاستبدادي بالمجتمع على حاله. إنه لا يهدف إلى تدمير نمط من الهيمنة بل على العكس، يحاول الحفاظ عليه ضمن منظور رجعي يلغي التهديدات الاجتماعية والإيديولوجية التي تسبب اضطرابها، أو ضمن منظور عصري ينزع إلى أن يؤمن لها توازناً أكثر استقراراً. كذلك فالأنظمة الاستبدادية لا تطمح إلى إذابة المجتمع في الدولة ولكن بالعكس، إلى العزل بين الدولة والمجتمع بغية حمايتها من بعض المطالب التي تسبب البلبلة. بهذا المعنى، لا تملك الإيديولوجيات اليوطوبية التي تشرع الممارسة الكليانية للسلطة سوى أهمية ثانوية في المواقف الاستبدادية. على هذا المستوى، تتميز هذه الأخيرة بحالة ذهنية أكثر منها بعقائد ما وراء تاريخية، إلا ربما غداة حروب مدنية وخصوصاً في الفترة التأسيسية. كذلك، إذا كان نموذج الحزب الواحد موجوداً على السواء في المنظومات الكليانية وفي بعض الأنظمة الاستبدادية، فإن هذه الأخيرة تستوعب أيضاً تعددية حزبية خاضعة للمراقبة أو أيضاً غياباً كلياً للأحزاب.

تعطي هذه الملاحظة فكرة عن مدى التنوع في الأشكال الاستبدادية، (شمويل أيزنشتات) حدد من هذه الأشكال برجوعه إلى مفهوم "الإرثية الحديثة" لدى ماكس فيبر. ويقصد بذلك الدكتاتوريات – خصوصاً الشرق أوسطية أو الأفريقية – التي يتصرف قادتها وكأن الدولة هي إرثهم الشخصي، سواء كان القائد وحيداً مثل المارشال موبوتو أو فردينان ماركوس، أو تجمعاً حاكماً تحدده مثلاً روابط عائلية أو سلالية، أو أيضاً أصول جغرافية أو انتماء ديني. لكن يجب أيضاً تمييز أنواع أخرى من الاستبدادية، من دون أن تكون النظريات أو النماذج المتنوعة المبينة في حالتها تصفها كلها بالضرورة، هكذا عزل صمويل هاتنغتون فئة "الأنظمة الحاكمية" حيث تنزع جماعة متخصصة – العسكريون مثلاً – إلى حوز السلطة بسبب نواقص لدى المجتمع والدولة غير القادرين على إنتاج نخب سياسية وتنظيم التعبير عن مصالحهم الخاصة. من جهته، طبق غيرمو أودونيل نموذجه، الدولة "البيروقراطية – الاستبدادية" على الدكتاتورية العسكرية البرازيلية خلال السنوات 1964 – 1984، بصفته نموذجاً للاستبدادية الحديثة والعقلانية في أمريكا اللاتينية.

يبقى أن هذا التصنيفات إلى فئات لا تغطي كل تنوع السلطات الاستبدادية، وقد ظهرت مفاهيم كثيرة في هذا الخصوص من دون التوصل إلى إحصائها كلها. هناك أولاً الشعوبية التي تنطبق أكثر على فئة من الحركات السياسية أو نمط خطابي، ولكن أيضاً على دكتاتوريات أو نصف دكتاتوريات تتبع قادة يتمتعون بتأثير كرزماتي مثل البرازيلي غيتوليو فارغاس، أو الأرجنتيني خوان بيرون، هناك أيضاً مفهوم القيصرية الذي تناوله أنطونيو غرامشي، وفكرة النظام الاستفتائي القريب من المنطق الشعبوي، من دون أن ننسى توجهات أخرى تصب في التحليل السياسي لمجتمعات أفريقية أو آسيوية.

متعلقات

كل الحركات الإيديولوجية الثورية وغير الثورية حركات استبدادية(1)

يعد الدكتور فهمي جدعان واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين اختاروا أن يشتغلوا على مشروعهم التنويري بعيداً عن دائرة الضوء، فحفروا عميقاً في تربة الفكر العربي المعاصر، والفلسفة الإسلامية، لينتقل، من بعد، في مؤلفاته الأخيرة لصياغة منظومة مفاهيمية لاستشراف ملامح المستقبل العربي.

ولد جدعان في العام 1940 في بلدة عين غزال بمدينة (حيفا) في فلسطين، وحصل على دكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون بباريس العام 1968، كما عمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي في عدد من الجامعات الأردنية، وعمل استاذاً زائراً للحضارة العربية والإسلامية في جامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة)، وبالكوليج دي فرانس (باريس)، كما عمل نائباً لرئيس جامعة البتراء الأهلية الأردنية، وهو يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة في جامعة الكويت ومشرفاً على طلبة الدراسات العليا.

شغل عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي بباريس في مرحلة التأسيس (1980 ـ 1984)، كما منح وسام سعف النخيل عن جهوده الأكاديمية (فرنسا 1986) ووسام القدس للثقافة والآداب والفنون (فلسطين 1991) وجائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية (الأردن 1993). له عدد وفير من المؤلفات والبحوث أهمها:

ـ أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث 1979. ـ نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى 1979. ـ المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام 1989. ـ الطريق الى المستقبل: "أفكار قوى" للأزمنة العربية المنظورة 1996. ـ الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية 1997. ـ رياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة 2002. وله باللغة الفرنسية: ـ التأثير الرواقي في الفكر الإسلامي (باريس 1968). ـ مجموعة من البحوث حول: الوحي والإلهام في الإسلام، فلسفة السجستاني، الشروط الاجتماعية الثقافية للفلسفة الإسلامية، منزلة الملائكة في الإلهيات الكونية الإسلامية، الأمة والمجتمع في الفكر الإسلامي (باريس 1967 ـ 1992) بالإضافة الى مراجعات نقدية في المجلة النقدية للحوليات الإسلامية (باريس ـ القاهرة).

"المستقبل" التقت المفكر جدعان في عمان حيث أمضى إجازة بين أهله وأسرته وأصدقائه، وحاورناه في مستقبل الحال العربي، والحاكمية والاستبداد، ودور النخب الثقافية، ومكانة العقل العربي في التفكير الكوني، والكيفيات المقترحة للمؤالفة بين العقل العربي والفعل العربي، وكذلك عنف الحركات (الإسلامية).

علينا أن نلاحظ أن الطرائق القديمة في التعبير وفي الفعل لم تعد فاعلة ومؤثرة

تشغل مسألة الحرية دعاة الإصلاح في العالم العربي، وتبدو في أعين الكثيرين في الداخل وفي الخارج الطريق الأقصى للتقدم والخلاص. فهل هي كذلك فعلا؟

الحرية شرط أساسي لتفتح المجتمع والفرد، وهي فاعل حيوي جوهري في حركة التقدم التاريخية. وبما هي نقيض للاستبداد تشخص الحرية كقوة دافعة وبانية لمؤسسات إنسانية تحقق أكبر قدر من الرضى والنماء والإنتاج والفاعلية للفرد والمجتمع والدولة.

ولا أحد يجهل أن الحرية هي عصب المنظومة الليبرالية. بيْد أن الليبرالية ليبراليات، ومعنى ذلك أن الحرية أيضاً حريات. وليس المقصود الإحالة على ما يسمى بالحريات الأساسية والحريات المدنية وغيرها فحسب، وإنما المقصود، قبل أي شيء آخر، أن ثمة تفاوتاً في ماهية الحرية نفسها وفي حدودها وأحكامها بين الأشكال المختلفة لليبرالية. وفي الأدبيات الثقافية والفكرية العربية تجور الحريات الأساسية على غيرها من الحريات، ويغفل الساعون لإقرار هذه الحريات عن دراسة واستقصاء الشروط الموضوعية لإنفاذ الحرية ويذهبون، موافقة لمفهوم عام ضبابي لليبرالية، الى تسييد الحرية كمثال أقصى وكقيمة مكتفية بذاتها، وكغاية مقصودة لذاتها بإطلاق، غير آبهين بالروابط العضوية التي تربط الحرية ـ وأية حرية ! ـ بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للمجتمع.

ومنذ أن جعل المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية الحالية الحرية هدفا أقصى قائما بذاته بات الترويج للمفهوم منبتّ الصلة عن هذه المعطيات، وبدا كأن الفكر العربي الليبرالي يتجه الى اختيار النموذج الليبرالي الجديد ( أي النيوليبرالية) الذي هو تجسيد للنظام الاقتصادي العولمي وللحضارة الأميركية في صورتها المتوحشة، صورة اقتصاد السوق المنفلت، وما يسمى بالديمقراطية الليبرالية، التي تعني اليوم الصيغة الراديكالية لليبرالية، وهي صيغة تقلص دور الدولة في الحياة العامة للفرد والمجتمع، وتتنكر لقيم العدالة.

والحقيقة أن العالم العربي لا يحتاج الى الحرية فقط، وإنما يحتاج أيضاً ـ للخلاص والخروج من المأزق ـ الى مركب شامل يربط قيمتي الحرية والديمقراطية بقيمتين أخريين أساسيتين هما العدالة والتنمية. إنني أفكر في هذه المسألة تفكيراً معمّقاً، وأرجو أن أخلص الى منظومة فكرية في هذا الصدد في وقت قريب.

وكل ما أستطيع أن أقوله هنا هو أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية في العالم العربي اليوم لا يمكن أن تجد حلولها النهائية في مفهوم للحرية منبتّ الصلة عن مفاهيم العدالة والتنمية، وأن الصيغة الليبرالية المسرفة أو الجديدة لا تصلح مدخلا لقيمة الحرية في العالم العربي، وأن الصيغة التي يتعين التوجه إليها تكمن في شكل من أشكال ما يمكن أن نسميه بالليبرالية الاجتماعية.

الحاكم

ولكن في غمرة المطالبة بالحرية والديمقراطية تتردد بين الحين والآخر مقولات مستلة من التراث العربي والإسلامي، من بينها مقولة الحاكم المستبد العادل، ويجري تسويق هذا الشعار كحل لأزمة الاستبداد والطغيان في غالبية أنظمة الحكم العربية، فكيف تقرأ هذا الشعار بطريقة صحيحة، وما هي الآمال التي تتوخاها لإحلال انفراج في علاقة الحاكم العربي بجموع المحكومين؟

ـ مقولة الحاكم المستبد العادل مقولة فاسدة، وهي مقولة تصلح لمجتمع قبلي بدوي، لكنها لا تصلح لمجتمع مديني حديث. نحن الآن جزء من عالم تحكمه ثلة من القيم الإنسانية التي تخص الفرد بمكانة إنسانية كريمة. فهو عاقل وراشد وقادر على توجيه حياته، وهو منفتح على الدنيا وعلى المعرفة وعلى الشعوب والثقافات. وبكلمة واحدة هو شخص جدير بأن يكون حاكماً لنفسه. ومعنى ذلك أن إلغاء دوره وإسناد الأمر الى حاكم مستبد عادل يرتدان الى الزعم أن هذا الإنسان لم يرقَ بعدُ الى مرتبة الاستقلال الذاتي والنضج المعرفي، وأننا نريد أن نعزّز هذه "الاستقالة" من الفعل والتوجيه بأن ننصّب له "راعياً" يجري كل الأمور بدلا عنه.

ثم إن المستبد لا يمكن أن يكون عادلاً، فهذا وهم كبير، ومقولة المستبد العادل جاءت من بعض الحالات الفذة القليلة التي انحدرت إلينا من التاريخ العربي في إهاب مثالي نموذجي مجرد تمت فيه إزاحة جميع العناصر السلبية والاحتفاظ بصورة خارقة للحاكم. وأياً ما كان واقع حال هذه الحالات، فإننا لا نستطيع اليوم أن نستأنفها وندعو إليها. نحن في عصر التداول والتفاوض والإقناع والتأثير والضغط. وهذه هي الأساليب التي يتعين اختيارها في علاقة المجتمع وأفراده مع الدولة، على أن الطريق التفاوضية والإقناعية والضاغطة تظل هي الأقدر على الوصول الى نتائج عملية ناجعة في هذه العلاقة.

ولكن في ظل انسداد الطرق التفاوضية بين الحاكم والمحكوم لا يعلو غير صوت القمع، فمن أين استجلب الحاكم العربي كل هذا الاستبداد. هل صحيح أن التاريخ العربي والإسلامي يشكل، كما يقال، معينا لا ينضب لثقافة الاستبداد والطغيان؟

ـ ليس سراً أن الحاكم العربي في الدولة العربية الحديثة ليس خلاصة أو تجسيداً لنظام سياسي تحتل فيه الإرادة التمثيلية للأمة الأساس المادي والفعلي للسلطة. لا شك في أن بعض "حالات" الحكم في البلدان العربية تستمد روحها وغائيتها من التجربة التاريخية العربية الحافلة بكثير من الاستبداد والطغيان الذي يرى فيها هذا الحاكم أو ذاك نموذجاً يحتذى، خصوصاً إذا تمّ ربط طبيعة هذا الحكم ببعض الحكام الذين يمثلون "سلطة تاريخية" في أعين الأجيال التالية. ومن المؤكد أن مؤلفي كتب (الأحكام السلطانية) قد أدوا دوراً بارزاً في تشكيل مفهوم للسلطة تحتل فيه (صورة) الخليفة أو الإمام مكانة متميزة، إذ تعزى إليه سلطة الحكم والمسؤولية عن كل شيء تقريبا، بحيث تقتصر قيمة (أهل العقد والحل) في هذا المنظور على مفهوم الشورى غير الملزمة، فتظل للحاكم السلطة القصوى التي هي المعادل المادي للاستبداد.

لكن الحاكم العربي المستبد في الدولة العربية الحديثة يمكن أن يكون أيضاً إفرازاً قبلياً أو بدوياً تقليدياً. فلا بد أن يكون استبدادياً، وقد يكون آتياً من "التشكيل العسكري" وهو أيضاً استبدادي. ويمكن كذلك أن يكون مزروعاً من سلطة استعمارية أجنبية لأداء وظيفة محددة في دولة "تابعة".. في جميع هذه الأحوال، وغيرها، لا مكان لإرادة الشعب أو الأمة، ولا للاختيار الحر. هذا ظرف تاريخي علينا أن ندرك حدوده وأبعاده، وهو بكل تأكيد ظرف يجب تجاوزه، ونستطيع تجاوزه.

الخلاص

أنى لنا تجاوز هذا الظرف ما دام الاستبداد لم يعد مقتصراً على الحكام، فثمة جماعات وأفراد يملأ العنف أقوالها وممارساتها، هل صار القتل والتنكيل والترويع جزءا من (فولكلور) أمة مهزومة ترى في الموت شكلا من أشكال الخلاص أو إثبات الوجود؟

ـ كل الحركات الإيديولوجية الثورية ـ وغير الثورية أيضاً ـ هي حركات استبدادية، والليبرالية الديمقراطية هي أيضاً استبدادية، فهي تستأثر بالحقيقة وبطريق الخلاص الذي تتمثله غاية وهدفاً. والعنف ليس أمراً عارضاً أو جديداً في التاريخ، إنه جزء من التاريخ مرتبط بالعقائد والمصالح والمنافع. والحرب هي التجسيد الأظهر للعنف، والحرب والعنف قرينان للموت والدمار، وإذا زعمتَ أن الموت شكل من أشكال الوجود، فزعمك صحيح، وذلك حين نقرن الموت بالظفر والنصر.. بل وحتى بالهزيمة، فالمؤمن الذي يموت "مهزوماً" أمام خصمه يحقق وجوداً كاملاً أمام موضوع وغاية إيمانه. المشكلة ليست هنا.. المشكلة تكمن في تبين الأسباب التي تبعث على العنف أو على الحرب، وفي النظر في طرائق محاصرة هذه الأسباب وتجاوزها وفقا لمنظومة في العدالة، في الغالب الأعم. وفيما يتعلق بأحوال العنف التي عرفتها بعض البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الجديد، يتعين علينا لا التنديد بالعنف ومحاصرته فقط ـ إذ هذا أمر لا مفر منه ـ ولكن أيضاً البحث عن الأسباب التي تدعو الى العنف واستئصال هذه الأسباب. ليس علينا أن نختار الطريقة "الأميركية" البرجماتية في علاج هذه الآفة، بأن نكتفي بإعلان "الحرب على العنف" وما يسمى بالإرهاب، وإنما علينا أيضاً أن نتفحص عوامله ودواعيه، وأن نتوخى العدل في قتاله، بحيث لا نقاتله في أرض وندعه يستفحل ويجور في أرض أخرى.

في غمرة ذلك كله أين النخب الثقافية العربية، أم أنها استقالت من دورها وآثرت الصمت على كل ما يجري من تدمير للذات الجماعية ومصادرة أبسط حقوقها وامتيازاتها. هل يعيش العرب عصر الظلام في شتى وجوهه؟ ـ في تعميم دعوى "استقالة المثقفين" إسراف وبعد عن الإنصاف. لا شك في أن عدداً غير قليل منهم قد انسحب وآثر الصمت والسكينة، لكن كثيرين منهم ظلوا أوفياء لمبادئهم. ومع ذلك فإن علينا أن نلاحظ أن الطرائق القديمة في التعبير وفي الفعل لم تعد فاعلة ومؤثرة. فبين سبيل الاحتجاج والعصيان والثورة، وبين سبيل الإقناع والنقد والتداول والضغط السلمي فروق بيّنة.

ولأسباب عديدة لم يعد من اليسير الجنوح الى السبيل الأولى، مثلما أنه ليس من اليسير أن يتحول المناضل القديم الى الطريق الحديث، فترتب على ذلك اختيار الصمت والاستنكار المرير. ومن وجه آخر علينا أن نتخلى عن الاعتقاد بأن القضية هي قضية المثقفين فحسب، إذ إن قوى جديدة صاعدة أصبحت معنية بالمسألة الاجتماعية والسياسية هي قوى (المجتمع المدني) التي يتعاظم دورها وأهميتها، وهي التي يتوقع أن تقود مبادرات الإصلاح والتغيير في العالم العربي في المستقبل. وهذا بالطبع لا يعني انتهاء دور المثقف والمفكر. أما أن يكون العرب قد دخلوا في "عصر الظلام" فأمر يستلزم النظر والتأمل. ولعل الأصح أن يقال إنهم دخلوا في أجواء العاصفة والخطر والمجهول، وأن التفكير في مستقبل العالم العربي ينبغي أن يكون جدياً وحقيقياً ومسؤولاً، ولا يجوز النظر الى هذه المسألة بخفة واستهتار.

الخلل

قلتَ غير مرة بأن الخلل والعطب ليسا في العقل العربي.. وإنما في الفعل العربي، ولكن هل الفعل إلا صدى العقل ودينامياته الفاعلة؟ ـ نعم قلت ذلك أكثر من مرة، وتكلمت أيضا على مفارقة الفعل للعقل، لأن الفعل ليس دوماً صدى للعقل ودينامياته الفاعلة، إذ يمكن أن يكون هناك طلاق بين الأمرين، وذلك حين يتنكر الفرد للعقل ويجري خلف قواه الغريزية، أو الانفعالية أو مطالبه النفعية وغاياته الذرائعية.

أنا أتشبث بهذه المزاعم جميعاً، بيْد أنني، والحق يقال، ألاحظ الآن أن انتشار (العقل الليبرالي) والثقافة الليبرالية السوقية ـ أعني الثقافة المرتبطة باقتصاد السوق الحر وبالعولمة الثقافية ـ قد بدءا يقرّبان بين العقل وبين الفعل، بمعنى أن الإيمان بآليات الفكر الليبرالي السوقي بات يولّد أفعالا مساوقة لهذه المنظومة في شتى مناحي الحياة الفكرية والأدبية والفنية والعملية. ونتيجة ذلك أننا أصبحنا نشهد مزيداً من الفساد الأخلاقي والعملي في حيانتا الشخصية والعامة. إن قوة الليبرالية ـ وخطرها في الآن نفسه ـ كامنان في قدرتها على التأثير المادي، وذلك بسبب تجذرها في عدد من المطالب الفردانية المشخصة والمادية، وذلك واضح في التجسدات الاقتصادية والسياسية والفنية والأخلاقية.

الى أي مدى تعتقد أن القراء العرب ينفرون من الأعمال الجدية، ولا يتحملونها، ويفضلون عليها ما هو عادي ومألوف، وهل يعني هذا أننا نعيش عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن؟

ـ لست أشك في أن القارئ العربي، على وجه العموم، قد ألف الكتابات اليسيرة التناول واعتاد النصوص التي لا تحوج الى كثير من التأمل والفحص والتدقيق والمراجعة، وهو يفضل الكتّاب الذين يقدمون له أفكاراً بسيطة جاهزة واضحة، وهذا في حقيقة الأمر حق له، إذ لا يجوز أن نثقل عليه بنصوص ملغزة لا تسمح له أدواته المعرفية بالولوج إليها وإدراك كنهها، لكن المشكلات والقضايا الكبرى ـ أياً كانت طبيعتها فلسفية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية ـ تشتمل على وجوه تقنية دقيقة، وهذا يتطلب تحليلات معمقة لا يتيسر دوماً تقديمها بلغة وأسلوب "عاديين". ان ما نسميه بالثقافة أو المعرفة "العالمة" يظل الأساس الصلب أو القاعدة الثابتة لأي تنظيم معرفي أو عملي. بالطبع ليس مطلوباً من القراء أن يتوجهوا الى "الثقافة العالمة" لكن أي قول أو تداول أو نقاش في القضايا المركزية يشترط مثل هذه المعرفة أو الثقافة. وهذا يعني أن على القارئ العادي إن أراد أن يسهم إسهاماً حقيقياً في "التداول الثقافي العام" أن يطور ملكاته وأدواته وخبراته، بحيث يكون قادراً على تمثّل المفاهيم والآليات التي تستند إليها الثقافة العالمة، كما أن على الكاتب نفسه أن يتوخى العمق فيما يكتب، وأن لا يخلّ بمبدأ الوضوح في الوقت نفسه.

أما أننا نعيش في عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن، فلا أعتقد أن ذلك تشخيص دقيق. لا شك في أن الظاهرة ماثلة في أعمال الكثيرين في حقول الثقافة والفن والأدب، لكن المشهد العام حافل بما يضاد هذه الظاهرة، ويشخص مثال جليا للفكر الرصين والأدب الرفيع والفن الذي يتحرّج أن يعبر عن نفسه في أقنية مثل أقنية "مزيكا" و"دريم" و"روتانا"… التنويرية هل ما تزال تراهن على أن العالم العربي يحتاج بالدرجة الأولى الى إشاعة عدد من القيم التنويرية والمدنية الحديثة التي تحمل بالضرورة تغييرا في عدد كبير من البنى التاريخية الفجة، وتجذير هذه القيم وتجسيدها. وما هي الروافع الكفيلة بعدم صيرورة هذا الأمر حلماً طوباوياً؟

ـ بكل تأكيد، وهذه قضية لا جدال فيها على الإطلاق. إن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية ـ بمنظور اجتماعي إنساني ـ وجملة القيم المدنية الأساسية، هي قيم لا يمكن التنازل عنها. والفكر العربي الحديث مسكون بهذه القيم قبل الدعاوى الخارجية الجديدة بزمن بعيد.

وإشاعة هذه القيم وتجذيرها هما الكفيلان بتحقيق تغيير أساسي وتقدم ملموس في الحياة العربية الشاملة. ولماذا تكون هذه القيم طوباوية؟ إن مزيداً من النقد والتنوير والضغط والنقاش والتداول يسمح بفتح الأبواب أمام هذه القيم وعيشها شيئاً فشيئاً، لكن علينا أولاً أن (نؤمن) بأن هذه القيم هي على وجه التحديد ما نحتاج إليه للخروج من "الورطة التاريخية" التي نحن واقعون في براثنها، ثم إن علينا أن (نريد) هذه القيم ونطلبها، لأنها تأذن بقرب الخلاص، وأخيراً أن (نعمل) جميعاً: مفكرين ومثقفين ومبدعين ونشطين اجتماعيين ومؤسسات مدنية واجتماعية من أجل (إقناع) السلطات السياسية بضرورة الأخذ بهذه القيم وتجذيرها وإشاعتها. أعتقد أن هذا ليس حلماً "طوباوياً".. وإذا كان كذلك فعلا، فإن الواقع كارثيّ! في كتبك الأخيرة بدا أنك تستشعر خطراً داهماً يحدق بالمجتمع العربي، كما يبدو كما لو أنك تدقّ بعنف جدران الخزان، ولكن هل ثمة من مصغ أو مجيب؟

ـ هذا صحيح. واليوم لست أنا وحدي الذي يستشعر الخطر، وإنما أصبح ذلك هاجس الجميع. أنظر ما الذي يحدث في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان من المَواطن العربية. الدولة العربية "التقليدية" نفسها تستشعر هي أيضا وجوه الخطر، إذ لم تعد تبعيتها التاريخية لقوى الهيمنة الخارجية تحميها من "أصدقائها" التقليديين الذين لا يقدمون على مصالحهم ومنافعهم الخاصة أية مصلحة لأي أحد، وقد آن الأوان لهذه الدولة أن تعلم أن خلاصها لن يكون إلا بأيدي أبنائها، ولن يحميها من غدر القوى الخارجية إلا شعوبها وحدها، وليس عليها إلا أن تفتح أبواب الحقوق الأساسية للمواطنين لكي يكونوا حماتها الحقيقيين، ولكي تسترد كرامتها وعزّتها، وتكتسب احترام العالم بعد أن فقدت هذا الاحترام كلية، وأصبحت هي وشعوبها محط احتقار وازدراء وامتهان في كل مكان في العالم.

اليأس

في أزمنة اليأس نرى أن المثقف العربي أو السياسي العربي يطالب بالتغيير ويهلل له حتى لو كان جاء التغيير على ظهر دبابة أميركية، وثمة من يقول إن إسقاط نظام صدام حسين يعد أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية. ما تعليقك؟

ـ أزمنة اليأس أزمنة لا يقاس عليها. والأصل أن تكون أزمنة "شاذة" لكن امتدادها الزمني التاريخي يزوّد أحكامها بمنطق صحيح ظاهريا، لكنه فاسد جوهرياً. لا شك أن أحوال الاستبداد والظلم والفساد والتخلف والقهر في الأقطار العربية قد طال أمدها، وبات التخلف يحسب بالقرون. ولأسباب ليس هنا مكان التوسع في تحليلها لم تقابل هذه الأحوال بما قوبلت به نظائرها في الغرب فانتهت الأمور الى ما انتهت إليه وتجذر اليأس في النفوس. بالطبع أنا لست أبداً ممن يهللون للتغيير الآتي على ظهر دبابة أميركية، لأن الدبابة الأميركية لا تأتي من أجل خلاصي أو من أجل خيرنا الخاص أو العام، وإنما من أجل غايات مختلفة تماماً لا يحمل أي منها أي خير لنا على الإطلاق.

أما أن يمثل إسقاط نظام صدام حسين أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية، فقول لا يخلو من المبالغة، لأن نظام صدام حسين لم يمثل خطراً على أميركا والعالم، وإنما على شعبه ووطنه بالدرجة الأولى، ولست أعتقد أبداً أن أميركا أسقطتنظامهلأنها حريصة على "حرية" العراق وعلى تعليم العراقيين وبقية العرب الديمقراطية والحرية.. فذلك قميص عثمان ليس إلا.. ولا يصدق تلك الدعوى إلا الساذج، والمسألة بديهية لا تحتاج الى كثير تعليق.

ثمة من يبشّر بصدام حضارات مقبل، والحديث هنا يتصل بالصدام بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية، وهناك من يقلل من شأن ذلك فيرى أن الصراع إنما هو، وحسب، صراع مع تيارات أصولية راديكالية، وثمة من يعتبر أن الصراع لا يعدو أن يكون صراع ثقافات. فعمّ سيفضي هذا الصراع في سائر وجوهه؟

ـ ما يحدث واقعيا هو مزيج من هذه الوجوه جميعا.. ثمة، هنا وهناك، من يتمثل هذه الحالة أو تلك، ويتصرف وفقا لهذا التمثل أو ذاك. والقضية التي أنا مقتنع بها الآن هي أن الغائية الأساسية لأوضاع (التقابل) الحالية من منظور ما أسميه الليبرالية الديمقراطية في صيغتها العولمية الجديدة، تتمثل في رد عالم العرب والإسلام الى أعظم قدر من الضعف والتضاؤل وانعدام الفاعلية والمعنى. أما من منظور التيارات الإسلامية والتيارات المضادة، فلا أتبين أي مخطط يمكن أن يفضي الى نتائج ذات جدوى محققة. ههنا "المقاصد" و"النوايا" تفصح عن نفسها من دون نظام وتخطيط، وتفتقر الى كل مقومات النجاح: الوسائل، والفاعلية، والعقلانية الموضوعية والأداتية. وفي اعتقادي أن الأضرار التي ستلحق بالإسلام والعرب ستكون عظيمة جدا إذا ما استقلت الحركات الراديكالية بالفعل.

سقوط الايديولوجيا الاستبدادية(2)

الايديلوجيا التي نمت وترعرعت في أحضان القمع والاستبداد تعتبر ايديلوجيا استبدادية كالنظام الاستبدادي الذي ينمو ويترعرع تحت غطاء ايديلوجي استبدادي.  

وكلاهما: النظام الاستبدادي، والايديلوجيا الاستبدادية، لا يستطيعان العيش خارج الوسط الاستبدادي لكل منهما. مما يولد علاقة بين الطرفين، بحيث تصبح الايديلوجيا وسيلة لإظفاء الشرعية على ذلك الوسط سواء كان نظاما سياسيا أو غيره، ويكون النظام وسيلة تصل عبرها الايديلوجيا إلى غاياتها السلطوية. 

لكن أيا من الايديلوجيا الاستبدادية أو النظام الاستبدادي يموت مجرد أن يعيش أي منهما منفصلا عن الآخر، خاصة إذا كان الوسط الجديد المحيط بأي منهما وسطا غير استبدادي، ومتنوع الأطياف الفكرية. وهذا ما يجعل كل ايديلوجيا استبدادية وكل نظام استبدادي محاربين للحرية والديموقراطية.  

أما الايديلوجيا التي تؤمن في تعدد الأطياف الفكرية والدينية والسياسية، فإنها لا تموت حتى وان قدر لها أن تعيش فترات من عمرها تحت حكم نظام استبدادي لا يتبع فكرها، وتظل محافظة على قوتها، وكلما سنحت لها الفرصة أن تعيش وسط أجواء أكثر حرية، كلما اتسع نطاق تأثيرها وازدادت المساحة التي تستوعب انتشارها. 

القمع والاستبداد وحب التملك: هو العامل المشترك بين نظام استبدادي، وايديلوجيا استبدادية، وكلاهما يؤمن في العنف والإقصاء من اجل السيطرة، وفي الدين، أو اللادين، كوسيلة لشرعنة العنف والإقصاء. وعلى مر التاريخ، تحالفت الأنظمة الاستبدادية مع ايديلوجيا الاستبداد، متخذين من العنف سلاحا لفرض النظام والايديلوجيا، ومن الإقصاء منهجا لمنع بزوغ أي فكر يختلف مع فكر النظام والايديلوجيا الاستبداديتين.  

وغالبا ما يسقط النظام بعد فشل الايديلوجيا المتحالفة معه في المحافظة على قوتها، نتيجة بروز فكر آخر أكثر تحررا وتسامحا وانفتاحا. وكلما تمسك النظام الاستبدادي بالايديلوجيا الاستبدادية التي تعلن إفلاسها، كلما أقترب ذلك النظام على الانهيار. وما انهيار دولة عظمى في حجم الاتحاد السوفيتي إلا دليل على انهزام الفكر الشيوعي كايديلوجية استبدادية متحالفة مع نظام استبدادي، أمام الفكر الليبرالي الممثل للعالم الغربي الحر والديموقراطي. ولم تنفع كل محاولات قورباتشوف في إنقاذ ذلك النظام السوفياتي بعد أن تيقن من موت الايديلوجيا التي قام على أكتافها النظام الاستبدادي. لأن مجيء قورباتشوف جاء متأخرا فلم تنفع كل محاولاته لإنقاذ ذلك المريض الذي جاء إليه كمعالج ربما كان مناسبا ولكن في الوقت الخطأ. وقس على ذلك سقوط كل نظام استبدادي قام على شرعية ايديلوجية استبدادية متحالفة معه على قواعد من القمع والإلغاء والعنف. 

وإذا أراد أي نظام يقوم على القمع والاستبداد البقاء في الحكم، فليس له من حل سوى عبر أمرين: 

أن يتخلى عن تلك الايديلوجيا الاستبدادية واستبدالها بأخرى أكثر تحررا وانفتاحا وتسامحا، أو تطوير تلك الايديلوجيا بما يجعلها تغير جلدها الاستبدادي وتلبس جلدا يجعلها أكثر تعايشا مع غيرها.لكن تناقضها مع حقيقة تكوينها الأصلية يفضحها ويعريها مما يجعلنا نقول أن سقوط كل فكر إقصائي عنصري هو أمر حتمي وسنة من سنن الكون. لذا فإن التخلي عن ايديلوجيا القمع والاستبداد أفضل من تطويرها، وسوف يتغير النظام الاستبدادي من حالة القمع إلى حالة التسامح مجرد أن يعتنق ايديلوجيا متحررة من عقد التاريخ وفكر السيطرة والإلغاء بما يجعله نظاما قابلا للحياة والبقاء بعيدا عن ايديلوجيا قمعية مصيرها السقوط والهزيمة.  

كل نظام: قناع لايديلوجيا، كلما انكشفت غاية الايديلوجيا، انكشف وجه النظام، وكلما أوغل النظام في تلميع وجهه متنصلا عن قبح الايديلوجيا، كلما كان أكثر التصاقا بها. فإذا سقط القناع تعرت الايديلوجيا، واذا تعرت الايديلوجيا سقط النظام. وعادة ما يتسابق النظام الاستبدادي والايديلوجيا الاستبدادية لخيانة بعضهما البعض، عندما يستشعران خطرا يحدق بهما، عبر التحالفات الخفية مع أوساط خارجية، كل منهما يتعهد بتغيير مبادئة بما يرضي الوسط الخارجي مقابل طلب الحماية والبقاء. لكن ذلك الاسلوب لا يجدي نفعا، بل أنه يساعد على انهيار النظام والايديلوجيا معا.  

إن البقاء للنظام الاستبدادي مرهون بتغيير ايديلوجيته، أما الايديلوجيا الاستبدادية الآيلة للسقوط فلا بقاء لها مهما بحثت عن نظام يتبناها ويحتويها، وهذا ما يجعل انهيار أي نظام استبدادي أمرا حتميا لا جدال فيه، إن إستمر ذلك النظام في التمسك بايديلوجيا منهزمة فكرا وأخلاقا وقيما وحضارة! 

لو غير صدام حسين ايديلوجية نظامه بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية، لربما نجا من تلك الهزائم المتتالية، ثم الانهيار المحتوم. لكن مشكلة بعض الانظمة الاستبدادية: تكمن في تورطها في الكثير من القضايا المناهضة لحقوق الانسان، مما يجعلها تخاف من التغيير أكثر من دخولها في الحرب.  

 والاتحاد السوفياتي لم ينهزم في معركة عسكرية مع الغرب وهو يملك أكبر ترسانة عسكرية قادرة على تدمير الكرة الأرضية بكاملها، وانما انهزم في فكره الذي لم يستوعب التغيرات ولم ينبع من ايديلوجيا تتسع للتنوع، وتؤمن في الحرية كحق إلهي لا يستطيع أحد أن يحتكره دون غيره للأبد!! 

الاستبداد الحداثي العربي (3)

تهدف هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على نمط من الاستبداد السياسي أسمته الاستبداد الحداثي، والمقصود بذلك تلك الحالة الاستبدادية التي تؤسس شرعيتها على المدونة الحداثية السياسية، وتستعمل أدوات وأذرع سيطرة حديثة، علما بأن هذه الظاهرة الاستبدادية لم تنل ما يكفي من التحليل والتشخيص، وذلك بسبب شيوع قناعة بين القطاع الأوسع من المثقفين والحركيين السياسين العرب، مفادها أن ظاهرة الاستبداد السياسي التي تطبق على العرب أنفاسهم وتحبس حرياتهم إنما تعود إلى ثقل التأثيرات التاريخية وسيطرة الثقافة السياسية التقليدية المنحدرة من المواريث الشرقية أو ما يعبر عنه عادة بالاستبداد الشرقي، ومن ثم يكفي الانتقال من العالم التقليدي بهياكله ومؤسساته ووجوه شرعنته السياسية والفكرية حتى يتم ولوج بوابة الحداثة السياسية وإحلال الديمقراطية.

ما تريد قوله هذه الورقة ليس تأكيد العلاقة التلازمية بين التحديث والاستبداد، بل ما تريد قوله أقرب إلى النفي منه إلى الإثبات، نفي العلاقة الترابطية بين التحديث والديمقراطية من جهة أولى، ثم لفت الانتباه إلى كون الانتقال من العالم "التقليدي" إلى العالم الحديث لا يتساوق ضرورة مع التحررية السياسية والتخلص من المكبلات الاستبدادية. كما أن هذه الورقة لا تروم المرافعة المجانية عن التجربة التاريخية أو "الصور التاريخية" بحلوها ومرها بقدر ما تهدف إلى التخلص من النماذج الجاهزة والنظر إلى الواقع الحي في مختلف شخوصه ومنحنياته المركبة.

تتأسس هذه الورقة على مقاربة مفادها أن ثمة ظاهرة استبدادية سياسية "جديدة" تشكلت في رحم التوسع الإمبريالي الغربي ومازالت تلقي بكلاكلها الثقيلة على الواقع السياسي العربي، هذه الظاهرة كانت ومازالت تتغذى من أعطاب الدولة العربية الناشئة ومن الدعم والرعاية الخارجيين، ومن يتأمل في واقع الحال ويرى كيف تتخلق الدولة العربية بلحمها وعظمها في "العراق الجديد" وقبل ذلك في فلسطين أو ما فيما تبقى من فلسطين يدرك فعلا درجة الترابط الوثيق بين آلية الاستبداد وآليات السيطرة الدولية في منطقتنا العربية.

على أنني ألفت الانتباه هنا إلى أن موضوع هذا البحث يتجه أساسا إلى تناول الحالة الاستبدادية العربية على سبيل العموم، ولكن الغايات المنهجية والعملية اقتضت استدعاء التجربة التونسية بحكم معايشة ومتابعة صاحب هذه الأسطر لأطوار هذه التجربة أكثر من غيرها، فضلا عما يبرز في الحالة التونسية من ملامح وعناصر استبدادية متغلفة بمطالب وشعارات التحديث تناسب إلى حد كبير المقاربة النظرية التي ذهبت إليها الورقة.

الاستبداد في الخطاب اليوناني

تحيل كلمة استبداد في الخطاب اليوناني إلى نمط محدد من علاقة السيد بالمحيط المنزلي، فكلمة مستبد تنطبق على أبي العائلة عامة، وسلطته لا تسمى استبدادية من جهة علاقته بأزواجه وأبنائه بل من جهة علاقته بعبيده فقط. فالعلاقة الاستبدادية عند أرسطو هي في جوهرها بين إنسان حر وبين إنسان آخر قد حرمته الطبيعة هذه الحرية، والمقصود بالطبيعة في السياق اليوناني عامة حالة الضرورة الاجتماعية التي تقتضي نمطا من العلاقات الهرمية تتوزع فيها الوظائف والأدوار تناسبا مع نظام الحاجات والملكات الذهنية للأفراد قياسا على منوال التراتبية الكوسمولوجية الكونية1.

تتأسس العبودية في الخطاب اليوناني على شروط اجتماعية وسياسية مستقاة من النموذج البيولوجي ونظام الحركة الفيزيائية، فالنظام السياسي العادل في الفكر اليوناني هو النظام الذي يضع كلا من السادة والعبيد في مكانهم الطبيعي ضمن إطار وظيفي للأدوار تكون فيه الفئة الأدنى اجتماعيا في خدمة من هم فوقها2. فكما أن الأجسام الطبيعية تنزع تلقائيا إلى أماكنها وتتفاضل فيما بينها بحسب مواقعها ضمن نظام الكوسموس (الكون المغلق) فكذلك الأمر بالنسبة لنظام العلاقات الاجتماعية التي تتأسس بدورها على سلم تراتبي وتفاضلي للمواقع والأدوار يحتل فيها الملك موقع الصدارة العلوية المنظمة والضابطة لشؤون المدينة بما يعادل الدور الذي يشغله العقل الفعال باعتباره قوة منظمة لشؤون الحركة الكونية. فالملك في الفكر السياسي الإغريقي ليس جزءا من نظام المدينة ولا يشغل موقعا محددا ضمن الجماعة السياسية بل هو قوة علوية خارقة ومتجاوزة لهما.

كلمة استبداد إذن تحيل بصورة أساسية إلى حقل العلاقات المنزلية ولا تحمل دلالة سياسية إلا على سبيل القياس، أي قياس العلاقات السياسية في المجال العام على منوال العلاقات المنزلية المحلية. فالاستعمال اليوناني يسمح بالحديث عن حكم مستبد تقوم فيه العلاقات السياسية على ضروب من الإكراه والتعسف بما يشبه العلاقات السائدة في الحقل المنزلي بين السيد وعبيده داخل الحقل المنزلي. فقد ميز أرسطو بين الحكم الملكي وبين الحكم الاستبدادي من جهة أن نظام الحكم الملكي ينشد –بصورة جوهرية- المصلحة المشتركة لكل من الحاكم والمحكوم، في حين أن الحكم الاستبدادي ينشد بدرجة أولى مصلحة الحاكم المستبد ولا تتحقق فيه مصلحة المحكومين إلا على سبيل العرض.

ورغم أن أرسطو قد احتفظ بخيط التمييز الواضح بين الحقل المنزلي O iconomos وبين الحقل السياسي Polis حيث اعتبر الأخير المجال العام الذي تمارس فيه الفاعلية الحوارية بين مواطنين أحرار لإثبات هويَتهم الاجتماعية كحيوانات سياسية، فإنه يقيم نوعا من الربط التناسبي بينهما حيث يقيس أنماط الحكومات الاستبدادية على منوال العلاقة بين السيد وعبيده في الحقل المنزلي 3.

المنعطف الرئيسي الذي أكسب مصطلح استبداد دلالة سياسية واضحة هو الحروب اليونانية الفارسية، ففي أجواء المواجهة العسكرية بين الطرفين وقع تمديد المصطلح للدلالة على الأوضاع السياسية لبلاد فارس والشعوب الآسيوية الأخرى المسماة عند اليونانيين القدامى بالبربرية. ففي هذه المرحلة وقع ضرب من التقاطع الدلالي بين البربرية والاستبدادية في مجرى الخطاب اليوناني، بمعنى أن الشعوب الواقعة خارج الفضاء اليوناني خصوصا، والأوروبي عموما والمنعوتة بالبربرية عند أرسطو أصبحت تعرف بأنها استبدادية بالضرورة. فهذه الشعوب تنطبق عليها صفة الاستبداد بالكامل بحكم عجزها عن إدارة الشأن السياسي بصورة عقلانية رشيدة فضلا عن كون الاستبداد عندها حالة متأصلة في تقاليدها الاجتماعية، ولذلك وجب التعاطي مع هذه الشعوب تعاطي السادة بالعبيد على ما يقول أرسطو. فالاستبداد عند الشعوب الآسيوية كما يقول أرسطو هو استبداد بأتم معنى الكلمة ومرغوب فيه بالطبيعة وليس استبدادا عرضيا كما هو الأمر لدى اليونانيين، فاالبرابرة والعبيد هما شيء واحد بالطبيعة، لذلك وجب أن يكون مصير هؤلاء البرابرة الآسيويين بين يدي السيد اليوناني لا يكونون في مكانهم الطبيعي والمناسب إلا كعبيد على ما يقول أرسطو4.

شكلت اللحظة الأرسطية بداية التأسيس النظري لتمركز الوعي اليوناني حول ذاته وقد كان ذلك مصحوبا بنوع من الإحساس المبهم بتمايز الجنس الأوروبي، ولكن التنبيه هنا إلى أن معنى الانتماء الأوروبي وقتها كان يختزل في نقطة أثينا عاصمة الإغريق، أما آسيا فكانت تتجمع في بلاد فارس القديمة التي دخل معها اليونانيون في سلسلة من الحروب الطاحنة.

الاستعمال الحديث لمفهوم الاستبداد

استعادت أوروبا الحديثة ابتداء من القرن الخامس عشر ما كان مختزنا في المخيال اليوناني القديم عما يسمى بالاستبداد الآسيوي، مع دفع ذلك المخزون إلى حدوده القصوى في مرحلة بدأت تتشكل فيها ملامح أوروبا ناهضة ومندفعة إلى التوسع الخارجي، ففي هذه الحقبة تمت ترجمة مؤلفات الأوائل من فلاسفة اليونان فكانت جسر االتواصل مع الموروث اليوناني بأخيلته ومصطلحاته وأوهامه أيضا. ففي سنة 1489 قام المفكر الفرنسي أورسام Orseme بترجمة كتاب السياسة لأرسطو، ثم ترجم من بعده في القرن اللاحق (1576) الفيلسوف الفرنسي جون بودان فصولا من كتاب الجمهورية لأفلاطون.

ابتداء من القرن السادس عشر مع جون بودان والى حدود القرن الثامن عشر مع مونتسكيو أصبحت السلطة الاستبدادية تعني الملكية التعسفية la monarchie tyranique للدلالة على الحد الأقصى من التسلط الذي يمكن أن تدركه أنظمة الحكم الفاسدة والمنحرفة حيث يجانب الملك قانون الطبيعة ويعامل رعاياه معاملة العبيد لا المواطنين الأحرار5.

اتجه مفكرو الغرب الحديث وفلاسفته السياسيون إلى تحديد عالمهم السياسي والثقافي بالتعارض مع عالم الأتراك الذين كان ينظر إليهم باعتبارهم الآخر الغريب، وقد تشكلت هذه الصورة النمطية للأتراك منذ سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين الأتراك في القرن الخامس عشر وفي أجواء الاحتكاك العسكري بين الدولة العثمانية والممالك الأوروبية المنافسة6. وكان مكيافيلي من أوائل من رسخ هذه المقابلة الثنائية في الوعي الغربي الحديث، فقد تعرض في موقعين من كتابه الأمير إلى الحكم العثماني كنقيض مطلق للملكيات الأوروبية، ولما أسماه بيرقراطية الباب العالي كحالة متمايزة عن المؤسسات السياسية للممالك الأوروبية أين يوجد "سيد واحد يحكم كامل الإمبراطورية العثمانية ويجعل بقية الناس عبيده، ويقسم مملكته إلى سناجق وينتدب عددا من الإداريين للتحكم بالناس ويقوم بتغيير هؤلاء الإداريين أو يزيلهم حسب رغباته الخاصة.. فالكل عبيده المرتبطون به"7.

من المعلوم هنا أن مصطلح استبداد قد أصبح أكثر رواجا في الخطاب السياسي الغربي بدءا من القرن الثامن عشر، وكان لمونتسكيو دور خاص في ترويج هذا المصطلح وإعادة بعثه مجددا من المدونة اليونانية القديمة على حساب كلمة التعسف (tyranny) التي كانت أكثر اشتغالا في الخطاب السياسي الغربي بسبب قوة الحضور اليوناني القديم.

لم تعد كلمة استبداد في الخطاب السياسي للحداثة الغربية تحيل إلى حالة مخصوصة لحكومة معينة مثلا، بل إلى نسق متكامل من الحكم السياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط المطلقين. ومن هذه الناحية فإن الحكم الاستبدادي أوسع دلالة من مجرد وصف حالات محددة من التجاوزات الفردية يقوم بها حاكم بعينه، لأن كلمة استبداد تدل على جنس عام من أجناس الحكم السياسي وليس على مجرد حالة عينية تخص بعض تجاوزات هذه الحكومة أو تلك8. الاستبداد كما عرفه مونتسكيو هو ذلك الحكم الفردي المطلق الذي لا يخضع لعملية ضبط أخلاقي أو رقابة دستورية، ويتأسس في جوهره على أهواء الحاكم ونزوعاته الشخصية. وتنبني شرعية هذا النمط من الحكم أساسا على الخوف، ولذلك في حالة غياب هذا العنصر يتداعى مجمل البنيان السياسي للسقوط على ما يذكر المفكر الفرنسي9. أعاد مونتسكيو تفعيل كلمة استبداد من القاموس الإغريقي القديم للدلالة على الأوضاع السياسية المستجدة في أوروبا الحديثة، فبعد تفكك الممالك الأوروبية المتناثرة بدأت تتشكل الكيانات القومية ومعها اتجاه نحو الإطلاقية والمركزية الشديدة للحكم، وبذلك استخدم مونتسكيو ما أسماه بالاستبداد الآسيوي كنموذج مكثف للدلالة على الانحرافات السياسية التي أصبحت تتهدد الممالك الأوروبية في حد ذاتها ومن ثم إمكانية تحولها إلى حالة آسيوية مستبدة.

ميز مونتسكيو بصورة جوهرية في كتابيه "روح القوانين" و"رسائل فارسية" بين ما أسماه بالحكومات الملكية القائمة على رقابة دستورية ومؤسسات مدنية وسيطة وبين الحكومات الاستبدادية الخاضعة لأهواء الحاكم ورغباته الفردية دون أي وسائط سياسية مدنية كما هو الأمر في بلاد فارس التي استخدمها نموذجا مجسدا للحالة الاستبدادية، ولتأكيد التمايز المطلق بين أشكال ممارسة الحكم في الفضاء الأوروبي وبين العالم الآسيوي المطابق ضرورة للحكم الاستبدادي10. فحتى وإن بدت بين هذين النمطين من الحكومات (الحكومات الأوروبية والآسيوية) بعض أوجه التناظر والتشابه في بعض المنعطفات التاريخية الجزئية فإن هذا لا يزيل خط التمييز الواضح والقاطع بينهما بحكم التمايز الجوهري على مستوى الفضاء الجغرافي والثقافي. من المعلوم هنا أن إحدى المعضلات الكبرى التي واجهت الفيلسوف الفرنسي في معرض تأسيسه لمقولة الاستبداد الآسيوي هي الإحراجات التالية: إذا كان الاستبداد حالة مناقضة للطبيعة مثلما أكد مرارا مونتسكيو فكيف يمكن للشعوب الآسيوية أن تتعايش مع ظاهرة مناقضة للقانون الطبيعي؟ وإذا كان الناس متساوون بالطبيعة فعلا فكيف يمكن لهذه الشعوب الآسيوية أن تخضع لحكم استبدادي لا يعترف بهذه المساواة؟11.

حاول مونتسكيو التغلب على هذه الصعوبة بالاستنجاد بالطبيعة الفيزيائية والجغرافية التي تجعل الشعوب الآسيوية متعايشة ومتساكنة مع الحكم الاستبدادي دونما اعتراض أو مقاومة. بمعنى أن هذه الطبيعة الفيزيائية والجغرافية قد أكسبت هذه الشعوب على حد زعمه طبيعة ثانية جعلتها منقادة طواعية للحكومات الاستبدادية، على عكس الشعوب الأوروبية التي بقيت محافظة على طبيعة نقية ورافضة للحكم الاستبدادي12. فإذا كانت الشعوب الأوروبية قد خضعت في مراحل محددة من التاريخ الحديث لرهط من الحكام المستبدين فإن ذلك لم يجردها من ملكة التمييز بين الحكومات الديمقراطية القائمة على العقل وبين الحكومات الاستبدادية المستندة إلى الخوف، في حين أن الشعوب الآسيوية قد تطبعت بأنواع الحكومات الاستبدادية ومن ثم منحتها شرعية كاملة.

يبدو أن وجوه الإضافة والجدة التي أدخلها مونتسكيو على كلمة استبداد المنحدرة من الموروث الإغريقي القديم تتمثل في بعدين رئيسيين:

أولا- ضخ هذه الكلمة بسياسة واضحة على حساب دلالتها المحلية المنزلية التي كانت راجحة في الحقبتين الإغريقية والرومانية الوسيطة.

ثانيا- تنزيل هذا المصطلح على الأوضاع السياسية لأوروبا القرن الثامن عشر المطبوعة بأجواء الدول القومية الإطلاقية، ومن ثم إعطائه صلاحية عملية تتجاوز حدود تداوله الفلسفي المجرد.

ولكن مع كل ذلك فإن مواطن القطع والتجاوز هذه يجب أن لا تحجب عنا خيط الاستمرارية والتواصل في الفكر السياسي الغربي الحديث –بما في ذلك فكر مونتسكيو- كما هو رائج في المدونة الحداثية الغربية وظلالها العربية المستنسخة والمفتتنة بمقولتي القطيعة والانفصال. فما فعله مونتسكيو في حقيقة الأمر لا يزيد عن عملية قلب دلالي (سيميائي) لمصطلح كان سابقا له وليس ابتداعا خاصا به، بمعنى أنه إذا كان مركز الإحالة عند أرسطو هو مجال التدبير المنزلي الذي يقيس على ضوئه العلاقات السياسية في الحقل العمومي فإن الأمر معاكس تماما عند مونتسكيو لأن مركز الإحالة عنده ليس العلاقات الفردية بل العلاقات العامة في عصر مغموس بالانفجارات السياسية الكبرى.

ومن هذه الناحية يمكن القول إن الفكر السياسي لمونتسكيو لا يزيد عن كونه عملية قلب وإعادة بعث للأرسطية أكثر مما هو تجاوز لها13. ويمكن التقاط خيط الاستمرارية بين الفيلسوف الفرنسي وبين الفكر السياسي لأرسطو على مستوى طبيعة النظرة للآخر التي تكاد تكون متطابقة بينهما. فنظام الحكم الاستبدادي عند أرسطو يتطابق تحديدا مع المجتمعات الواقعة خارج فضاء "أثينا" والمنعوتة عنده بالبربرية وهذا ما يعادل بالضبط ما أسماه مونتسكيو بالاستبداد الآسيوي المتطابق موضوعا في الشعوب الواقعة خارج الفضاء الجغرافي لأوروبا الحديثة.

ولعل وجه الإضافة الوحيد هو تمديد هذا المصطلح مع موجات التوسع الإمبريالي الغربي ليشمل بلاد الهند والصين بالإضافة إلى الدولتين العثمانية والصفوية في وقت بدأت فيه أوروبا الحديثة شديدة الوعي بتفردها الجغرافي والتاريخي. صحيح أن أرسطو سبق له أن قابل بصورة حادة بين الشعوب "البربرية" الآسيوية وبين شعوب أوروبا المتحررة من وطأة الاستبداد على حد زعمه، ولكن محاولة أرسطو اتسمت بتحديد دلالي وجغرافي مشوش لكل من العالمين (الأوروبي والآسيوي) في وقت كانت فيه الهوية الأوروبية مجرد إحساس عاطفي لا يقابله بناء جغرافي منضبط الحدود، وكذا الأمر بالنسبة للعالم الآسيوي الذي كان مختزلا وقتها في بلاد فارس القديمة14.

منذ عصر النهضة الأوروبي وبصورة أكثر وضوحا مع جون بودان ومونتسكيو في القرن الثامن عشر اقترن مفهوم الاستبداد ببناء جغرافيا متخيلة عدت نموذجا مجسدا للاستبداد. وفي أجواء الاحتكاك العسكري بين الدولة العثمانية والجيوش الغربية أصبح الإسلام مطابقا للأتراك بعدما كان ينظر إليه باعتباره دينا عربيا، وبذلك أصبح العثمانيون حالة عينية مجسدة لإسلام مستبد بالضرورة. وبهذا المعنى يمكن القول إن ما فعله مونتسكيو وخاصة في كتابه "رسائل فارسية" هو مجرد إعادة التأسيس النظري للمخيال الغربي القائم على مقولة الاستبداد الشرقي مقابل تحررية الممالك الأوروبية، وهو مخيال متجذر منذ الحقبة الإغريقية القديمة على النحو الذي بيناه سابقا.

توكفيل والاستبداد الجديد

يرى توكفيل إمكانية تحول الديمقراطيات الغربية الحديثة إلى منظومات سياسية إكراهية لم يجد لها المصطلح المناسب للتعبير عنها، ولذلك غالبا ما ينعتها بمواصفات تناسب الحالة الاستبدادية ولكن دون استعمال كلمة استبداد. كما أكد من جهة أخرى صعوبة رصد الوجوه الاستبدادية للديمقراطية الحديثة، بحكم تواريها في الغالب خلف شعارات إلغاء مراكز تسلط الحقب الأرستقراطية15. يتخلق الاستبداد الجديد من وجهة نظر توكفيل في رحم الديمقراطية الحديثة، وذلك من خلال تمدد ما يسميه بالأيادي والأعين الخفية للدولة إلى مستوى خواص الحياة الفردية. فباسم المساواة الديمقراطية تصبح الدولة سلطة الضبط والتعليم والإرشاد والعقاب وبذلك تصبح الجماعة القومية مجرد حيوانات صناعية أليفة تقوم الحكومة مقام راعيها الأكبر على حد تعبيره16. ففي ظل مجتمع تعادلي يقوم على مثال المساواة الكاملة بين مواطنين أحرار بعد إلغاء الامتيازات الاجتماعية والسياسية للحقب القديمة يصبح الناس مجرد ذرات منعزلة عن بعضهم البعض بسبب انخلاعهم من روابط العائلة والقرابة الدموية وحماية الطبقة الاجتماعية وبذلك تتمدد الأذرع البيرقراطية للدولة لملء هذا الفراغ.

وينتهي المفكر الفرنسي إلى القول إن معضلة الاستبداد الجديد وإن كان من الصعب التغلب عليها بصورة جذرية إلا أنه من الممكن الحد من ضراوة أنيابها الحادة بتكوين شبكة واسعة من الروابط السياسية والاجتماعية التعاونية لضم الذرات المتناثرة من الأفراد إلى بعضهم البعض حتى يتم الحد من الأخطبوط الواسع للدولة الحديثة أي تكوين ما اصطلح على تسميته لاحقا بالمجتمع المدني.

الدولة العربية والإرث الإمبريالي

تعتبر الدولة العربية في صورتها الراهنة منتوج الإرث الإمبريالي سواء كان ذلك من جهة جغرافيتها السياسية وخطوط حدودها، أو من جهة آلية إدارتها للحكم ونمط علاقتها بمواطنيها، فدولة "الاستقلال" العربية لم ترث عن إدارات الحماية الأجنبية الهياكل والمؤسسات فحسب بل ورثت عنها أكثر من ذلك أسلوب إدارة الحكم ونمط العلاقة بالمحكومين. فقد حافظت الدولة العربية على نفس القوالب والأجهزة التي ورثتها من الحقبة الاستعمارية، كما حافظت على ذات العلاقة بالمجتمع، وهي في مجملها علاقة انفصالية وعمودية تهدف إلى احتواء المجتمع وضبط حركته بصورة فوقية.

لعله من المناسب لنا في هذا الصدد ونحن نتناول ظاهرة الاستبداد السياسي العربي وعلاقة ذلك بالمواريث الإمبريالية أن نعود إلى واحد من أهم مؤلفات الباحثة الألمانية حنة أرنت (Hannah Arendt) المعنون بأصول الشمولية، ولكن مع التنبيه إلى أن أغراض البحث تقتضي عملية تعديل وتصويب للسياق التحليلي للكاتبة الألمانية، فهي قد تناولت موضوع الإمبريالية من زاوية تأثيراته ومضاعفاته السلبية على "المراكز الأوروبية" بدرجة أولى، في حين أن ما يهمنا أساسا يتعلق بتأثيرات هذا المشروع التوسعي لا على صانعيه ومصدريه بل على ضحاياه في المستعمرات التي كنا جزءا منها.

بما أن الحالة الإمبريالية على ما تذكر أرندت قائمة في جوهرها على مبدأ مراكمة التوسع وتعظيم الربح فإنها لم تكن معنية بتصدير المؤسسات السياسية المدنية إلى عالم ما وراء البحار بقدر ما كانت معنية بإخضاع السكان المحليين وبسط اليد على الثروات العامة، فغاية الإمبريالية كما تقول أرندت "الاستيعاب لا الإدماج وفرض الخضوع لا تحقيق العدل"17، وهذا ما يجعل منها ظاهرة استبدادية تعسفية بامتياز. وبشيء من التحديد المنهجي يمكن القول إن أهم ملامح المشروع الإمبريالي على نحو ما كشفت شخوصه الكاتبة الألمانية تتمثل في الأبعاد التالية:

تصدير أدوات السلطة السياسية أي مؤسسات الإكراه والإخضاع دون المؤسسات السياسية المدنية، وهذا يعني إعطاء الأولوية القصوى لتصدير أدوات العنف وعلى رأسها جهازا الجيش والأمن على حساب المؤسسات المدنية والقوانين المنظمة والضابطة للاجتماع السياسي. وبذلك أضحى العنف المنظم في أجواء التوسع الامبريالي حالة راسخة في إدارة الشأن السياسي. ويتأسس على ما سبق بيانه انفصال وتباعد متزايد بين ما أسمته بالأدوات السياسية (political means) والمؤسسات السياسية (political institutions)، فالأدوات السياسية التي كانت مترابطة مع المؤسسات السياسية (مثل البرلمان ومؤسسات الرقابة الدستورية القضائية المستقلة) في المراكز الإمبريالية انقطعت عنها لاحقا في مواطن التمدد الإمبريالي ومن ثم أصبحت أدوات العنف طليقة اليد في إدارة شؤون المستعمرات دون أي وجه من وجوه الرقابة والضبط18.

تتأسس الإمبريالية من وجهة نظر الكاتبة الألمانية على دعامتين أساسيتين:

أولهما: من طبيعة نظرية تمثلها الأيدولوجيا العنصرية التي أضفت المشروعية على سيطرة القلة الإمبريالية على الكثرة من شعوب المستعمرات..

ثانيهما: من طبيعة سلطوية إكراهية قوامها مثلث الجيش والشرطة ثم الجهاز البيرقراطي، وهنا لابد من لفت الانتباه إلى كون البيرقراطية عند الكاتبة الألمانية تعد واحدة من أهم أدوات إدارة لعبة التوسع الإمبريالي، فهي سلطة تعسفية خاضعة لرهانات وتوجيه إداريي العنف الذين يتوارون خلف الجهاز البيرقراطي بإصدار المراسيم والأوامر السرية بغاية السيطرة على الأهالي وإخضاعهم لا تنظيم شؤونهم ومعاشهم. أي أن البيرقراطية كما تفهمها أرنت سلطة تعسفية وليست مجال تجسد العقلانية مثلما ذهب إلى ذلك ماكس فيبر19. والمتأمل اليوم في مجريات الأحداث في العراق وكيف تدار شؤون الحكم في هذا البلد عن طريق لعبة المراسيم والقرارات الفوقية سواء في حقبة الحاكم المدني بريمر أو خلفائه الجدد المنتدبون أميركيا يدرك مدى صحة وانسجام التحليل الذي كشفت الكاتبة الألمانية عن بعض معالمه.

وعلى أهمية التشخيص العميق الذي قدمته أرندت فإنه يبدو لي أن كوارث المشروع الإمبريالي ليست قاصرة على امتناعه عن استجلاب مؤسسات الضبط والتنظيم السياسي للشعوب المستعمرة توازيا مع تمدد جيوشه وآلياته العسكرية، بل ما هو أشد خطورة من كل ذلك تفكيك المؤسسات والروابط الأهلية التي كانت تنتظم الحياة السياسية والاجتماعية لهذه الشعوب، فمن المغالطة التاريخية تصور الشعوب التي خضعت للاحتلال الأجنبي وكأنها حالة بهيمية سائبة وفاقدة لمقومات التواصل والانتظام المدني فلم تعرف من معاني التمدن إلا ما لامسها من تأثيرات المحتلين.

فالمشروع الإمبريالي لم يتمدد بين شعوب لا تاريخ أو حضارة لها بل على العكس من ذلك اكتسحت الجيوش الغربية شعوبا بعضها كان أكثر تمدنا وتحضرا من حملة المشروع الإمبريالي أنفسهم، وهذه الظاهرة تصح بالضبط على المراكز الكبرى في منطقتنا العربية التي تعاقبت عليها موجات متتالية من التمدن والتحضر أكسبتها آليات وخبرات تاريخية واسعة في إدارة الشأن السياسي والحياة المدنية العامة، ودع عنك هنا القراءات الاستشراقية التي ترى أن التاريخ الفعلي لهذه المنطقة بدأ مع فوهات مدافع نابليون بونابرت على مصر ومنطقة الشرق أما قبل ذلك فلا يوجد غير الجمود والظلام الدامس، فانتقال مراكز الثقل من إسطنبول والقاهرة وبغداد ودمشق مثلا إلى العواصم الأوروبية الكبرى أمثال باريس ولندن وفيينا لا يعني أن الشمال المتوسطي قد أصبح أكثر تمدنا وتحضرا بل كل ما هنالك أنه أصبح أكثر قوة وأنجع تسلحا ومن ثم أقدر على السيطرة والاستحواذ على مناطق النفوذ والوفرة وليس أكثر من ذلك.

هذه الآلية الراسخة في نمط الحكم الإمبريالي على النحو الذي كشفت الكاتبة الألمانية عن ملامحه العامة لم يشهد تغييرا يذكر بعد رحيل الجيوش الأجنبية وحلول الحكومات المحلية محلها، فحادثة الاستقلال لم تزد في حقيقة الأمر عن استبدال الإداريين الأجانب بإداريين محليين. ولكن جوهر العلاقة بين نخبة الحكم المحيط الشعبي وبنية الدولة بقيت هي نفسها تقريبا.

علمنة الحقل السياسي

واحدة من النتائج المباشرة والخطيرة الناتجة عن التأثيرات الإمبريالية تتمثل في علمنة الحقل السياسي وما نتج عن ذلك من اغتراب وانفصال الهياكل السياسية عن قاعدة إسنادها الشعبي بسبب تفكك جسور التواصل والتفاهم بين الحاكمين والمحكومين، وربما يعود هذا الأمر إلى كون خيار العلمنة لم يكن وليد السياق التاريخي المحلي بقدر ما كان منتوج التأثير الإمبريالي الذي خلق توازنات جديدة على أرض الواقع بقوة النفوذ السياسي والاقتصادي وحركة الجيوش التوسعية، وهي توازنات كانت في محصلتها النهائية لصالح النخب الجديدة على حساب القوى المحلية، وقد أصبحت هذه النخبة الجديدة خاضعة في عمليات توالدها الداخلي للمؤسسات العسكرية والتعليمية التي صنعت على المقاس إلى جانب علاقات دولية غير متكافئة بين مراكز التحكم الدولي ودول العالم الثالث، علما بأن هذه العلاقات العمودية بين الجهتين ليست قاصرة على الجانب التبادلي الاقتصادي على نحو ما تذكر الأدبيات الماركسية عبر اجتراحها لمفهوم "الكمبرادور"، دلالة على الطبقة الاقتصادية القائمة بدور الوسيط مع السوق الرأسمالية المركزية، بل يطال الأمر مجال الثقافة ونظام الرموز وأنماط الحياة، فالمراكز الدولية الكبرى تقوم بتعزيز مركزيتها الصلبة من خلال مراكمة أدوات السلطة والتحكم بين أيديها، توازيا مع دفع القوى الأخرى إلى مواقع الهامشية الطرفية بعد تجريدها من أدوات السلطة والثروة ونظام دلالاتها ومعانيها الخاصة ثم غرس نخب وسيطة في قلب هذه "المواقع الطرفية".

يسمي الكاتب الألماني جون جاتونغ (John Gattung) هذه النخب الجديدة المرتبطة بنيويا بمراكز السيطرة الدولية بالنخب الجسرية (Bridge head elite) التي أصبحت مؤتمنة على قيم الثقافة المهيمنة ومصالح قوى السيطرة الدولية أكثر من ائتمانها على القيم والمصالح المحلية لمجتمعاتها. ولذلك لم تعد المراكز الدولية الكبرى حسب رأي المفكر الألماني في حاجة دائمة إلى الحضور العسكري المباشر "فهذه النخبة الجسرية يتم زرعها في مركز الهامش الوطني وبذلك يصبح مركز الهامش مرتبطا عضويا بمركز المركز ضمن إطار وفاقي للمصالح بين الطرفين"20.

والخلاصة هنا أن نشوء حركة العلمنة في منطقتنا العربية الإسلامية كان في صورته الغالبة تعبيرا عن حالة تصدع وانقسام بين النخب "الحداثية" الجديدة وبين الفضاء الشعبي الواسع، فقد كان ظهور حركة العلمنة متزامنا مع نشأة خطاب رمزي وتداولي جديد قاصر في حركته التبادلية والتواصلية على دائرة النخب الضيقة ومصادم للخطاب التداولي المحلي، وهذه الظاهرة الناشئة إنما تعبر عن حالة التصدع الثقافي التي كانت ومازالت لها تجسداتها وامتداداتها الواسعة في مستوى الحركة الاجتماعية والسياسية، وهذا التصدع يبلغ أحيانا من الضراوة حد التحارب الداخلي وتهديد أسس الاستقرار الأهلي. وقد كان الباحث الفرنسي جاك (بيرك Jacques Berque) محققا وواعيا بما فيه الكفاية بظاهرة التصدع والتنازع التي تشق الاجتماع السياسي العربي والإسلامي الحديث من خلال لفت الانتباه إلى وجود ما أسماه وتائر سير وإستراتيجيات حراك متعارضة ومتضاربة في المجتمع العربي الواحد بما يشكل مجتمعين متقابلين ومتصادمين في المجتمع الواحد21.

سبق للفيلسوف الأميركي جون رولز أن تحدث عن العلمانية باعتبارها الشرط اللازم لتأسيس ما يسميه "بالوفاقات المعقدة" الملازمة لعصر الحداثة السياسية، على اعتبار أن العلمانية توفر ضمانة متينة لحيادية الدولة إزاء شؤون الاعتقاد والخيارات الفردية الحرة، وتأسيس الوفاقات السياسية التواضعية بصورة عقلانية رشيدة خارج حلقة التنازعات الدينية والمذهبية التي كانت تطبع تجربة الملكيات الدينية الإطلاقية22. ولكن ما لم ينتبه إليه جون رول، كما هو شأن جل أقرانه من المفكرين وحتى رجال السياسة والإعلام في الغرب، هو أن العلمنة السياسية على نحو ما هي قائمة في منطقتنا العربية تبدو منتجة للتمزقات الاجتماعية والسياسية وليس الخيارات الوفاقية السلمية. فالعلمنة السياسية عندنا لم تكن مرتبطة في أي وقت من الأوقات بحيادية الدولة عن المجال الديني أو السماح باستقلالية الحقل العمومي، بل على العكس من ذلك اقترنت بنزعة سلطوية وتدخلية ثقيلة الوطأة.

ومن الملاحظ في هذا الصدد أن النموذج اليعقوبي الفرنسي بنزوعاته الجذرية في القرن التاسع عشر، ثم النموذجين النازي والفاشي بدايات القرن الماضي مثلت نوعا من الجاذبية والإغراء بالنسبة للنخبة العلمانية الجديدة التي راهنت بدورها على السيطرة الفوقية على المجتمع وإلحاقه بالدولة جريا وراء سراب التحديث والتنمية السريعة، ومثلما راهن نابليون بونابرت بعد الثورة الفرنسية على تدارك المسافة التصنيعية والعلمية التي تفصل بلاده عن إنجلترا ومثلما راهنت الفاشية الإيطالية لاحقا على الالتحاق بركب الشمال الأوروبي الأكثر تقدما اقتصادا وتقانة بشكل سريع وممزوج بأحجام هائلة من العنف، فقد تطلعت النخب الحداثية عندنا اجتراح تقدم خاطف وسريع جريا وراء سراب الالتحاق بركب "التقدم" عبر المسك برأس الدولة واستنادا إلى الأوعية القطرية الهشة من أصلها دون وعي كاف بالشروط التاريخية والواقعية لنهضة الأمم.

عملية التحديث المشوه

ومن مظاهرها البارزة تجيير عملية التحديث لصالح تقوية أدوات وأذرع السيطرة الدولتية مقابل تجريد المجتمع من كل إمكانيات الحماية والحصانة. الوجه الأبرز لظاهرة التحديث المشوه هذه، ما نشهده في الواقع العربي من اختلال بائن بين دولة تزداد قدرة على الضبط الرقابي والردع العقابي مصحوبة بنزعة تدخلية هائلة في فضاءات الحياة الخاصة والعامة مقابل مجتمع متذرر مقطوع الأوصال. سبق لعالم الاجتماع الفرنسي لاتوش أن سمى هذه الظاهرة بالتحديث دون حداثة23، قاصدا بذلك التوظيف الأداتي للتحديث لصالح هياكل ومؤسسات الدولة وآليات السيطرة دون إشاعة فضائل الحداثة السياسية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، من قبيل احترام الذاتية الإنسانية وفصل الدولة عن المجتمع السياسي واستقلال السوق عن تدخلية الدولة، وفعلا من يتابع مجريات الأمور في العالم العربي يصاب بالصدمة إزاء مستوى "الترشيد الحداثي" الذي بلغته وزارات الداخلية العربية بأقسامها التخصصية المعقدة والكثيرة وعلى رأسها أقسام الشرطة والاستعلام، مقابل ما تشهده مرافق المجتمع ومؤسساته من عطالة وتخلف هائلين، فالحاسوب الآلي وبرمجيات الكمبيوتر المتطورة مثلا وجدت طريقها إلى مختلف قطاعات الأمن والاستخبار ولما تجد طريقها بعد إلى المدارس والجامعات والإدارات والبلديات، وغيرها من المؤسسات العلمية والمدنية التي يتعلق بها سير وظائف المجتمع.

هذا الاختلال الهائل في مستويات ووتائر التحديث إنما يعود إلى ملابسات عملية التحديث أو ما سمي وقتها بمشروع التنظيمات التي بدأت في المركز العثماني وبقية الحواضر العربية في القاهرة وتونس وبغداد ودمشق وغيرها في مواجهة التهديد العسكري ثم الاقتصادي من طرف الممالك الأوروبية منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد كان من نتائج هذه التهديدات أن اتجه رجالات الإصلاح أو التنظيمات إلى تركيز جهودهم على إعادة بناء الجيوش وآلة التسلح، ثم إعادة بناء بيرقراطية الدولة لمواجهة هذا التحدي الآخذ في التصاعد وقتها، ومن ثم تحول مراكز الثقل نحو الثكنات العسكرية والمدارس الحربية على حساب المؤسسات والنخب المحلية، واختل التوازن لصالح النواة المركزية والصلبة للدولة على حساب القوى الأهلية24.

استشعرت النخبة الإسلامية منذ وقت مبكر تفوق الطرف الأوروبي في ميدان القتال العسكري وأشكال إدارة الجيوش، وتبعا لذلك تحولت الثكنات العسكرية والهياكل البيرقراطية من وسائل أساسية للإصلاح والتطوير إلى غاية في حد ذاتها، أي حلت الوسائل محل الغايات والأهداف، وهكذا أضحت الدولة مركز رهان النخب السياسية والفكرية العربية لاحقا25، ولذلك لم يكن غريبا ضمن هذه الثقافة السياسية الشائعة التي ترى في الدولة مصدر الداء والدواء في ذات الوقت، لم يكن غريبا أن تشهد البلاد العربية موجات انقلابية متتالية في حقبتي الخمسينات والستينات مادامت النخب السياسية العربية بما في ذلك تلك المعادية للاحتلال والقوى الأجنبية ترى في الدولة، -وخاصة في جهازها العسكري- مصدر الخلاص والتحرر، مثلما اعتبرت سلطات الحماية والنخب المرتبطة بها بيرقراطية الدولة ومؤسساتها العنفية أداة السيطرة على السكان المحليين وإخضاعهم.

هذا التحول الجاري في مجال السلطة السياسية وعلاقتها بالجسم الاجتماعي كان يوازيه على الطرف الآخر من المشهد تحول في مجال الفكر السياسي أو النظرية السياسية لمسألة السلطة وآلية إدارتها، فقد كانت النخبة الإسلامية وإلى غاية القرن التاسع عشر وعلى نحو ما سجل ذلك الباحث الإنجليزي ميتشل، كانت تنظر لمؤسسة الحكم باعتبارها جزءا من النسيج الإسلامي العام، وعلى هذا الأساس كان النموذج التفسيري الذي تستند إليه في معرض تحديدها لنمط العلاقة المطلوبة بين الحاكم والمحكوم، نموذج الجسم الحي الذي تتعدد وظائفه وربما تتفاضل فيما بينها ولكنها في كل الأحوال تترابط وتتكامل مع بعضها البعض26. أما النخبة التحديثية الجديدة سليلة المؤسسة العسكرية والبيرقراطية فهي ترى في نفسها عالما قائما بذاته لا علاقة له بما حوله، وهي فضلا عن ذلك لا ترى في محيطها الشعبي غير مادة أولية قابلة لإعادة التشكيل والصياغة، بحسب رهانات ومصالح "القوى الطلائعية"، ولذلك فإن النموذج التفسيري الذي تقيس على ضوئه الحقل السياسي هو الجسم الميكانيكي المادي وليس الجسم العضوي الحي، وكان اللورد كرومر أول من نظر للسياسة باعتبارها جسما ميكانيكيا تمثل الإدارة الاستعمارية محركها الخارجي، ويمثل المجتمع المصري مادتها الخام، فقد شبه اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة" الجسم السياسي المصري بالآلة الميكانيكية الصامتة التي لا ينتظم سيرها إلا بوجود قوة محركة (motive force) وهذه القوة المحركة تعادل عنده سلطة المندوب السامي البريطاني المتوارية عن الأنظار ولكنها الناجعة والنافذة والتي يسميها "بالإرادة الخفية"، أما المجتمع المصري فهو يعادل عنده المادة الخام التي تبتلعها الآلة الميكانيكية وتعيد صهرها27.

ولكن أهمية التصور السياسي الذي أفصح عنه كرومر لا تقتصر على تسجيل آليات اشتغال السلطة السياسية منذ الحقبة الاستعمارية التي كان من أهم رموزها وأعلامها في المشرق العربي، بل الأهم من ذلك تسجيل التحول الحاصل في مفهوم السلطة وعلاقتها بالجماعة المحلية من طرف دوائر النخب الجديدة التي أفرزتها مراحل التمدد الإمبريالي الغربي.

أزمة الشرعية

يعاني العرب أزمة شاملة ومتعددة الوجوه والشخوص ليست الحالة الاستبدادية إلا مظهرا من مظاهرها وعرضا من أعراضها، ومثلما يحتاج الطبيب عند معالجة مرضاه إلى متابعة الشخوص والأعراض للوصول إلى الأسباب العميقة للمرض فكذلك هو الأمر بالنسبة لأهل الفكر والنظر، فهم في حاجة ماسة إلى تجاوز المعارف الأولية البسيطة التي تكتفي بالوقوف عند ما هو مرئي وقريب إلى التنقيب في أعماق الظواهر بما يساعد على تلمس سبل العلاج والتصحيح. ثمة جملة من الأسئلة المحورية التي يحتاج كل باحث وسياسي نزيه وحصيف إلى المجازفة بطرحها، من ذلك: ما الذي يجعل من الدولة العربية المسماة تجاوزا في أدبيات بعض الكتاب المغاربيين "بالدولة الوطنية الحديثة"، ما الذي يجعلها عنيفة ومتجبرة؟ ما الذي يجعلها عصية على الترويض والضبط؟ ما الذي يجعلها واهنة وعاجزة عن دخول بوابة الحداثة السياسية والاقتصادية، رغم ما تثيره من جلبة وضجيج الشعارات الحداثية والتويرية؟

الجواب عندي أن هذه الدولة العربية ولدت مأزومة وواهنة منذ تكوينها، واستمرت تحمل في ذاتها عوامل الإعاقة والخلل سواء من جهة علاقتها بالجسم المحلي الأهلي أو من جهة علاقتها بالجوار العربي، فهي دائمة التوتر والاشتباك مع مواطنيها في الداخل، ودائمة المناكفة في علاقتها بجوارها العربي، ما أن تخمد نار من نيرانها المستعرة حتى تلتهب في مواقع أخرى أو في أوقات لاحقة، من معارك الحدود، إلى معارك المحاور العربية، إلى معارك مشاريع الإصلاح، إلى منازعات الأقطار "الصغرى" و"الكبرى" والحبل على الجرار، بما جعل النظام السياسي العربي تركة ثقيلة من الأعطاب وسلسلة متناسلة من التوترات والأزمات، فالدولة العربية بسبب الوهن التاريخي المزمن الذي لازمها منذ صيرورة التكوين والميلاد كانت ومازالت تشكو خللا مزمنا في علاقتها بالقوى الوطنية المحلية، ثم بالجوار العربي الأوسع. وفي محاولة للتغلب على أزمة الشرعية هذه تلجأ الدولة العربية إلى الإسراف في استخدام العنف والمبالغة في استعراض القوة إلى الحد الذي يتماهى فيه إدارة السياسي في إدارة العنف، ولذلك كثيرا ما يستغرب المرء من حالة الهوس الأمني والشراسة البوليسية التي تبديها الدولة العربية سواء في التعاطي مع مطالب المجتمع، فبمجرد رفع بعض المطالب السياسية الإصلاحية، أو بمجرد كشف اللثام عن تجاوزات وخروقات الحاكم العربي في هذا الملف أو ذاك، حتى يتحول الأمر إلى ضرب من الاتهام "بتهديد نظام الحكم"، هذا إذا لم تدمغ هذه القوى بمحاولة الانقلاب والانقضاض على الحكم.

وليس ثمة شك في كون برانويا الخوف (أو حالة الخوف االمرضي) هذه دليلا قاطعا على ضعف شرعية الحاكم العربي بما يجعله يحسب كل صيحة عليه، فكلما قلت مقادير الشرعية عنده كلما اشتدت وساوسه ومخاوفه وازدادت شراسته وعنفه أكثر فأكثر. صحيح أن الدولة الحديثة وعلى نحو ما بين ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر تتسم بمركزية واحتكار أدوات العنف، ولكن ثمة بون شاسع بين العنف المشروع الذي تلجأ إليه الدولة المشروعة والذي غالبا ما يكون مقننا ومنضبطا بحدود "المصلحة العامة" وحماية الأمن العام، وبين العنف الأهوج الذي لا يخضع لأي روادع أو ضابط عدا الإرادة التحكمية والأهواء المزاجية لشخص الحاكم، فضلا عن ذلك غالبا ما يكون العنف الشرعي استثنائيا وعارضا ضمن الخط العام لحالة السلم والاستقرار المدني، وكثيرا ما يستعاض عنه بآليات الترويض الناعمة والخفية التي تلجإ إليها الديمقراطيات عادة، في حين أن العنف غير المشروع يكون فجا ومرئيا، وهو إلى جانب ذلك يشكل القاعدة لا الاستثناء، وهذا ما ينطبق على الدولة العربية التي هي عند التمحيص تكاد تتماهى في الوظيفة العنفية.

ومن المفارقات الغريبة والعجيبة أن هذه الدولة بقدر ما تبدي من حزم وشراسة بالغين في التعاطي مع مواطنيها في الداخل بقدر ما تبدو خامدة وطيعة في التعامل مع الخارج، وربما يعود ذلك إلى كون مصدر إسنادها واستمرار وجودها يتموضع في الخارج لا في الداخل، وبقدر ما تبدي من حرص على انتهاج الترضيات والتسويات مع القوى الدولية بقدر ما تبدي من صرامة وانغلاق في التعامل مع المطالب الداخلية ومع القوى المحلية، حتى لكأن نخب الحكم عندنا تبدو مجرد وكيل على تدبير المصالح الأجنبية وليس أكثر من ذلك.

سبق للمفكر المغربي عبد الله العروي أن أرجع جذور أزمة الدولة العربية إلى هشاشة قاعدتها الأيدولوجية نتيجة استنكاف المثقفين العرب عن منح "الدولة الوطنية" ما تستحقه من اعتراف وشرعنة لازمين، بسبب تعلقهم الحالم بمثال الوحدة والخلافة، والانصراف عن واقع التشكل العيني للدولة "الوطنية"28، ولكن يبدو لي أن الأزمة أعمق غورا، وأوسع مدى مما ذهب إليه العروي، لأن مسألة الشرعية والاعتراف ليست قضية تخص دوائر المثقفين بقدر ما تخص القطاع الأوسع من الناس، فما لم يشعر العربي بالحاجة والدافعية الطوعية للاعتراف بهذه الكيانات السياسية فإنها ستظل هشة البنيان ومرتجة القواعد، وستظل في أحسن الحالات تدخل ضمن دائرة الأمر الواقع، وحكم الضرورة وليس أكثر من ذلك، حتى وإن نالت مراسيم الاعتراف والشرعية من كل المثقفين العرب، ومن المؤكد هنا أن الدولة العربية بالنظر إلى كثرة أزماتها وأعطابها وشراسة عنفها، إلى جانب عجزها عن حماية الحد الأدنى من مقومات السيادة ليس فيها ما يغري العرب "بطي صفحة" التطلعات والأحلام الكبرى ومنحها ما تحتاجه من شرعية واعتراف.

ليس ثمة شك في كون العرب يعانون ضربا من الانفصام والانفصال بين الواقع والمثال، بين واقع دولة التجزئة والانقسام الذي يتلمسونه ويعايشونه واقعا وبين مثال الوحدة الذي تغذيه الذاكرة التاريخية وضغوطات الواقع الدولي من حولهم، وهو انفصال وانفصام نكد كان ومازال يعذب الضمير، ويربك الوعي الفردي والجماعي في عالمنا العربي، فأيهما نختار، واقع الدولة القطرية الآخذة في ترسيخ عراها ومد جذورها يوما بعد يوم، أم نختار التشبث بالحلم والمثال؟ هل نضحي بالواقع من أجل المثال أم نتشبث بالحلم والطوبي على حساب واقع الدولة العربية المتجه أكثر فأكثر نحو مزيد الهامشية ومزيد التأزم؟

من المؤكد هنا أن علاج هذا الإشكال المركب والمعقد لا يتعلق بعالم الفكر والنظر المجرد بقدر ما يتعلق بمجريات الواقع وحركة التدافع التاريخي، أي إلى أي وجهة وخيار سيتجه العرب فيما هو قادم من أوضاعهم، وما إذا كانوا سيحسمون أمرهم لصالح كيانات الانقسام العربي ومن ثم يطوون صفحة الأحلام والتطلعات التاريخية الكبيرة؟ أم سيتجهون في الحد الأدنى إلى اجتراح نوع من التسوية المعقولة والرشيدة بين واقع الانقسام وحاجة التكامل ضمن شكل من أشكال التكامل التضامني على منوال ما فعل الجوار الأوروبي من حولنا؟

ثمة حقيقتان جديرتان بالتسجيل في هذا الصدد، أولاهما أن الدولة العربية ومهما كانت درجة الشرعنة التي تنالها والمقبولية التي تحظى بها، وبغض النظر عن نوعية الأوصاف والألقاب التي تطلق عليها، وما إذا كانت كيان تجزئة على ما يقول التيار الوحدوي بشقيه العروبي والإسلامي، أم كانت دولة وطنية وحديثة على ما يذكرنا بذلك بعض الليبراليين والمشايعين الأيدولوجيين العرب فإنها ستظل كيانا هشا تذروه الرياح في عالم يتجه نحو مزيد التكتل والتوحد بل الانتقال من دائرة الانتماء القومي الضيق إلى الانتماء القاري الأوسع، كما أنها ستظل عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من موعوداتها في التنمية والنهوض وتحقيق تطلعات مواطنيها في الرقي الاقتصادي والرشد السياسي.

ما يجدر تسجيله في هذا الصدد هو أن الدول العربية الموصوفة بالحداثية تبدو الأكثر عنفا وفتكا بمواطنيها، ولعل الحالة البعثية في العراق والبومدينية في الجزائر والبورقيبية في تونس كفيلة بتوضيح الصورة، في حين أن الأنظمة العربية الملكية المنعوتة في أدبيات بعض اليساريين والحداثيين العرب بالتقليدية وحتى الرجعية تبدو أقدر على الانفتاح والتطور. وليس من قبيل المصادفة أن تتمكن الملكيات العربية على سوءاتها ومجافاتها لقيم العصر في كثير من الوجوه، أن تتمكن من اجتراح بعض التسويات وإقامة برلمانات وانتخابات تتمتع بقدر من النزاهة والمصداقية، في حين أن أخواتها الجمهوريات تظل عاجزة عن اجتراح الحد الأدنى من التسويات السياسية والاجتماعية أو انتهاج خيار الموادعة مع رعاياها.

الاستبداد في الفكر الكلامي والفلسفي(4)

 تاريخية الاستبداد

كلمة المستبد (Despot) مشتقة من الكلمة اليونانية ديسبوس (Despots) التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل أو السيد على عبيده، ثم خرجت من هذا النطاق الأسري إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة أو السيد على عبيده1.

لكن حقيقة الأمر أن هذا الخلط بين سلطة الأب وسلطة الحاكم على رعاياه, ما هو إلا عملية تأويل لطغيان الحاكم بتمثله كالأب بالنسبة للأسرة , لأن سلطة الأب أخلاقية ، فقراره مطاع واحترامه واجب في أسرته , لكن نقل هذه السلطة إلى السياسة واعتبار الحاكم أبا والمواطنين أطفالا أمر غير مبرر , ثم إنها تسمى السلطة السياسية وليست السلطة الأبوية.

فسلطة الأب على الأبناء ليست سلة تشريعية , وأي ابن يبلغ الثامنة عشرة من العمر تنتهي عندها سلطة الأب ويستقل الابن , لكن هذا الاستقلال لا يعني عدم احترام الأب، فاحترام الأب واجب ديني و أخلاقي ... بينما الحال مختلفة تماماً في السلطة السياسية, فهي تتحول في المجال السياسي إلى أن الحاكم الذي يمارس هذا النوع من السلطة مستبد.

ويرجع مصطلح الاستبداد إلى أرسطو الذي قارنه مع الطغيان وقال أنهما نوعان من الحكم يعاملان الرعايا على أنهم عبيد. والاستبداد يراه عند البرابرة (ويقصد أرسطو بالبرابرة البشر من غير اليونانيين ويسميهم أيضا الأغراب) فهو ذو سمة آسيوية ويعني خضوع المواطنين للحاكم بإرادتهم, لأنهم عبيد بالطبيعة، ولابد من الإشارة هنا إلى أن أرسطو يناقش فكرة العبد وهل هو عبد بالطبيعة أم أنه عبد بالطبع، ويقصد بالطبيعة أن المرء يولد وهو عبد لذا فواجب عليه الخضوع لسيده وواجب عليه الطاعة والقيام بالأعمال التي يوكلها إليه سيده، أما ما يقصده أرسطو بالطبع فهو أن العرف والتقاليد الاجتماعية هي التي تفرض على الإنسان أن يكون عبدا، وكانت المدرسة السفسطائية تميل إلى الرأي الثاني بينما أرسطو يميل إلى الرأي الأول الذي يعد العبد عبدا بالطبيعة، لذا فهو يعد الآسيويين طبيعتهم هي هكذا أي هم يخضعون لحاكمهم المستبد، فهم بالطبيعة وليس بالطبع يخضعون لحاكمهم.

عليه فإن مصطلح المستبد عند أرسطو يأخذ الأبعاد التالية:

1.     رب الأسرة.

2.     السيد على عبيده.

3.     ملك البرابرة الذي يحكم رعاياه كالعبيد.

أما أفلاطون فعلى الرغم من كونه أستاذ أرسطو إلا أن مناقشته للمستبد تحت مفهوم الطاغية وليس المستبد الذي ناقشه تلميذه أرسطو, فيستولي الطاغية حسب وجهة نظر أفلاطون على السلطة عنوة, ويسعى للتخلص من خصومه بعد استيلائه عليها, لكنه يبدأ بكسب شعبية الناس ويوزع الأراضي, ويشن الحروب لكي يبقى الشعب بحاجة إليه، وهي وسيلة احتقار الناس، ومن مصلحة الطاغية استمرار الحروب. ويلاحق الطاغية جميع الناس الذين يمتازون بالشجاعة وكبر النفس والحكمة والثروة لأنهم يشكلون خطرا عليه, يحيط به جماعة مستعبدة تتقاضى أجورا عالية لكي تحميه وتمتدحه, لذا فهو يعيش على حساب الناس الذين يرزحون تحت أسوأ العبوديات, وهؤلاء انتقلوا من الحرية إلى العبودية, أي من الديمقراطية إلى الطغيان.

أما أوصاف الطاغية عند أفلاطون فهي:

كائن حيواني ينشغل بالملذات المتقلبة, نقيض الروح الخالدة, هو من أتعس العالمين ومدينته مدينة شقية, العلاقة بين الحاكم والمحكومين هي علاقة السيد بالعبد.

ويرتب أفلاطون أنظمة الحكم الذي ينتهي بأسوأ النظم وهو الطغيان:

1.     الأرستقراطي (Aristocracy)

أفضل أنواع الحكم وهو حكم القلة الفاضلة ويتجه نحو الخير مباشرة ومن ثم فهو نظام الحكم العادل.

2.     الحكم التيمقراطي (Timocracy)

وهو الحكم الذي يسوده طابع الطموح من محبي الشرف أو الطامحين إلى المجد الذين تكون وجهتهم السمو والتفوق والغلبة.

3.     الحكم الأوليغاركي (Oligarchy)

وهي حكومة القلة الغنية حيث يكون للثروة مكانة رفيعة.

4.     الديمقراطية (Democracy)

هي حكم الشعب حيث تقدر الحرية تقديراً عالياً.

5.     حكومة الطغيان (Tyranny)

وهي حكومة الفرد الظالم أو الحاكم الجائر, حيث يسود الظلم الكامل بغير خجل.

وعند أفلاطون النظامان اللذان يمثلان الشطط في السياسة: ملكية فارس وديمقراطية أثينا: الأول الإفراط في السلطة، والثاني الغلو في الحرية 2.

وعلى الرغم من تحليل أفلاطون هذا للطغيان إلا أن فكرة أرسطو حول المستبد ظلت تسيطر على أغلب المفكرين الأوروبيين، فمكيافلي قارن بين الاستبداد والطغيان عندما قابل بين النظام الملكي في أوروبا والطغيان الشرقي في الدولة العثمانية.

مونتسكيو في كتابه روح القوانين يتخيل الاستبداد من خلال تركيا أو روسيا بأنه حكم يسوده شخص واحد بلا قوانين ولا أحكام ويسير كل شيء بإرادته ومخاتلاته. ويسير هذا الشخص إمبراطوريته بالخوف من الموت بما يوحي لرعاياه من تخويف3.

ومونتسكيو يعد الاستبداد نظاما طبيعيا بالنسبة للشرق لكنه غريب وخطر على الغرب، وهي نفس الفكرة الأرسطية التي يقسم فيها العالم إلى شرق وغرب, للشرق أنظمة سياسية خاصة لا تصلح إلا له وهي بطبيعتها استبدادية يعامل فيها الحاكم رعاياه كالحيوانات أو كالعبيد، وللغرب أنظمة سياسية خاصة تجعل تطبيق الاستبداد يهدد شريعة النظام الملكي.

هيغل وماركس أعادا فكرة أرسطو وأصبح الطغيان والاستبداد هما نظام الحكم الطبيعي للشرق لأسباب ومبررات مختلفة فيما بينهما وظهور ما يسمى نمط الإنتاج الآسيوي.

وأسباب كل هذا تعود إلى بعض السمات السيئة في الشخصية الشرقية، فمثلا شخص واحد حر هو الحاكم في الصين, فهو الأب وأمره مطاع وينظر إلى المواطنين قصرا والشعب لم يخلق إلا ليجر عربة الإمبراطور وهذا هو قدره المحتوم، صوره بشعة للرجل الشرقي كما يمثلها الصينيون القدماء في رأي هيجل 4.

نماذج من الطغاة: الإمبراطور الروماني كاليفولا 12- 14 ق .م.

الإمبراطور الروماني نيرون 37-68 م.

الحجاج بن يوسف الثقفي 661-714م.

جنكيز خان 1167-1227م.

هولاكو 1217-1265م.

تيمور لنك 1336-1405م.

إيفان الرهيب قيصر روسيا 1462-1505م (فترة حكمه في روسيا).

لويس الرابع عشر 1628-1715م فرنسا.

شارل الأول طاغية بريطانيا 1625-1649 فترة حكمه في بريطانيا.

روبسبير طاغية الثورة الفرنسية 1758-1794م أصغر طغاة التاريخ.

تشانج كاي شيك طاغية الصين 1886-1949م.

أدولف هتلر 1889-1945م.

هيلاسلاسي طاغية إثيوبيا 1891- 1974م.

باتستا طاغية كوبا 1933-1944 والثانية 1952-1959م فترتا حكمه.

سالا زار طاغية البرتغال 1889-1970م.

فرانكو – طاغية إسبانيا 1892-1975م.

سوموزا الأب والابن طاغيتا نيكاراغوا 1922-1979 فترة الحكم.

عيدي أمين طاغية أوغندا - 1979 وفاته.

محمد رضا بهلوي – طاغية إيران 1919-1980م 5.  التحليل

1.     كان الشرق هو منبع أو أصل فكرة كون الحاكم إلها, في مصر وفارس والهند والصين, وينظر إلى الملوك والأباطرة باعتبارهم آلهة، عليه اكتسى لبس الاستبداد في تراثنا زياً دينيا إلى أن انتهى بالعهد الحديث إلى تأليه الحاكم, ولدى الشعب الاستعداد للركوع إلى هذا الحاكم, وطلب الإسكندر الأكبر من اليونانيين تقليد الشرقيين وانتهوا معه إلى اتفاق (أن تقتصر هذه العادة الآسيوية على الآسيويين فقط) أي عادة السجود والركوع للحاكم 6. ولم يفكر الإسكندر في تأليه نفسه إلا في الشرق, فهو موطن تأليه الحكام وآسيا هي المنبع والأصل للاستبداد.

2.     الملك في مصر, شخصية إلهية مقدسة تتمتع بعلم إلهي, يجب أن ينفذ كل ما يقوله, لا حاجة للقوانين لأنها كلها مجسدة في شخصيته, فكان فرعون هو المشرع والمنفذ.

3.     بلاد ما بين النهرين الملك هو الكاهن الأعظم, نائب الآلهة ومندوبها, الملك وكيل آلهة المدينة.

4.     يطلقون في بلاد فارس ملك الملوك على الإمبراطور وهو صاحب السلطة المطلقة في كل البلاد والناس يسجدون له ويؤلهونه.

5.     يستمد الإمبراطور في الصين سلطته من السماء, والشعب خلق ليجر مركبة الإمبراطور وهو قدره المحتوم وفقاً لرأي هيجل.

6.     يتفق أفلاطون وأرسطو في أن الطغيان ينبثق من الصراع بين الأغنياء والفقراء في ظل الديمقراطية.

7.     إن مصير الفكر والسياسة طول التاريخ الإسلامي يرتبط بالقوة والقهر, مثلما يرى ابن خلدون.

الهوامش والمصادر:

(1) إمام، عبد الفتاح إمام: الطاغية، عالم المعرفة، العدد 183، 1994، ص 52.

(2) خضر خنافر: في الطغيان والاستبداد و الديكتاتورية, دار المنتخب العربي, 1995، ص 58.

(3) المصدر السابق، ص 140.

(4) إمام، الطاغية، ص 57-59.

(5) طغاة التاريخ: د. محمد متولي, مكتبة نهضة الشرق, القاهرة, بدون سنة طبع.

(6) إمام، الطاغية، ص 27-28.

الاستبداد وحكم التغلب في أنظمة الحكم العربية المعاصرة(5)

يمر عالمنا العربي والإسلامي في الوقت الحاضر بأزمات خطيرة وداهمة حالت دون وصوله إلى تحقيق الحد الأدنى من تطلعاته في التنمية والوحدة والحرية، وأدت بالتالي إلى الفشل في الارتقاء إلى مستوى الحياة اللائقة أسوة بباقي شعوب وحضارات العالم.

الاستبداد أساس الفساد

ويعود السبب الرئيس في هذا الفشل الذريع والتخلف إلى تعرض الشعب العربي، على مدار معظم تاريخه السياسي الطويل، إلى ممارسات أنظمة شمولية مستبدة وصلت إلى الحكم بقوة السلاح و/أو المال، وتسلطت على الشعوب باللاشرعية، وحافظت على طغيانها ووجودها بالعنف والقمع والاستبداد.

إن ركود الحالة السياسية الآن، وصمت الشارع العربي على كل تلك الهزائم السياسية والعسكرية، ما هو إلا نتيجة "طبيعية" و"منطقية" لممارسات تلك الأنظمة المستبدة وللقمع الشديد الذي مورس ضد ذلك الشارع وبخاصة ضد طلائعه المثقفة. وكان من نتائج حكم هذه الأنظمة المستبدة والقمعية أن تحول الشعب العربي إلى شعب مثقل بهمومه السياسية والمعيشية ومخاوفه الأمنية اليومية.

إن الشعوب في ظل مثل هذه الأنظمة لن تكون قادرة على مواجهة مشاكلها التنموية فضلا عن الهيمنة الاستعمارية. فالنظم الاستبدادية تقتل في شعوبها إرادة التفكير والتطوير والإبداع وتخلق مجتمعا متأزما. فأسير الاستبداد كما يقول الكواكبي "يعيش خاملا فاسدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته"(1).

إن إشكالية الاستبداد بالرأي وعدم القدرة على تقبل الرأي الآخر والتشرذم الفكري المؤدي إلى الخلاف والاختلاف أصبحت صورة مألوفة في المجتمع العربي المعاصر، حيث غدت إشكالية واقعية معاصرة وعقبة حقيقية على طريق تحقيق وحدة شاملة للأمة في ظل حرية الرأي والتعبير عنه.

إن امتداد الوطن العربي على هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة في قارتين من أكبر قارات العالم، وسيطرته بالتالي على أهم الممرات الإستراتيجية المائية، واحتواءه على ثروات هائلة وطاقات مادية وبشرية كبيرة جعلته عرضة لمختلف أنواع المؤامرات والفتن على مر العصور. كما أن ثرواته أغرت الدول الاستعمارية بتعميق سيطرتها وهيمنتها المباشرة على مقدرات المنطقة وتحقيق منافعها ومصالحها الاقتصادية والإستراتيجية على حساب مصالح الشعب العربي المالك الحقيقي لهذه الثروات.

صحيح أن الموقع الجغرافي الممتد للوطن العربي والثروات الهائلة الكامنة فيه قد جعلته على مر التاريخ عرضة للمؤامرات والغزوات الاستعمارية الطامعة فيه (التي لن يكون آخرها غزو العراق). إلا أنه يتوجب علينا أن لا نغفل العامل الداخلي الذي أوصلنا إلى هذا المستوى الخطير من الضعف والتخلف.

فالوطن العربي، من أقصى شرقه إلى غربه، يعاني من تعمق ظاهرة الاستبداد على كافة مناحي الحياة فيه. إن هذا المرض هو أهم مشكلة تعيشها أمتنا العربية الآن وتمنعها من التطور لتنهض وتتطور وتلحق بالدول المتقدمة. إن هيمنة الاستبداد على مختلف أوجه الحياة في عالمنا العربي المعاصر قد حرمت شعوبنا العربية من الطاقة الحركية التي تدفعها لبناء ذاتها وهي طاقة الحرية المسؤولة والقدرة الإبداعية على الابتكار الصحيح والتفكير العلمي الممنهج والتعبير السليم.

"فالاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. لأنه يقف على طرف نقيض من حرية الإنسان ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن سعيه للمجهول، ويجعله أسيرا بيد الجهل والتخلف.. وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة، إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود"(2).

يرى الكواكبي أن الاستبداد (بأشكاله المختلفة: الديني والسياسي والاقتصادي) هو أساس جميع الفساد وأن عاقبته لا تكون إلا الأسوأ، مثلما يرى في الاستبداد أكبر مشكلة يعانيها الشرق. ويعرف الاستبداد بقوله "الاستبداد في اللغة بمعنى اكتفاء الشخص برأيه في موضوع يحتاج إلى الشورى، لكن هذه اللفظة عند ذكرها بالصيغة المطلقة تفهم باستبداد الحكام. أما في اصطلاح أهل السياسة فهي تعني تصرف فرد أو جماعة بحقوق شعب دون الخوف من المؤاخذة والاستجواب". ويرى أن الاستبداد هو "من صفات الحاكم المنفرد والمطلق العنان، الذي يتصرف في أمور رعيته بإرادته دون خوف من المحاسبة أو العقاب"(3).

ومن جهته يصف أفلاطون المستبد بقوله "المستبد يستولي على السلطة بالقوة ويمارسها بالعنف، بعد ذلك يسعى أولا إلى التخلص من أخطر خصومه، ويكثر من الوعود، ويبدأ بتقسيم الأراضي مما يجعله شعبيا ومحبوبا، وهو ما ينفك يفتعل حروبا ليظل الشعب بحاجة دائمة إلى قائد. وهذه الحروب تنهك كاهل المواطنين من خلال ما يدفعونه من ضرائب باهظة، فيضطرون إلى زيادة ساعات العمل مما لا يبقي لديهم وقتا للتآمر على المستبد. والحرب تساعده على التخلص من معارضي سياسته، حيث يقدمهم إلى الصفوف الأولى في المعركة. إن ذلك كله يدعو إلى استياء الجماهير، حتى أعوانه الذين دفعوه إلى السلطة، وهنا لا يجد أمامه إلا القضاء على المعارضة بما يملكه من وسائل العنف والقوة، فيزيد من تسلحه، ومن حرسه الخاص من المرتزقة، مما يتطلب نفقات طائلة، فيلجأ المستبد إلى مزيد من نهب خزائن الشعب الذي يدرك بعد فوات الأوان أنه وضع في حالة استعباد مسيس. فحكم القوة والإجرام وضيق الحظيرة وقلة الصبر عن الآراء المخالفة طبيعة ملازمة للحكومة المستبدة، ولا تلبث أن تنتشر هذه الطبائع في الدولة كلها وتعم العلاقات الاستبدادية المجتمع بهيئاته جميعها"(4).

الإرهاب والاستبداد

لقد ساهمت أنظمة الاستبداد في تبديد ثروات الأمة العربية، وأنفقت أموالا طائلة في شراء وتكديس أسلحة لن تستخدم قط إلا لقهر شعوبها. كما أنها ساهمت في تجذر التجزئة والفرقة وأفرغت مفهوم الوحدة من مضمونه وجعلت من الوحدة العربية حلما مستحيل التنفيذ.

كما عجزت عن وضع خطط عملية لمواجهة المشروع التفتيتي الأميركي الصهيوني الذي يستهدف هذه الأمة رغم ثرواتها وإمكانياتها الضخمة. ولا يبدو حتى الآن أن من أولويات هذه الأنظمة العمل على تنفيذ إصلاحات جذرية أو تحقيق انفراجات سياسية واجتماعية حقيقية والانفتاح على شعوبها والعمل على تحسين مستوى معيشتها أو فتح المجال أمامها لمزيد من حرية التعبير والرأي.

ولكن على العكس تماما من ذلك تستغل الأنظمة الخطر الصهيوني المتزايد كي تزيد من سطوتها وجبروتها وتعسفها. لقد استغلت أنظمة الاستبداد العربية أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مبررا واهيا وإضافيا للغلو في كبح الحريات.

إن الحرب على الإرهاب التي أعقبت تلك الأحداث المأساوية قد أعطت الدول العربية المبرر الكافي -وإن كانت ليست بحاجة إليه- لتتبنى تعريفا موسعا للإرهاب اعتمد في "الميثاق العربي لمكافحة الإرهاب"(5). وقد سمح هذا الميثاق الذي واجه انتقادات واسعة من دوائر حقوق الإنسان العربية والعالمية، بالرقابة على الصحافة ومختلف المنشورات من مطبوعات وكتب وغيرها.

كما سمح بتقييد الوصول إلى الإنترنت وتقييد الطباعة والنشر لأي مادة قد تفسر على أنها تشجع الإرهاب. كذلك، فإن هذا الميثاق لا يحرم –صراحة- الاحتجاز أو التعذيب ولا يتيح السبيل للاعتراض على قانونية الاعتقال وفق ما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003(6).

إن الحكومات العربية تتذرع باعتبارات الأمن والاستقرار وتتخذ منها مبررا لخوفها الدائم من مخاطر الحرية. إن مخاطر الاحتلال الإسرائيلي كانت دائما الذريعة المثلى لهذه الأنظمة لتأخير عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية بدعوى المحافظة على الأمن القومي لمواجهة العدوان الخارجي.

عمدت الأنظمة العربية المختلفة في سعيها لقمع شعوبها وحرياتها الأساسية إلى سن قوانين استثنائية أوقفت العمل بعدد من تلك الحقوق والحريات الدستورية والضمانات القانونية. وهذه الأخيرة وإن كانت محدودة، إلا أنها مكتسبات لم تحصل عليها الشعوب العربية إلا بالنضال الطويل والتضحيات الكبيرة.

وقد صدرت تلك القوانين الاستثنائية بالاستناد إلى حالات الطوارئ أو الأحكام العرفية المعلنة نتيجة حالة الحرب مع إسرائيل أو تعرض الأمن الداخلي والخارجي إلى الخطر!! ودائما باسم المحافظة على أمن المواطنين ومصالحهم. لقد فرضت هذه القوانين في عدد كبير من الأقطار العربية وخاصة تلك المحاذية لإسرائيل على فترات متقطعة وأحيانا شبه دائمة بحيث أصبحت القوانين العادية هي الاستثناء والقوانين الاستثنائية هي الأصل والقاعدة.

من نتائج الاستبداد في الوطن العربي

ويرسم تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 صورة قاتمة للوضع العربي الراهن من النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية، وخلافا للوهم الشائع حول ثراء البلدان العربية بفضل النفط وعائداته، فإن مجمل الناتج الاقتصادي المحلي العربي في نهاية القرن العشرين الذي وصل بالكاد إلى 604 مليار دولار، لا يزيد إلا قليلا عن الناتج الإجمالي لأفقر دولة أوروبية وهي إسبانيا (559 مليار دولار).

أما الناتج القومي الإجمالي للفرد في قوة العمل فإنه يقل في مجمل البلدان العربية عن نصف مستواه في دولتين ناهضتين من دول العالم الثالث وهما كوريا الجنوبية والأرجنتين.

أما من الناحية الثقافية فقد أنتجت البلدان العربية مجتمعة 5600 كتاب في العام 1991 مقابل 102 ألف كتاب في أميركا الشمالية و42 ألفا في أميركا اللاتينية، كما أن الإنتاج العربي للكتاب متدن إلى حدوده الدنيا بالنسبة لحجم السكان بالمقارنة مع الدول الأخرى(7). ويعامل الكتاب في الكثير من البلدان العربية باعتباره سلعة محظورة تخضع للرقابة وللإجراءات البيرقراطية الكثيرة التي تثقل كاهل الناشرين وتعيق نشر الكتب وتوزيعها.

إن ضعف القوة الشرائية للقارئ العربي وتدني حجم القراء يعودان إلى الانتشار الواسع للأمية، حيث يعيش في هذه المنطقة من العالم 280 مليون نسمة أي 5% من سكان العالم، منهم 65 مليونا أميون وغالبية الأميين هم من النساء. كما تعاني هذه المجموعة البشرية الكبيرة الفقر والحرية المسلوبة، إضافة إلى كون المكتبات العامة فقيرة جدا في أغلب البلدان العربية.

أما نسبة الذين يتعاملون مع الإنترنت من الشباب العربي فهي بين النسب الأدنى في العالم، والدول العربية تعاني من نقص فاضح في عدد الحواسيب بالنسبة للسكان، فهناك أقل من 18 حاسوبا لكل 1000 شخص، علما بأن المتوسط العالمي يزيد عن 78 حاسوبا لكل ألف شخص، أي أكثر من أربعة أضعاف المتوسط في العالم العربي.

وهناك مشكلة أخرى يعاني منها الوطن العربي لا تقل خطورة عن سابقاتها، ألا وهي هجرة الأدمغة العربية. فبين عامي 1998 و2000 هاجر إلى أوروبا وحدها أكثر من 15 ألف طبيب. وهذا الاستنزاف الكبير والمستمر للأدمغة العربية يساهم في تعميق حالة التخلف الاقتصادي والمعرفي في الوطن العربي.

لقد سببت أنظمة الاستبداد العربية كوارث لا حصر لها للأمة بدءا من هزيمة 1948 إلى إجهاض تجربة الوحدة العربية الأولى في العام 1961، مرورا بكارثة عام 1967، وانتهاء بتوقيع معاهدة الصلح العربية – الإسرائيلية الانفرادية الأولى 1979 ثم كارثة غزو لبنان 1982 ودخول الجيش الإسرائيلي إلى أول عاصمة عربية.

وإذا كان موقف أنظمة الاستبداد العربية مفهوما من كل هذه الكوارث التي حلت بمنطقتنا، فإن الأمر غير المفهوم هو هذا الصمت المطبق الذي خيم على الجماهير من المحيط إلى الخليج إزاء هذه الكوارث، وحالة اللامبالاة بل البلادة تجاهها، وانعدام أي مظهر شعبي عفوي ضدها.

إن ما حصل كان نتيجة طبيعية لاستمرار حرمان المواطن العربي من حقوقه وحرياته الأساسية بأساليب جديدة ومتطورة قامت على سياسة "الإلهاء"، والترغيب والترهيب أو العصا والجزرة التي اتبعتها الأنظمة العربية الرسمية واستهدفت بواسطتها تدجين المواطن العربي وتطويعه وصولا إلى تعطيل اهتماماته العامة ومن ثم تقزيم أهدافه الوطنية والقومية.

فقد نجحت هذا الأنظمة في تقزيم هدف الأمة الإستراتيجي وهو الوحدة العربية الكبرى من المحيط إلى الخليج، وأصبح تحقيق هذا الهدف ضربا من الخيال. وأصبح كل أملنا الآن أن ننجح في المحافظة على رمز هذه الوحدة وهو الجامعة العربية بعدما أوشكت على الاضمحلال هي أيضا تحت وطأة الصعوبات والمشاكل الهيكلية والانتقادات العنيفة التي واجهتها.

لقد نجحت أنظمة الاستبداد السياسي في منطقتنا في تحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات ميتة سياسيا وفقيرة اجتماعيا واقتصاديا، ولذا فقد غدت قليلة الفاعلية والأثر ليس فقط في أحداث العالم بل في قضايا العرب المصيرية إلا على نحو سلبي وعقيم. كما نجحت هذه الأنظمة على امتداد كل هذه السنوات الطويلة منذ عهود الاستقلال حتى الآن في سحق إرادة شعوبنا العربية وإفشال وقتل معظم القيم الإيجابية فيها.

كيف نجحت أنظمة الاستبداد العربي

يقول أرسطو إن الغاية النهائية للطاغية كي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي، وفي سبيل تحقيق ذلك فهو يلجأ إلى القضاء –بوسائل مختلفة– على الطبقة المثقفة التي قد تشكل خطرا على حكمه.

كما أنه يلجأ إلى منع الاجتماعات ويعمل ما في وسعه لعزل كل من يساهم في تعليم الناس وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتنمية روح الاغتراب لدى المواطن العادي ومحاولة قطع الصلة بين المواطن ووطنه.

كما أنه كثيرا ما يلجأ إلى تقييد حرية المواطنين وعدم السماح لهم بتجاوز أبواب مدينتهم (أي تقييد حرية الحركة والسفر لمواطنيه في المفهوم العصري). كما أنه يبث جواسيسه في كل مكان ليكون على اطلاع مستمر ودائم على كل ما يقوله ويفعله رعاياه خشية تآمرهم عليه.

ومن الوسائل الأخرى التي يلجأ إليها الطاغية المستبد إفقار رعاياه كي ينشغلوا عنه في تدبير قوت يومهم. وكمثال على ذلك يقول أرسطو إن الطغاة كثيرا ما يلجؤون إلى بناء المنشآت الضخمة لشغل فراغهم لئلا يجدوا وقتا لشيء آخر.

أما في العصر الحالي فكثيرا ما يلجأ المستبد إلى إشعال الحروب الخارجية لإلهاء شعبه وعدم تمكنه من التفكير في شيء آخر. والتاريخ الحديث مليء بمثل هذه الحروب التي قامت لا لشيء إلا لإلهاء الشعب وإفقاره.

وحول الموضوع نفسه يقول الكواكبي "ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن على أيتام يتصرف بأموالهم كما يهوى ما داموا قاصرين، فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم كذلك ليس من مصلحة المستبد أن تتنور الرعية بالعلم"(8).

إن المسؤولية الأولى والكبرى في كل الكوارث التي لحقت بالأمة وقضاياها من بداية عهود الاستقلال إنما تقع على عاتق أنظمة الحكم العربية السلطوية والمستبدة دون تجاهل بالطبع للطبيعة الاستثنائية للتحديات الهائلة التي واجهت الأمة في الداخل والخارج خلال نصف القرن الأخير، أو للقصور الذاتي الذي اعتور الحركات والأحزاب السياسية والأخطاء التي ارتكبت خلال الفترة المذكورة.

أما كيف نجحت أنظمة الاستبداد السياسي العربية في تدجين وتطويع المواطن العربي وأبعدته عن هموم أمته القومية، فإن ذلك عائد إلى اتباع هذه الأنظمة أساليب مدروسة ومتطورة في تطبيق سياسة تطويع المواطن العربي.

وقد كان لثورة عبد الناصر ببعدها القومي الأثر الكبير في التصدي للقضايا القومية العربية الكبرى لم يشهد العالم العربي مثيلا له منذ بداية عهود الاستقلال حتى اليوم. هذا رغم ما يؤخذ على الثورة من تقييد للممارسة الديمقراطية وتوجيه للمشاركة السياسية وتعامل أمني مع المعارضة، وقد كانت الغالبية العظمى من الأنظمة توافقه –على الأقل ظاهريا– في معظم مواقفه من القضايا القومية، ولكنها في الواقع اتبعت سياسة القمع والإرهاب والسجن للدفاع عن الأمر الواقع الذي أرادت المحافظة عليه وحمايته.

وقد جاءت وفاة عبد الناصر المبكرة لتمنح تلك الأنظمة فرصتها للتفكير فيما يمكن أن تفعله لتطويع مواطنيها واحتواء طموحاتهم الوطنية والقومية والتي كانت تشكل خطرا كبيرا على مصالحها الذاتية. يقول المرحوم منذر عنبتاوي إن الأنظمة العربية وفي سبيل المحافظة على مصالحها الضيقة قد اتبعت عدة وسائل لتدجين المواطن العربي الذي فجرت ثورة عبد الناصر فيه شعورا بالاعتزاز القومي لم يشهد مثله من قبل.

ومن هذه الأساليب ما يلي:

1.     أسلوب الإلهاء: وقد ساعد احتكار الأنظمة لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية في غسل دماغ الشباب العربي وذلك بسبب الانتشار الواسع للتلفزيون وتنويع برامجه التي كانت كلها تركز على إبراز النزعات الفردية وبالتالي إضعاف الروابط الاجتماعية. وكانت معظم البرامج تركز على تشجيع النشاطات الرياضية والفنية. وقد نجحت وسائل الإعلام هذه في إبعاد المواطن العربي عن التفكير، ناهيك عن المشاركة في الأحداث القومية الجسام التي بدأت تفعل فعلها في الواقع العربي.

2.     أسلوب التنفيس: وقد تمثل هذا الأسلوب في تمكين الصحافة من التعبير عن رأيها إزاء الأعداء الخارجيين والسماح لها بتوجيه النقد إلى الأنظمة العربية ولكن بشكل مدروس وعام وشريطة عدم الدخول في التفاصيل إلا ما يناسب منها مصلحة النظام فقط مع استمرار خطر التطرق إلى النظام نفسه.

3.     أسلوب تشجيع الاستهلاك: وقد تمثل ذلك في فتح الأسواق المحلية لشتى أنواع البضائع المغرية التي فتحت شهية المواطن إلى اقتنائها بشتى السبل، وأدت هذه الرغبة بالتالي إلى فتح شهية المواطن إلى كسب المال مما أفقده بالتالي اهتمامه بقضاياه القومية وأبعده عن متابعة شؤون بلده وقضاياه الأساسية وتركت أثرا سلبيا على المعايير الأخلاقية في المجتمع.

4.     توسيع القاعدة الاقتصادية ذات المصلحة في استقرار النظام واستمراره: وقد تمثل ذلك في استقطاب أعداد كبيرة من خريجي الجامعات للالتحاق بالخدمة الحكومية بغض النظر عن مدى الرغبة في الاستفادة من قدراتهم، كما قامت الأنظمة ببناء قوات مسلحة بأعداد هائلة تصل أحيانا إلى مئات الآلاف من المجندين دون تمكينها من أداء دورها في دعم قضايا أمتها، وذلك رغبة من هذه الأنظمة في استيعاب الشباب لإبعادهم عن العمل السياسي المنظم. وقد أصبحت القوات المسلحة في معظم البلاد العربية من المؤسسات الاقتصادية الكبرى غير المنتجة(9).

إن فشل التجربة الحزبية في العالم العربي قد أسهم في عملية تدجين المواطن العربي لأنها فشلت في تقديم البديل الأفضل للجماهير العربية. فقد انتهجت أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي مختلف أساليب القمع في سبيل ضرب وإجهاض أي تجربة حزبية كانت ترى فيها خطرا على مصالحها وامتيازاتها.

كما أن هذه الأحزاب قد شغلت نفسها بمحاولة حل أزمة الحكم من فوق، أي القفز إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية وليس العمل الجماهيري المنظم. وقد استطاع الكثير من الأحزاب القومية الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد عربي، إلا أنها فشلت في تقديم البديل الأفضل للجماهير بل إن الأمور في أحيان كثيرة سارت نحو الأسوأ، فقد باتت الجماهير في أحيان كثيرة تترحم على العهود السابقة.

لقد فشلت جميع تلك الأحزاب في خلق تيار جماهيري واع ويقظ في مرحلة ما بعد الانقلابات بسبب فشلها في وضع برامج عمل تصل بها إلى القاعدة الجماهيرية. كما فشلت هذه الأحزاب في إعطاء المثل على قدرتها على العمل الأجدر عندما فشلت في متابعة قضايا المواطن العادي الحياتية التي تبنتها وهي في المعارضة -السرية غالبا- سواء أكانت تلك القضايا ما يمس أمنه وسلامته أو حقوقه الاجتماعية والنقابية.

إن غياب حياة سياسية وحزبية صحيحة هي من الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من وضع مأساوي وغياب للقدرة على منع الاستبداد ومحاربته، فنحن أعجز -والوضع على ما هو عليه- على حل أزمات وتعقيدات الوضع العربي الراهن.

إن أهم ما يحتاجه العالم العربي الآن هو حكومات تصل إلى السلطة والحكم عن طريق صناديق الاقتراع -وليس عن طريق الانقلابات والقهر والقمع- وإدخال الشعوب في صلب العملية التنموية وإشراكها في الحياة السياسية العامة. إن أسلوب القمع والقسوة والاضطهاد التي تعامل بها معظم الأنظمة العربية شعوبها هي التي شجعت الغرب -وبالأخص الولايات المتحدة- على زيادة الضغط على هذه الدول والحكومات كما هو حاصل حاليا مع أكثر من بلد عربي، الأمر الذي سيؤدي بدون شك إلى رفع سقف التنازلات أمامها للحصول على المزيد من التنازلات الاقتصادية والإستراتيجية.

وفي هذا السياق يقول د. برهان غليون "إن النظم الاستبدادية بحاجة –إذا أرادت البقاء والاستمرار– إلى دعم الدول الكبرى أو صرف نظرها عنها بمثل ما أن تلك الدول بحاجة إلى تلك النظم حتى تتمكن من ابتزاز الشعوب الفقيرة والضعيفة وتجميع ثرواتها وتوجيهها نحوها. والنتيجة هي ما نراه اليوم في عالمنا الراهن، أي دول كبرى تسيطر على القرار العالمي وتفرض على الدول الفقيرة والصغيرة سياستها وجدول أعمالها كما تشاء، بل تنزع أكثر فأكثر نحو صيغ استعمارية تقليدية، ودول صغيرة وفقيرة مستلبة الإرادة والقرار وخاضعة لنخب مستبدة وفاسدة ولاإنسانية"(10).

إن المطلوب للخروج من الاستبداد والعجز الوطني وانعدام السيادة هو معاهدة بضبط العمل من أجل كسر حلقة التحالف الموضوعي القائم بين الاستبداد والاستعمار معا، وهو التحالف الذي يجعل ماهيتهما واحدة أيضا. فليس المضمون الحقيقي للاستعمار أو السيطرة الخارجية المتفاقمة سوى الاستبداد الدولي بالقرار العالمي. وليس المضمون الحقيقي للاستبداد سوى الاستعمار الداخلي الذي يجعل فئة خاصة تنتزع سيادة شعب كامل وتحتل وعيه وإرادته.

..............................................

الهوامش:

1- الشيخ داوود، زكريا: الحرب الثالثة.. الموقف والدلالة Saihatnet net/girah index aldawad p.2

2- صالح، نبيل علي: الوحدة الإسلامية، السنة الثانية–العدد 18، ص2

3- الصاحبي، محمد جواد: المصلحون المسلمون والفكر السياسي المعاصر.. الكواكبي نموذجا

4- طحان، محمد جمال: الوحدة الإسلامية (قضايا الأمة) 21/2/2004، ص 2

5- تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003–البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ص4

6- المصدر أعلاه

7- تقرير التنمية الإنسانية

8- الكواكبي، عبد الرحمن: طبائع الاستبداد، ص:62، 99، 112

9- عنبتاوي، منذر: المثقفون وحقوق الإنسان العربي، المستقبل العربي، العدد52، ص:6، 7، 8

10- برهان غليون. www.AlJazeera.net/point_view/2002/9/9-18-1pp3-5

المراجع:

1- علي صالح، نبيل: الوحدة الإسلامية–السنة الثانية، العدد18.

2- حنفي، حسن: المصدر السابق.

3- المثقفون العرب يطالبون بمواجهة الاستبداد–http://www.balagh.com/tanqafa/zp04kv

4- شوقار، إبراهيم: بيان الكتب–الملف السياسي.

5- داوود، زكريا: الحرب الثالثة.. الموقف والدلالة. www.saihtnet/girah/index/altawad

6- عنبتاوي، منذر: المثقفون وحقوق الإنسان العربي، المستقبل العربي، بيروت 1983.

7- ذهول الاستبداد.

8- www.efrirnet/arabi/fiker_n_siase/2003/11/107

www.alwihadah.com/view.asp?cat-1+id-788

9- عبد الرضا علي: الاستبداد السياسي والديني.. وحدة في الأهداف والأساليب، مجلة النبأ، العدد36 السنة الخامسة.

10- الصاحبي، محمد جواد: المصلحون المسلمون والفكر السياسي المعاصر: الكواكبي نموذجا.

www.e-resanetr.com/Arabic/mashaheer/almoslehoun%20al20/moslemoon

11- تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003–برنامج الأمم المتحدة للتنمية

12- الشهابي، سعدي: الوحدة الإسلامية–الإنسان أساس النهضة والتنمية فلتحترم حقوقه في عالمنا العربي، قضايا الأمة، العدد39.

13- الجباوي، المختار: مقاومة الاستبداد والقمع بمنطق الحداثة.

www.reveiltunisien.org/article.php?id_article=8

14- زيادة، رضوان: شرعية السلطة كما ترويها الآداب السلطانية، المستقبل، بيروت 2003.

15- غليون، برهان:

www.Aljazeera.net/point_views/2002/9/9-18-1.htm

16- طحان، محمد جمال: الوحدة الإسلامية (قضايا الأمة) 21/2/2004، ص2  

.......................................................  

التنويريون العرب والدولة المدنية(6)

يعود بروز حلم النخبة الفكرية والسياسية العربية - في سبيل بناء الدولة المدنية، القائم على المؤسسات الدستورية، واحترام الحريات، وحقوق المواطن - إلى قرن ونصف، أي منذ أن تحدث عنها رفاعة رافع الطهطاوي في وصيّته الفكرية «المرشد الأمين».

لا مناص في هذا الصدد من الإشارة بسرعة إلى الجذور:

- أطلق شيخ رفاعة العالم الأزهري حسن العطار (1766 - 1835) في مطلع القرن التاسع عشر صيحة الفزع قائلاً: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، وصدع بعد قرن من ذلك، أي في مطلع القرن العشرين شيخ آخر من شيوخ الاستنارة والتجديد الديني، هو الإمام محمد عبده (1848 - 1905)، إذ قال: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر».

وكتب في الفترة ذاتها معاصرُه ومجادلُه فرح أنطون (1874 - 1922) ذودا عن قيم الدولة المدنية يقول: «لا مدنية حقيقية، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية».

ويطرح نفسه علينا سؤال جوهري: كيف الوضع في المجتمع العربي الإسلامي بعد مرور قرنين على صيحة الشيخ حسن العطار، وقرن على مقولتي محمد عبده، وفرح أنطون؟ ويمكن طرح السؤال بصيغة أخرى: لماذا لم يتحقق الحلم الذي غرس بذرته الأولى الشيخ رفاعة عندما تحدث في رحلته «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» عن الدستور الفرنسي، أو «الشرطة» كما يسميه، وعن الحقوق الطبيعية، وعن العدل، وعن مناخ الحريات في باريس، وبخاصة حرية الصحافة والنشر، وعندما أكّد واعيًا، هادفًا أنه قرأ مؤلفات جان جاك روسو، ولاسيما «العقد الاجتماعي»، وكذلك «روح الشــرائع» لمونتسكيو، وأولى عناية لمؤلفات جان جاك بورلماكي، وفولتير، ثم أعلنه فرح أنطون (1874 - 1922) واضحًا، صريحًا بعد نصف قرن من ذلك في مجلته «الجامعة»، وأعني حلم بناء الدولة المدنية القائم على المؤسسات الدستورية، واحترام القانون، وصيانة حقوق المواطن؟

لماذا لم تنجح حركات التنوير العربية في مختلف مراحلها التاريخية في إرساء أسس الدولة المدنية، وبقيت النظرية بعيدة عن التطبيق منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن الحادي والعشرين؟

ولماذا بقي جل حاملي لواء الفكر التنويري العربي - منذ عصر الشيخ رفاعة حتى اليوم - يركضون وراء الركب السلطاني، ويسبّحون أناء الليل وأطراف النهار بحمد «ولي» النعم، كما اعتاد أن يطلق الطهطاوي على حاكم مصر بأمره يومئذ محمد علي (1805 - 1848)؟

من أهداف هذا النص محاولة الإجابة عن هذا السؤال.

المثقف والسلطة

إن إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في المجتمع العربي الإسلامي مرتبطة - وثيق الارتباط - بتاريخ تيارات الفكر الإسلامي، وهي إشكالية مطروحة اليوم. نجد لمسألة علاقة المثقف بالسلطة صدى في كثير من المجتمعات، وبخاصة في المجتمعات التي سيطرت عليها بالأمس - أو تسيطر عليها اليوم - نظم استبدادية، وقد اكتسبت خطورة ذات شأن في البلدان الغربية منذ عصر الأنوار، لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولايزال الجدل قائمًا في صفوف النخبة المثقفة الأوربية حول قضية محورية وشائكة، تتمثل في محاولة الإجابة عن السؤال التالي: كيف استطاعت نظم استبدادية قامعة اشتهرت بمجازرها ضد الشعوب مثل النازية، والفاشية، والستالينية بالأمس، والصهيونية اليوم، أن تجد في صفوف «المثقفين» من يؤيّدها، ويحاول تبرير سياستها فكريًا باسم شعارات مختلفة؟

لعلاقة المثقف بالسلطة سمات عامة، ولكنها تتميز بميزات خاصة في البلدان العربية، وهذه الميزات نفسها تختلف وتتغير من بلد إلى آخر، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.

وأميل إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن فهم كثير من معطيات حركة الاستنارة العربية، إذا لم تحظ هذه القضية بما تستحقه من عناية وتمحيص، وأكتفي بالإلماع هنا إلى أننا نجد فئتين أساسيتين ضمن زمرة رواد الحركة التنويرية العربية:

أ- فئة أولئك الذين كانوا في عصرهم دعامة أساسية من دعائم الحكم المطلق الاستبدادي مثل الطهطاوي، وخير الدين، وعلي باشا مبارك (1827 - 1893)، ومدحت باشا (1822 - 1883). فهل اعتقدوا أنهم قادرون عبر نشر أفكارهم الإصلاحية على إصلاح النظام من داخل السلطة؟ ذلك ما سنراه في ملاحظة لاحقة.

ب- فئة ثانية كانت معارضة للسلطة، وأصابها بسبب مواقفها الإصلاحية التحررية عنت شديد مثل الأفغاني، وولي الدين يكن، وسليم سركيس.

أرى أنه لا يتأتّى فهم الحركات الإصلاحية العربية، فهمًا شاملاً ودقيقًا إلا إذا نزلت في ظروفها الموضوعية مكانًا وزمانًا، وتشغل السياسة حيزًا بارزًا ضمن هذه الظروف الموضوعية، وهنا تتنوع المواقف - بل قل تتباين - فقد رأينا فئة من رواد الاستنارة حاولت الإصلاح من داخل السلطة عندما قدمت في مؤلفاتها أنموذجًا للسلطة السياسية في ديار الآخر المتقدم: الغرب من جهة، وعندما سعت في تأسيس نظام تعليمي عصري، قصد تخريج جيل جديد من المتعلمين المستنيرين من جهة أخرى، وهنالك الفئة الثانية، التي أدركت أنه لا أمل في الإصلاح، ولا في التحديث الحقيقي دون البداية بالإصلاح السياسي الهادف أساسًا إلى القضاء على الحكم المطلق الاستبدادي، وتأسيس نظم دستورية جديدة، وتحويل نظم «الملك المطلق»، إلى «ملك مقيّد بقانون»، حسب تعبير ابن أبي الضياف، على غرار النظم الملكية الدستورية، التي عرفتها البلدان الأوربية في القرن التاسع عشر، وبخاصة فرنسا، بل ذهب بعض أنصار هذا التيار إلى ضرورة الثورة ضد هذه النظم إن لزم الأمر، كما عبّرت عن ذلك الرؤية السياسية الفكرية للثورة العرابية.

وأودُّ الإشارة في هذا الصدد إلى فئة أخرى فرّت من السياسة بعدما اكتوت بنارها، وركّزت على التوعية عبر نشر التعليم والمعرفة، ويعد الشيخ محمد عبده من أبرز ممثلي هذه الفئة، فقد لعن «ساس» و«يسوس»، وقد أصبح من المعروف أن موقف الشيخ هذا كان من أبرز أسباب الفرقة بينه وبين أستاذه الأفغاني.

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل كان أنصار الفئة الثانية مدركين أنه لا يمكن أن يتحقق التقدم، وأن تؤتي إصلاحات ذات طابع تحديثي أكلها في ظل نظم سلطوية استبدادية؟ وأن الحل يبدأ بالإصلاح السياسي، كما تفطن إلى ذلك خير الدين «حكيم السياسة» كما يسمّيه الشيخ رفاعة؟ القضية طرحها رواد الاستنارة العربية بالأمس، ومطروحة على النخبة الفكرية والسياسة العربية اليوم.

العامل السياسي

أدرك الطهطاوي أهمية العامل السياسي، دون ريب، وقد جاء اعتناؤه بكتابي «العقد الاجتماعي» لروسو، و«روح الشرائع» لمونتسكيو نتيجة هذا الإدراك، ولكن العامل السياسي اكتسب بُعدًا آخر في كتاب «أقوم المسالك» لخير الدين، فقد تفطن أن تقدم الإفرنج في المعارف ناتج «عن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية»، ويستعمل في مرة أخرى مفهوم «العدل السياسي»، إذ يقول: «وإنما بلغوا - يعني الممالك الأوربية - تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي». فلا تكفي - إذن - تنظيمات، ومؤسسات دستورية صورية، فلابد أن تكون ممثلة تمثيلاً حقيقيًا، وأن تكون لها رقابة على السلطة التنفيذية، ويستعمل خير الدين في هذا السياق مفهوم «الاحتساب على الدولة»، وهي وظيفة البرلمان، ويسميه مجلس الوكلاء، و«مجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم، والاحتساب على الدولة»، ولابد من أن تكون الحكومة مسئولة أمام البرلمان، وله حق سحب الثقة من أعضائها، و«لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب أعضاء مجلس الوكلاء موافقًا على سياستهم».

فقد أدرك صاحب «أقوم المسالك»، ومعه زمرة من رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن الأوضاع لا يمكن أن تتغيّر، وأن يخطو المجتمع العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية دون تغيير الأوضاع السياسية، وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف خيرالدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية، ودورها فيما حققه المجتمع الأوربي من تقدم، ولا غرو في ذلك، وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة، مؤكدًا «أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية»، فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجدًا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران.

ونتساءل اليوم، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين: أحاملو لواء خطاب الحداثة، واعون لخطورة العامل السياسي في تحقيق مشروع التحديث العربي، أو فشله؟

كثير منهم واعون ذلك، دون ريب، ولكن من الغريب أن نجد اليوم في أدبيات فكر فئات من المثقفين العرب، غياب هذا العامل عندما يتحدثون عن معوقات مشروعات التحديث العربية.

إن جميع التجارب العربية والدولية قد برهنت بوضوح أن جميع مشروعات الحداثة التي لم يتزامن فيها التحديث السياسي، أي تحوّل الدولة من دولة استبدادية قامعة، إلى ليبرالية ديمقراطية هي مشروعات مشوّهة ومجهضة، ومن الطبيعي أن تسقط، طال الزمن، أو قصر.

إن حديث خير الدين عن «العدل السياسي» وعن مراقبة برلمان منتخب لأعمال الحكومة، واحتسابه على الدولة، وكذلك حديثه عن الحريات العامة يُسقط نظرية «المستبد العادل» ومن المعروف أن كلا من الطهطاوي، والشيخ عبده من أنصار هذه النظرية، وهي متناقضة تمامًا مع مفهوم الحداثة السياسية باعتبارها الأس المتين للدولة المدنية.

على الرغم مما تبدو عليه مقولة «المستبد العادل» من تجديد عصرئذ فإنها تبقى مشدودة إلى الماضي، وإلى تراث الفكر السياسي للدولة السلطانية.

مأزق التيار التنويري

إن أنصار التيار التنويري الذين يمثلهم الطهطاوي، ثم من بعده الشيخ عبده، وقد قادا معركة التجديد في مجاليْن خطيرين - المجال الديني والسياسي - قد وجدوا أنفسهم بين المطرقة والسندان، مطرقة سلطة سياسية استبدادية متخلفة، وسندان المحافظين من شيوخ النقل الببغائي، أو بتعبير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»: مطرقة العلماء الغفل الأغبياء، وسندان الرؤساء القساة الجهلاء. وما أشبه الليلة بالبارحة على الرغم من الفاصل الزمني الطويل، فإن أنصار الحداثة والتقدم في الوطن العربي يجدون أنفسهم اليوم بين مطرقة نظم سياسية قامعة ومتخلفة، وسندان موجة الردة والرداءة، وعلى الرغم من التناقض الأساسي بين القوتين في جل الحالات فإن تأثيرهما السلبي يصبّ في نهاية المطاف في مجرى واحد: مجرى التخلف، ومعاداة الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الدستورية الحقيقية، وقيمها الحداثية، وقد برهنت جميع التجارب العربية المعاصرة على أنه لا تقدم من دون إقامة هذه الدولة.

طرح بعض المفكرين العرب المعاصرين السؤال التالي: لماذا ينتكس التنوير؟ وهو سؤال ينطلق دون ريب من محاولة فهم أسباب موجة الردة التي طغت على الفكر العربي الإسلامي في الربع الأخير من القرن الماضي، فلم تعرف مراحل تاريخ الفكر التنويري المختلفة، منذ الشيخ رفاعة إلى طه حسين موجة الرداءة التي سيطرت على الفكر العربي المعاصر في جل الأقطار العربية، وأمّل التنويريون أن تتحول الفضائيات العربية - بعد تطوّر وسائل الاتّصال الحديثة - إلى منابر لفكرة الاستنارة والتقدم، ولكنها بالعكس، فقد تحولت في جل الحالات إلى منابر لنشر الفكر السطحي الرديء، أو الغيبي الأسطوري في المجالين الديني والثقافي، وإلى فرض الرأي الواحد، وتصنيم الحاكمين بأمرهم في المجال السياسي.

إن أسباب انتكاس التنوير متعددة ومتنوعة، دون ريب، ولكن السبب الجوهري يبقى في نظرنا غيابُ الدولة المدنية الحديثة، القائمة على مؤسسات دستورية لا تتأثر بأهواء الحكّام ومصالح بطانتهم، بل بلغ الأمر في بعض الحالات العربية إلى حد غياب الدولة بالمعنى الحديث، لتعوّضها جماعات متنفذة سياسيًا واقتصاديًا، وأصبحت تتحكم في مصير شعوب بأسرها، هُمش أصحاب الكفاية، وصمت أصحاب الأصوات الحرة لما عمّ الاختناق، فليس من باب الصدفة أن يكون التنويريون العرب المعاصرون القادرون على الإصداع برأيهم بجرأة ودون خوف من قطع الأرزاق والرقاب هم أولئك الذين يعيشون في بلاد الهجرة، وقد تفطن الكواكبي قبل قرن بالضبط إلى العداوة بين المعرفة وأهلها من جهة، والنظم الاستبدادية من جهة أخرى، فالحرب بينهما دائمة ومستمرة، ذلك أن أصحاب الفكر يسعون إلى نشر المعرفة، وترسيخ أسس الفكر العقلاني التنويري، ويجتهد الجلاوزة إلى إطفاء نوره لما قال: «والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم، وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام، والأدباء النبلاء، تقلبوا في البلاد، وماتوا غرباء».

وأودّ القول في هذا الصدد، ونحن نحاول فهم أسباب انتكاس التنوير: إن الأخطر في راهن كثير من المجتمعات العربية ليس الانهيار، وإنما تمويه الانهيار. وتجد السلطة في صفوف «المثقفين» من يتحدث عن التحديث والتقدم في مناخ تسيطر عليه الرداءة، والردة الفكرية والسياسية، ولاشك أن فقهاء الأحكام السلطانية الذين برروا الخلافة الوراثية، ونظروا للإقطاع العسكري، وللنظم الاستبدادية أكثر حذرًا، وأشد من هذه الفئة من «المثقفين» اللاهثين وراء الركب السلطاني.

ظنت النخب السياسية والفكرية التي خاضت معارك التحرر العربي أن الدولة الوطنية التي ستقوم غداة الاستقلال، ستحقق حلم أجيال من التنويريين العرب، في بناء الدولة المدنية الحديثة، التي تسندها قوى مجتمع مدني ليبرالي حر، ولكن سرعان ما خاب الأمل، وتحوّلت إلى دولة مملوكية قامعة، وخاصة بعد أن مسكت بأزمتها في حالات متعددة المؤسسة العسكرية، ونظم الحزب الواحد الشمولي، وبرز شعار «شرّ معروف أفضل من خير مظنون»، وتحوّل الركود إلى استقرار، أو ما أسماه زعماء النهضة بالأمس «بالجمود على الموجود»، وإذا كان ضرر الجمود في القرن التاسع عشر محدودًا، فإن الركود يعني في عصر العولمة التقهقر والتهميش.

مفكرو النهضة

يخطئ الدارس منهجيًا، عندما يحشر النهضويين العرب في القرن التاسع عشر، في زمرة واحدة متجانسة، إذ إنهم يمثلون تيارات سياسية مختلفة، ورؤى فكرية متباينة، ويمكن أن نتحدث عن التيارات التالية:

- التيار الديني التجديدي، وأبرز حاملي لوائه: الطهطاوي، والأفغاني، وعبده، وعبدالرحمن الكواكبي.

- التيار الليبرالي، ونجد ضمنه ممثلي مشروعات متعددة: المشروع العلمي، ويمثله شبلي الشميل (1850 - 1917)، ويعقوب صروف (1851 - 1927)، وفارس نمر (1856 - 1951)، والمشروع السياسي الاجتماعي الثوري، ويمثله المنظرون للثورة العُرابية، ثم ولي الدين يكن، وسليم سركيس، والمشروع الاشتراكي العلماني المنادي بفصل الدين عن الدولة، وأبرز حاملي لوائه فرح أنطون. ولا مناص من الإشارة في هذا الصدد إلى أننا نجد فروقًا في رؤى ممثلي التيار الواحد حول مسائل متعددة، وبخاصة المحرمة منها يومئذ مثل: الدين، والمرأة، والجنس، والثورة الاجتماعية. ومن الصعب في بعض الحالات تصنيف بعض الرواد ضمن هذه الفئة، أو تلك لما اتسمت به مواقفهم من تقلب، ولعل أبرز مثال على ذلك رائد معاصر للطهطاوي أطلق عليه بعض الباحثين العرب اسم «صعلوك النهضويين العرب»، وهو أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887)، فهو صاحب مواقف جريئة حول تلك المسائل المحرمة، كان سباقًا في معالجتها بكل جرأة في كتابه «الساق على الساق في ما هو الفرياق»، فقد وصف الفقراء والفلاحين في المجتمعين الشرقي والغربي قائلا: «إن رأس الفقير ليس بأضيق، ولا أصغر من رأس الأمير، وإن يكن هذا أكبر عمامة منه، وأغلظ قذالاً»، كما ندد بظلم الولاة، وذوي السلطة: «وعندي أن أعظم أسباب الشيب في الأصل هو الهم والخوف من ظلم الولاة، وذوي الإمرة».

 ........................................................................................................

المصادر/

1- موسى برهومة/ ديوان العرب

 2- سالم اليامي  / إيلاف

 3- د. رفيق عبد السلام/ ثقافات

 4- أ.د. عبد الجليل كاظم الوالي/ مجلة الاسلام والديمقراطية

 5- د. أسعد عبد الرحمن/ مجلة الاسلام والديمقراطية

 6- الحبيب الجنحاني/ موقع تنوير

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20 آب/2007 -6/شعبان/1428