اصدارات جديدة: في غابة المرآة.. دراسات عن الكلمات والعالم

 

الكتاب: في غابة المرآة.. دراسات عن الكلمات والعالم

الكاتب: البيرتو مانغويل

ترجمة: سلمان حرفوش

الناشر: دار كنعان للدراسات والنشر

الطبعة الاولى 2006

 

 

 

 

شبكة النبأ: يقوم ألبيرتو مانغويل في مجموعة من مقالاته ودراساته المنتخبة، منسقة ومبوّبة تحت عنوان (في غابة المرآة) مثل (أليس في بلاد العجاب) بطواف شامل داخل غابة القرن العشرين المنصرم، ليسجل شهادته على زمنه وعلى.. كلماته التي يتلمّس بها حقائق ذلك الزمن مع نهاية الألفية الثانية، تلمّس أصابع الأعمى للأشكال الهاربة المراوغة، دون أن ينسى بطبيعة الحال استشراف آفاق الألفية الثالثة. وقد جمع في دراساته المتنوعة تلك خير ما يتحلى به الكاتب المبدع من مزايا: الجرأة والشجاعة، النزاهة والصدق، تمزيق الأقنعة ورفض جميع التجميلات المنافقة بالإضافة إلى الأسلوب الناصع، والتحليل العميق الشامل.

هي شهادة على العصر، وعلى الكلمات، (تاريخنا، يقول مانغويل، مصنوع من تلك الخروقات، من ذلك الظلم، من العنف الدموي الغزير، حتى لأتساءل وأنا استعرضه لماذا لا يطوف مجرور الكراهية والبغضاء الذي أنشأناه ليجرفنا جميعاً..) وأما الكلمات فيقول عنها: (في رأيي، إن الكلمات على ورقة تجعل العالم متناسقاً.. ألا، فالكلمات تقول لنا ونحن داخل المجتمع ما نظن بأنه العالم). هي ضرب من التوهم إذاً، لكنها بالمقابل تشف عن ظلال الحقيقة الإنسانية.

كتاب، وكاتب، وعصر، في مقالات فذة، منوّعة، حافلة بمتعة الاكتشاف، لا شك بأنه من أهم الكتب التي يمكن لها أن تضع القارئ وجهاً لوجه أمام حقائق التاريخ والوعي الإنساني بكل ما في التاريخ والوعي من عظمة و.. بؤس!

ترتّب الكلمات الكون والأشياء والقيم وتخلق، في أناقتها الهشة، ما يؤمن به الإنسان وما لا يؤمن به. وتراجيديا الكلمات هي تراجيديا الصراع بين البشر، إذ للبعض لغة بريئة هادية، وإذ لبعض آخر لغة تحرق البيوت والبشر. ولعل العلاقة بين اللغة وانتظار الحقيقة، هي التي جعلت طه حسين لا يقبل بلغة صادق الرافعي، فقد أراد الأول لغة يتقاسمها القارئ والكاتب، إعلاناً عما يوحد الناس، وأراد الثاني لغة زخرفية إعجازية، تعين اللغة فرقاً بين الناس. والأمر ذاته حمل الإيطالي (سيزار بفيزيه) أن يلتمس، في زمن الفاشية الإيطالية، لغة متقشفة، تعطف الكلمات على مواضيعها، بعيداً عن البلاغة الفاشية، التي تبني قاموسها على مبدأ القوة، وتخلق ما شاء من العوالم الوهمية. ربما كان في اللغة الفاشية، التي تشتق النعيم من ترويع البشر، ما يستدعي مفهوم (الرصيد اللغوي)، حيث لبعض المتحدثين كلمات قابلة للتجسيد، ولآخرين بلاغة فارغة، مؤدّاها ممارسة بطولة الوهم واعتناق وهم البطولة.

من المحقق أن للكلمة، هذا المخلوق البسيط المحدود الحروف، قوّة بينة قابلة للانقسام، تسبغ على الضعيف صفات تبرر ذبحه، وتسمح للمبدع، المشغول ببراءة العالم، ببناء عوالم متخيلة، تتاخم الواقع المعيش وتقلقه. وما الأدب والرواية وغيرهما من الفنون، بالمعنى النبيل، إلا تعبير عن آماد الكلمة، لا بمعنى توصيف بيت أزرق، سيراه القارئ ذات مرة، بل بمعنى تخليق عوالم أكثر حرية وتنوعاً وإتساعاً من العالم اليومي الضيق. فللكلمة قوة تستعيد وجوهاً قديمة فانية، حال الغيطاني وهو يضع أمام قارئه مستبداً قديماً يهجس ليلاً بما يدور في فؤاد الجنين، وتخلق عوالم نقية لم يردها أحد، حال شعر محمد درويش الفريد في أكثر من قصيدة فريدة متفردة.. والكلمات، في أكثر من حالة، صلاة ونعمة وغسل للأرواح، بقدر ما تكون مشروعاً لإعدام رجل وتحريق مخيم، أو تحطيم أمة. يأتي الأدب العظيم من الفرق بين لغة ولغة، أو من ذاك الفرق الشاسع بين لغة تمتثل إلى صورة الواقع واللغة الخفيضة المرتبطة به، ولغة أخرى تنفيه وتنفتح على آخر قوامه البراءة والشجن والحرية. وهذه اللغة هي التي تجعل الأدب يخترق الواقع ويرفض الامتثال، باحثاً عن فضاء يسمح بالانعتاق والطيران.

ما الذي ننشده من عادة القراءة، وما الذي ننتهي إليه ونحن نختلف من كتاب إلى كتاب؟ والجواب المنتظر من القارئ المنضبط هو: المعرفة، التي تحوّلها العقول الامتثالية المتجهمة إلى صنم، فاحش الوجه كان أو وديع الملامح.

والجواب غير المنتظر، ربما، هو القائل: لا خير في المعرفة إن لم تصغ عقلاً يميز المعرفة من عوالم المعرفة، لأن المعرفة المزهرة تبدأ بالجمع وتطرق أبواب جمع آخر. فقد بقي الشعر الجاهلي مفرداً، إلى أن جاء طه حسين وخلع عنه أحديته المقدّسة، فليس بين امرؤ القيس، الشاعر الضليل المتمرد الأقرب إلى الأسطورة، وزهير بن أبي سلمى، شاعر الموعظة الذي كان مسلماً ولم يدرك الإسلام، علاقة ذات معنى كبير. وبقي أرسطو رائد الفكر المرموق إلى أن أقصاه ديكارت عن موقعه العالي، واختط للفكر نهجاً جديداً، يؤرخ به ميلاد الأزمنة الحديثة. وظل شكسبير مهيمناً، إلى أن أتى بريشت بمسرح ملحمي نقل، مع غيره، القواعد المسرحية من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع. وحاصل ما قيل هو التالي: هل هناك من معرفة نهائية مفردة، إذا كان كل عصر مزهر يأتي بما يصحح معارف عصور سابقة؟ وهل تظل المعرفة معرفة إذا عاندت التغير واطمأنت إلى الأبدي والسرمدي والقار والخالد؟ تعتقد بعض العقول أنها تمجد الأشياء، إن وضعتها خارج التاريخ ودثرتها بالثبات، ناسية أن المومياء رمز للثبات وصورة عنه.

وعلى هذا فإن قراءة الكتب، إن كانت صحيحة، تحدّث عن سيرورة المعرفة قبل أي شيء آخر، حيث هناك ما يولد وينمو ويذوي، كأن في كل كتاب ما يعلن عن حياته وعن موته المحتمل، مع استثناءات أقرب إلى الندرة. تعلّم القراءة، بهذا المعنى، مرتين؛ مرّة حين تقدّم للقارئ كماً من المعرفة عن موضوع يجله، ومرّة ثانية حين تخبره أن تقديس المكتوب لا ضرورة له، فما يراه بعض المؤرخين حقيقة أخيرة يراه بعض آخر ضلالاً.

إذا كانت المعرفة بعيدة عن صيغة المفرد، فكيف ترجمتها، غير مرّة، عقول مفردة؟ والسؤال بعيد عن الصواب. ذلك أن الفكر المبدع لا ينبثق من ذاته، في عملية صوفية اقرب إلى الفيض، لأنه أثر لحوار مع أفكار إبداعية سبقته، ومدخل إلى صدفة سعيدة قادمة، تأخذ بيد فكر، لا يعرف الطمأنينة، إلى جملة من الأسئلة غير مسبوقة.

وصل طه حسين إلى ما وصل إليه متكئاً على لقاء خصيب بين ابن خلدون وديكارت، وعلى لقاء الطرفين مع عقل بصير مشدود إلى فكرة (السبب)، على خلاف عقول ترى في مبدأ السببية زندقة خالصة. كان، وهو ينتقل من صيغة الإنسان الغُفْل إلى وضع الذاتية المفكرة، قد تعلّم الفرنسية واليونانية، مبرهناً أن في العقل المبدع أكثر من عقل، وأن في السؤال النافع الجديد أكثر من ثقافة. وكذلك حال كارل ماركس مؤسس (قارة التاريخ)، بلغة تبدو الآن قديمة، الذي نقد (الاقتصاد السياسي الكلاسيكي)، معتمداً، في بحثه النظري، على ثلاثة مصادر شهيرة: الاقتصاد السياسي الإنجليزي والفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية.

ولعل تأمل الفرنسي بول ريكور، الذي رحل حديثاً بعد أن لامس التسعينات من عمره، يسخر من أسطورة الإبداع الخالص، فصاحب الكتاب الشهير (الزمن والسرد)، جمع في بحثه بين الفلسفة واللاهوت، وعلم التاريخ واللغة والأدب.. ليست القراءة الفاعلة إلا قراءة النصوص المختلفة في نص يبدو وحيداً، والمقارنة بينه وبين نص نظير، يبدو بدوره منفرداً، كل معرفة حقيقية تأتي من معرفة سابقة وتفضي إلى أخرى لاحقة، وما فضيلتها، أي إبداعها، إلا تصحيح نص بآخر.

ولهذا تبدو المعرفة سيرورة لا بداية لها ولا نهاية. يسأل العارف المكين التلميذ الذي بين يديه، ماذا ترى؟ يجيب التلميذ: إني أرى وجهك، ويجيب العارف: لقد بلغت نصف الإجابة، لأنك لن ترى ما خلف وجهي، إلا إذا أصبحت مثلي. في سيرورة المعرفة ما يشبه ذلك الصيني الأسطوري، الذي يكسر الحجارة ويبكي، فتسقط دموعه على الأرض متحولة إلى حجارة، فيكسرها ويبكي.. كل كتاب يفضي إلى كتاب، وكل كتاب جديد يفضي إلى كتب، والكتب الكثيرة توسّع المعارف وتقصي اليقين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9 آب/2007 -25/رجب/1428