مصطلحات سياسية: إمبريالية

إمبريالية:  Imperialism

شبكة النبأ: سلوك دولة تمارس سلطتها إما بغزو أراض جديدة، إما بتطويع سيادة دولة أخرى لصالحها.

ظهر هذا المفهوم في لغة العلاقات الدولية منذ بداية القرن العشرين في معرض تشبيه الدول المستفيدة من الانفتاح الاستعماري والتي أظهرت طموحاً في توسيع أراضيها بالنموذج الإمبراطوري القديم. في هذا الإطار الأول، دار نقاش عميق بين أطروحة ماركسية المنحى (دافع عنها لينين وروزا لوكسمبورغ) وتأويل أكثر سياسية (ساندها شومبتر بشكل أساسي). بالنسبة إلى الأولى، يجب فهم الإمبريالية في إطار اعتبارات اقتصادية وكوسيلة تسمح للرأسمالية بأن تتجاوز تناقضاتها بإيجاد أسواق جديدة لرؤوس أموالها وللفائض في إنتاج سلعتها. بالنسبة إلى الثاني، والذي استرجعه لاحقاً المنظرين الواقعيين للعلاقات الدولية، يجب اعتبار الإمبريالية غاية بحد ذاتها، من حيث أنها تعبير قديم عن إرادة السلطة التي تقوم عليها هوية الدولة نفسها.

وقد زاد النقاش غنى وتجدداً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عندما كان المشروع الإمبريالي يخلط بين السيطرة على الأراضي (الاتحاد السوفيتي في أوروبا الوسطى أو الولايات المتحدة في فيتنام وبعض بلدان أمريكا اللاتينية)، وتابعية بعض الدول التي أصبحت في ما بعد "محدودة السيادة"، ومراقبة الشبكات (الاقتصادية، أو التكنولوجية، أو الثقافية). عندها لا تتطلب الإمبريالية غزواً عسكرياً ولا حتى مبادرة حقيقية من الدولة، بل هي تفعل على أنماط أكثر انتشاراً ولا مركزية.

متعلقات

إمبريالية(1)

 الامبريالية هي سياسة توسيع السيطرة او السلطة على الوجود الخارجي بما يعني اكتساب او/و صيانة الامبراطوريات. وتكون هده السيطرة بوجود مناطق داخل تلك الدول او بالسيطرة عن طريق السياسية او الاقتصاد . ويطلق هذا التعبير على الدول التي تسيطر على دول تائهة او دول كانت موجودة ضمن امبراطورية الدولة المسيطرة وقد بدأت الامبريالية الجديدة بعد عام 1860 عندما قامت الدول الاوربية الكبيرة باستعمال الدول الاخرى. اطلق هذا التعبير في الاصل على انكلترا وفرنسا اثناء سيطرتهما على افريقيا ويعتبر لينين ان وجود الامبريالية مترابط مع الرأسمالية لانها تستخدم الدول المستعمرة على انها اسواق جديدة او مصادر لمواد اولية.

ماهو مصطلح (امبريالية )(2)

"الامبريالية هى الرأسمالية فى مرحلة الاحتكار"

"من السمات الجوهرية للامبريالية تنافس عديد من القوى الكبرى فى النزوع الى السيطرة ، اى الى الاستيلاء على الأراضى"

الامبريالية مرحلة خاصة من الرأسمالية : "الأمبريالية هى المرحلة الاحتكارية للرأسمالية" .

اي ان المبريالية نتيجة للرأسمالية

تختلف الامبريالية : "كعلاقة" بين البلدان الرأسمالية والبلدان المتخلفة ، - التابعة - ، عن الاستعمار أو احتلال الاراضى اختلافا جوهريا ، فهى هيمنة هيكلية Structural Domination حيث قامت الرأسمالية بفضل نموها الهائل والتطور التقنى الذى حققته و اللذان توسطا تحول المنافسة الحرة الى الاحتكار (أو بالأحرى الى المنافسة الاحتكارية) بتحويل التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية قبل الرأسمالية فى آسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى الى بنى متخلفة تتميز من الناحية الجوهرية "بالنمو المركب" تحت سيطرة رأس المال التجارى التابع للرأسمالية عبر السوق الدولى .

"الامبريالية هى نتاج الرأسمالية الصناعية المتطورة جدا ، وهى تتلخص بنزوع كل أمة رأسمالية صناعية الى ان تسيطر على أو تلحق بنفسها اكثر ما يمكن من الأقاليم الزراعية بغض النظر عن الأمم التى تقطنها".

حوار مع جان بريكمون

إمبريالية بروح إنسانية(3)

جان بريكمون، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة لوفان، نشر مؤخرا كتاباً بعنوان: (إمبريالية بروح إنسانية. حقوق الإنسان، حق التدخّل، حق الأقوى) يتناول فيه التحوّل الذي طرأ على فكرة حقوق الإنسان، في التدخلية (نزعة التدخل) الغربية. تحوّل تدريجي انتهى بإضفاء الشرعية على التدخّل العسكري. وهو في حواره هذا مع سيلفيا كاتوري، على ضوء فعاليات مؤتمر محور من أجل السلام 2005، ينتقد النزعة الحربية السائدة، ويقترح حلولا مختلفة لإرساء دعائم السلم والأمن العالميين.

   جان بريكمونخلال مداخلته في مؤتمر «محور من أجل السلام» ببروكسل في شهر نونبر 2005

فضلاً عن كونه جامعيا مثقفا وملتزما، يشغل بريكمون كذلك منصب عضو في (محكمة بروكسل)، وهي محكمة رأي عام تدرس قضايا جرائم الحرب في العراق وتطمح لأن تكون امتدادا للتحرك الدولي ضد الحرب. كما تهدف محكمة بروكسل المؤلفة من مفكرين وقانونيين والمنضوية تحت لواء حركة أوسع، ترمي إلى وضع حد لنظام الإمبريالية العالمية الجديد.

أما سيلفيا كاتوري ،التي أجرت اللقاء مع جان بريكمون، فهي صحفية سويسرية مستقلة. تكتب بالفرنسية. أمضت سنين عديدة في مناطق جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي. وكانت على صلة وثيقة بالمنظمات الدولية والأوساط الدبلوماسية. فخرجت من هنالك بنظرة واسعة للعالم وآليّات السلطة ومظالمها.

كانت في فلسطين المحتلة في نيسان 2002 حين أطلق شارون العنان لعساكره فقاموا بأكثر العمليات دموية في الضفة الغربية (اجتياح جنين). وجعلها اهتمامها بآثار الصدمات التي تسببها مثل تلك العمليات للأطفال، تتوجّه إلى الأراضي الفلسطينية لتكون شاهد عيان على حقيقة ما جرى. فكان ما وقع نظرها عليه يتجاوز قدرتها على التخيّل.

ومنذ ذلك الحين وهي تكافح لجذب انتباه وسائل الإعلام في العالم إلى الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد مدنيين عزّل، وإلى المظالم التي تحلّ بالفلسطينيين وأطفالهم.

سيلفيا كاتوري: كتبت في افتتاحية كتابك الأخير «إمبريالية بروح إنسانية» تقول: «هنالك نوعان من المشاعر تدفع للفعل السياسي: الأمل والسخط». ولا يسع أي إنسان ذي ضمير حي، يقرأ كتابك، إلا أن يشعر بالسخط، بعد الانتهاء من قراءته. فهنالك بلدان جرى تدميرها بوحشية، على يد حكومات تصرّفت، كما الولايات المتحدة، خارج نطاق القوانين. وأسوأ ما في الأمر، أن يقع ذلك بالتواطؤ مع ما اصطلح على تسميته ب«الأسرة الدولية». فما الوسائل الواجب استخدامها لإشاعة هذا السخط في أوساط الرأي العام وإحداث هزة فيها؟

جان بريكمون: هذا سؤال معقد! سوف أقتصر على ما أنا قادر على فعله من كتابة وقول. لابد في واقع الأمر من بدائل. لا بد من منظمات سياسية لست بقادر على تشكيلها.فالمنظمات القائمة ليست واعية للأوليات الحقيقية، بما يكفي. وهذا على الأقل رأيي المتواضع. ينبغي إنشاء حركة دولية ضد الحرب في العراق، على نحو ما كان الأمر أيام الحرب في الجزائر والحرب في فييتنام، وأثناء أزمة الصواريخ (في كوبا). وذلك ما ليس له من مثيل في الوقت الحاضر.

سيلفيا كاتوري: هل تعتقد أن التحدي الذي أطلق في العالم من قبل مؤتمر «محور من أجل السلام»، بمبادرة من تييري ميسان رئيس شبكة فولتير، يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لحركة كبرى مناهضة للحرب؟

جان بريكمون: إنها لفكرة حسنة أن يتجمع أناس من آفاق شتى: فلسفية وسياسية ودينية، وأن يعملوا معاً لصالح السلام. فأكثرية النزاعات في العالم نزاعات محلية، بين بلدان متجاورة أو داخل البلد نفسه. وليس هنالك سوى بلد بعينه يسمح لنفسه بإرسال جيوشه بعيداً عن أراضيه، للاعتداء على بلد آخر، لم يلحق به أي أذى، متعللاً بذرائع مصطنعة كلها. وهذا البلد أو البلاد، هي الولايات المتحدة الأمريكية. إن في طريقة السلوك هذه تهديداً للسلام العالمي. فلابد من إيقافها. وليست المهمة سهلة. إنها تستوجب تعاونا من المواطنين الأمريكيين. وأنا مقتنع بأن قسماً منهم يدرك أن الرأي العام العالمي لا يقبل بسياسة حكومتهم. فإذا ما رفعنا صوتنا هنا بمناهضة السياسة الأمريكية، ساهمنا في دعم المواطنين الأمريكيين الراغبين في تغيير سياسة بلادهم هناك.

سيلفيا كاتوري: إن كان الناس في أكثريتهم الساحقة يشعرون بالهول من رؤية الصور المنقولة من العراق وأفغانستان وفلسطين، ولا يدركون بوضوح أن تلك البربرية كلها حظيت بدعم من الأحزاب التقدمية. فكيف أمكن لتلك الأحزاب أن تنحرف إلى حد الاعتقاد بأن بوش وبلير يخوضان حرباً ذات دوافع خيرة. في حين أنها كانت اعتداء على حرية الشعوب وكرامتها؟

جان بريكمون: لابد من إظهار الفروق. فنحن هنا حيال عدة مظاهر. فسياسة بوش نفسه لم تكن شعبية، داخل الأوساط التي يمكن وصفها باليسارية، حتى ضمن التبعية المؤيدة للتدخل الإنساني. أما السياسة الشعبية حقاً فكانت سياسة كلينتون. لقد فرض أثناء ولايته كلها حصاراً على العراق، تسبّب دون شك بعدد من الموتى يفوق عدد من سقط بسبب الحرب. وأنا شهدت القليل من الاحتجاجات على ذلك الحصار من قبل أناس كانوا يشيدون بالتدخل الإنساني، في يوغوسلافيا على سبيل المثال. ولئن كان الناس لا يؤيدون سياسة بوش، فلأنه يتقن فن عرض سياسته عرضاً رديئاً جداً، ما يؤدي إلى جعلها غير شعبية. فضلاً عن أنه شديد الصلف،وهذا يزيد في عدم شعبيته، لاسيما في الخارج. لكن كلينتون لم يكن كذلك. ومن ناحية أخرى فإن دعم اليسار للتدخلية أعاق معارضة الحروب، حتى حرب بوش، وجعل تلك المعارضة أمراً سطحياً. فالناس لا يعارضون الهيمنة والحرب على العراق بدافع مبدئي، بل لأن بوش رئيس أخرق. فالكتاب يهدف إلى إحداث هزة داخل هذا اليسار المكوّن في الغالب من أناس صادقين جداً، لكنهم لا يتمتعون بما يكفي من رؤية شمولية للوضع، كي يحتل السلام واحترام السيادة الوطنية في بلدان العالم الثالث، مكانة أولية لديهم. لقد ترقق هذا النوع من الأفكار تحت تأثير إيديولوجية التدخل بروح إنسانية، والتي نشأت بعد الحرب في فييتنام.

سيلفيا كاتوري: ما هي البلدان التي تعرضت للحروب، باسم «حق التدخل» هذا؟

جان بريكمون: تجذّرت لدينا في الغرب، منذ بداية العصر الاستعماري، إيديولوجية تجيز لنا، لأننا البلدان المتحضرة، الأكثر احتراماً للديمقراطية وحقوق الإنسان، والأكثر تطوراً وعقلانية وإيماناً بالعلم الخ...، أن نرتكب أفعالاً مرعبة بحق بلدان نعتبرها أقل تمدنا. فالمسيحية، والرسالة التحضيرية للجمهورية، وعبء الرجل الأبيض لدى الإنكليز، استخدمت تدريجياً كمبرر إيديولوجي لاقتراف جرائم شنيعة. أما الآن، فالإيديولوجية التي ترمي إلى احتلال ذلك المكان كله، هي إيديولوجية حقوق الإنسان والديمقراطية. وليس لهذا الأمر أن يصل حد الحرب إلزاماً، لكنه يأخد أشكالا أخرى، مثل الحصار على العراق أو على كوبا، وعقوبات أخرى تغدو مقبولة لأنها موجهة ضد أنظمة رهيبة أو هكذا يقال عليها. فعلى اليسار أن يأخذ بعين الاعتبار ما تقول قمم بلدان الجنوب أو البلدان غير المنحازة، التي تعارض تلك العقوبات كلها فتقول ذلك علناً. فليس لعقوبة، حسبما ترى تلك البلدان، أن تكون وحيدة الجانب، ولكل شيء أن يمر عبر الأمم المتحدة. ولا ترغب بلدان الجنوب، وهي التي تمثل الغالبية العظمى للجنس البشري، بأي حال من الأحوال بتلك السياسة القائمة على التدخل.

سيلفيا كاتوري: لقد كتبت تقول: «أما بشأن كل ما يتعلق بإضفاء الشرعية على الحرب، في إيديولوجية زماننا، فلم تعد المسيحية، ولا الجمهورية «ورسالتها الحضارية»، هما المسوّغ، بل هو خطاب عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية. وإذا كنا نبتغي بناء معارضة راديكالية خالية من عقدة الحروب الراهنة والمستقبلية، فمن واجبنا مهاجمة ذلك الخطاب وتلك الطريقة في عرضه». ولكن من أين خرجت تلك النظرية عن حق التدخل بصبغة إنسانية؟

جان بريكمون: الفكرة تعود أساساً إلى إدارة كارتر التي شكلت منعطفاً. إذ سادت هنالك، قبل حرب فييتنام وأثناءها، سياسة دعم للأنظمة المعادية للشيوعية، باسم الصراع ضد الشيوعية، سواء كانت تلك الأنظمة تحترم حقوق الإنسان أم لا. أما بعد انتهاء حرب فييتنام، فقد سعى كارتر إلى تلميع صورة الولايات المتحدة قائلاً إن حقوق الإنسان هي روح سياستها الخارجية. وإذا كان في الأمر تناقض مع الممارسة السياسية في تيمور أو في أفغانستان،فقد نجم عن تلك الإيديولوجية، وتلك الصدمة التي أحدثها «الفلاسفة الجدد» في فرنسا، حصول ضغط هائل داخل صفوف اليسار أدى إلى الابتعاد عن الحركات الثورية وحركات التحرر في العالم الثالث.

وشكلت الأزمة اليوغوسلافية قمة إضفاء الشرعية على التدخل.لأن اليسار أخذ يردد شعارات من نوع: «لا يسعنا أن ندع ذلك يحدث»، أو «الأمر كما مع هتلر قبل الحرب» إلخ. واكتمل تغيير العقلية في حرب كوسوفو. واستسلم اليسار استسلاماً تاماً، وفي الغرب تحديداً، حيال مسألة الدفاع عن السيادة الوطنية والقانون الدولي. ما جعل معارضة الحرب على العراق هزيلة جداً، من الناحية الإيديولوجية، خصوصاً في قيادات المنظمات التي كانت تقوى على بناء تلك المعارضة.

فقد صرنا نقبل بمسوّغات من نوع: «أجل، لكن لا مناص أولاً من نزع سلاح العراق...». كانت كافة مسوغات الحرب تقريباً مقبولة، حتى لدى الذين كانوا يعلنون معارضتهم للحرب. ويبدو اليوم أن أولئك الأشخاص أنفسهم يقبلون بفكرة أن يظل الأمريكيون في العراق إلى أمد غير محدود. والفكرة العامة أننا نشهد في العراق مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية: لا تمضي الأمور كلها على ما يرام لكنها أفضل إجمالا، أو إنها سوف تتحسّن في نهاية الأمر. يوم سقوط بغداد، كان غالبية الناس من حولي يعتقدون بأن كل شيء قد انتهى وانه لن تقوم هنالك مقاومة. ولا يزال كثيرون يظنون أن أمرها سيؤول إلى الاستسلام. أما أنا فأشك في ذلك كثيراً.

سيلفيا كاتوري: ألم يعمد الإيديولوجيون، الذين طالبوا بضرورة فرض الديمقراطية لمحاربة «الإرهاب»، إلى عملية عكس للمسألة كي تلائمهم؟ ألم يكن ينبغي لهم مهاجمة الأسباب العميقة، وفي إسرائيل تحديداً، التي تتسبّب في كافة النزاعات المحلية؟

جان بريكمون: لن أقول إنها تتسبّب في كافة النزاعات الأخرى، لكن لا ريب في أنها تؤدي دوراً هائلاً في العديد من النزاعات الأخرى. فالغربيون لا يدركون أن طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تتجاوز بكثير حدود إسرائيل أو فلسطين، لسبب بسيط جداً: إن ما فعله الأوربيون، هو أنهم جعلوا العرب يدفعون ثمن الجرائم التي ارتكبها الأوربيون أنفسهم بحق اليهود. فيمكن تلخيص المشكلة على النحو التالي: لم يتم إنشاء دولة يهودية في أوربا، تعويضاً عن المصائب التي حلت باليهود في أوربا، ولا لأن الحركة الصهيونية كانت تريد دولة في فلسطين، بل لأن فلسطين كان يقطنها العرب، وقد اعتبروا هؤلاء آنذاك قيمة مهملة. ولم يجر قط، منذ ذلك الحين، الاعتراف بأصل الصراع. ثم جاءت نزاعات أخرى لتضاف إلى الصراع الأول. فجرى احتلال أراض أخرى، الخ. لقد ازدادت الأمور تفاقماً، في الواقع، وهنالك تعام من قبل الغربيين عن جذور الصراع وعمقه. إن أي طفل يكبر في الرباط يعرف، حتى وهو بعيد جداً عن فلسطين، أن إسرائيل، إن كانت قد أنشئت حيث أنشئت، فذلك لأن الأوروبيين فعلوا ذلك، يهوداً كانوا أم غير يهود، لاعتقادهم بأنهم أكثر تمدنا من أمثالهم العرب، وذلك ما لا يمكن القبول به. إنه بعد من أبعاد الصراع، وهو أعمق بكثير مما هو مفهوم في الغرب بشكل عام.

سيلفيا كاتوري: كتبت بشأن النقد الموجه إلى إسرائيل والصهيونية: «حين يجرؤ بعض اليهود من أمثال نورمان فنكلشتاين ونعوم تشومسكي على توجيه النقد لسياسة الحركة الصهيونية، يجري السعي إلى إسكاتهم عن طريق اتهامهم بمرض نفساني عجيب هو « كراهية الذات». أما إن كانوا غير يهود، فحسبهم كلمة واحدة: معاداة السامية. فما الذي يمكن فعله لاستعادة حق الحرية في التعبير، وهو الحق المخنوق حالياً خصوصاً في فرنسا بفعل تلك الاتهامات التي لا أساس لها؟

جان بريكمون: هنالك نمطان من المسائل: التهويل والترهيب من جهة، ورفع الدعاوى أمام القضاء من جهة أخرى، (كما الحال مع ديودونيه مبالا مبالا وإدغار موران وإسرائيل شامير وآخرين). وعلينا، حيال ذلك، أن ندافع عن حرية التعبير. إنها غلطة أخرى وقع فيها اليسار، والمهزلة أنه تحديداً، يسار يعارض الفاشية والستالينية، فيلتزم بنظرية مشتركة بين الفاشية والستالينية، وهي نظرية ترى أن للدولة الحق في تحديد ما يستطيع المرء قوله في مجال التاريخ أو في مجالات أخرى. فالقوانين التي تقمع حرية التعبير تنطلق من أفكار مضادة للعنصرية، قد تكون خيرة لكن يساء فهمها. هذه القوانين، ومن ضمنها قانون فابيوس غيسّو المضاد للإنكارية، حظيت بشكل عام بدعم من اليسار ومن أقصى اليسار (غيسّو شيوعي). وأعتقد أن ذلك الخطأ فادح. لأن الجواب على خطابات توصف بالكراهية، إنما يكون بمزيد من الخطابات، لا بعدمها. فهنالك وسيلة ناجعة لمحاربة العداء للسامية، مع الإبقاء على حرية التعبير. فلسنا نعاني من وسائل إعلام نعبر فيها عن وجهات نظر تنتقد اللاسامية. لكن لا يسعنا القيام بذلك بطريقة مجدية، ما لم نميز تمييزاً جذرياً بين العداء للصهيونية، المتمثل في عدد من المواقف السياسية، وبين اللاسامية، وهي شكل من أشكال العنصرية. فالناس الذين يتعمدون الخلط بين الاثنين، يظنون أنهم سيتخلصون من العداء للصهيونية بجعله مشيناً، عن طريق قرنه بالعداء للسامية. والإشكالية أننا نستطيع قراءة المعادلة: معاداة الصهيونية = معاداة السامية، قراءة معكوسة، أي جعل معاداة السامية أمراً مشروعاً عن طريق قرنها بمعاداة الصهيونية. يظن الذين يطبقون ذلك التماثل أنه سوف يمحو أفكاراً لا تروقهم، لكنهم لا يضعون في الحسبان دوما أن من شأنه إضفاء شرعية على أفكار تسوءهم أكثر.

سيلفيا كاتوري: إن الحركات التي كانت تزعم أنها تعادي الاستعمار قد ساندت التدخلية الغربية. وهنالك شخصيات سياسية من أمثال برنار كوشنر وكوهن بنديت ويوشكا فيشر قد استخدموا حقوق الإنسان والديمقراطية استخداما وقحا في سبيل أهداف انتهازية. أليست مسؤولية دعاة الحرب هؤلاء أكبر، لاسيما أن وسائل الإعلام قد هيّأت لهم المناخ الملائم للقيام بعمليات غسل للأدمغة؟

جان بريكمون: لا أرغب كثيراً في مهاجمة الأشخاص. صحيح أنني أتيت في الكتاب أحياناً، على ذكر أناس يمثلون تلك التبعية، مثل كوشنر أو هافل. إنما المسألة الهامة هي انحراف حركة أنصار البيئة. فحين قامت تلك الحركة، كانت معادية للعنف، معارضة لكل نزعة عسكرية. وها هي الآن تدعم سياسة تدخل خارجي إنساني الصبغة، ما يتطلب وجود جيوش جرّارة. إن اعتماد سياسة تدخل بصفة إنسانية، يفترض توفر الوسائل وجيشاً قوياً، والقدرة على نقل الجيوش إلى آلاف الكيلومترات. وهذا التحول في حركة أنصار البيئة أمر خارق! كان أيام الحرب الباردة تهديدا حقيقيا بالحرب، ربما كان مبالغاً فيه. كان الاتحاد السوفييتي دولة عظمى وجيشه يناصبنا العداء من ناحية المبدأ. ومع ذلك كان أنصار البيئة آنذاك يدعون إلى سياسة دفاع مدني، تعارض العنف، حتى في حال وقوع اعتداء سوفييتي. لقد أحدثت إيديولوجية التدخل إذن تحولات عميقة، لا تقبل التوفيق مع المنظور البيئي أيام انطلاقة الحركة، وذلك بسبب عسكرة الوضع السياسي الجديد لأنصارها.

طرأ ذلك التغيّر في تسعينيات القرن المنصرم، وأضحت هذه الحركات تبدي مقاومة ضئيلة جداً للحرب في العراق. بل قلما تعرضت لهذا الموضوع. فهي لا تقول على سبيل المثال: إن من أولوياتنا المطالبة بسحب الجيوش الأمريكية من العراق. والمفارقة أن في الولايات المتحدة الآن معارضة للحرب قوية جداً ضمن بعض فئات اليمين، وليس يمين المحافظين الجدد، بل اليمين التقليدي، كما بين صفوف العسكريين وعائلاتهم، الذين يدفعون ثمن الحرب أرواحا بشرية. فتشكل تلك المعارضة تناقضاً مع موقف الديمقراطيين، أو موقف اليسار «المعتدل». فهؤلاء يقولون: «ينبغي مواصلة الاحتلال، فلا يسعنا أن نترك العراقيين وشأنهم، الخ». فليست حكومة بوش وحدها التي تضعف حركة السلام!

سيلفيا كاتوري: حصل إجماع من القوى السياسية على كنس المبادئ التي تنظم القانون الدولي. وأدى عدم إدانة الدول التي تخرق تلك المبادئ إلى جعل مراكز الضغط الدولية تفقد أيضاً كل رصيد لها. لقد صادق مجلس الأمن الدولي على أسوأ العقوبات. أفما آن الأوان لرفع حواجز تمنع الولايات المتحدة، القوة العظمى، من المضي أبعد؟ أليس الأوان قد فات أكثر مما ينبغي؟

جان بريكمون: ما فات الأوان كثيراً. أما بشأن الأمم المتحدة فينبغي إظهار الفوارق. صحيح ما تقولين عن مجلس الأمن. فقد أسبغوا صفة الشرعية على العدوان وعلى العقوبات، الخ. لكن علينا مع ذلك أن نرى في الأمم المتحدة تقدماً كبيراً، قياساً على ما كان قبل 1945 لأنها دعمت القانون الدولي، وقدمت الوسيلة لتسوية النزاعات بطريقة سلمية من قبل أن تنفجر. وعمليات التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لها فوائدها أيضاً: فهي تعبر، في العديد من المسائل، عن وجهة نظر الرأي العام العالمي. أما مشكلة مجلس الأمن فتتمثل في حق النقض (الفيتو)، وفي سلطة الولايات المتحدة الفاحشة. فهي التي تتمتع بوسائل ضغط هائلة على الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن. فكل إصلاح للأمم المتحدة لابد من أن يمر بمجلس الأمن. أي أن ينال أولاً موافقة الدول التي تتمتع بحق الفيتو. ولست أدري كيف ستوافق تلك الدول على إجراء إصلاحات إيجابية، أي على فرض قيود تحد من صلاحياتها هي. وأعتقد بأن مشاريع من مناطق بعينها، مثل المشروع البوليفاري الذي يضم عدداً من دول أمريكا الجنوبية، أو مشروع شانغهاي الذي يضم الصين وروسيا وبلدان أخرى، والتي تسعى كلها لوضع حد ما للهيمنة الأمريكية، إنما هي بوادر حسنة. هنالك بعض الزعماء الأمريكيين الذين باتوا يدركون أن تلك المبادرات ليست سوى ردود فعل على سياسة بوش. فهم راغبون إذن في سياسة أكثر لطفاً. وذلك ما من شأنه أن يحدث دونما شك، إذا عاد الديمقراطيون إلى السلطة، حيث ستكون عودة إلى سياسة كلينتون.

أما إذا تفاقمت الأمور بالنسبة لهم في العراق وأضحى الوضع كارثياً، فقد تنجم عن ذلك صدمة من نوع ما، مثل حركة تمرد شعبي. أما في الوقت الراهن فيبدو المواطنون غير معنيين كثيراً، وعلى شيء من اللامبالاة. لكن سياسة ذات طابع انعزالي، قد تحظى بتأييد سريع جداً من المواطنين الأمريكيين بأكثريتهم الساحقة. ولن يكون ذلك بالحل الأسوأ بالنسبة لباقي العالم.

الحركات الاجتماعية الديموقراطية في مواجهة إمبريالية العولمة(4)

1-    البديل : التقدم الاجتماعي والمقرطة والاعتماد المتبادل عبر التفاوض حول شروطه 

تحتاج الشعوب في عالم اليوم ، كما الأمس ، الي مشروعات لمجمل المجتمع

( وطنية  و إقليمية ) تتمفصل علي هياكل معولمة يتم تنظيمها عبرالتفاوض حول شروطها ، مما يسمح بإحراز تقدم في ثلاثة اتجاهات – بشرط التكامل النسبي بينهم :-

1- التقدم الاجتماعي : ويتطلب ان يكون التقدم الاقتصادي ( الابتكار وتطور الانتاجية وتوسع السوق) مصحوبا بتحقيق مزايا اجتماعية للكافة ( التوظيف والاندماج الاجتماعي والحد من التفاوتات الاجتماعية)

2-مقرطة جميع المجالات  في المجتمع ، وهي عملية مستمرة غير منتهية ، وليست نموذجا جاهزا تحدد لمرة واحدة ويصلح للجميع ومن الضروري ان يكون الزخم الديموقراطي محسوسا في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية ، ولا يجري  حصره في المجال السياسي

3-الأخذ بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لمجمل المجتمع ، وبناء أشكال من العولمة توفر هذه الامكانية ، علي ان يكون مفهوما ان التنمية المعتمدة علي الذات لا تعني استبعاد الانفتاح او المشاركة في العولمة (الاعتماد المتبادل) ، شريطة ان يظل مسيطرا عليه

ومن المتصور ان ثمة حاجة لصياغة هذه الأبعاد وفق شروط تسمح بالحد من تفاوت الثروة والسلطة بين الأمم والمناطق وليس تفاقمهم

ان البديل الذي حددناه أبعاده الثلاثة  يتطلب السير قدما في الاتجاهات الثلاث في آن ان تجارب التاريخ الحديث التي نهضت علي إعطاء اولوية مطلقة للاستقلال الوطني ، سواء كان مصحوبا بالتقدم الاجتماعي او تمت التضحية به، ولكن دون ديموقراطية دائما ، أظهرت باستمرار عدم قدرتها علي اجتياز  الحدود التاريخية.

 كما لم تسهم المشاريع الديموقراطية المعاصرة ، والتي قبلت التضحية بالتقدم الاجتماعي والاستقلال لحساب اعتماد متبادل معولم ، في تعزيز الطاقة التحررية للديموقراطية، بل قوضتها واساءت اليها واخيرا صفت مشروعيته.

واذا كان الخطاب النيو ليبرالي السائد يزعم انه لابديل سوي الخضوع لمطالب السوق ، وان هذه الفكرة بذاتها تكفل تحقيق التقدم الاجتماعي ( وهذا غير حقيقي)، لماذا اذن تحمل تبعات اجراء الانتخابات؟  لقد أصبحت الحكومات المنتخبة مجرد ديكورات لا لزوم لها ، و اصبح "التغيير"  بمعني تعاقب قادة مختلفين ولكنهم يفعلون نفس الشئ بديلا عن الاختيار من بين بدائل بحكم تعريف الديموقراطية  ومن ثم فان رد اعتبار السياسة وثقافة المواطنة يحدد إمكانية بديل ضروري للانحطاط الديموقراطي

ومن الضروري أيضا السير قدما في البديل بأبعاده الثلاثة نظرا لارتباطهم مع ويتطلب ذلك صياغة إستراتيجيات متدرجة تسمح بتعزيز التقدم ، بعضها متواضع قابل للتحقيق علي الفور، وصولا الي الارقي ، مما يقلل مخاطر الإخفاق او الخروج عن المسار او الانتكاس

ان صياغة استراتيجيات متدرجة – خطوة بخطوة – تعني الأخذ بعين الاعتبار درجة تطور العلوم والتكنولوجيا وتسارع وتيرة الثورات العلمية والتكنولوجية مع الإحاطة بكل أبعادها مثل الثروات الجديدة وقوي التدمير الكامنة التي عجلت بها تلك الثورات والتحولات في ميدان تنظيم العمل والهياكل الاجتماعية الخ ومن أجل الاضطلاع بهذه المهمة ينبغي الا نسقط فريسة أمل كاذب  يري هذه الثورات تمتلك قدرة "سحرية" لحل تحديات التقدم الاجتماعي والمقرطة ، فالعكس هو الصحيح ويوجد في إدماج الجديد" في دينامية اجتماعية فعالة تمكننا من الاستفادة من الطاقة التحررية الكامنة فيه

ان المشروع الاجتماعي الموسوم تعسفا بانه ليبرالي ( وهو نيوليبرالي في صورته الأخيرة) يقوم علي التضحية بالتقدم الاجتماعي لحساب مطالب طرف واحد وهي تحقيق الربح السريع لقطاعات مسيطرة من راس المال (راس المال متعدي الجنسية المتمثل في نحو 5-5 من كبريات الشركات متعدية الجنسية) ومن ثم يتم إخضاع العمال والبشر والأمم من جانب واحد لمنطق السوق  ولاريب ان هذا تعبير عن يوتوبيا راس المال الدائمة التي تعني تكييف كل جوانب الحياة لمطالب تحقيق الربح انها يوتوبيا صبيانية تفتقر لاي أساس علمي أو أخلاقي ، وعبر هذا الخضوع يتم تفريغ التقدم الاجتماعي من أي مضامين

وعلي الصعيد العالمي يعمل هذا الخضوع علي إعادة انتاج وتعميق التفاوتات بين الأمم والأقاليم لاسيما في ضوء الهياكل الجديدة التي تتوافق مع مطالب راس المال الذي بلغ مستوي جديد من التطور وهذا يعني ان الاحتكارات التي تستفيد منها الرأسمالية الاحتكارية – الاوليغوبولية- في المراكز المسيطرة في الثالوث –أمريكا و أوربا واليابان- لم تعد ببساطة تدور حول الصناعة ولكن حول اشكال اخري للسيطرة الاقتصادية  والاجتماعية والسياسية (السيطرة علي التكنولوجيا مدعومة بتطبيقات متعسفة لحقوق الملكية الصناعية و الفكرية ، والنفاذ للموارد الطبيعية علي ظهر الأرض ) والقدرة عي التأثير في الرأي العام عبر السيطرة علي المعلومات وعبر تمركز وسائل التدخل المالي ومن خلال قلة منتقاة لديها القدرة علي امتلاك أسلحة الدار الشامل

لا يوجد انفصال بين اقتصاديات السوق والسلطة السياسية للدولة –بما فيها العسكرية- في عالم اليوم ، كما كان الحال دوم ولقد حل راس المال والرأسمالية الاحتكارية –الاوليغوبولية – متعدية الجنسية والسلطات السياسية العاملة في خدمتها بديلا عن هذه الوحدة المشار اليه إذن كيف يتسنى لنا بناء استراتيجيات للمواجهة متمحورة حول الشعوب وكيف تدفع  قوي "المقاومة" بالبديل المحدد هنا ، هذا هو التحدي الفعلي

2- توحيد الحركات الاجتماعية واعادة بناء المواطن السياسي

لا يوجد مجتمع رهين مرحلة واحدة لا تتغير بهذا المعني ليس جديدا وجود حركات اجتماعية ، سواء كانت ظاهرة او خفية ، منظمة او تعمل في خفاء ، متبلورة حول برنامج عمل محدد بلغة سياسية او ايديولجية او لا تكترث بالخطابات او  السياسة ، موحدة او مفتتة الجديد الذي تتسم به الحركة الراهنة هو ان الحركات الاجتماعية -او المجتمع المدني بالتعبير الدارج- مفتتة ولاتكترث بالسياسة او الأيدلوجيا  وهو امر نتاج تآكل المعركة الاجتماعية والسياسية في الفترة السابقة علي التاريخ المعاصر ( بعد الحرب العالمية الثانية) ولهذا ضعفت فاعليتها وكفاءتها ومن ثم مصداقيتها ومشروعيته وقد جاء هذا التآكل في إطار عدم توازن أساسي ، ومع راسمال سائد استفاد من هذا الفراغ في اخضاع شعوب ومجتمعات لمنطق مطالبه الكلية مدعيا ابدية  "حكمه" ، زاعما انه العقلاني والخير وانه "نهاية التاريخ" ، أنها يوتوبيا الرأسمالية الدائمة  بيد ان هذه الأزمة تتمظهر في مقولات عبثية مثل "لابديل" او في تصور حركة اجتماعية امتلاك القدرة علي تغيير العالم دون تعيين أهدافها وخططه

ان الحركات الاجتماعية –بالجمع- توجد وتعزز حضورها وتحركاتها في كل انحاء العالم ومن امثلة ذلك الحركات الطبقية والحركات الديموقراطية وحركات حقوق المرأة  وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب والفلاحين والمدافعين عن البيئة ، وهي بعض تعبيرات الحركات الاجتماعية ان تغيير العالم يتم فقط عبر بلورة البديل من خلال المشاركة النشطة في هذه الحركات، بيد ان ذلك يتطلب منها معرفة كيفية المضي قدما من الدفاع الي الهجوم ومن التفتت الي التوحد المتنوع للقيام بدور حاسم في صياغة مشروعات خلاقة وكفئؤة لبناء استراتيجية سياسية موجهة للمواطنين

ان ادراك نقاط ضعف الحركة الراهنة لايعني التقليل من شانها او التطلع في حنين الي ماضي ولي ، ولكن بغرض العمل علي تعزيز طاقتها التحريرية

ان عدو الشعوب هو الرأسمالية الاحتكارية – الاوليجاركية-  وراس المال المعولم والهيمنة الامبريالية والسلطات السياسية التوتالية العاملة  في خدمتها  حتي وقتنا هذا  ويمكن القول ان حكومات الثالوث ، سواء من اليمين او اليسار تتشاطر نفس الهوي الليبرالي ، لاسيما في الولايات المتحدة حيث يشترك الحزبان الجمهوري والديموقراطي في نفس الرؤية عن الدور المهيمن للولايات المتحدة  ويضاف الي هؤلاء الطبقات الحاكمة قي الجنوب ويقوم هذا العدو بنشر استراتيجيته الاقتصادية والسياسية والأيدلوجية والعسكرية والتي تعمل عل خدمتها كل المؤسسات التي تشكلت لهذا الغرض ومنها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وحلف الناتو  الخ كما يملك العدو مراكز للتفكير لها اجتماعات معروفة مثل "منتدي دافوس" الشهير فضلا عن الجامعات وأقسام الاقتصاد التقليدية  وتسيطر هذه المراكز علي "الموضات الفكرية" وتنتقي الكلمات البراقة والخطابات التي تعمل علي فرضها : "الديموقراطية وحقوق الانسان" أو "الحرب ضد الفقر" أو"الشعوب المضطهدة" أو "تعزيزحقوق الاقليات" أو " الحرب علي الارهاب" الخ أن غالبية قادة الحركات والنشطاء  لازالوا متاخرين حتي الان في الرد علي المقالات التي تتضمن هذه الاستراتيجية وذلك الخطاب ولذلك  يجب ان نحرر انفسنا من المواقف الدفاعية القائمة علي رد الفعل ونضطلع بدورنا ونقدم خطاباتنا واستراتيجيتنا واهدافنا ولغتنا  لان الطريق شاق وطويل

سوف نستطيع السير في هذا الاتجاه لو استطعنا تحليل استراتيجية الخصم بصورة منهجية واحطنا بابعادها العالمية وتعبيراتها المحلية، فلاتزال هذه الاستراتجيات بعيدة عن ان تكون كتلة واحدة صماء مبراة من كل عيب ، فهي تتخللها التناقضات التي نحتاج الي تحليلها ومعرفتها وتحديدها وفرزها كما نحتاج الي اقتراح استراتيجيات مضادة تستفيد من هذه التناقضات  بيد ان الحركات  لاتزال ضعيفة،  ولم تدرك اهمية هذه الفكرة ولم تستخلص أهمية العمل الموحد ،والي الأن الحركة في حالة تفتت وفي موقف الدفاع ولاتزال رخوة في خطابها ومقترحاتها وهو امر يعرفه العدو ويفاد منه ومن ثم يجب التقدم الي مستويات جديدة تجعل بللورة القوي الشعبية لاستراتيجيات للمواجهة امرا ممكنا، وتحديد رؤيتها العالمية وموقفها من الاعتماد المتبادل وتعيين التعبيرات المحلية والقطاعية لهذه الاستراتيجية  وهذا يتوقف علي تحديد وصياغة مقومات البديل بصورة متماسكة واطلاق برامج وانشطة وتحركات ثرية متنوعة ومنسجمة متناسقة لها تأثيرها علي المجتمع بيد ان هذا يتحقق عندما تصبح الحركة قوة للتغيير في التاريخ ان خصمنا علي يقين ان تقدمنا مسالة صعبة ، ليس فقط بسبب التدخلات المادية عند الضرورة عبر اجهزة الشرطة واستخدام العنف والتراجع عن المكاسب الديموقراطية ودعم التيارات الفاشية الجديدة وشن الحروب ، لكن ايضا من خلال تقديم مقترحات ملطفة  ومن ثم تظل الحركة لا سياسية الطابع ورخوة ومتخلفة بخطوة الي الوراء  وفي هذا الصدد تسهم الأيدلوجية "الحركوية" في هذا الامر برفضها من حيث المبدأ ما نقترحه من ضرورة إعمال الوحدة مع التنوع و اعادة بناء سياسات مدنية –للمواطنين-  وفي هذه الظروف ينبغي إجراء درس نقدي لهذه الحركات والأشكال التنظيمية التي تدعمها،  بخاصة المنظمات غير الحكومية التي تعد غالبا تعبير جامع مانع عن المجتمع المدني وهل هي تتمسك وتشايع منظور بناء البديل ؟ ام هي مجرد تكنيك لادارة النظام وتحقيق طموحاته الفعلية – عبر استخدامها  كأداة لمناهضة البديل ؟

ان بناء سياسة مدنية سوف يسمح للحركة امتلاك الفرصة  التي  تستدعي التساؤل عن التوازن الذي يعمل لمصلحة راس المال ، كما تتيح ظهور توازنات اجتماعية وسياسية  جديدة تكره راس المال علي "التكيف" مع مطالب لم تأت نتاجا لمنطقه القائم علي إجبار الشعوب علي التكيف مع مطالبه ، بل علي العكس إجبار راس المال علي التكيف مع مطالب الشعوب

ان دعوتنا موجهة الي الجميع – والينا أيضا- ممن يجدون انفسهم مشاركين في انشطة واجتماعات المنتدى الاجتماعي العالمي (بورت اليجري) وفي المنتديات الوطنية والإقليمية  ان المنتدى العالي للبدائل سوف يساعد – مع آخرين – في صياغة استراتيجيات شعبية فعالة و كفؤة لمقاومة العولمة

والمقترح التالي هو مجرد اطروحات ، سوف يحسبها البعض خاطئة ومتشددة أو استفزازية، بيد انها برأيي تستحق عناء النقاش. 

3-امبريالية الثالوث الجماعية (الولايات المتحدة وأوربا واليابان) وهجوم الهيمنة الامريكية وعسكرة العولمة

الأطروحة الأولى

ان النظام العالمي ليس نظاما بعد إمبريالي ، انه محض إمبريالي ، يشاطر النظم الامبريالية السابقة عليه والتي قادت توسع الرأسمالية العالمية في عديد من الخصائص الاساسية الثابتة انه لايقدم لشعوب الاطراف – الجنوب بالمصطلح الدارج – وهي ثلاثة ارباع سكان العالم ، اية فرصة ل "اللحاق" او الإفادة –للافضل او الاسوا – من مزايا الاستهلاك المادي الذي تنعم به شعوب المراكز ولايقدم سوي انتاج واعادة انتاج الفجوة بين الشمال والجنوب والآخذة في الاتساع  علي أي حال لقد دخلت الإمبريالية مرحلة جديدة من مراحل توسعها  ولهذا علاقة مباشرة بالتحولات الجارية علي صعيد الرأسمالية وراس المال : الثورة التكنولوجية والتحولات في سوق العمل وسيادة العولمة  المالية الخ وهي موضوع بحث جاد وحورات ونقاشات حيةبيد ان الهاجس الاقتصادي لدي البعض والسياسات الرخوة للبعض الاخر من علية القوم تعمل علي ضبط وتوجيه ايقاع  هذه النقاشات لدرجة انه يجري تقديم النظام علي انه يوفر الفرص لكل اولئك الذين يرغبون في الاخذ به  وهذا راجع الي ضعف الحركة وكفاءة الخطاب السائد وهذا يدفعني الي طرح بعد اخر للإمبريالية وقد جرت العادة دائما علي الإشارة أليها بالجمع لان الصراع السياسي الاقتصادي الدائم والعنيف بين المراكز الامبرياية المختلفة كان دوما في مقدمة التاريخ ، اما الآن نشير اليها بصيفة المفرد لانها أصبحت إمبريالية "الثالوث" الجماعية (الولايات المتحدة واوربا واليابان)

وتظهر الحقائق بجلاء الطبيعة الجماعية للحالة الإمبريالية الجديدة ففي كل المؤسسات العالمية لادارة الاقتصاد لم يتم فرز مواقف لاوربا واليابان مغايرة لمواقف الولايات المتحدة سواء في البنك الدولي او صندوق النقد الدولي او منظمة التجارة العالمية  ولتنذكر المطالب التي فرضت علي مؤتمر منظمة التجارة العالمية في الدوحة عام 21 من جانب الموفد الأوربي "باسكال لامي" وكانت اشد إجحافا من المطالب الامريكية

اذن  ما هي الاسياب التي تقف وراء هذه الرؤية المشتركة للثالوث ؟ وهل التضامن الذي يظهره الثالوث يعني خطوة مستقرة جديدة في تاريخ العولمة الامبريالية ؟  واين نجد التناقضات الطارئة داخل الثالوث؟  لقد جرت العادة ان يفسر هذا التضامن بأسباب سياسية : القلق المشترك من الاتحاد السوفيت و "الشيوعية" بيد ان اختفاء هذا التهديد لم يضع حدا للجبهة "الشمالية" المشتركة علي أي حال لم تعد اوربا واليابان تايعتين للولابات المتحدة كما كان الحال في اعقاب الحرب العالمية الثانية ، بل صارا منافسين خطيرين للولابات المتحدة ، وكان المرء يتوقع ان تفضي الصراعات بينهم الي تدمير الثالوث  والحقيقة ان ما حدث  هو العكس تماما ، فقد قبلت اوربا واليابان بالمشروع النيوليبرالي المعولم  ومن ثم اميل  بقوة الي تفسير هذا الاختيار بضغوط  الرأسمالية الاحتكارية المسيطرة – الاوليغوبولية- والمطالب الجديدة للتراكم الرأسمالي ولان هذه االراسماليات بلغت مستوي من النمو لم يعرف من قبل مما دفع الاولفوبوليات –الشركات متعدية الجنسية الكبيرة ان تلقي بمراسيها في دول الثالوث ، نظرا لحاجتها الي اعادة الانتاج والنفاذ الي سوق عالمي مفتوح  ويري البعض ان هذه الحقيقة الجديدة تعني ان هناك رأسمال وبرجوازية متعديان الجنسية علي نحو صرف آخذة في التشكل ان هذه المسالة جديرة بالبحث العميق  بيد ان البعض الآخر- من بينهم ككاتب هذه السطور- لايري ضرورة التوصل الي نتيجة نهائية لان المصالح المشتركة في ادارة السوق العالمي من القوة بمكان كي تشكل أساسا لتضامن راس المال متعدي الجنسية

ان التناقضات التي كان يمكن ان تدمر الثالوث او علي الاقل تضعف من قوته الجماعية لا تكمن في المصالح المتعارضة للقطاعات السائدة من راس المال ، بل يجب البحث عنها في مواضع اخري  ونظرا لان راس المال والدول هي مفهومات ووقائع، فان الثالوث – وحتي قطاعه الأوربي يظل مهيكلا في دول منفصلة ، ولايمكن اختزال وظائف الدولة في مجرد تقديم الخدمات لراس المال المسيطر  ففي الدولة تتمفصل كل التناقضات التي يتسم بها المجتمع – الصراعات الطبقية، والثقافة السياسية للشعب بمختلف أبعادها ،  وتنوع المصالح الوطنية "الجماعية"، والتعبيرات الجيوسياسية لمتطلبات الدفاع والأمن ومع هذا تعد الدولة لاعبا رأسماليا متميزا وبارزا  اذن ما الذي تفضي إليه هذه الدينامية المعقدة ؟  هل تفضي الي الخضوع للمصالح  المباشرة والكلية لراس المال المسيطر؟  ام ان هناك كيانات اخري تنظم مطالب اعادة انتاج راس المال تتمظهر في ميادين اخري

الفرضية الاولي : مع غياب مؤسسة سياسية مشتركة متكاملة لدول الثالوث ، فان الولايات المتحدة ، رئيس اركان الثالوث ، سوف يطلب أليها الوفاء بمتطلبات الدولة "العالمية" ، وهي شرط ضروري للإدارة الرشيدة للرأسمالية العالمية  وسوف يقبل الشركاء في الثالوث

بالنتائج  بيد انه في هذه الحالة أقول ان "المشروع الاوربي" سيكون خاليا من المضمون ويختزل في احسن الاحوال ليكون القطاع الأوربي للإمبريالية الجماعية، وفي أسوأها  يصبح القسم الأوربي في مشروع الهيمنة الامريكية وحتي هذه اللحظة يبدو ان الحشرجة التي نسمعها من حين لاخر صادرة بسبب الادارة السياسية والعسكرية للعولمة  لا بسبب الادارة الاقتصادية والاجتماعية له بمعني ان ثمة قوي أوربية تفضل إدارة سياسية جماعية للنظام العالمي بينما يقبل اخرون بادارة امريكية كاملة

وفي الفرضية الثانية يمكن القول انه لو نجحت الشعوب الأوربية في ان تفرض علي راس المال المسيطر شروط اتقاق تاريخي جديد يحدد هوية الدول الأوربية والاتحاد الاوربي ، يمكن لاوربا ان تتطلع الي ان تكون لاعبا مستقل ان خيار "اوربا الاجتماعية" – بافتراض ان السطة لاتعمل بصورة فورية وكلية في خدمة اراس المال المسيطر- لاينفصل عن خيار اوربا "غير الأمريكية" وهذا يحدث فقط اذا نأت اوربا بنفسها عن الادارة الامبريالية الجماعية التي تتحدد بها مصالح راس المال المسيطر في جملة واحدة اما ان تكون اوربا في "اليسار" او لا تكون ، مع ادراك ان هذا المفهوم بعني وضع المصالح الاجتماعية للشعوب الأوربية في الاعتبار، وان تطوير العلاقات البناءة بين الشمال والجنوب سوف يؤديان الي تطور ما بعد إمبريالي حقيقي. 

الأطروحة الثانية

تتمظهر  استراتيجية الهيمنة الامريكية في الطبيعة الجماعية للامبريالية ، وتستفيد من عدم كفاءة وضعف الحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة للعولمة ان هذه  الاستراتيحية  التي يقر  بها المدافعون الموالون لامريكا  بصراحة  هي قي  الخطاب السائد موضوعا لأطروحتين " رخوتين" ،  غير صحيحتين لكنهما فعالتين من وجهت نظر الخصم  تقول الأولى ان هذه الهيمنة تنتسب الي قيادة "لطيفة " ، تعرف احيانا بالهيمنة "الحنون" من جانب الجناح الديموقراطي في المؤسسة الأمريكية الحاكمة  ومن خلال خليط الأكاذيب والنفاق الصريح يزعم هذا الخطاب ان الولايات المتحدة تعمل لمصلحة شعوب الثالوث ، تحركها دوافع "ديموقراطية" بل أنها تعمل لمصلحة بقية شعوب العالم الذين تقدم لهم العولمة فرصة "التنمية" يعززها مزايا الديموقراطية التي تسعي القوي الأمريكية الي تدعيمها في كل مكان، كما نعرف وتقول الأطروحة الثانية انه في كل المجالات تستفيد الولايات المتحدة من المميزات العديدة سواء الاقتصادية او العلمية او السياسية او العسكرية او الثقافية التي تضفي المشروعية علي هيمنته والحقيقة ان الهيمنة الامريكية تعمل من منطق ونظام لا يكترثان كثيرا بالخطاب الذي يغلفهم.

لقد تم الإعلان عن أهداف الهيمنة الامريكية وهي تتفق مع التصريحات العديدة لقادة الولايات المتحدة ، ولسوء الحظ ان الضحايا لا يقرءون الا نادرا  فبعد سقوط التحاد السوفيتي – الخصم العسكري المحتمل الوحيد- قدرت الإدارة الأمريكية ان لديها عشرون عاما لفرض هيمنتها الكوكبية واختزال امكانيات  ظهور اعداء محتملين  الي حد العدم، ليسوا بالضرورة قادرين علي فرض هيمنة بديلة بل قادرين علي تاكيد استقلالهم في نظام عالمي لايقوم علي الهيمنة – بتعبيري : نظام متعدد المراكز  وهؤلاء الخصوم بالطبع أوربا - مع ملاجظة اننا لم نعد نسمع عن هيمنة يابانية – وأيضا روسيا والصين ، والأخيرة هي العدو الرئيسي الذي ربما تتصور واشنطن تدميره عسكريا لو اصرت علي مواصلة التنمية والحفاظ عي إرادة سياسية مستفلة بدرجة معينة ومن الاعداء الآخرين كل بلدان الجنوب التي قد تطور المقاومة لمواجهة الضغوط الملحة من العولمة النيو ليبرالية ، وخاصة الهند والبرازيل وايران وجنوب افريقي

ان أهداف الهيمنة الأمريكية تتمثل في استرقاق الحلفاء في الثالوث لجعلهم عاجزين عن اتخاذ المبادرات العالمية الفعالة وتحطيم "البلدان الكبيرة ، فليس من حق احد ان يكون هكذا سوي الولايات المتحدة  ومن ثم تفكيك روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وتفكيك الصين والهند وحتي البرازيل ، واستغلال مواطن الضعف في النظم السياسية في كل بلد والمناورة علي دول الاتحاد السوفيتي السايق و ضرب قوي التوحيد المركزية في الاتحاد الروسي ودعم مسلمي "اكسنجيانج" ورهبان التبت وتغذية الصراع مع مسلمي شبه القارة الهندية والتدخل في الامازون  (سهل كولومبيا) الخ

 ووفق هذا المنظور الاستراتيجي قررت الولايات المتحدة ان تكون أولى ضرباتها في المنطقة الممتدة من البلقان الي آسيا الوسطي الي الشرق الأوسط والخليج  لماذا  اختارت واشنطن  هذه المنطقة ميدانا لاولي الحروب الأمريكية في القرن الواحد والعشرين ؟ ليس لأنها تأوي اعداء خطيرين ، فالعكس هو الصحيح،  ولكن لأنها البطن الرخو للنظام العالمي ، وتتكون من مجتمعات عاجزة –لاسباب عديدة –عن الرد علي العدوان ولو بأدنى قدر من الكفاءة ان  توجيه ضربة للضعيف في مستهل سلسلة حروب طويلة  هي استراتيجية عسكرية واضحة ومبتذلة أنها علي غرار ما فعل هتلر عندما بدأ بغزو تشيكوسلوفاكيا ثم توسعت طموحاته حتي شملت المملكة المتحدة وفرنسا روسيا  

 ان غزو هذه المنطقة يوفر فرصا اخري ، فهي منتج رئيسي للنفط والغاز وسيطرة الولايات المتحدة الشاملة عليهما تجعل اوربا تابعا مما يحد من قدرتها علي المناورة ، كما ان إقامة قواعد أمريكية في أو راسيا  يسهل حروب المستقبل ضد الصين وروسيا وغيرم ان الدعم غير المشروط لإسرائيل منطقي تماما في اطار هذا المنظور الإستراتيجي ، فقد اصبحت إسرائيل بالأمر الواقع قاعدة عسكرية دائمة في خدمة واشنطن

 ان قرار عسكرة ادارة النظام العالمي لم يتخذه فريق بوش الابن ، بل كان دعوة اطلقتها الطبقات الحاكمة منذ سقوط الأتحاد السوفيتي ولا يختلف الجمهوريون والديموقراطيون الا في لغة الخطاب وعلي غير ما يعتقد  الرأي العام الساذج فان القصد من هذا الخيار هو الحد من اوجه القصور في الاقتصاد الأمريكي حيث تتدهور القدرة التنافسية لكل قطاعات النظام الإنتاجي بصورة مستمرة يشهد علي ذلك العجز التجاري الذي يتسم به  ومن خلال فرض نفسها ديكتاتورا عسكريا علي النظام العالمي ، وليس عبر الاضطلاع بدور القيادة الطبيعية من خلال التقدم الاقتصادي ، فان الولايات المتحدة تخلق ظرفا  لاجبار خلفائها التابعين (أوربا واليابان)  و اخرين علي دفع فاتورة العجز الاقتصادي لقد أصبحت الولايات المتحدة مجتمعا طفيليا لا يستطيع الحفاظ علي مستويات الاستهلاك وهدر الموارد دون إفقار بقية العالم

 الأطروحة الثالثة

يتسم العصر الراهن بطبيعته الاستثنائية ومن ثم من المقبول عقد المقارنات مع ثلاثينيات القرن الماضي  فلقد قرر الرئيس الأمريكي ، مثلما فعل هتلر ، إحلال القوة العسكرية الغاشمة محل القانون والقضاء علي كل الإنجازات التي سمح بها الانتصار علي الفاشية وتعريض الأمم المتحدة لنفس المصير المذري الذي لاقته عصبة الامم

ومع الآسف تستمر المقارنات ، اصطناع واختلاق وانتقاء أعداء صغار لتمهيد الميدان لمواجهات عسكرية كبري ، وممارسة الكذب بصورة منتظمة وتتصرف الطبقات المسيطرة في دول الحلفاء مثلما فعل "تشامبرلين" و "داليديه" مع هتلر  تذعن وتسهم في اضفاء المشروعية علي الحروب الأمريكية في عيون الذين يمارسون خداعهم

ويتعين علي الحركة ان تفهم في ضوء هذه الاستراتيجية الاجرامية انه لن تكون هناك استراتيبجية فعالة للمواجهة مالم تكافح ضد الحروب الامريكية بوصفها المحور الاساسي لنشاطه فماذا يساوي خطاب مكافحة الفقر او خطاب حقوق الانسان مقارنة بما هو خبئ للشعوب من مستقبل مظلم سوف يجري فرضه بالعنف العسكري ؟ ومع ان الحروب لاتزال "صغيرة" – رغم الدمار المادي والبشري الهائل- الا أنها باكورة استراتيجية العدو

 عناصر استراتيجية المواجهة الشعبية

ان التأملات السابقة يمكن ان تؤدي الي نتيجة واحدة مفادها ان المحور الأساسي للنشاط ينتظم حول تنظيم العمل والتحركات المناهضة للحروب الامريكية وتشكيل جبهة واسعة من كل القوي التي تقف في خندق المعارضة  وبهذه الروح اعرض ثلاثة مقترحات

الاقتراح الاول: اعطاء اولوية في اوربا لاعادة بناء سياسة مدنية قادرة علي توحيد وتجميع مطالب الحركات التي لاتزال مفتتة الي حد مخيف

ان بناء هذه القوة السياسية وتوحيد الهدف الجامع يمثل شرطا لنجاح الحركات في مطالبها الاجتماعية الاحتجاجية ، بل يمكن القول ان القدرة علي ابداع يسار حقيقي يعطي بعدا اجتماعيا للمشروع المشار إليه سابق وبهذا الشرط أيضا يمكن ان ينفصل اليسار عن اليمين الذي يقبل الانحياز لاستراتيجيات الإمبريالية الأمريكية او اليمين الذي يعرب عن رغبته في في ادارة سياسية جماعية للمبريالية بمعني اخر لن يكون هناك اوربا اجتماعية مالم يتم الانشغال الفوري بصياغة سياسات بديلة تجاه بقية العالم لإحداث تحول ما بعد إمبريالي حقيقي

ان الشعوب الاوربية يمكن بل يجب ان تجعل الولايات المتجدة تدرك هشاشة وضعها في النظام الاقتصادي للرأسمالية المعولمة  واذا نجحت الشعوب الاوربية في فرض استخدام فوائض راسمال في التنمية الاجتماعية بدلا من دورها الحالي في دعم الهدر الأمريكي للموارد، فانها سوف تكبح الولايات المتحدة وتجبرها علي التخلي عن طموحاتها الزائدة بيد ان هذا الهدف الإستراتيجي لا يعني استبعاد تقديم المساندة للرجال والنساء الشجعان الذين –وهم في قلب النظام – يقولون لا للحرب  ومع ذلك  أتشكك في فعالية المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة مادامت الامتيازات مكفولة في هذا المجتمع الطفيلي لقد نجحت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة في الحصول علي راي عام أحمق يري ان احتجاجات القلة الواعية لن تحبط انتشار استراتيجية الهيمنة الامريكية.  

الاقتراح الثاني : تشجيع التقارب بين الشركاء "الاوراسيويين" الكبار ، تحديدا أوربا و روسيا والصين والهند ولان روسيا باحتياطاتها من النفط والغاز توفر لأوروبا السبيل الوحيد للإفلات من الفرمان الأمريكي ، بافتراض نجاح واشنطن في خططها الرامية لاحكام السيطرة علي الشرق الأوسط ونظرا لان اغلب التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية في روسيا آتية من أوربا  - لا الولايات المتحدة – فثمة أرضية مؤاتية للتقارب بينهما رغم الصعوبات التي تنتجها إدارة "الكمبرادور" للاقتصاد الروسي حيث ترتبط به قطاعات مهمة من الطبقة الحاكمة ، وألاعيب الإمبريالية الامريكية الداعمة لقوي التفتيت العاملة في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق و هنا أيضا ثمة تطور مؤات ، مثلما في أوربا ، لصالح الطبقة العاملة يشير الي إمكانية بروز سياسة خارجية بديلة تبتعد بنفسها عن واشنطن

ويجد التقارب الروسي الصيني الهندي مبرر وجوده في التهديدات العسكرية التي تواجه هذه البلدان في حالة نجاح انتشار الولايات المتحدة في آسيا الوسطي  وتعمل الدبلوماسية الامريكية علي جعل هذا التقارب صعبا قدر الامكان من خلال تعيئة التناقضات في الرؤي السياسية للشركاء الثلاثة ، وعبر دعم الشرائح الكمبرادورية داخل الطبقات الحاكمة  وفوق هذا وذاك تعمل عي إشعال الصراعات الجيوسياسية بسبب المشكلات الحدودية بين الصين والهند او التبت و"اكسينجيانج" ، ومناورات واشنطن لدعم الهند ضد الصين وفي نفس الوقت تهدئة باكستان او اثارة الصراعات بين الهند والهندوس  ان استراتيجية القوي الشعبية في هذه المرحلة تتطلب تشكيل جبهة معادية للكمبرادور والمعيار هو العلاقة المباشرة  بالمطالب الجيوسياسية الأمريكية التي تدافع عنها  الإدارات الكمبرادورية  في روسيا والهند -و تتهدد الصين- 

الاقتراح الثالث: احياء التضامن بين الشعوب ألا فرو آسيوية (روح باندونج ) وبعث التضامن بين القارات الثلاث

يجري التضامن بين شعوب الجنوب في عالم اليوم عبر النضال ضد القوي الكمبرادورية التي أفرزتها ودعمتها العولمة الليبرالية  والطروحات الواردة اعلاه حول البديل – التقدم الاجتماعي والمقرطة والاستقلال الوطني تجد مبرر وجودها هن و لا ريب ان شرعية االقوي الكمبرادورية  أضحت محل شك في كثير من بلدان الجنوب  بيد ان استجابات شعوب الجنوب للتحديات التي تواجههم من النظام الإمبريالي الجديد والليبرالية تجعل من الصعب التقدم صوب البدائل الجديدة وهي المقرطة والتقدم الجتماعي والاعتماد المتبادل العادل من خلال التفاوض حول شروطه ، ولاسياب عديدة  اخري منها تآكل الصيغ الشعبوية الوطنية التي اتسمت بها الحقبة الماضية والتي بزغت من حركة التحرر الوطني ، وبسبب ممارسات الادارة السياسية الاوتوقراطية – رغم الرطانة الديموقراطية-التي لاتزال سائدة في عدد من البلدان ، ولان الطبقات الشعبية المشتتة تبحث عن الملاذ في في الأوهام الأصولية سواء كانت دينية او عرقية و التي تستغلها الطبقات الحاكمة الكمبرادورية المحلية المدعومة من الإمبريالية وبخاصة الولايات المتحدة كل هذه تشكل انتكاسات تحتاج اليِ بعد نظر وشجاعة لمكافحتها، وهي تشكل عائقا أمام إعادة بناء التضامن بين الشعوب الأفرو أسيوية (مثل تأجيج الصراعات الاجرامية بين المسلمين والهندوس هنا والهوتو والتوتسي هناك)  ان الأزمة التي تشكل هذه الردة المجتمعية تجد تعبيرها الفج في شخصيات محل شك مثل الطالبان وبن لادن  او صدام جسين –والذين استفادوا من الدعم السخي لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية –سي أي ايه- ، واصبحوا العدو الأول للولايات المتحدة وهم يبدون كذلك في نظر أقسام واسعة من الرأي العام الشعبي.

 وثمة نقطة ا ضافية مستفادة من دروس تشكيل التحالفات الديموقراطية والشعبية التي اسقطت بعض الديكتاتوريات – مالي مثال مهم- والابرتهايد في جنوب افريقيا ، والتحالف الذى قاد انتصار "لولا" في البرازيل بيد ان هذه التطورات متواضعة بالنظر الي الهجوم الامبريالي الراهن وهي مجرد طلائع للمقاومة الكامنة لدي جبهة شعوب الجنوب

  خاتمة:

ان النضال من اجل العدالة الاجتماعية والديموقراطية ونظام دولي عادل متعدد المراكز لا ينفصل عن بعضه البعض وهو ما تفهمه المؤسسة الأمريكية الحاكمة جيدا ، ولعل هذا يجد تفسيره  في مضيها قدما نحو تطبيق نظامها الدولي القائم علي الهيمنة باستبدال القوة المسلحة الغاشمة محل القانون والعدالة  فهي تدرك انه السبيل الوحيد لفرض نظام اجتماعي نيو ليبرالي غير عادل يهدد الديموقراطية اينما وجدت ويسيئ اليها ويجعلها مستحيلة في بعض الأماكن ، وعلي حركات المقاومة ان تفهم ذلك جيدا ، كما ان عليها ان تدرك انه لا مستقبل لخططها في التقدم الاجتماعي والديموقراطي  اذا لم يتم كبح خطط الولايات المتحدة للهيمنة العسكرية 

الإمبريالية الليبرالية الجديدة (5)

الجزء الأول

أصدر مركز السياسة الخارجية (The Foreign Policy Centre) البريطاني سنة 2002 مجموعةَ مقالاتٍ بعنوان "إعادة ترتيب العالم"، اشتملت على مساهماتٍ من إيهود باراك، ومن ’العرب؟‘ كنعان مكّية وفريد زكريا، وقدّم لها توني بلير شخصياً. الملفت أن العالميْن العربيَّ والإسلاميَّ احتلاّ النصيبَ الأكبر من اهتمام دراساتٍ معنيّة بإعادة ترتيب العالم في عمومه.

تضمّنت هذه المجموعةُ مقالةً لـ روبرت كوبر  Robert Cooper بعنوان ’دولة ما بعد الحداثة The Post-Modern State‘ يدعو فيها إلى ’دوليّةٍ‘ جديدة ونظريةٍ جديدة لـ ’التدخل الإنساني‘ تضع قيوداً على سيادة الدول. اكتست هذه المقالةُ أهميةً خاصة بالنظر للعلاقة التي تربط كاتبَها برئيس وزراء بريطانيا توني بلير، ولردودِ الفعلِ السلبيّةِ الحادّة التي ولّدتها لدى الدوائر الليبرالية الغربية على وجه الخصوص.

نجد في هذه المقالةَ طرحاً لمبرِّراتِ المشروع الاستعماري في مرحلة ما بعد الحداثة ـ مستعيرين من العنوانِ نفسِه. هذا الطرحُ ينضح عنصريةً وطمعاً ونزوعاً إلى هيمنةٍ عالمية لا تتردّد في كشف القناع عن الوجه الحقيقي لـ ’المستعمِر‘ الجديد القديم. المستعمِرُ الأوروبي بامتداداته  الجغرافية  في أمريكا الشمالية وفلسطين وغيرِهما لم يتغيّر، وأهدافُه لم تتغيّر. لغتُه وأدواتُه وتبريراتُه فقط هي التي تتغير. رسالتُه لم تعُد جلبَ أدواتِ وقيمِ ’الحضارة‘ لأممٍ همجية أو فتحَ الممرّات أمام التجارة، فلكلّ عصرٍ لغتُه. المقالة تمثّل عنصراً من عناصرِ الخلفيةِ الفكريةِ لسياساتٍ تجتاح منطقتَنا وهُراءٍ إعلاميٍّ مصوّبٍ نحونا صباحَ مساء.

فيما يلي الجزء الأول من ترجمةٍ للمقالة:

انهارت في أوروبا عام 1989 منظومتان سياسيّتان عمرُهما ثلاثة قرون هما: ميزان القوى والنزعة الاستعمارية. لم يتميّز ذلك العام بنهاية الحرب الباردة فقط، ولكنه تميّز كذلك بما هو ذو مغزىً أبعد وهو نهاية منظومة الدول في أوروبا، وهي التي يعود تاريخها إلى حرب الثلاثين عاماً. وقد أوضح لنا الحادي عشر من سبتمبر واحداً من مضامين التغيير.

علينا فهمُ الماضي إذا أردنا فهمَ الحاضر، فالماضي لا يزال معنا. لقد ارتكز النظامُ الدوليّ في الماضي إمّا إلى الهيمنة أو إلى التوازن.  أتت الهيمنة أولاً، وفي العالم القديم كان ذلك يعني الإمبراطوريات. نعِم مَن بداخل الإمبراطورية بالنظام والثقافة والحضارة، وبقيت خارجها الهمجية والاضطراب والفوضى. وبقيت صورةُ السلم والنظام من خلال مركز قوّة مهيمِنة وحيدٍ قويةً منذ ذلك الحين وحتّى الآن. إلاّ أن الإمبراطوريات ليست مؤهّلةً لإحداث التغيير، فالمحافظة على تماسك الإمبراطورية ـ والإمبراطوريات في الأساس يطبعُها التنوّع ـ يتطلّب في العادة نهجاً سياسيّاً سلطوياً؛ فالابتكار، في المجتمع والسياسة على وجه الخصوص، يؤدّي إلى الإخلال بالتوازن. لقد كانت الإمبراطوريات في التاريخ ساكنةً على وجه العموم.

وُجد في أوروبا سبيلٌ وسَط بين حاليْن ساكنيْن، حالُ الفوضى وحالُ الإمبراطوريات، تمثّل في الدولة الصغيرة. لقد نجحت الدولة الصغيرة في بناء السيادة، ولكنّ ذلك كان فقط في إطار ولايةٍ قانونية محدودةٍ جغرافيّاً. وبذلك يكون النظام [السّلم] الداخلي قد تحقق مقابل ثمنٍ من الفوضى الدولية.كان التنافس بين الدول الصغيرة في أوروبا مصدَراً للتقدم، ولكن المنظومة كانت مهدّدة دائماً إمّا بالعودة إلى الفوضى أو إلى هيمنة قوةٍ بمفردها. وكان الحل لهذا الوضع هو توازن القوى، أي بمنظومة من التحالفات المتوازنة مقابل بعضِها البعض، وهو ما أصبح يُنظر إليه كشرطٍ للحرية (liberty) في أوروبا، فأُنشئت التجمّعات(coalitions) بنجاحٍ لكبح طموحات الهيمنة لدى أسبانيا أولاً ثمّ فرنسا وأخيراً ألمانيا.

ولكن كان بمنظومة توازن القوى خللٌ نابعٌ من ذاتها، وهو خطرُ الحرب الحاضرُ دائماً. لقد أدّى توحيد ألمانيا سنة 1871 إلى إنشاءِ دولةٍ أقوى من أن يُحقّق أيُّ تحالف أوروبي توازناً معها؛ لقد رفعت التغيّراتُ التكنولوجية تكاليفَ الحروب إلى مستوياتٍ لم يعد بالإمكان تحمّلها؛ وجعل تطوّرُ المجتمعاتِ الكبرى والنّظُمِ الديمقراطية من المستحيل ظهورَ إطارٍ عقليٍّ مخطِّطٍ وبعيدٍ عن المراجع الأخلاقية، وهو الإطار الضروريُّ لكي يؤدّي توازنُ القوى وظيفتَه. وبالرغم من ذلك، ولعدم وجود بديلٍ واضح، فقد استمرّت منظومة توازن القوى هذه. وما برز سنة 1945 لم يكن منظومةً جديدة بقدرِ ما كان المنظومةَ القديمة نفسَها وقد بلغت ذروتَها. لقد تحوّل توازنُ القوى متعدّدُ الأطراف في أوروبا إلى توازنِ رعبٍ بين طرفيْن على مستوى العالم، وهذا هو توازن القوى في أبسط أشكاله. ولكن هذا التوازن لم يوجد ليبقى، فهو لم يرُقْ أبداً للروح العالمية الأخلاقية للجزء الأخير من القرن العشرين.

لم تكن نهاية توازن القوى وحدَها هي ما شهده النصف الثاني من القرن العشرين، ولكنه شهد أيضاً أفولَ النزعة الاستعمارية: والاثنان مرتبطان بدرجةٍ ما. لقد بدأ القرن العشرون بعالمٍ مقسّمٍ بين إمبراطوريات أوروبية، وانتهى بنهايتها جميعاً تقريباً. لم تعُد الإمبراطوريات العثمانية والألمانية والنمساوية والفرنسية والبريطانية وأخيراً السوفييتية أكثرَ من ذكرى. وهذا يتركنا بنوعيْن جديديْن من الدول:

أولاً، دُولٌ ـ في الغالب مستعمراتٌ سابقة ـ حيث تكاد الدولة، بشكلٍ أو بآخر، تختفي عن الوجود. إنها منطقة ’ما قبل الحداثة‘ حيث سقطت الدولة ونشبت حربٌ هوبزية (Hobbesian) بين الجميع ضدّ الجميع (مثل الصومال وحتى فترةٍ قريبة أفغانستان).

ثانياً، دول ما بعد المرحلة الإمبريالية وما بعد الحداثة التي لم تعد تنظر إلى الأمن من زاوية الغزو بالدرجة الأولى.

وتوجد بطبيعة الحال دول ’الحداثة‘ التقليدية التي تنتهج سلوكاً مماثلاً للسلوك الذي انتهجته الدول دائماً، متّبعةً المبادئ الميكيافيلية. (يستذكر المرء هنا دولاً مثل الهند والباكستان والصين).       .... يُتبع

الجزء الثاني

نواصل في هذا الجزء الثاني من مقالة ما بعد الحداثة لروبرت كوبر وصفَه لدول ما بعد الحداثة  ـ وهي أساساً الدول الغربية ـ  وطبيعةِ العلاقات التي تربط فيما بينها. يأتي هذا الطرح تمهيداً لتحديد نوع العلاقة التي ستربط عالم ما بعد الحداثة بالعالم ’القديم‘، وسيكون في ذلك شفافاً لدرجة تُظهر كلَّ القبح.

سنأتي لذلك في الجزء الثالث من هذه الترجمة، ولنبقَ الآن مع الجزء الثاني:

منظومة ما بعد الحداثة التي نعيش فيها نحن الأوربيين لا تعتمد على توازن القوى ولا تؤكّد على السيادة أو على الفصل بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية. لقد أصبح الاتحاد الأوروبي منظومةً متطوّرةً جداً للتدخّل المتبادل في الشئون الداخلية للدول وصولاً إلى مستوى المشروبات والسجق.

إن"معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا CFE" التي يلتزم الأطراف بموجبها بالإعلان عن أماكن أسلحتهم الثقيلة ويسمحون بالتفتيش عليها، تضع جوانب قريبةٍ جداً من جوهر مفهوم السيادة تحت القيود الدولية. من المهم أن ننتبه إلى يمثّله ذلك من ثورةٍ غيرِ عادية. إنه يعكس مفارقةَ العصر النووي التي تفيد بأنك لكي تدافع عن نفسِك، يجب أن تكون مستعداً لتدمير نفسِك. إن المصلحةَ المشتركة للبلدان الأوروبية في تجنّب كارثةٍ نووية كانت كافيةً للتغلّب على المنطق الاستراتيجي المعتاد المرتكز على عدم الثقة والإخفاء. لقد تحوّلت المخاوف المتبادلة إلى شفافيةٍ متبادلة.

الخصائص الرئيسية لما بعد الحداثة هي ما يلي:

انهيار التمييز بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية.

التدخّل المتبادل في الشئون الداخلية (التقليدية) والمراقبة المتبادلة.

نبذ استخدام القوة لفضّ النزاعات، وما ترتّب على ذلك من تقنينٍ لقواعد السلوك المطبّقة ذاتيّاً.

التناقص المتزايد لأهمية الحدود الإقليمية، الأمر الذي ظهر نتيجة تغيّر دورِ الدولة وعَبْر الصواريخ والسيارات والأقمار الصناعية.

تأسيس الأمن على الشفافية، والانفتاح المتبادل، والتساند المتبادل، والخوف المتبادل.

يقدّم مفهوم محكمة الجنايات الدولية مثالاً لافِتاً للنظر لانهيار التمييز بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية في عالم ما بعد الحداثة. إن نظريات ماكيافيللي عن شئون الدولة التي عرّفت العلاقات الدولية في العصر الحديث قد تمّ إبدالُها بمفهومٍ أخلاقي يسري على العلاقات الدولية مثلما يسري على الشؤون الداخلية، وقد ترتّب على ذلك تجدّدُ الاهتمام بما يشكّل حرباً عادلة.

تعالج هذه المنظومة المشاكلَ التي شلّت عمل ميزان القوى، إلاّ أنها لا تتضمّن اندثار الدولة القومية. في حين أصبح الاقتصاد والتشريع والدفاع راسخةً ضمن أطر ٍ دولية، وتراجعت أهميةُ الحدود الإقليمية، نجد أن الهويةَ والمؤسسات الديمقراطية بقيت وطنيةً بالدرجة الأولى. وعلى ذلك ستبقى الدولةُ التقليدية الوحدةَ الأساسية في العلاقات الدولية في المستقبل المنظور، بالرغم من أن سلوك بعض الدول سيبتعد عن السلوك التقليدي للدول.

ما هي جذور هذا التغيّر الأساسي في منظومة الدولة؟ إن النقطة الأساسية هنا هي أن العالم قد ’أصبح أكثر أمانة‘. إن عدداً كبيراً من الدول الأكثر قوة لم تعُدْ ترغب في القتال أو الغزو، ممّا أدّى إلى عالميْ ما قبل الحداثة و’ما بعد الحداثة‘ كليْهما. لقد ماتت الإمبريالية بمفهومِها التقليدي، لدى الدول الغربية على الأقل.

إذا ما صحّ ذلك فإنه من واجبنا ألاّ نظن أن الاتحادَ الأوروبي أو حتى حلف الأطلنطي كان السبب فيما نعِمنا به من سلام في أوروبا الغربية خلال نصف قرن. إن الحقيقةَ الأساسية هي أن الدول الأوروبيةَ الغربية لم تعُد ترغب في التقاتل فيما بينها. وقد قام حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي رغم ذلك بدورٍ هامٍ في دعم واستمرار هذا الوضع. لقد كانت أهمُّ مساهمات حلف الأطلنطي هي الانفتاح الذي بناه. لقد كان حلف الأطلنطي، ولا يزال، عاملاً ضخماً لبناء الثقة بين الأطراف الغربية المختلفة. لقد كان حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي المؤسستين اللتين وفّرتا الإطارَ الذي مكّن من إعادة توحيد ألمانيا من دون توجيه تهديدٍ لباقي أوروبا مثلما كان الحال عند التوحيد الأوّل سنة 1871. تجري في إطار هاتين المؤسستين آلاف الاجتماعات بين الوزراء والمسؤولين حتى يعرف المسؤولون عن قرارات الحرب والسلم بعضَهم بعضاً معرفةً جيدة. وإذا ما قارنّا ذلك بما كان عليه الحال في الماضي سنجد أنه يمثّل نوعا من العلاقات السياسية وتوازناً لم يكونا معروفيْن من قبل أبداً.

إن الاتحاد الأوروبي هو أكثر منظومات ما بعد الحداثة تطوّراً. إنه يمثّل الأمن من خلال الشفافية، والشفافيةَ من خلال التساند المتبادل. الاتحاد الأوروبي منظومةٌ تتجاوز حدودَ الدول أكثر منه منظومة تعلو فوق مستوى الدول، وهو اتحادٌ طوعي للدول ليس فيه إخضاعٌ قسري لسلطةٍ مركزية. إن حلم الدولة الأوروبية يعود لعصرٍ سابق. إنه يرتكز إلى فرضية أن الدولةَ القومية تمثل خطَراً أساسياً، وأن الطريقة الوحيدة للسيطرة على الفوضى بين الأمم لا تكون بغيرِ فرض الهيمنة عليها. ولكن، إذا كانت الدولةُ القومية هي المشكلَ فإن الدولة المركزية المهيمِنة ليست الحلَّ بكل تأكيد.

الدول الأوروبية ليست الوحيدةَ في عالم ما بعد الحداثة. من بين الدول خارج أوروبا تُعَدّ كندا بكلّ تأكيد من دول ما بعد الحداثة، واليابان تميل إلى أن تكون كذلك، غير أن موقعها الجغرافي يمنعها من التطور في هذا الاتجاه بشكلٍ كامل. أما الولايات المتحدة فهي حالةٌ يشوبها الشك، إذ أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الحكومة الأمريكية أو الكونجرس يقبلان بضرورة التساند المتبادل أو يرغبان فيه وفيما يترتّب عليه من انفتاحٍ ومراقبةٍ متبادلة وتدخّلٍ متبادل إلى المدى الذي تقبل به معظم الحكومات الأوروبية الآن. أما فيما عدا ذلك فإننا نجد أن ما تحقق في أوروبا أصبح موضع تطلّعات أجزاء كثيرة من العالم. إن منظمات آسيان ونافتا وميركوسور وحتى منظمة الوحدة الإفريقية توحي في أقلِّ تقدير بوجود الرغبة في تحقيق بيئة ما بعد الحداثة. وبالرغم من أنه من المستبعد تحقيق هذه الرغبات بسرعة فإن التقليدَ يبقى من دون شكٍّ أسهلَ من الاختراع.

الجزء الثالث

في هذا الجزء الثالث من الترجمة نجد روبرت كوبر يقرّر أنه ليس هناك تهديدٌ للأمن بين دول ما بعد الحداثة نفسِها، ويفتتح مناقشةَ التهديدات التي يواجهها ’عالمُ ما بعد الحداثة‘ من عالميْ ’الحداثة‘ و’ما قبل الحداثة‘. وهنا يحسُن أن نستعيد من الجزء الأول الأمثلة التي قدّمها الكاتب لدول الحداثة ’التقليدية‘ والتي شملت الهند والصين والباكستان. نجد الكاتب هنا يضع قواعد التعامل مع دول الحداثة (عمليّاً هي كلّ الدول خارج دائرة الدول الغربية عموماً) بالعودة إلى القواعد القديمة التي سادت سلوك الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر.

في الجزء الرابع سنجد الكاتب يناقش التهديدات التي تمثلها دول ’ما قبل الحداثة‘ وهي التي يعرّفها بأنها الدول الفاشلة مثل الصومال وأفغانستان قبل احتلالها عام 2002، أو حيث يكون الاستخدامُ الشرعيُّ للقوة ليس حِكراً على الدولة ذاتها (لبنان مثلاً؟).

أقترح أن نتوقف اليوم مع الجزء الثالث:

لا يوجد في عالم ما بعد الحداثة تهديدٌ للأمن بالمعنى التقليدي؛ بمعنى أنّه ليس لدى أطرافِ ما بعد الحداثة احتمالٌ بأن يغزوَ أحدُهم الآخر. تُعتبر الحربُ في عالم الحداثة، وطبقاً لنظرية كلاوسفيتز، أداةً من أدوات السياسة، أمّا في عالم ما بعد الحداثة فهي تُعتبر علامةً على الفشل السياسي. وبينما لا يشكّل أطراف ما بعد الحداثة خطراً على بعضهم البعض، نجد أن مجموعتي الحداثة وما بعد الحداثة كليْهما، تشكّلان تهديداً، كلٌّ منهما تِجاه الأخرى. إن التهديدات التي تمثّلها مجموعة الحداثة هي الأكثر شيوعاً، إذ نجد أن المنظومة الكلاسيكية للدولة، والتي غادرها عالم ما بعد الحداثة منذ فترة قصيرة فقط، باقيةٌ كما هي، ومستمرةٌ في التصرف طبقاً لمبادئ الإمبراطوريات وإعلاءِ المصلحة القومية فوق كلِّ الاعتبارات. وسيأتي الاستقرار، إذا ما أريدَ له أن يتحقق، عن طريق التوازن بين القوى ذات النزعات العدوانية. يُلفت النظرَ كَمْ هي قليلةٌ مناطق العالم التي يوجد بها مثلُ هذا التوازن، وكَم هي كبيرةٌ مخاطرُ احتمال دخول العنصر النووي إلى المعادلة في بعض المناطق قريباً. إن التحدّي الذي يواجه عالمَ ما بعد الحداثة هو تقبُّل فكرة المعايير المزدوجة؛ أن نتعامل فيما بيننا على أسسٍ من القانون والأمنِ المنفتح والتعاوني، وأن نعود في تعاملنا مع الأنواع القديمة من الدول التي تقع خارج أوروبا ما بعد الحداثة إلى طرق العصور السابقة الأكثر خشونة. سيتعيّن علينا أن نعود إلى استخدام القوة والهجوم الاستباقي والخداع وكلِّ ما هو ضروري للتعامل مع أولئك الذين لا يزالون يعيشون في عالم القرن التاسع عشر حين كانت كلّ دولةٍ معنيّةً بذاتها فقط. سنحترم القانون في التعامل فيما بيننا، أما حين نعمل في الغابة فسيتعيّن علينا أن نستعمل قوانين الغابة. لقد أغرانا طول زمن السّلم في أوروبا بعدم الاهتمام بدفاعاتنا، المادية منها والمعنوية، وهذا يمثّل واحداً من المخاطر الكبرى التي تواجه دول ما بعد الحداثة.

الجزء الرابع

يخلص روبرت كوبر في هذا الجزءِ ما قبل الأخير من ترجمتِنا إلى ضرورة ظهورِ ’نوعٍ جديدٍ‘ من الاستعمار؛ نوعٍ يكون ’مقبولاً لدى عالم مبادئ حقوق الإنسان والقِيم العالمية‘. والحقيقةُ هي أن استعمارَ القرن الحادي والعشرين، في منطلقاتِه ونتائجِه، هو نفس استعمارِ القرن التاسع عشر. الذّرائعُ والأدواتُ فقط هي التي تختلف. ولهذه الذرائعِ ـ للأسف ـ أصداؤها والمروِّجون لها بلغتِنا وفي أوساط ’مثقفينا‘ وفضائيّاتنا وأرضيّاتنا وأوراقنا.

الجزء الرابع من الترجمة:

أما الخطر الذي يمثّله عالم ما قبل الحداثة فهو خطرٌ جديد. عالمُ ما قبل الحداثة هو عالم الدول الفاشلة، حيث تعجز الدولة عن الوفاء بمعايير (فيبر) التي تقضي باحتكار الدولة للاستخدامِ الشرعي للقوّة. الدولة في هذه الحالة إمّا فاقدةٌ للشرعية أو فاقدةٌ للتفرّد باستخدام القوة. وفقدان الشرعية وفقدان التفرّد باستخدام القوة كثيراً ما يكونان متلازمين.  الأمثلة على الانهيار الكامل قليلةٌ نسبيّاً، ولكن عدد الدول التي تقع في دائرة خطر الفشل في ازديادٍ مستمر. بعض مناطق الاتحاد السوفييتي السابقة مرشّحةٌ لهذا المصير، وهذا يشمل الشيشان. جميع مناطق إنتاج المخدّرات تمثّل جزءاً من عالم ما قبل الحداثة. لم تكن في أفغانستان حتى عهدٍ قريب سلطةٌ ذاتُ سيادة، وكذلك هو الحال في دواخل بورما وفي أجزاء من أمريكا الجنوبية حيث يهدّد أمراء المخدرات تفرّد الدولة باستخدام القوة. توجد بلدانٌ في جميع أنحاء إفريقيا مهدّدة بهذا المصير، ولا تخلو منطقةٌ من العالم من هذه المخاطر. الفوضى في تلك المناطق هي الأمر الاعتيادي والحرب جزءٌ من نمط الحياة فيها. والحكومات في تلك المناطق ـ إن وُجدت حكوماتٌ ـ تعمل بطريقة مشابهةٍ لطرق عمل جماعات الجريمة المنظّمة.

 قد تكون دولةُ ما بعد الحداثة أضعفَ من أن تؤمِّن أراضيها، وهي أبعدُ ما تكون عن تشكيلِ تهديدٍ للغير، إلاّ أنها من الممكن أن توفّر قواعدَ لجماعاتٍ غيرِ تابعةٍ لأيّ دولة قد تمثّل تهديداً لعالم ما بعد الحداثة. وإذا ما لجأت هذه الجماعات،  وخاصةً منها جماعات المخدّرات أو الجريمة أو الإرهاب، إلى استخدام قواعدَ [في مناطق] ما قبل الحداثة للهجوم على المناطق الأكثرِ استقراراً من العالم، فإن الدول المستقرّة قد تُضطرّ في النهاية إلى الرّد. وإذا ما أصبح خطرُ هذه الجماعات أكبرَ من أن يُحتمل، فسيكون من السهل تصوّرُ ظهور استعمارٍ دفاعي. وليس من المبالغة النظرُ إلى ردِّ الغرب على أفغانستان من هذه الزاوية. 

كيف نتعامل مع فوضى ما قبل الحداثة؟ إن الانجرارَ إلى مناطق الفوضى أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، فالتّدخّلُ إذا ما طال أمدُه لن يكون مقبولاً لدى الرأي العام، وإذا ما كان غيرَ ناجحٍ فإنه سيأتي بالضّرر على الحكومةِ التي أمرت به. ولكن ترك بلدانٍ متفسِّخةٍ وشأنها، كما فعل الغربُ بالنسبة لأفغانستان، قد يحمل مخاطرَ أكبر. 

ما الشكل الذي ينبغي أن يأخذه التدخّل؟ إن أكثر أشكال التعامل مع الفوضى بداهةً هو الشكل المعهودُ في الماضي، ألا وهو الاستعمار. غيرَ أن الاستعمارَ أصبح غيرَ مقبولٍ لدى دولِ ما بعد الحداثة (ويتصادف أن هذا هو الحالُ أيضاً لدى بعضِ دول الحداثة). إنّ انقضاء عهد الإمبريالية هو ذاته السبب في ظهورِ عالم ما قبل الحداثة. لقد أصبحت الإمبراطوريات والإمبريالية من الكلمات المُشينة في عالم ما بعد الحداثة. لم تعُد هناك في عالم ما بعد الحداثة اليوم قوىً استعمارية تقبل القيام بهذا الدور، بالرغم من أن الفرص، وربّما حتى الحاجة، متاحةٌ الآن بنفس الدرجة التي كانت عليها في القرن التاسع عشر. يواجه الذين لم يلتحقوا بالاقتصاد العالمي خطرَ الوقوع في دائرةٍ مفرغة. إن الحكومة الضعيفة تعني الفوضى، ممّا يعني تناقص الاستثمارات. لقد كان معدّل إجماليِّ الناتج القومي للفرد في كوريا الجنوبية سنة 1950 أقلَّ منه في زامبيا، وأصبحت إحداهما جزءاً من الاقتصاد العالمي في حين فشلت الثانية. 

إن جميع شروط الإمبريالية متوفّرة، ولكنّ العرض والطلبَ، كليهما، قد نضبا. ولا يزال الضعيف، رغم ذلك في حاجةٍ إلى القوِيّ، والقوِيُّ في حاجةٍ إلى عالمٍ مستقرٍّ؛ يقوم فيه ذوو الكفاءةِ العالية والحكمِ الرشيد بتصديرِ الاستقرارِ والحرية، ومنفتحٍ للاستثمار والنّموِّ ـ وجميعُها أشياءٌ مرغوبٌ فيها. 

إن ما نحتاجه اليوم إذن هو نوعٌ جديدٌ من الإمبريالية يكون مقبولاً لدى عالَم حقوق الإنسان والقِيَم العالمية. باستطاعتِنا منذ الآن تبيّنُ معالمه، فهو مثل أيِّ إمبريالية أخرى، يهدف إلى تحقيق الاستقرارِ والنظام، ولكنه اليوم يستند إلى مبدأ التطوّع.  

الجزء الخامس والأخير

حين نصل إلى الجزء الأخير من ترجمتنا لمقال روبرت كوبر، نجد الكاتب يتحدّث عن شكليْن لإمبريالية ما بعد الحداثة. الإمبريالية الجديدة في أحد هذين الشكليْن هي إمبريالية الاقتصاد العالمي، وأدواتُها المؤسساتُ الدولية مثل صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي. طريق الدول إلى الاستثمار والازدهار تحت هذا الشكل من شكليْ الإمبريالية الجديدة يستوجب الرضوخَ لتدخّل المنظمات الدولية والدول الأجنبية.

أمّا الشكل الثاني للإمبريالية الجديدة فهو ما يسمّيه الكاتب ’إمبريالية الجيران‘، حيث يتم استخدام القوةِ وأدواتِ التدخل الدولي على النحو الذي تحوّلت به البوسنة وكوسوفو إلى محميّتين أوروبيتين. المبرّر هنا هو التهديد الذي قد يمثّله الوضع الداخلي لبلدٍ ما على جيرانه. ويذهب السيد كوبر بعيداً حين يرى أن العالم بأسره قد أصبح في هذا العصر جاراً محتملا!

وفي الجزء الأخير من المقالة يعرض الكاتب خصائص إمبراطورية ما بعد الحداثة، متمثِّلةً في الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بالإمبراطورية التعاونية.

الجزء الخامس من الترجمة:

إمبريالية ما بعد الحداثة لها شكلان. توجد أولاً إمبرياليةُ الاقتصاد العالمي الطوعية، المسيَّرةُ عادةً من قِبل ائتلافٍ عالمي عن طريق مؤسساتٍ ماليّة مثل صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ـ وهي مؤسساتٌ متعدِّدة الأطراف، كما هي سِمةُ الإمبرياليّة الجديدة. تقوم هذه المؤسسات بتقديم المساعدة إلى الدّول التي ترغب في العودة إلى الاقتصاد العالمي وإلى دائرة الاستثمار والازدهار الفاضلة. ولهذه المؤسسات في المقابل طلباتٌ تأمل أن تُعالج بها عناصرَ الفشل الاقتصادي والسياسي التي ساهمت في ظهور الحاجة إلى المساعدة أصلاً. وتؤكّد نظرية المساعدات الآن على نظرية الحكم، فإذا ما أرادت دولةٌ ما أن تستفيد، سيكون عليها أن تقبَل تدخّلَ المنظمات الدولية والدول الأجنبية (تماماً مثلما انفتحت دول ما بعد الحداثة، وإن كان ذلك لأسبابٍ مختلفة).

الشكل الثاني من إمبريالية ما بعد الحداثة يمكن تسميته إمبريالية الجيران. يثير عدم الاستقرار في منطقةٍ ما تهديداتٍ لا يمكن لأيّ دولةٍ أن تتجاهلها. لقد أثار سوءُ الحكم والعنفُ العرقيّ والجريمةُ في منطقة البلقان تهديداتٍ لأوروبا، وكان الرّدُّ على تلك التهديدات بأن أُنشئت ما يشبه المحميّتين الطّوعيّتين، تابعتين للأمم المتحدة، في البوسنة وكوسوفو، ولا يثير الدهشةَ هنا أن كان المندوب السامي في الحالتين أوروبيّاً. أوروبا هي التي تقدّم للبوسنة وكوسوفو معظمَ المساعدات الضرورية ومعظمَ الجنود (رغم أن الوجود الأمريكي لا غنىً عنه كعامل استقرار). وفي خطوة إضافية لا سابقةَ لها، عرض الاتحادُ الأوروبي على جميع دول يوغوسلافيا السابقة الدخولَ الحرَّ إلى السوق لجميع منتجاتها بما فيها معظم المنتجات الزراعية. لا يقتصر دور المجتمع الدولي على توفير الجنود، بل يتعدّاه إلى توفير الشرطة والقضاة وضباط السجون والمصرفيين المركزيين وآخرين، كما تقوم منظمة التعاون والأمن في أوروبا (OECD) بتنظيم ومراقبة الانتخابات، وتقوم الأمم المتحدة بتدريب وتمويل الشرطة المحلية، إضافةً إلى المساعدة التي تقدّمها أكثرُ من مائة منظمة غيرِ حكومية.

ويوجد اعتبارٌ آخرُ يجب توضيحه، وهو أن استيلاءَ الجريمة المنظمة أو غيرِ المنظَّمة، بشكلٍ أو بآخر، على دولة ما سيمثّل خطراً على جيرانها، وهذا الاستيلاء هو ما يعنيه سقوط الدولة. لقد أقام أسامة بن لادن الدليل، لمن لم يكونوا قد أدركوا بعد، على أن العالم بأسره في هذا العصر قد أصبح جاراً محتمَلاً في أقلّ تقدير.

تُعتبر منطقة البلقان حالةً خاصة، ففي أنحاءَ أخرى من أوروبا يعمل الاتحادُ الأوروبي على تنفيذ برنامج سيؤدّي في النهاية إلى توسيعٍ ضخمٍ للاتحاد. لقد فرضت الإمبراطوريات في الماضي قوانينَها ونُظمَ الحكم فرضاً، أمّا هنا فإننا لا نجد أحداً يفرض شيئاً على أحد، بل نجد توجّهاتٍ طوعيةً للالتزام الذاتي. عليك أن تقبل خلال فترةِ الترشح ما يُقدّم إليك (كمية هائلة من القوانين واللوائح التي كان على الدول في مراحل ترشّحها أن تقبل بها)، وذلك في سبيل الظفَرِ بجائزة الدخول الذي تعطيك صوتاً داخل الاتحاد. وإذا ما كانت هذه العملية تمثّل إمبريالية طوعية، فإن الدولية التي تنشأ نتيجةً لها يمكن وصفُها بالإمبراطورية التعاونية. وقد يكون اسم الكومنولث اسماً مناسباً لها.

يقدّم اتحادُ ’ما بعد الحداثة‘ الأوروبي رؤيةً للإمبراطورية التعاونية وللحرية المشتركة والأمن المشترك، من دون سيطرة عرقية أو مركزية مطلقةٍ مثل التي طبعت الإمبراطوريات في الماضي، وكذلك من دون تفرّدٍ عرقيٍّ طبع الدولة القومية. لم يعُد التفرّد العرقيُ مناسباً في عصرٍ اختفت فيه الحدود، وهو غيرُ عمليٍّ في مناطق مثل البلقان. قد تكون الإمبراطورية التعاونية هي الإطارُ السياسي الداخليُّ الأكثرُ ملاءمةً للتغيّرات الجوهرية التي تنطوي عليها دولة ما بعد الحداثة، بصفتها إطاراً يكون فيه للجميع نصيبٌ في الحكم، ولا تنفرد فيه دولةٌ بعينها بالسيطرة، وتسودُها المبادئ القانونية لا العرقية. سيكون المركز فيها ضعيفَ التأثير، والبيروقراطيةُ المركزية بالضرورة تحت المراقبة والمحاسبة بصفتها خادم الاتحاد لا سيّدَه. يجب أن تكرِّس مثل هذه المؤسسة نفسَها للعنصرين المكوِّنين لها وهما الحرية والديمقراطية. وسيقدّم هذا الاتحاد لمواطنيه ـ مثلما كان الحال بالنسبة لروما ـ بعضَ القوانين والقطعَ لنقدية، والطرقَ مِن آنٍ لآخر.

نظرتان متقابلتان: امبريالية متغولة وانسانية بديلة!(6)

 ماركس وانغيلز، ماذا كانا سيقولان عن غول الامبريالية الحديثة

مجتمعات ما بعد الرأسمالية الامبريالية الشاملة تسير وفق عملية التغيير المحتم نحو كيف جديد، هو نوع ارقى في انسانيته من وحشية الحداثة الامبريالية. 

اي نظرية مهما كانت قيمتها العلمية ومهما خلصت الى استنتاجات خطيرة او تصورات تحمل من الجدة والحداثة ما يدهش، وما يقنع وفق منطوق منطقي وواقعي، تبقى مع كل هذه الخصائص بناء افتراضي يقبل الشطط، والشطح، والخطل كما يقبل الصحة، والمطابقة، وهنا نستثني بحدود معينة نظريات علوم الطبيعة، كالفيزياء والكيمياء والاحياء والفلك، والطب، والعلوم الصرفة في الحساب كالرياضيات، والمجردات والهندسة، لانها تعتمد التجريب والبرهنة المختبرية، والتنفيذ الاستدلالي، وبعضها يستند الى التعليل والتفسير المثبت في يقينيات مجموعة ظواهر متطابقة، وفق ميكانزم يتمتع بثبات نسبي يتقاطع مع هذا الشكل او ذاك من البديهيات المعروفة لحركة المادة بمعناها الشامل، الميكانيكية، والفيزيائية بكل تفرعاتها، والكيميائية والبيولوجية، ويعتمد على نواميسها المتراكمة.

وهذه العلوم ونظرياتها ايضا ليست بمعزل عن التجديد والتطور بل والتجاوز احيانا لانها في مرحلة ما من مراحل تطورها قد لا تلبي متطلبات معطيات جديدة لم تكن في حسبان معطياتها القديمة، وعليه فهي ايضا خاضعة لقوانين التحدي والاستجابة والكم والكيف المؤدي الى القفز النوعي، ونفي النفي في اي عملية تجاوز جديدة ومتحققة. واذا كانت هذه حالة العلوم الطبيعة والصرفة، فكيف ستكون حالة العلوم الانسانية او العلوم الاجتماعية التي تعالج حركة دائبة من التراكيب والتفاسير والتحاليل والفرضيات والنظريات التي تحتكم للصدفة حينا والضرورة احيانا، وهي بذلك تكون اعقد واكثر شمولية من كل معالجات المادة الخام بمعانيها الواسعة وحركاتها المرهونة بوجودها. فالحركة الاجتماعية تفترض موضوعيا وجود قائم للمجتمع، وفي كل علوم طاحونته تصب كل مصابات العلوم الاخرى، وكذلك قوانينها التي هي جدل مستمر بتغيره وتطوره وبنسبيته المطلقة، واطلاقيته النسبية، كلما تجلت وتفاعلت صيرورتها مع نسيج نظريات وفرضيات وتعميمات العلوم الاجتماعية ومناهجها المعرفية والبحثية؟

"تبقى النظرية رمادية، وشجرة الحياة خضراء"

مقطع شعري شهير يلخص بعض ما نريد قوله هنا، فالنظريات او الافكار الاجتماعية، فلسفية كانت او عقائدية او وضعية او ايديولوجية، يمنية او يسارية، محافظة او ليبرالية، او خليطة، حسية كانت في ذاتيتها او تأملية في موضوعها، كلها ومهما تنوعت اجناسها او مجالات تخصصها العلمي في، الاقتصاد او السياسة او التاريخ او اللغات او الفلسفة، او القانون، فهي اكثر عرضة للتحول والتغير لانه لا ثبات في ظل الحركة واذا كانت العلوم الصرفة لها ثبوت نسبي في سياقات الحركة العامة فان العلوم الاجتماعية ونظرياتها في حركة دائبة هي ارقى بكيفها وكمها من الاشكال السابقة لها بل هي تحتويها جميعا احتواء التفاعل وليس التماثل، واي تحجر فكري او نظري او فلسفي او اقتصادي او او هو موت سريري يجعل من الفكرة مهما بلغت في شبابها من تاثير فانها تصلح للتحنيط المتحفي عندما تشيخ وتجتر ماضيها دون تجاوزه، ومن هنا فان الحياة وقوانينها التي نعرفها ولا نعرفها هي سائرة بمعزل عن الارادوية وما نفعله نحن هو محاولة اللحاق بها لتفسيرها والعمل بما يجعلنا نستفيد من هذا التفسير لتفادي ماهو مضر بوجودنا والاستفادة من المعرفة لصالح وجودنا ذاته، ويمكن ان تكون المعرفة العلمية طريق للتغيير النسبي وعلى اصعدة الحياة المعروفة.

خلفيات نظرية

لمالتوس نظرية تقول: ان الحروب ضرورة موضوعية لتحقيق التوازن في معدلات الزيادة المضاعفة لاعداد البشر!

اي ان القتل وفناء الاخر امر مطلوب لاستمرار حياة المتبقين، وهنا تبرز مدلولات وتأويلات تدور بفلك هذه المقولة الافتراضية، التي يمكن ان يكون لها ما يبررها في معرض دراستها لتاريخ الصراعات البشرية والاجتماعية البربرية منها والمتمدنة، والتوسع في جذورها قد يمتد الى نظرية تشارلز داروين في اصل الانواع، وادوار النشوء والتطور والانتخاب الطبيعي، والبقاء للاصلح والاقوى،

والتي تمتد بدورها الى درنات في جذور للفكر القديم، البابلي والاشوري والفرعوني والاغريقي،

ويتلاحق مع الفكر الوسيط الذي فيه مباحث مبثوثة هنا وهناك عن فكر تطور النشوء، ففي رسائل اخوان الصفا مثلا ترد الكثير من المفاهيم العامة والاولية عن فلسفة وفكر النشوء والتطور التي وردت في النظريات الحديثة ومن ابرزها نظرية اصل الانواع، فقد توصلوا الى معرفة العوامل التي تشكل خامات قاعدية لمفردات علوم الاحياء والبيولوجيا الحديثة، كالوراثة، والانقلاب الوراثي، الذي يصطلح عليه اليوم بالطفرة الوراثية، والانتكاسة الوراثية، والانتخاب الطبيعي، والانقراض!

كانت الحلقة المفقودة في ترابط سلسلة اشكال التطور عند الانسان في نظرية النشوء الداروينية، قد تم تجاوزها، لان منطوق النظرية يجمل بحثا جذريا بطريقة علمية ناضجة يجعل اعتمادها امر بديهي برغم ضعف ادواتها المستخدمة في مجالات البحث الاثاري والاركيولوجي والانثوغرافي التي لم تكن قد نضجت علومها ومباحثها بعد، والحقيقة ان هناك الكثير من الحلقات المفقودة عن البدايات الاولى للحياة على الارض لو تم الوصل لها ستكون اداة لحل مشاكل معرفية كثيرة وسبب لتفجر ثورات في مختلف فروع العلوم الاجتماعية بل سيكون لها اثر بليغ لاحقا على معتقدات وقيم فئات وطبقات وشرائح اغلب المجتمعات!

هذا الحال ينسحب على نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ونظرية التزحزح القاري في الجغرافية الطبيعية، ونظرية الانتشار الحضاري، ومقولة الغاية تبرر الوسيلة التي سطرها ميكافللي في نموذجه للامير المثالي، ونظرية المركزية الاوروبية، ونظرية فائض القيمة لكارل ماركس، ونظرية التعايش السلمي بين الانظمة الاجتماعية المتناقضة لفلاديمير لينين، ونظرية النسبية العامة والخاصة لاينشتاين، كما ينطبق على نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما.

متى ما انتقلت النظرية لمجال البرهنة والتطبيق وتم اختبارها عمليا، فهي اما تتحول الى يقين نسبي او فرضية محنطة او مؤجلة او فاشلة، وفي كل الاحوال فهي اجتهاد يثير التساؤلات المعرفية وهذا بحد ذاته عامل ايجابي، وقد يثير الشكوك وهذا ايضا فعل حميد فالشك شرط من شروط ودفوع البحث اي بحث، وكما يقول ديكارت انا اشك اذن انا موجود.

رغم ان نظريات العلوم الاجتماعية عامة والفلسفية خاصة اعقد من ان تؤخذ بهكذا تعميم، اي لا يمكن تبسيطها وتسطيحها وابتذالها، لانها اجتهادات فكرية واجتماعية مؤثرة تتداخل فيها معطيات عديدة وميول واتجاهات وعوامل مؤثرة ومساعدة ومعرقلة، وعليه سيكون لها دور في التعبئة والشحن والحث ثم الفعل والانفعال بها بواقع الصراع الاجتماعي القائم، وقد لا تكون حبيسة النخب ومقاعد الدراسة، وتحديدا النظريات السياسية ذات الابعاد الفكرية والفلسفية والاقتصادية التي يتم انتاجها لتأطير حركات اجتماعية وسياسية لتفعل فعلها الايديولوجي المؤثر سلبا او ايجابا على اوضاع المجتمعات واستقرارها وطبيعة نظمها.

لكل فعل رد فعل يساويه بالمقدار ويعاكسه بالاتجاه، الخطوط المتوازية لا تلتقي مهما امتدت، السالب ينفر السالب والموجب ينفر الموجب، هذه نماذج من المقولات الفيزيائية التي يشيع وصف تطبيقاتها على الكثير من مشاهد العلاقات الاجتماعية، وهي تطبيق ميكانيكي مبتذل، نعم هو تشبيه مجازي لكنه لا يميز بين فيزيائية القانون وبين تحوله الجدلي عندما يلامس التطبيقات الاجتماعية، فرد الفعل في العلاقات الاجتماعية قد لا يكون بالضرورة مساويا للفعل، والخطوط المختلفة والمتناقضة والمتصارعة قد تلتقي، وفي المجتمع شبيه الشيء منجذب اليه، في حين يكون العكس فيزيائيا، اي ليس من الصحيح دائما ان تكون مقولات العلوم الصرفة وبديهياتها متطابقة على مقولات ومشاهد العلاقات المجتمعية.

فلسفة التفسير وفلسفة التغيير

لقد نجحت الفلسفة الماركسية في تقديم وتسويق نفسها على انها فلسفة للتغيير، وهي بذلك تمتاز عن كل الفلسفات التي سبقتها والتي اقتصر مجال نشاطها الفلسفي على التفسير فقط!

والماركسية ذاتها مارست التفسير وهو امر لابد منه كي تتحول الى وضع شروط وفلسفة التغيير بعد ان تكون قد مارست عملية هضم وتمثيل لكل نواميس عمليات التطور وعللها والتي تم تفسيرها، اي ان التفسير والتغيير وجهان لعملة واحدة ولابد من وجودهما معا.

الماركسية كانت تتويج جدلي لمعطيات الفلسفة الكلاسيكية الالمانية والاقتصاد السياسي الانكليزي، وفكر الحركة الثورية الفرنسية، وهي بذلك مارست النقد التحليلي لكل مصادرها وافرزت منها ما يتفق وسياقات ذوات القائمين عليها، وهي اوروبية المصادر عالمية المعالجة، ومن مكوناتها الفلسفة المادية بشقيها الديالكتيكية والتاريخية، والاقتصاد السياسي للراسمالية، والحركة الاشتراكية العالمية.

ان قراءة اهم جزء بل بيت القصيد في كل الادب الماركسي وهو كتاب رأس المال، يثبت ان الماركسية كانت لا تقل ثورية في تفسيرها عن ثورية دعوتها التغييرية، التي مارستها وبنجاح منقطع النظير!

فالكتاب يفسر جوهر اسلوب الانتاج الرأسمالي، ويكتشف اهم قانون فاعل فيه قانون فائض القيمة التي تخلق اثناء عملية الانتاج بقوة العمل التي يتم استثمارها لخلق قيم جديدة مضاعفة المردود مقابل ما يعين اصحاب هذه القوة على مواصلة تجديدها.

مازالت الماركسية تحتفظ بالكثير من جوانب الحداثة فيها والكثير من جوانب الاتساق بين جوانحها وخاصة مقولاتها الفلسفية العامة في الديالكتيك والمادية التاريخية اضافة الى منهل راس المال، وهذه المفردات جميعا تؤهلها لان تكون جذر اساسي لتجاوز فلسفي وفكري جديد وقادم لا محال، ناهيك عن الخبرة العملية التي تجسدت في التجريبية الارادوية الثورية والمتضمنة لخلاصات مرحلة الديمقراطية البرجوازية، ومرحلة نهاية الراسمالية ذات المزاحمة الحرة، والتشكل الاولي للامبريالية الخاصة، وتجارب الامميات الثورية والبيان الشيوعي، والمساهمات النقدية لتجربة كومونة باريس، وحتى ما تلاها من اجتهاد لينيني على مستوى النظرية والتطبيق، والذي لون ما يقارب 75 عاما بلونه، منذ اسهاماته الفكرية والنظرية، في المادية ومذهب النقد التجريبي، الى الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية الى الدولة والثورة الى ما العمل، وثورة شباط 1917، ثم ثورة اكتوبر 1917 الى قيام الاتحاد السوفياتي، الى قيام كتلة المنظومة الاشتراكية كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية، حتى انهيارها وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه لتعود روسيا ادراجها لتستكمل ما انقطع من نمو للرأسمالية المحلية فيها كما عادت معها كل دول منظومتها الى حال سبيلها الرأسمالي!

ان اي تغيير ثوري لابد ان يسبقه تفسير ثوري، وفعلا كان التفسير المادي للتاريخ تفسيرا ثوريا يحقق اتساق التاريخ كجزء لا يتجزأ من حركة الكون العامة والتي ينسحب عليه جدلها انسحاب متغير وباستمرار بالتوازي مع حركته التي لا تنقطع والى امام دوما في الزمن المحسوب وغير المحسوب، وهذا التفسير الثوري اوجد نظريا على اقل تقدير فكرا تغييرا ثوريا كان راية للكثير من التجارب الثورية التي خاب الكثير منها واصاب في قليلها، ومن هنا تكون مهمة اعادة القراءة التفسيرية مأخوذة بالمعطيات العلمية والمعرفية المكتسبة، والتعمق بضوئها في فكر التغيير المطلوب، امر لا مناص منه لاي فلسفة او فكر لا يرضى لنفسه ان يكون هامشيا ومقصيا من مسيرة التاريخ والحياة.

الفكر اللينيني تفسير ارادوي وتغيير لا موضوعي!

لقد اجتهد لينين في التركيز على المستجدات التاريخية الحاصلة في التطور الافقي والعمودي لاشكال الراسمالية في زمنه، وكان لهذا التركيز دوافع ارادوية واضحة، لقد جال في تفكيره مبكرا حلم اقامة دولة بنمط جديد يكنس القيصيرية ويقيم على انقاضها دولة العمال والفلاحين، التي كانت تشكل حلما رومانسيا للكثير من الثوريين الروس ومنهم شقيق لينين الذي اعدم لنشاطه التآمري على الدولة القيصرية، لم تكن تلك المستجدات كافية لتضع مهمة قيام الثورة الاشتراكية في مقدمة المهام الثورية لحزب الطبقة العاملة الروسية، فهو يدرك ان شروط الثورة الاشتراكية ونجاحها لم تكن متوفرة في روسيا اذا اخذ بالماركسية كما جاء بها ماركس، فهو قد فسر المرحلة الامبريالية على انها اعلى مراحل الرأسمالية، وان تفاوت التطور بين البلدان الرأسمالية ذاتها يفجر تناقضات بينها تؤدي الى نشوب حروب عالمية طاحنة، وان حزب الطبقة العاملة عليه انتهاز الفرصة بضرب اضعف نقطة في السلسة الامبريالية، وقد شرح مفصلا مفردات الضعف في الحلقة الروسية، مبينا امكانية النجاح في اللعب على تناقضاتها مع المتحاربين معها للاطاحة بنظامها واقامة النظام الاشتراكي، وقد كان للالمان دور غير مباشر في تسهيل عودة لينين الى روسيا لقيادة التمرد الذي تحول الى ثورة عارمة، وكانت مصلحة الالمان تكمن في تحييد روسيا عن حلفها المحارب لالمانية في اثناء الحرب العالمية الاولى، وهذا ما حصل فعلا حيث انسحبت روسيا من الحرب، وعقدت معاهدة صلح بريست مع المانيا وفضحت معاهدات سايكس بيكو التي كانت روسيا القيصرية شاهدا عليها، اضافة الى ان لينين قد تحدث باسهاب نظري عن امكانية نجاح الثورة الاشتراكية في بلد واحد وهو يعد مخالفة للتعاليم الماركسية التي شددت على ان الثورة الاشتراكية هي ثورة عالمية في البلدان الرأسمالية المتطورة، ولها شروط ذاتية وموضوعية اهمها ان تكون الرأسمالية قد استنفذت شروط بقاءها وان البروليتاريا تكون جاهزة بالعدة والعدد لدفعها الى نهايتها الحتمية، وهنا كان لتروتسكي رؤية اخرى قد تردم هذه الفجوة حيث افتى بان الثورة يجب ان تستمر حتى وان اقتضى الامر الى تصديرها، ماذا والا فان الدول الرأسمالية ستتحالف ضدها وتتمكن من الانقضاض عليها، وعندها تصدى له لينين بفكرة التعايش السلمي بين الانظمة الاجتماعية المختلفة، وبضرورة اطلاق طاقات الجماهير للحفاظ على منجزها وهي تحقق المعجزات في ظل ديكتاتوريتها البروليتارية الصارمة!

لقد مهد لينين لفكرته المسبقة هذه بالكثير من التنظيرات والمواقف العملية، حيث ضخم من ملاحظاته على ثورة 1907، وبرز وبشكل مقصود ملاحظات ماركس الشخصية المتعاطفة مع ثورة كومونة باريس، وكذلك في انتقاداته الاذعة والمبالغ بها لاحزاب الاممية الثانية واعلن افلاسها، واتهامها بالانتهازية، ثم دعوته لقطع الطريق على البرجوازية التي قادت ثورة شباط 1917 وتحويلها الى ثورة اشتراكية كما حصل بعد مرور 9 اشهر من نجاحها، حيث قامت ثورة اكتوبر 1917 لقد تحول الاكثرية "البلاشفة" الى قوى استاثارية ازاحت الاحزاب الاخرى وانفردت بالسلطة تحت مبررات غير مبررة موضوعيا، ان البرجوازية الروسية لم تستكمل دورها ومداها، ولم تحقق ديمقراطيتها البرجوازية، مما ساعد ذلك على قيام نظام راسمالية الدولة البيروقراطية تحت اسم الدولة الاشتراكية، والتي كانت قد نجحت بالفعل في استنفار التاييد الشعبي لها في تحقيق منجزات تعد معجزات من القدرة البشرية على التحمل والجلد والانجاز، كانت الدولة ذاتها تحفر قبرها بيدها، لان الانتاج والابداع لا يمكن ان يستكملا دورهما الا في ظل منافسة السوق، فالدولة المالكة لا تستطيع تحقيق ذلك الشرط مهما طال عمرها الذي كلما طال كلما عانى من الترهل والجلطات المميتة!

هنا يكون طرح السؤال بصياغته الدقيقة جزء من الاجابة المعرفية المطلوبة لتقصي الحقيقة في هذه الجزئية، كيف يمكن لنظام اشتراكي ان يقوم ويدوم في ظل سيادة الرأسمالية عالميا وفي ظل عدم اكتمال شروط فناءها؟

نظرتان متقابلتان

نظرة محافظة ونظرة تنشد التغيير، نظرة تتمسك بازليتها وكمالها، ونظرة لا تقبل غير التحول وتنكر الثبوت، نظرة تؤمن بالتعدد والتكامل والاختلاف، ووحدة وصراع الاضداد، واخرى تؤمن بالقطب الاوحد والثقافة الواحدة والنموذج الاوحد، نظرة تعتبر الانسان بحد ذاته اثمن رأسمال، واخرى تعتبر الانسان بما يملكه من رأسمال، نظرة تعتبر الحرية في استيعاب الضرورة، واخرى تعتبر الحرية فرصة يهبها رأس المال، نظرة تعتبر الانسان امتداد متطور للطبيعة، واخرى تعتبر الانسان مجموعة قيم استعمالية وتبادلية، نظرة تريد حل التناقض بين الانتاج الاجتماعي والتملك الفردي لوسائل الانتاج، ونظرة تعمق فردية التملك الانتاجي وتعززه بقيود مضافة في نظم التبادل والاستعمال،

نظرة تبحث عن الحقوق والواجبات المتساوية، واخرى تبحث عن حقوق وواجبات دورة راس المال!

بين النظرتين هناك نظرات ونظريات تشط واخرى تعبث واخرى تحلم واخرى تنتقي واخرى تجرب!

الامبريالية الان ليست اعلى مراحل الرأسمالية، بل شكل من اشكالها المتعددة التي لم تستوفي بعد شروط موتها، فاذا كانت وقت لينين هي امبريالية خاصة تتجاذب تتزاحم بحرية مع قريناتها بالحرب والسلم فاليوم هي امبريالية شاملة تنشد احتكار العالم كله كسوق ترتبه كما تشاء، وعولمتها لا تعني مزيدا من التمدن الانساني، وانما مزيدا من التمدن الامبريالي المتغول!

الطاقة اوكسجين حياتها، النفط والغاز، بعد ان انقرض الفحم وبعد ان عطلت بحوثها عن الطاقة البديلة، انها تبحث عن الكلفة الرخيصة والربح المضاعف هي لا تشبع مطلقا كلما اصبحت ارقام ارباحها فلكية كلما تعمقت الازمات الفلكية، وكلما اصبحت تخمتها متضخمة كلما ازدادت المجاعات والامراض فلكيا!

مقاومة هذا التغول والتصدي له لصالح التعددية القطبية، وانسنة العولمة ليسود التوازن في حقوق ووجبات الجميع، هي اهداف نضالية يجدر السعي اليها بكل الوسائل الشريفة.

ان التكافل الاجتماعي وطنيا وامميا هو هدف انساني اخر، ومراعاة التوازن الطبيعي وتكريس الاموال والجهود للمزيد من المعرفة بالكون وبالمجاهيل امر يشير للتمدن الحقيقي.

هذا كله لا يتحقق الا بتحالفات قوية بين السواد الاعظم من المنتجين والمثقفين في كل ارجاء المعمورة .

بين الفقراء والمستضعفين بين المنتجين الصغار بين السياسيين المؤمنين بحق الجميع بالحياة الحرة الكريمة، بنبذ الحروب والقتل والابادة التي تسببها المنافسات على الثروة والسطوة.

تحالف تقوده كتلة تاريخية من الطلائع النشطة في كل المجالات ومن السواد الاعظم من الطبقات العمال والفلاحين والمثقفين والمنتجين المحليين.

تحالف بين اليسار وحركات الخضر والاشتراكيين الديمقراطيين والحركات الانسانية والحقوقية والاحزاب الوطنية التي تتنادى لحماية منتجيها المحليين من غول عولمة الاحتكار والتيارات الدينية التي تنشد العدل والتاخي.

مزيد من الرفاه في مجتمعات الراسمالية المتطورة، ومزيد من التحسين والتطوير الحر والتمتع بريع الثروات الوطنية في البلدان النامية، ومزيد من الرعاية والمساعدة على ايجاد حلول جذرية لمشاكل الفقر والتصحر ونقص المياه والامراض المزمنة والامية وانعدام نظام الرعاية الاجتماعية في البلدان الفقيرة.

مقاومة سباق التسلح واستخدام القوة في حل النزاعات ومقاومة العدوان واغتصاب حقوق الاخرين، ان تحالفا متينا يمكن ان يقوم بين كل حركات الشعوب المتطلعة للحرية والاستقلال والمؤمنين بعدالة قضاياها، وهذا ما يحصل اليوم في ولادة اكبر تجمعات مليونية من المحتجين والمستائين وحول العالم بالضد من سياسات الهيمنة الامريكية وضد الشروط القاسية للمنظمات الاقتصادية العالمية.

وماحصل من تضامن اممي مع شعب العراق اثناء الحرب الامريكية عليه لهو اكبر دليل على ان مشاكل شعوب الشرق والغرب لها وجه واحد في صراعها المتنوع ضد الاحتكار والاستغلال والهيمنة.

ما بعد الماركسية ما قبل المجتمعات الذكية

ديكتاتورية البروليتاريا ونظرية الثورة الاشتراكية، مكونان هامان للنظرية الماركسية تعطلت بهما السبل وتيبست حتى تقشرت وتساقطت من على بشرة الجسد النظري للماركسية، وذلك بعد محطات ومراحل ومطبات عاشتها على صعيدي النظرية والتطبيق، ومن هنا فان الحياة وخبرتها تتجاوز اي مقاييس مهما بدت وكأنها دوغماتية، اونصوص جامدة، تعامل معها الكثير من المثقفين والحركات الشيوعية على انها مقدسة.

مثلما تجاوز ماركس ورفيقه انجلز، فيورباخ، وهيغل، وادم سمث، ودافيد ريكاردو، وبرودون، وسان سيمون وغيرهم، واخذوا عنهم ما يصلح معرفيا ومنطقيا ونبذوا الزبد من عطاياهم الابداعية، بعد غربال من التجربة المعرفية ذاتها فان هذا الديدن ذاته سيجعل من الماركسية مادة جديدة لغربال جديد ينبذ منها ما شاخ اومات من معارفها لانتهاء مدة صلاحيته ويوصل الصالح للاستعمال المعرفي بالجديد الصالح من المعارف، نافيا بذلك نفيها بل تحولها الى شيء اخر غير الماركسية.

قد لا تكون موضوعة تجاوز الماركسية من داخلها او خارجها امر ذا مغزى حاسم طالما يتعلق الامر بالمعرفة كونها غير مقيدة او حكر على صنف من الناس دون غيرهم او صنف من المعرفة دون غيرها، واعتقد شخصيا ان هناك تجاوز من كلا الجانبين اي من داخلها ومن خارجها، لان عملية التجاوز المعرفي هي عملية تفاعل ديالكتيكي ليس لها حدود وهمية! من هنا كانت اسهامات غرامشي وغارودي، في محاولاتهم للخروج على النص، وعملهم للبحث عن الحقيقة بمنهج غير مؤدلج،

بمنهج يحتوي المناهج ويستخدمها بكل الادوات المتاحة في وسائل البحث، ومن اجل الحقيقة يباح مالا تبيحه الاصنام الثورية لرعاياها، لا بأس بالتجريبية، لا بأس بالشكية، لا بأس بالبنيوية، لابأس بالروحانية، لا بأس بالتاملية، والحسية، بالتركيبية والتحليلية والاستقرائية، والاستنباطية، لا باس باي اداة قد تساعد على نضج المعرفة، اجتهاد وجيه وخلاصة ناضجة ان تكون الكتلة التاريخية بديلة لفكرة ديكتاتورية البروليتاريا، وان يكون منعطف الاشتراكية الكبير، مساهمة مبكرة في تقصي الحقائق، وكان غرامشي مدققا بالينابيع الصافية للافكار من مصادرها وليس في تأويلاتها المغرضة، واخذ يلمح الى التجاوز المعرفي القادم، موجها جل نقده للسياسات الثقافية ذات البعد الواحد، التي تخصي البحوث المعرفية وتجعل من العقول المبدعة خيول ملجمة تفقدها بريتها وفطرتها وجموحها لصالح قواعد وسباقات تصنعها الا معرفة، والتي غالبا ما تقود الى الانحطاط.

وعلى الجانب الاخر فكر يمجد الراسمالية وخصال حرياتها الفردية، ويزهو بها، بل يعبدها كونها اخر ما توصلت الية البشرية ونهاية مطافها، وبين هذا وذاك ليبراليون من نمط تقليدي يسايرون المراكب مادامت لا تقف عند حواف جزر القراصنة ويدعونها للانفلات مع الريح الا حيث ترسي!

وليبراليون جدد محافظون يتوهمون انهم من سلالة الرب ارسلهم ليحكموا بامره ماداموا هم الاصلح للبقاء!

التاريخ عندهم يتوقف لما هم عليه وما هم عليه ضريبة يجب ان يتبعها كل الرعاع، هكذا تكلم فوكوياما وكل مفكري واكاديميي النزعة المركزية الامريكية، التي حلت باقتدار منفلت محل نزعة المركزية الاوروبية.

ان مجتمعات ما بعد الراسمالية الامبريالية الشاملة، تسير وفق عملية التغيير المحتم نحو كيف جديد، هو نوع ارقى في انسانيته من وحشية الحداثة الامبريالية، ذات الغباء المزدوج، لانها تعتقد بهزيمة العقل المعرفي الجماعي، ولانها، لا تؤمن بالانسان كاثمن راس مال في كل هذا الوجود، وانما الانسان عندها مجرد وسيلة وليس غاية، اما في المجتمعات المتحولة الى الانسانية الذكية، فهي هدف بعيد عن الطوباوية، والرومانسية الثورية، انه حلقة تطورية تفضي اليها مطبات المعمعة الامبريالية باعلى درجات ذروتها، وهي اقرب للتحقق من اي وقت مضى.

نجد هناك تعبئة ذاتية وموضوعية عند الاكثرية الساحقة من الاعمار الفاعلة في اوساط مختلف فئات وشرائح المجتمعات نحو هذه النزعة المتمدنة بروحها قبل تمدنها المادي الذي سهل عملية تسريع وصولها الى هكذا نمط من التفكير والسعي لتحقيقه.

مواجهات إمبريالية: الدين والحداثة في بريطانيا والهند(7) 

-اسم الكتاب: مواجهات إمبريالية: الدين والحداثة في بريطانيا والهند

-المؤلف: بيتر فان در فير

-عدد الصفحات: 287

-الطبعة: الأولى 2001

-الناشر: Princeton University Press 

يقدم هذا الكتاب مطالعة ثرية عن أثر الاستعمار البريطاني للهند في تشكيل بروز عناصر هوية ووعي ديني عند الهندوس والمسلمين في المنطقة إبان عقود الاستعمار الطويل، وكذلك أثر ذلك الاستعمار في تكون وعي "علماني" ديني داخل بريطانيا نفسها إزاء كيفية التعامل مع الأديان الأخرى غير المسيحية، لكن ذلك الوعي ظل منحازاً وتمييزياً حتى على مستوى القوانين والأنظمة.

لهذا فإن المؤلف بيتر فان در فير يقرر مفاجأة القراء عبر استخدام ما تبع رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية" من احتجاجات، ويعود ليقرأ التاريخ قراءة استرجاعية في ضوء "الاكتشافات" التي قادت إليها تلك الرواية.

تقديس للمسيحية

يقول المؤلف إن مسلمي بريطانيا اكتشفوا في خضم احتجاجاتهم عام 1988 على تلك الرواية أن القوانين القديمة المتعلقة بعدم المساس بالمقدسات والمعمول بها في بريطانيا تقتصر على حماية المسيحية دون سائر الأديان الأخرى في البلاد، إذ تنص هذه القوانين على أنه في الوقت الذي يعتبر فيه الحط من قدر السيد المسيح أو الإشارة إليه بصورة مسيئة جرما يحاكم صاحبه، فليس ثمة أي قانون يمنع من النيل من النبي محمد أو الانتقاص من قدره. ولما كانت بريطانيا تعتبر بلدا علمانيا فإن من المفروض ألا تفرق قوانينها بين دين وآخر وألا تحيط دينا معينا بحماية ورعاية أكثر من الأديان الأخرى الموجودة داخل حدودها.

مسلمون يطالبون بالعلمانية

ويقول الكتاب إن مسلمي بريطانيا قادوا حملة احتجاجية على التمييز القانوني الذي يتعرض له دينهم، فقد بادرت بعض الشخصيات المسلمة البارزة في المجتمع البريطاني بالكتابة إلى مسؤولي الحكومة مطالبة السلطات الرسمية بتوفير حماية للإسلام بالقدر نفسه الذي تتمتع به المسيحية. فردت الحكومة برفض مطالباتهم تلك وأشار وزير الداخلية في ذلك الوقت جون باتن في رده على تلك المطالبات بأنه يتوجب عليهم القبول بـ"الثقافة الوطنية المشتركة" التي تشمل "ديمقراطيتنا وقوانيننا واللغة الإنجليزية والتاريخ الذي شكل بريطانيا الحديثة". ويشير مؤلف الكتاب إلى أن ما أمسك باتن عن قوله صراحة ولكنه يُقرأ بين سطور رده هو أن على المسلمين البريطانيين القبول بالأخلاق المسيحية التي صبغت التاريخ البريطاني العام وكانت أساس إصدار قوانين المساس بالمقدسات. كما أحجم باتن عن الإقرار بالمفارقة التي برزت آنذاك وتمثلت باعتماد جماعة دينية على العلمانية للمطالبة بفرض قوانين جديدة في الوقت الذي وقفت فيه سلطة علمانية اسميا إلى جانب قانون مستمد من الدين.

يعتبر بيتر فان دير فير في كتابه هذا -وهو يحفز قارئه على التأمل والتفكير- قضية سلمان رشدي مثالا واضحا يسلط الضوء على نمط التفاعل القائم بين مجتمع غربي مهيمن سياسيا والتقاليد والأديان المختلفة التي يتعامل معها. وهو يرى أنه خلافا لهذه القضية فإن العديد من تلك التفاعلات المهمة لم تكن صدامية، بل إن المواجهات التي كان لها أثر أطول هي تلك التي تمخضت عن عقد صداقات وتحالفات وقيام التعاون في سياق ما اعتبر في حينه أهدافا منسجمة.

ويركز الكاتب بشدة على التفاعل الذي جرى في القرن التاسع عشر بين السلطات الكولونيالية البريطانية والمجتمع الهندي الذي كان واقعا تحت سيطرتها آنذاك. مع ذلك فإن كثيرا من الأفكار التي يطرحها عن تلك العلاقة يمكن تطبيقها على أوضاع كولونيالية أخرى وعلى حقبة ما بعد الكولونيالية كذلك.

تأثير متبادل

ولم تقتصر آثار المواجهات الكولونيالية على المجتمعات المستعمرة، بل كانت أصداؤها تُستشعر في ثقافات وأديان القوى الإمبريالية نفسها، وكانت الأراضي المستعمرة ساحة لحوارات واسعة وتكهنات واهتمام ببريطانيا، كما أن العديد من الأفكار المقبولة المتعلقة بالنظر إلى الاستعمار طبقت آنذاك عند التفكير في المجتمع البريطاني. وبينما يرى البعض أن الثقافة تنتج المركز المهيمن ويحاول بقية المجتمع دائما مواكبة وتقليد كل ما هو صادر هناك، فإن فان دير فير خصص حيزين متكافئين في كتابه لمناقشة أثر الهند في التفكير البريطاني من جهة، والتحولات التي طرأت على نمط الحياة الهندية تحت الحكم البريطاني من جهة أخرى.

يعالج الكتاب موضوعا هاما آخر متأثرا ولو جزئياً بالتجربة الكولونيالية البريطانية في شبه الجزيرة الهندية، وهو الكيفية التي أصبحت بها بريطانيا تنظر إلى نفسها على أنها مجتمع علماني، ودور الجماعات الدينية في تشكيل هذه النظرة الخاصة. ويتبين القارئ أن البريطانيين عندما تمكنوا من حكم أجزاء من الهند بأنفسهم وبشكل مباشر في أواخر القرن الثامن عشر عقدوا تحالفات مع النخب الهندية لأجل القضاء على آخر مظاهر القوة والثروة الإسلامية التي كانت لا تزال قائمة منذ أيام الإمبراطورية المغولية. ولكن ذلك أثار حفيظة الحركة البروتستانتية المتنامية في بريطانيا آنذاك والتي اعتبرت الهنود "عبدة أصنام" في حين أن المسلمين يدينون بديانة توحيدية كانت مفهومة ضمن الإطار المسيحي. وكما أحدثت قضية سلمان رشدي ضجة، فإن هذه الجماعة الدينية بدأت -ولو أنها أصابت نجاحا أكبر- تطالب السلطات الحاكمة بمعاملة الأديان المختلفة بشكل متساو. وبعد أن توطدت فكرة عدم منح أي جماعة دينية امتيازات خاصة مقابل جماعات أخرى تقدمت بريطانيا خطوة إلى الأمام بتبني هذه النظرة التي شكلت أساس التكوين العلماني للمجتمع البريطاني.

والمفارقة اللافتة التي يشير إليها فان دير فير هي أن الدين يحاول استخدام المقولات العلمانية في السجال مع السلطات العلمانية نفسها بهدف الحفاظ على ما يتمتع به من نفوذ ولكن بشكل غير مكشوف. ونجد في الهند مثلا أن الخوف من اندلاع اضطرابات حال دون الترويج والتبشير العلني بالمسيحية عبر النظام التدريسي. وعوضاً عن ذلك بُذلت جهود كبيرة لتدريس الأدب الإنجليزي على اعتبار أنه يشتمل على "الأخلاق المسيحية" التي يمكن للأجيال المتعلمة تشربها. ومثلما اضطر جون باتن إلى صياغة رده المتلون بالدين إلى تلك الشخصيات المسلمة وصبغه بصبغة عالمية وعلمانية، فإن القائمين على المناهج التعليمية في الفترة الكولونيالية في الهند كان عليهم نقل رؤيتهم الدينية للأجيال المتعلمة عن طريق تصاوير أدبية للحياة الأخلاقية.

تحول ديني

أما الجانب الآخر لبروز فكرة العلمانية عبر الجماعات الدينية فكان التحول الذي طرأ على الدين نفسه في الهند وبريطانيا عن طريق المواجهة بين الجانبين، فقد انتعشت الحركات البروتستانتية في بريطانيا عبر التركيز على الرأي الذي يقول إن من واجب المسيحية الانخراط في النشاطات التبشيرية في الخارج لإنقاذ البشر من الضلال. وأدى ذلك إلى بروز شكل من أشكال المسيحية المتطلعة نحو الخارج مما حمل الكنيسة على تكريس قدر مهم من اهتمامها نحو المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للعالم.

أما في الهند فإن المسلمين رأوا في المسيحية والاستعمار البريطاني تحدياً لا يقتصر على السيادة السياسية لبلدهم (الهند قبل انفصال باكستان) بل تحدياً للولاء الديني والروحي الذي كان يحمله المسلمون تجاه الدولة العثمانية والخليفة في إسطنبول. وقد كان "الصدام الثقافي" المزدوج للمسلمين مع البريطانيين المسيحيين من جهة ومع تنامي التطرف الهندوسي في النصف الأول من القرن العشرين وإبان انتهاء الاستعمار البريطاني، الإطار التاريخي الذي تولدت فيه هوية إسلامية منفصلة وذات أهداف سياسية تمثلت في المطالبة بالانفصال في ما بعد.

ويمكن القول وبكثير من الثقة إنه لولا التوتر الديني والاستفزاز الروحي الذي شكله الاستعمار البريطاني في الهند لبقي المسلمون يعيشون فيها إلى جانب الهندوس من دون تنامي النزعة الانفصالية وتكرس هوية إسلامية سياسية، فقد عاش المسلمون في الهند لقرون طويلة من دون أن يشعروا بأنهم أقلية رغم أنهم كانوا كذلك على الدوام من ناحية عددية. لكن النفوذ السياسي والنجاح الاقتصادي الذي كانوا يتمتعون به على الدوام وعلاقاتهم مع الخلافة المغولية أولاً ثم العثمانية لاحقاً، عمل على معادلة رجحان الكفة الديمغرافية لصالح الهندوس بما كفل توازناً شهدته الهند لقرون طويلة. وعلينا أن نذكر هنا أن مؤسس باكستان محمد علي جناح كان في مطلع حياته السياسية من أشد أعداء فكرة الانفصال عن الهند، بل كان قد انخرط في أحزاب وحركات سياسية علمانية هدفها تكريس الوحدة الهندوسية المسلمة. ولم تنم لديه فكرة الانفصال إلا بسبب تفاقم نزعة التطرف الهندوسي داخل حزب المؤتمر الذي كان علي جناح من أبرز قياداته المسلمة، رغم أن غاندي نفسه كان يحاول لجم تلك النزعة المتطرفة لكنها تجاوزته واغتالته هو نفسه في وقت لاحق.

وفي سياق أثر الحقبة الكولونيالية في تشكل الهندوسية نفسها فإن من الأمور المهمة التي يشير إليها المؤلف هو أن تكوين الهندوسية الحديثة في الهند يعود بصورة كبيرة إلى التفاعل الذي جرى في عقود الكولونيالية البريطانية. فبسبب جهود بعض الباحثين الذين قدموا إلى الهند في ظل الكولونيالية أمكن ترسيم الهندوسية كدين مكتوب وله مراجع.

وهنا فإن الباحث الألماني ماكس مولر الذي كان يقيم في بريطانيا كان هو من قام بجمع وترجمة الكتابات السنسكريتية القديمة التي أصبحت تؤلف بمجموعها النسخة الحديثة لما يعتبره الهندوس اليوم جوهر نصوصهم الدينية. وكانت الفكرة التي ألحت على مولر تنطلق من تصوره بأن أي دين ينبغي أن يكون له كتاب مقدس، وأن الهندوسية ليست حالة شاذة.

ختاماً يبقى القول إن هذا الكتاب يوفر قراءة هامة جداً لفهم أثر الاستعمار ليس فقط في تشكيل الكيانات السياسية التي نراها على خارطة العالم اليوم والتقسيمات العشوائية للشعوب والإثنيات والدول، بل وفي تشكيل الوعي الديني والإثني والصراعي بين مجموعات كل شعب وكل مجتمع على حدة.

الإهانة في عهد الميغا إمبريالية(8)

  -اسم الكتاب: الإهانة في عهد الميغا إمبريالية

-المؤلف: د. المهدي المنجرة

-عدد الصفحات: 270

-الطبعة: الثانية مايو/ أيار2004

-الناشر: مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء- المغرب

 

بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين ونهاية المعسكر الشيوعي دخل العالم مرحلة تاريخية جديدة وعصر ما يعرف بالمعرفة والتقنيات وحقبة القطب الوحيد أو القوة الوحيدة الممثلة في الولايات المتحدة الأميركية.

فأصبحت الإمبريالية لا تعني توسعا استعماريا للاستيلاء على مناطق لأسباب اقتصادية، ولم تعد تعتمد التدخل العسكري المباشر في تلك المناطق أو الوجود في عين المكان، بل إنها تعتمد من الوسائل الحديثة ما يكفل لها التحكم عن بعد في كل بلد حول العالم الذي تحول إلى عالم استخباراتي محض.

ودخلنا في ما سماها الدكتور المهدي المنجرة في كتابه "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" الحرب الحضارية الثانية وهي "حرب ضد كل ما هو عربي مسلم، وإذا شئنا فهي ضد كل ما هو غير يهودي مسيحي"، والحرب على العراق جزء منها.

أما حدث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فهو لا يغير في المسلسل المذكور شئيا، إذ كانت كل الأشياء معدة وفق عدة سيناريوهات للسيطرة على العالم، وأحسن طريقة في ذلك هو السيطرة على منطقة عربية مسلمة إستراتيجية من الناحية الجغرافية ولها مواد طبيعية مثل النفط.

الميغا إمبريالية

ويذهب عالم المستقبليات المنجرة إلى القول إن ما سيأتي إنما هو بعد استعماري جديد إذ "أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار.

فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق، حيث كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخرى ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها".

فتحولت بذلك الولايات الأميركية منذ 11 سبتمبر/ أيلول إلى قوة هيمنة عالمية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية وفي التطور الإنساني، لأن أميركا دولة لها قوة الهدم والتحطيم تقتل 50 أو 60 مرة مجموع السكان فوق الكرة الأرضية، وليس هناك أحد يمكنه التحكم فيها بما في ذلك الدول الأوروبية.

ففي السابق كانت هناك منافسة في الميدان الإمبريالي بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا التي كانت تتفاوض وتتقاسم العالم فيما بينهما، لكن الآن هناك استعمار واحد مسير من مكان بعيد والبقية تسمع وتطيع.

وقد ظهرت الميغا إمبريالية -أو إمبريالية مضاعفة ألف مرة- نتيجة تطور العلوم والتكنولوجيا الذي أتاحت وسائله الجديدة خصوصا الأقمار الصناعية وإنتاج البحث العلمي العسكري بالأساس الفرصة للسيطرة على العالم بشكل مضاعف آلاف المرات وحيث لم تبق نقطة فوق هذه الأرض لم تدخل في نفوذ هذه الإمبريالية.

من جهة أخرى فإن الميغا إمبريالية هي إهانة للشعوب العربية والإسلامية، فحينما ضربت متاحف ومكتبات بغداد كان فعلا مقصودا منه إهانة شعب وقتل ذاكرته. و"أخطر ما تصطدم به البشرية من جراء مذهب "بوش" هو سيطرة قيم تعتمد فقط على القوة العسكرية ولا تدع مجالا للتنوع" الثقافي والحضاري، وستكون النتيجة الفورية لهذا المذهب هي التدمير غير القابل للوصف والتقدير لما بقي من العراق وسيكون مئات الآلاف من الأبرياء ضحايا هجوم همجي سيستخدم ويجرب فيه أحدث الأسلحة المتطورة.

ويرى المنجرة أن الحرب على العراق ستستمر على الأقل 15 أو 20 سنة أخرى، وأنها جزء من "حرب صليبية ثامنة" ضد الإسلام تقودها الإمبريالية الجديدة أسفرت عن 10 ملايين قتيل في العالم العربي والإسلامي خلال عشر سنوات فقط، سبقتها ثماني حروب خلفت أقل من 100 ألف قتيل!

ويرجع السياسة الأميركية الجديدة هذه إلى عنصرين، الأول القوة التي تتمتع بها أميركا رغم أن شوكتها قد انهدت يوم 11 سبتمبر/ أيلول، والثاني هو سطوتها السيكولوجية النافذة على الحكومات العربية والإسلامية والغربية كذلك.

الخوفقراطية والإهانة

وقد برزت في عصر ما بعد الاستعمار الجديد الهيمنة الأميركية بشكل أكثر جلاء عند مساءلة نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة والركود الاقتصادي وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول وانطلاق سلسلة من الإجراءات العسكرية والسياسية والقانونية ذات بعد عالمي لمحاربة ما يسمى الإرهاب.

ووجهت الميغا إمبرالية "سلاحها للدمار الشامل" ضد الكرامة، إذ استغلت أميركا بعض الظروف ودخلت نفسيا في مرحلة خطيرة هي مرحلة الخوفقراطية. ودفعت الرؤية الغربية للعراق المبنية على الخوف من المد الحضاري الذي كان سيشكله هذا البلد كأساس حضاري للأمة العربية خاصة أنه يمتلك ثروات طبيعية هائلة، الغرب إلى ضرب العراق والقضاء على كل مقومات قوته ليكون عبرة للآخرين وتخويفا لهم حتى يبتعدوا عن كل ما يزعج الغرب.

بوادر هذا الخوف ظهرت مع أول إحصاء في العالم عن الإسلام قام به الفاتيكان سنة 1976 وأظهر أنه لأول مرة في تاريخ البشرية يفوق عدد المسلمين عدد الكاثوليك، لذلك بدأ الخوف من الإسلام وبدأت حرب إعلامية نفسية تمت من خلال توصيف مصطلح "إسلامي".

وأصبح هذا الخوف أحد أكبر حالات الهوس الذي يعيشه الغرب بسبب الجهل وغياب التواصل الثقافي والعجرفة التي تقود إلى إذلال الآخر وتغذي حربا حضارية منذ العام 1991. كما أن الاهتمام الاستخباراتي بالمعلومة كان له الأثر الواضح على الذات في تفكير الغرب -أميركا- وأدخل الخوف عليه في كل دقيقة.

وقد انتقل الخوف بعد ذلك إلى العرب واتخذه القادة وسيلة للحكم، وأصبح العالم العربي يعيش "الذلقراطية" في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية والانهيار الشامل لنماذج التنمية التي فرضتها المؤسسات الدولية وفي ظل الاستلاب الثقافي الذي يعد "الذل الأكثر خطرا على المستوى البعيد لأن الأمر يتعلق بعدوان على أنطمة القيم".

كما أن العالم العربي يعيش "الخوفقراطية" التي تتجلى في الخوف من التغيير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والنقابات والشباب والخوف من القوى الكبرى، إضافة إلى "التفقيرقراطية" الذي أصبح نظاما للتدبير والحكم أيضا، وأولوية "الجهلقراطية والكذبوقراطية والشيخوخقراطية".

 

هذه الوضعية سيطرت على الحكومات العربية والإسلامية وحالت بينها وبين تشكيل رؤية بعيدة المدى للانعتاق من هذه الوضعية التي يختزلها تاريخ العالم الثالث في السنوات الخمسين الأخيرة الذي هو حلقة متسلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة.

التغيير والإصلاح

تعرض العالم العربي الإسلامي لأكبر عدد من الإهانات الخارجية والداخلية، التي قضت على ما يناهز 10 ملايين شخص في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، هذه الإهانات التي طالت المعرفة والتراث الثقافي كما حصل في العراق مؤخرا، ستؤدي -في رأي المنجرة أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية- إلى زلازل متتالية ستهز العالم ككل وستدفعه إلى التغيير.

ويرى أن الوجود العسكري الأميركي في العراق سيسير على خطى نموذج احتلال اليابان عام 1945، وسيتم التحضير للهجوم على إيران وإعادة رسم خريطة العالم حيث ستصبح إسرائيل "شرطي" المنطقة العربية ومعنية بأنشطة بترولية متعددة مثل بناء وتدبير خط الأنابيب الجديد الموصل- غزة.

وقد تكون المملكة العربية السعودية أكبر خاسر في عملية التغيير بالمنطقة، كما أنه سيتم استبدال بعض الأنظمة الموالية لأميركا.

إلا أن الولايات المتحدة الأميركية مثل قوى غربية أخرى تخاف من عمليات الديمقراطية في العالم العربي، لأنها ستحدث حتما تغييرا جذريا في السياسات الخارجية للأنظمة الحالية. كما أنه لن يبقى كثير من الحكام العرب في السلطة أكثر من بضعة أشهر دون دعم أميركي أو غربي.

ويتوقع المنجرة أن هذه الإهانة لا يمكن أن يقبلها شعب لفترة طويلة لهذا ستندلع "انتفاضات" جديدة في العالم العربي الإسلامي، على شاكلة انتفاضة الأقصى، قد تكون عنيفة وستخلف ثمنا اجتماعيا وإنسانيا كبيرا.

كما أن النظام الدولي الذي تعرض لذل وإهانات أكثر مما تعرض له العالم العربي الإسلامي خلال السنوات الأخيرة عبر حرب صليبية تاسعة تستهدف الإسلام مباشرة وليس العراق أو رئيسه المخلوع، أصبح محدودا بعد العدوان على أفغانستان والعراق.

وبرهن هذا العدوان على أن الأمم المتحدة لم تعد لها مصداقية لدى الرأي العام الدولي وكذلك جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومؤتمر عدم الانحياز وبالتالي فإنها ستفقد ما بقي لها من مصداقية إن كانت لها أصلا.

والدرس الجديد الذي ستستخلصه الشعوب العربية الإسلامية من احتلال العراق إضافة إلى احتلال فلسطين هو أن التحرر لا يأتي أبدا من الخارج، والشيء الأكيد الآن أن العالم، ومهما تكن الطريقة التي سيعاد بها رسم خريطته، لن يبقى على ما هو عليه الآن، والولايات المتحدة الأميركية ستدخل فترة اندحار قد تدوم بين 15 و20 سنة على الأكثر.

ففي ديسمبر/ كانون الأول 1999 قال بيل كيلنتون الرئيس الأميركي السابق في برنامج (Sixty minutes) على قناة CBS "أنا أعلم أننا بعد عشر سنوات أو أكثر لن نبقى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، ستأتي الصين ثم الهند.. إلخ". وبالتالي يرى المنجرة أن مفهوم الميغا إمبريالية لن يدوم مدة طويلة وبعد 15 أو 20 سنة على الأكثر سنرى إمبراطورية أخرى.

إلا أن الخاسر الأكبر -كما يذهب إلى ذلك الكاتب المتأثر بمدرسة غاندي- سيكون هو الحضارة الإنسانية التي عجزت رغم تقدمها في كل مجالات العلوم والمعرفة عن تسخير هذه التطورات للدفاع عن الكرامة وخدمة السلم.

وفي العالم العربي والإسلامي لن يكون هناك تحرك نحو التغيير إلا قبل جيلين أي 50 أو 60 سنة، غير أن الزلزال مقبل ويندرج في المدى الطويل، وعلماء الزلازل يتوقعون بقعا في العالم ستقع فيها زلازل ولكن يبقى عدم التدقيق في تاريخ وقوعها، وكذلك الزلازل الاجتماعية والتغيير الذي سيقع في العالم ككل.

إن عدم الاستقرار الذي يعيشه العالم اليوم هو في حد ذاته انتفاضة، كما أن الزلزال الحقيقي الذي بزغ مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول ليس في برجي نيويورك، بل في التركيب العقلاني وفي التفكير والتطوير الحضاري الذي سيأتي، ومن هنا -يقول المنجرة- يأتي التسلح بعقلانية التشاؤم وتفاؤل الإرادة في تحقيق التغيير.

لكنه يرى أن التغيير في العالم العربي والإسلامي والذي سيكون المستقبل فيه للإسلام لن يتحقق إلا عبر ثلاثة مشاهد، الأول هو بقاء الأشياء على حالها، وهذا غير ممكن لأن من غير الممكن أن ننزل إلى أسفل مما نحن فيه.

والثاني هو الإصلاح الذي انتهت فترته وكان يمكن تحقيقه في السنوات الخمس أو العشر الماضية، وأي إصلاح الآن سيكون جزئيا ولا يمكن أن يؤثر على الكل المأزوم.

أما المشهد الثالث فهو التغيير الشامل الذي يمكن أن يتحقق عبر احتمالين، إما وعي حقيقي ومسؤولية كاملة من أصحاب القرار تجاه مستقبل بلادهم والإيمان بأن الإصلاح الجزئي غير كاف، وإما اللجوء إلى ما يسمى القطيعة، على أساس أن الأولوية تكون للتحرك الثقافي، إذ لا يمكن لأحد خارج البلاد العربية والإسلامية أن يحل مشاكلها بل يمكن الاعتماد على خبرته لا على اختياراته، وعلى اعتباره وسيلة وآلة وليس باتباعه في المقاصد والغايات.

بيد أن المنجرة يقرر أن التغيير لن يحدث دون أن ينطلق من أنفسنا، لأن درجة الإهانة "تساير مباشرة تساهل حكامها ودرجة فتور وخنوع جماهيرهم، ففي مجال الذل يكمن جانب كبير من قوة المُذل في كونه لا يلاقي العقاب وأيضا في درجة استسلام وضعف الخاضعين للذل".

..................................................

المصادر/

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 2- منتديات تداول

 3- شبكة الصحافة غير المنحازة  

 4- سمير امين/  منتدى العام الثالث

 5- مدونات خواطر

 6- جمال محمد تقي / ميدل ايست اونلاين

 7- 8- عرض/ عبد الحكيم أحمين/ الجزيرة الفضائية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 8 آب/2007 -24/رجب/1428