مصطلحات اجتماعية: التبعية

التبعية: Dependance

شبكة النبأ: يدل هذا التعبير على مجمل العلاقات غير المتساوية مع ميل تراكمي إلى التفاقم، في الأنظمة الاقتصادية والسياسية والثقافية.

إنه يستعمل غالباً لوصف الوضع في البلدان النامية بمواجهة البلدان المتقدمة – أو أيضاً، كما يقول المؤلفون الأمريكيون – اللاتينيون، بلدان (الأطراف) بمواجهة بلدان (المركز)، وله مفهوم إيديولوجي قوي، بما أنه مأخوذ غالباً كمرادف (للاستغلال) و(الهيمنة).

مع ذلك، وبشكل عام، يمكن أن تؤخذ التبعية في معنى محايد، يدل حينئذ على مجمل العلاقات الوظيفية التي يحافظ عليها أحد عناصر النظام مع العناصر الأخرى ومع النظام نفسه. ففي سوق تنافسية صافية وكاملة، يمكننا الحديث عن تبعية بين العارضين والطالبين. في هذه الحالة، التبعية تعني التكامل. ثمة أوضاع أخرى من التبعية تظهر على شكل نظام الاحتكار الثنائي أو الأقلاوي. عرض بلوblau تحليل علاقة تبعية، تذكر بتبعية الاحتكار الثنائي. إن موظفاً جديداً في جهاز المنازعات يجد صعوبة في حل الحالات التي تعرض عليه. يساعده موظف (قديم) في خطواته الأولى. ويقوم بينهما تبادل منتظم. يقدم (القديم) آراءه (للجديد) الذي يدفع (للقديم) بتقديم مظاهر التقدير. ثمة تبعية، ولكننا لا نستطيع القول أن (القديم) يستغل (الجديد) ولا أن (الجديد) يستغل القديم. وبالفعل، لا هذا ولا ذاك ملزم بمتابعة التبادل، ومن جهة ثانية، إنهما قادران الواحد والآخر، بواسطة تصويب متبادل طفيف، على تصحيح معدل الاستبدال الذي يتخلى الأول في سبيله عن جزء من وقته ليحصل عبر إشارات التقدير التي يمنحه إياه الثاني على تدعيم لوضعه، في حين أن الثاني، في مقابل الاحترام الذي يبديه للأول، يعالج بشكل أسرع وبفاعلية أكبر، الحالات التي تعرض عليه. إن هذه التبعية حتى ولو لم تؤد إلى توزيع متساوٍ بدقة بين الشريكين، فإنها لا تنشئ بينهما خضوعاً دائماً.

إن المبادلات بين أمتين، درجة تطورهما غير متساوية، تختلف بداهة، وفي نقاط أساسية عن نموذج بلو. إن نظرية ريكاردو الشهيرة حول الأكلاف والفوائد المقارنة، تفكر كما لو أن المتبادلين، حائكي الصوف المقيمين في إنكلترا ومنتجي النبيذ البرتغاليين، لهم مصلحة في تبادل إنتاجهم، بما ان حياكة الصوف تكلف في إنكلترا أقل مما تكلف في البرتغال، وأن نبيذ البورتولا يمكن في أي حال أن ينتج في إنكلترا. هذه الطريقة في التفكير التي استخدمت طويلاً، كأساس للنظرية الليبرالية في التجارة العالمية، يمكن مناقشتها، بما أنها، كونها لم تتفحص سوى أزواج من السوق، محكومة بإهمال آثار التبادل على الاقتصاد الوطني، الذي يعتبر كلاً شاملاً، في ظل إلزامات سياسية دقيقة نوعاً ما، لعدد كبير من الأسواق المتنافرة جداً سواء في حجمها أو في بنيتها أو في طبيعة المنتجات التي يتم تبادلها فيها.

عندما يعترف منظرو التجارة الخارجية أن التبادل لا يحصل بين متبادلين كائناً من كانوا، وإنما يجد هؤلاء أنفسهم متأثرين، بقوة إلى حد ما، بانتمائهم إلى مجمل سياسي هو الأمة، توصف العلاقة المتبادلة بالتبعية، وبالفعل إن المتبادلين الفرديين أو الجماعيين لا يتبعون استراتيجيات مختلفة وحسب، وإنما يتمتعون بموارد غير متساوية تماماً. في بداية القرن العشرين، حاول المنظرون الماركسيون للإمبريالية إعطاء عدم التناسق هذا تفسيراً وظيفياً، إذا كان ثمة بلدان متخصصة في التصدير الكثيف لمواردها الأولية، ومحكومة باستيراد الرساميل والتقنية الضرورية لاستغلال مواردها الطبيعية ضمن شروط مفروضة عليها، وإذا كان من جهة أخرى ثمة بلدان محكومة تقريباً بتصدير رساميلها وتقنياتها، فإن هاتين الواقعتين المتناقضتين والمتكاملتين، تفسرهما المتطلبات الوظيفية للرأسمالية (المتأخرة). وبالفعل، إن (تبعية) البلدان المصدرة للمواد الأولية والمستوردة للرساميل تتزايد بمقدار ما يرغم التركيب العضوي لرأس المال والانخفاض التأشيري لمعدل الربح، الرأسماليين، على الانخراط بصورة نشطة أكثر فأكثر، في طريق التصنيع الاستهلاكي للمواد الأولية، وإلى البحث في البلدان المستعمرة عن معدل لاستغلال اليد العاملة التي لا يستطيعون تأمينها في بلدانهم.

هذه الأطروحات التي أعطاها لينين شكلاً كلاسيكياً، استعيدت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد سبق ذلك بين الحربين العالميتين، وبالتحديد في أمريكا الجنوبية، وعبر وعي الوجه الثقافي المحض لتبعية البلدان المستعمرة قديماً التي تتلقى، على الرغم من كونها تشكلت منذ أكثر من قرن في دول قومية مستقلة رسمياً، الأفكار والمؤسسات والأنماط المعدة في أوروبا وأمريكا الشمالية، جاهزة تماماً، فالبلدان التابعة لا تستورد فقط الرساميل والتقنية. إن الأيديولوجيات السياسية والأنماط الثقافية التي كانت معتمدة خلال القرن التاسع عشر في المكسيك والبرازيل والأرجنتين، تتبع مع بعض التأخير حركة تجد أصلها في باريس أو لندن. للفلسفة الوضعية الفرنسية امتداداتها المختلفة مع ذلك، بين المكسيك والبرازيل، إلا أنه في سنوات العشرينات من هذا القرن، سعت حركة (بلدية) (Indigeniste)، وبخاصة في مجالات الأدب والرسم والفولكلور وعلم الأعراف إلى إيجاد أو بناء )(هوية) ضائعة. فبمقابل الثقافة النخبوية، هذا التركيب الذي يسيطر عليه الإسهام الأوروبي للأقلية (البيضاء) يقدم هايا دولا تور (أمريكا الهندية). وقد استعيد نفس هذا الشعار من قبل قادة الثورة المكسيكية.

إن التبعية إزاء أوروبا الرأسمالية والإمبريالية الأمريكية – التي حلت في سنوات (1920 محل الرأسمالية الإنكليزية – لا يمكن محاربتها بفعالية إلا عبر سياسة إجمالية، يسميها هايا دو لا تور منذ عام 1927 (بالمعادية للإمبريالية)، والتي تتميز عن الماركسية – اللينينية في آن معاً بطبيعة السلطة وبممارستها وكذلك بتقييم متفائل نسبياً للإمكانيات المتوفرة (للبلدان التابعة) في التفاوض حول علاقاتها مع (البلدان المهيمنة) وبعد 1935 ستأخذ أطروحات التبعية منحى أكثر تقنية وأكثر فأكثر جذرية، إن تطور تعابير التبادل، أي علاقة الثمن بين الأموال الأولية المصدرة من قبل بلدان الأطراف والرساميل المصدرة من قبل بلدان المركز، تقدم على أنها دلالة لسوء وضع بلدان الأطراف المتزايد. ينتج عن ذلك مسيرة تراكمية لا يمكن معها لتبعية بلدان الأطراف بالنسبة لبلدان المركز إلا أن تتفاقم. إن العلاجات المقترحة من قبل خبراء اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية وهي المؤسسة التي حملت خلال سنوات 1950 – 1960 رسالة هذه الأطروحات، كانت تتضمن إصلاحاً زراعياً وتصنيعاً مستقلاً نوعاً ما عبر استبدال المستوردات، وسياسة قطع تستطيع أن تحمي بلدان الأطراف، عبر إعادة تقييم منظمة لعملاتها ضد الآثار السيئة لقيم التبادل.

إن نظرية التبعية، على الرغم من أنها أعدت أولاً بناء على معطيات أمريكية – لاتينية، يمكنها أن تعمم على حالة مختلف البلدان النامية، كانت تتلون بتلاوين تشاؤمية وإرادية أصبحت أكثر بروزاً خلال سنوات الستينات. كان الشعار الشهير عن (تنمية التخلف) يدعو إلى اعتبار التبعية بمثابة (واقع بنيوي) لا يمكن أن يكون موضوعاً لتصحيح متدرج، ولكن يقتضي (تجاوزه) (بقفزة في الحرية) من النوع الثوري، إن سحر الكاستروية على العديد من المثقفين في أمريكا اللاتينية يفسر عبر القناعة بأن التبعية هي حالة تعرّف بصورة كاملة وشاملة علاقة (الأطراف) (بالمركز).

تصطدم هذه القناعة بثلاث سلاسل من الوقائع. أولاً، يمكن أن تكون التبعية قوية بمنظار عدد معين من المؤشرات، وضعيفة بمنظار أخرى. مثلاً، في نهاية القرن التاسع عشر، كانت تبعية الأرجنتين لإنكلترا باردة جداً من وجهة نظر اقتصادية، على الأقل فيما يتعلق ببعض المتغيرات الاقتصادية، وبالتحديد المستوردات الأرجنتينية من اللحم والقمح نحو السوق الإنكليزية، وتمويل البنى التحتية الأرجنتينية بواسطة الرساميل اللندنية. ولكن التبعية السياسية للأرجنتين إزاء إنكلترا كانت ضعيفة نسبياً، ومن قبيل سوء الاستعمال اللغوي القول بأن الأرجنتين كانت في ذلك العصر (مستعمرة) إنكليزية. فضلاً عن ذلك، اقترنت تبعية الارجنتين حيئذ بمعدل مرتفع جداً للنمو. كما أنها ترافقت بتقدم اجتماعي سريع في مجال الخدمات العامة مثل الصحة والتربية. إن التبعية، أبعد من أن تشكل ظاهرة بسيطة، كما يمكن أن يبدو لنا عندما نكتفي بنظرة حدسية وإجمالية لهذا المفهوم، تظهر للتحليل الأقل تطلباً في عدد كبير من الوجوه التي تعتبر العلاقة بين موضع خلاف، وأبعد من أن تقترن بالتراجع أو بالركود، يمكن أن تكون التبعية، خلال فترة طويلة إلى حد ما، متلائمة مع نمو اقتصادي سريع، من جهة ثانية، إن تدهور قيم التبادل على حساب الأطراف يمكن اعتباره بصعوبة وليد وضع بنيوي محض. إن ارتفاع أسعار الموارد الأولية يتأثر بالتغيرات الدورية لاقتصاديات (المركز). وإن أثر المقص (الغارق بين أسعار المواد الأولية المصدرة واسعار المستوردات الصناعية) ليس دوماً لغير صالح جميع بلدان (الأطراف). فضلاً عن ذلك، يمكن لهذه البلدان أن تفيد من ريع كثيف في المدى الطويل، كما نرى ذلك اليوم في مثل النفط. وأخيراً، ليست التبعية الثقافية لبلدان (الأطراف) ضرورية، حتى خلال الفترة التي يمتص فيها اقتصاد بلدان (الأطراف) تدفقاً واسعاً للتكنولوجيا الآتية من بلدان (المركز) ذلك ما يوحي به مثل اليابان في عصر ميجي (Meiji). قد يعترض البعض أن التقنية الغربية في ذلك العصر لم تكن غرضاً إلا لعمليات نقل محدودة ومتدرجة ومتسامح بها تماماً. وإن مثل البلدان الإسلامية النفطية القريب أكثر تعقيداً. إن نقل التقنية والرساميل والواردات أدت في بعض هذه البلدان، مثل إيران، إلى تفكك المجتمع التقليدي. ولكن النواة الصلبة للثقافة الإسلامية، حتى وإن ثلمت في عدة نقاط، يبدو أنها صمدت. إن ما يسميه إذن أيديولوجيون متعجلون بالتبعية ليس إذن حالة بسيطة ومحددة تماماً، وإنما مجمل معقد من الآثار المتجمعة كثيراً، التي يصعب جداً على التحليل استعادة الصلاة بينها.

متعلقات

ما التبعية السياسية ؟(1)

التبعية، أكثر المصطلحات السياسة المستخدمة في الأدبيات السياسية المعاصرة لدول العالم الثالث . والخطاب الشمولي الديكتاتوري ، عادة ، يوظف هكذا مصطلح في وصف أفراد أو حركات اعترضت , فكريا أو سياسيا , على الواقع المفروض قسرا , وقدمت (كبديل لهكذا واقع) فكرا أو برامج طبقت في الخارج وحققت أهدافها المرجوة هناك. و نتيجة لطبيعة الأنظمة الشمولية التي لا تسمح بالرأي الآخر-المخالف , ولا تعترف بالمعارضة الحقيقية ، فقد اضطرت حركات التحرر المعاصرة إلى نقل مراكزها القيادية إلى خارج بلدانها , كي تتمكن من إدارة عملية التغيير مرحليا من الخارج , ولإعطائها فرصة اكبر في التحرك و تجاوز ماكينة القمع الحكومية المنظمة . اونسبة إلى هوية المكان الجغرافي لمركز القيادة في الخارج ، فقد اتهمت الأنظمة المتسلطة في الداخل تلك الحركات الوطنية بأنها تابعة أو عميلة للبلد المستضيف , متجاهلة قصدا(الأنظمة المتسلطة ذاتها) أن أسباب تواجد تلك الحركات في الخارج هو طبيعة النظم الشمولية التي لا تعترف بحق الآخر في الوجود , والتعبير , والمشاركة في السلطة , إلا عن طريق العنف والقمع الذي تعتبره مرادفا لشرعية الحكومة. التبعية ، كمفردة سياسية , تشمل العديد من المفاهيم والتعريفات التي لا يمكن تناولها هنا جميعا , لذا سأسلط الضوء على مفهوم تبعية الأجنبي ، أي تبني أفراد أو مجموعات ما لمنظومة فكرية معينة , أو لمجموعة برامج محددة تعود لأفراد أو مجموعات أخرى من خارج البلد , ومحاولة الأخذ بها أو تطبيقها محليا. تختلف أسباب تلك التبعية وفقا لماهيتها أو سياقها الزمني . والعلاقة التي تربط التابع بالمتبوع لا تأخذ خطا بيانيا ثابتا وهي متغيرة دائما وتعكس ظروفها الزما-كانية , وما كان تابعا بالأمس قد يكون شريكا اليوم , وما قد يراه البعض تبعية يراه الآخرون انتماء ,،تبني أو شراكة , أو قد يفسر في مكان ما على انه حالة طبيعية من حالات التطور الإنساني لتبنى الأفضل والأصح .. المقتبس من الخارج , وأقلمته مع خصائص البلد الجديد لتحقيق أهداف( مشابهة لمثيلاتها الناجحة في الخارج) في البيئة الجديدة .سأسلط الضوء هنا على عملية الاختيار الحر لفرد أو مجموعات في تبني منظومة فكرية ما , أو تطبيق برنامج عمل ثبت نجاحه علميا وعمليا وحقق أهدافه المرجوة في موطنه الأصلي. عملية الاختيار الحر، هنا، تختلف كليا عن التبعية المفروضة وهي عملية الإلحاق القسري عبر وسائل عسكرية (أو وسائل أخرى) تفرضها قوة كبرى مهيمنة على قوة صغرى راضخة وتتميز تلك العملية بالهيمنة المطلقة على مقدرات الأخر والسعي إلى تكريس حالة الانحطاط والتخلف وفقدان الهوية الوطنية والعمل دائما من أجل مصالح القوة الكبرى المهيمنة. على النقيض من ذلك, هنالك علاقة الشراكة المتكافلة بين إطراف معينة من اجل الوصول إلى أهداف محددة تخص الشركاء وهكذا أهداف لا يمكن تحقيقها إلا إذا أتفق الشركاء على أهمية العمل المشترك الذي ينتجه تخطيط مشترك ورؤية واضحة لأهداف يعود نفعها على الشركاء ذاتهم.بكلمات أخرى، "التبعية" التي اعنيها هنا هي عملية تبني اختيارية لأفكار أو برامج معينة طبقت على ارض غير محلية وأثبتت إمكانيتها في تحقيق أهدافها المرجوة هناك ومحاولة الأخذ بجزء أو كل ما فيها لتطبيقها على ارض الواقع المعني من أجل السعي للوصول إلى نتائج مشابهة لما تحقق في مواطنها الأصلية. ونتيجة للتطور العلمي الحاصل في الغرب فقد ظهرت ردود فعل متباينة من مختلف دول العالم ومنها بالتأكيد الدول النامية والتي رفضت(أو قسم منها) أن تواكب ذلك التطور وقدمت مشروعها السياسي والفكري الرافض(كليا أو جزئيا) للتطور العام العالمي على انه ضرورة مصيرية حتمية للمحافظة على الذات وتكريس الهوية الوطنية. ووفقا لتلك الرؤية فقد اعتبرت تلك الأنظمة إن محاولة إبداء النقد العلمي الموضوعي للواقع المعاش ومحاولة الأخذ بتجارب الدول المتقدمة وتطبيقها جزئيا أو كليا في بلدانها يعتبر نوعا من الانسلاخ عن الهوية الوطنية والذي سيقود إلى ضياع الملامح المحلية(الهوية الوطنية) والانصياع الأعمى للطرح الأجنبي الجديد الداعي إلى دراسة علمية معاصرة لأنظمة قديمة انتهت صلاحيتها وما زالت مطبقة قسرا على ارض الواقع.إن التطور العلمي المتزايد الذي يشهده العالم في جميع المجالات وفي مقدمتها مجال الاتصالات جعل سكان الأرض يعيشون في قرية صغيرة ويأخذون من الإبداع الإنساني ما يجعل حياتهم أفضل وأسهل. بغض النظر عن انتماءات سكان الأرض العرقية والدينية والسياسية ومدى تقبلهم للنظام العالمي الجديد هم، اليوم، فعلا، أعضاء في البناء العالمي الجديد، لذلك فان ما يمارس في الغرب سينعكس على مايحدث في الشرق والعكس صحيح. وبناء على مدى استيعاب أو تفهم هذه الحقيقة التي لا مهرب منها، تبلورت أفكار ومحاور وقوى جديدة في العالم استفادت من تجارب ونظريات الآخرين (وان كانوا غير محليين) وطبقتها بتصرف على ارض الواقع المحلي لتحقيق أهدافها الذاتية. حين قدمت شركة مايكروسوفت إبداعاتها في عالم الحواسيب في نهاية الثمانينيات، صار الناس في الشرق والغرب يستخدمون الكومبيوتر والإنترنيت بدون أي سؤال عن هوية مخترع الكومبيوتر أو نظام الويندوز ويمكن تطبيق هذا المنطق على أجهزة الهواتف النقالة ونظريات علم الجبر التي أبدع فيها العرب وإبداعات ومخترعات أخرى من الصين والهند وأوروبا وأجزاء أخرى من العالم. لم يبدأ مؤسسو الولايات المتحدة من الصفر بل كتبوا دستورهم بعد أن استوعبوا مفاهيم الديمقراطية اليونانية الكلاسيكية ومؤلفات فلاسفة الرومان وغيرهم من ناضلوا من أجل حرية الأفراد ضمن دولة توفر لهم الفرص المتساوية. من أهم النظريات القديمة-الحديثة التي رافقت التطور الصناعي وعصر النهضة هي آلية الديمقراطية التي أثبتت نجاحها في المجتمعات التي تبنتها وذلك لاستنادها على أسس علمية ديناميكية متجددة قابلة للنقد والتغير ومرونتها وتقبلها لجميع الإفراد والمحاور في عملية صناعة القرار وفي إدارة المصالح المشتركة. لذلك فالنظام الديمقراطي الحديث يعد من أكثر الأنظمة نضوجا وموضوعية في التعامل مع أهداف ومشاكل الجماهير وحتى يتم إيجاد نظام أكثر تطورا من النظام الديمقراطي المعاصر فستبقى آلية الديمقراطية الأكثر كفاءة ونجاحا وملائمة من الناحية التطبيقية لكل الأفراد والشعوب التي تطمح العيش بحرية بعيدا"عن آليات النظم الشمولية . بعبارة أخرى، الديمقراطية ليست أيدلوجية حزبية نحاول الترويج لها ضد أيدلوجية أخرى بل هي وسيلة، من ضمن الوسائل المتوفرة للجميع لاستخدامها في عملية التمثيل الشعبي في صناعة القرار الذي يخص الشعب وفي إدارة العلاقة بين الحكومة (بكافة مؤسساتها المتنوعة) والمواطنين. نتيجة لما تقدم، هنالك جملة من التساؤلات أود طرحها للنقاش: * ما الضير في تبني أفكار وبرامج جديدة عادت بالخير والرقي على مجتمعات أخرى (وان كانت أجنبية) تميزت بتعدد أطيافها العرقية والدينية والسياسية !؟ * ما الضير في طلب المساعدة من الآخرين في أمور يجيدونها(أو لهم خبرة فيها) ونحن في حاجة لها في الوقت الراهن , وسوف نبذل جهدا ووقتا وتضحيات فيما لو قمنا بتطبيقها بمفردنا في أراضينا ! ؟ * ما الضير في تقييم أو تحديث نظام تقليدي مفروض أثبتت الوقائع المادية والمنطقية عدم صلاحيته لتحقيق طموحات الجماهير ؟ * ما الضير في الاعتراف الصريح بحقائق مادية ومعنوية نراها ونعرفها وأصبحت حقيقة واقعة في عالمنا الحالي ؟ * ما الضير في رفض السلبي المفروض , وإبداله بالجديد المطلوب , والمثبت علميا وعالميا فاعليته في بناء مجتمعات حرة تمضي إلى المستقبل بخطى مدروسة ومتسارعة.؟

الإعلام العربي بين التبعية الثقافية وغياب الإرادة السياسية(2)

مما لا شك فيه أن الإعلام في عصرنا الحديث يعتبر الشريان الأساس لأي تغيير تعرفه الانسانية والدينامو الرئيس لكل بناء مجتمعي باعتباره المادة الأولية للمعرفة والحقل الوحيد الذي تتقاطع فيه كل المجالات الحياتية لقابليته في انتاج وتقييم واستغلال كل ثروة من ثرواتها. وهذا ما نلحظه في حياتنا اليومية فيما يخص سرعة انتقال المعلومات وتداولها وآنية ودقة معالجتها واستغلالها، ولهذا السبب ليس من الغريب من شيء في أن تصب توقعات المختصين في مجال الاعلام ودارسي المستقبليات في كون المجتمع الحالي المتسم بالإنتاج الصناعي يتجه نحو مجتمع الإعلام والمعرفة إن لم يكن قد أصبح كذلك.

ولنفس هذه لاعتبارات السالفة الذكر يمكن أن نقول وبدون مواربة أن الإعلام هو الرأس المال –إلى جانب الموارد البشرية- والمحدد لكل سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية حديثة، الأمر الذي ولسوء الحظ تتجاهله السلطات المسؤولة الرسمية في بلداننا العربية بغياب إرادة سياسية تقوده نحو ثورة حقيقية في هذه المجالات.

وبعكس الدول المتقدمة التي تجعله في طليعة رهاناتها الاستراتيجية من أجل تحقيق مكاسب سياسية وثقافية وحتى عسكرية، نجد أن الاعلام العربي منمط بشكل مثير للقرف إذ لاهم له سوى نظم القصائد واختيار القوافي والمدح والتصفيق والتطبيل والتزمير للسياسات الحكومية، أما عقلانية هذه المنظومة كسبيل لمشروع مجتمعي واعد ينمي مساراتها السياسية والإقتصادية ويحترم تركيبتها الإجتماعية ومكتسباتها الثقافية فإلى إشعار آخر.

فالإعلام العربي لم يستطع أن ينتزع استقلاليته لعقود وذلك لكونه بعيدا كل البعد عن صوت السواد الأعظم في المجتمع العربي ولإرتباطه الدائم بالنخب المسيطرة على كل دواليب الدولة ولعدم مسايرته للتحولات الإجتماعية التي يعرفها الشارع إضافة إلى "المسخ" الثقافي الذي يعبر عنه بشكل حاد في السنوات الأخيرة.

ففي بلد كالمغرب مثلا، لايمكن الحديث عن مشهد إعلامي خارج التبعية السلطوية من جهة والتبعية الثقافية من جهة أخرى، كما يمكن الذهاب أكثر من ذلك بالحديث عن توليفة يمكن ملاحظتها مصاغة بين هاتين التبعيتين، فيها يختلط النفوذ السياسي بالاقتصادي بالثقافي حيث يكون الضحية هنا هو الشعب والمكتسبات التاريخية والحمولة الثقافية للبلد، وهذه التوليفة تتمثل وبلا شك في المد الفرنكفوني المتنامي والسطوة الفرنسية على كل مناحي الحياة الإعلامية بالمغرب، إذ يقول الكاتب والإعلامي المغربي عبد الصمد بن شريف " فسطوة وهيمنة اللغة الفرنسية أصبح معطى ملموسا وأنصارها يتزايدون بأعداد هائلة" ويضيف في فقرة أخرى من مقالته "فإنهم (أي الوزراء) يحرصون على أن يفعلوا ذلك (أي الحديث وإلقاء التصريحات) بفرنسية تنم عن تشبتهم بشروط ومعايير الإنخراط في صف الحداثة والديمقراطية"، وهذا قول صحيح إذ كثيرا ما لايخجل بعض الحداثويون الفرنكفونيون المغاربة في استشهاداتهم بالنماذج الحداثية من تكرار عبارة "ففي الدول المتقدمة وفرنسا مثلا..." ثم يواصلون ويغالون في تأملاتهم النرجسية اتجاه نموذجهم الأم. كما لايمكنني أن أمر على ما كتبه الأستاذ عبد الصمد بن شريف دون إبداء تحفظي عن الموقف الذي كان قد خلص إليه في بداية مقالته على أنه سيكون في طليعة المطالبين بضرورة تحويل اللغة الفرنسية إلى اللغة الرسمية بالمغرب، كما لو أن الصحفي العامل بالقناة الثانية الدوزيم مع احترامي الشديد له يريد ترويج الأفكار ذاتها ويود القول بصريح العبارة "دستروا الفرنسية أيها البلهاء" رغم أنني لا أنكر، صراحة، واقعية الكاتب في تحليله واستدلاله بالنخب المسيطرة على أجهزة الدولة والإدارة والإقتصاد والاعلام، الشيء الذي يؤكد هذه التوليفة.

وباعتبار الإعلام (بكل أشكاله، الصوت والصورة والنص والإعلان...) منبعا ومصبا في الآن ذاته لكل تصور سياسي إجتماعي واقتصادي وثقافي، سيكون بالنسبة لأبناء ركلوس (سواء منهم الأصليون أو المعدلون وراثيا لهذا الغرض) رهانا أساسيا بغياب استراتيجية وطنية (وأسطر على وطنية) لبسط السيطرة ومسخ الهوية المغربية بكل مكوناتها الإسلامية والعربية والأمازيغية من أجل الترويج للبديل الفرنكفوني في أفق "فرنسا الأم".

إنه لمن العار أن تحضى الفرنسية في القناة الأولى المغربية بنسبة30 بالمائة فيما يخص البرامج المبثوتة، وهي لغة المستعمرين الفرنسيس كما عرفوهم أباءنا وأجدادنا، بينما يبلغ الحيف اللغة الأمازيغية إحدى اللغتين الأصليتين للبلاد ويتم تقزيمها واستصغارها وعرضها على شكل صور فولكلورية كأنها ثقافة عصر حجري عبر واندثر وفي أحسن الأحوال في مادة إخبارية مملة ساعة ما بعد الظهيرة حيث المغاربة نيام.

وحدث ولا حرج عن القناة الثانية، معقل الإعلام الفرنكوفي الأكبر بالمغرب، أسستها في البداية شبكة تي إف 1 الفرنسية إلا أنها عرفت الإفلاس بداية التسعينات وهذا أكبر دليل على إفلاس الطرح الفرنكفوني بالمغربي وأن طبيعة الشعب المغربي ذات المناعة الثقافية القوية لفظتها لفظ النواة لو لا تدخل الدولة بضغوط اللوبيات الفرنكفونية لشراء أسهمها وإنقاذها من البوار. وتقدر المواد المقدمة بالفرنسية فيها بأكثر من 70 بالمائة، ولا أذيع سرا إن قلت أنه من الأشياء التي أشعرتني بالحكة وبالإستفزاز معا هو العلامة الجديدة لهذه القناة على الساتل دوزيم موند، إقتداءا بأختها بالرضاعة تي في 5 موند، كما لو أن القاموس العربي خالية صفحاته من أسماء كـ "العالمية" أو "الفضائية".

وأكتفي هنا بالقناتين الأولى والثانية كنموذجين للتغلغل الفرنكفوني دون ذكر باقي المنابر الإعلامية الفرنكفونية الأخرى البارزة منها والمجهرية التي تتكاثر هذه الأيام كالفطر.

وإن كان الإعلام الفرنكفوني هو النموذج السائد بالمغرب ومعظم البقية الباقية من البلدان المغاربية نظرا لتبعات تركة الحقبة الإستعمارية، فإن المشرق العربي نفسه لم يسلم من التبعية الإعلامية (مع تسجيل بعض الإستثناءات التي يمكن أن تمثل بارقة أمل)، ما يظهر بشكل واضح من ناحية السيطرة والغزو الإعلامي والثقافي الأمريكيين، إذ أن بعض المحطات العربية تنهج إعلاما أمريكيا بالوكالة بدعوى تلفزيون الواقع أو ما شابه، ناهيك عن عدم تمكنه من فرض نفسه كإعلام مستقل بذاته عن السلطات الرسمية من جانب والإديولوجيات الطائفية من جانب آخر.

يقول غريغوري باتسن عن الإعلام بأنه "التباين الذي يصنع التباين"، ولذلك ليس غريبا أن تحظى صناعة الإعلام بكل هذا الإهتمام من طرف الدول المتقدمة والمهيمنة على الوضع العالمي باعتباره عنصرا أساسيا في عملية التغيير وسبيلا استراتيجيا نحو كل هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية، بعكس ما يجري ويدور في عالمنا العربي بكونه مجرد بوق للسلطة الحاكمة وأداة للمتلاعبين بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

تكريس التبعية

"من الإنفتاح الى الإصلاح فى الإقتصاد المصري"(3)

الجزء الأول

لفهم معنى الانفتاح الاقتصادي وطبيعة هذه السياسة ودلالتها، لابد من الرجوع إلى الوثائق القومية الأساسية وبالذات ورقة أكتوبر، والتي أصدرها الرئيس محمد أنور السادات ونشرها في 1974.[1]

فلقد جعلت ورقة أكتوبر من الانفتاح احد المهام الرئيسية للمجتمع المصري في المرحلة القادمة، وجاء هذا انطلاقا من تشخيص الورقة لمشكلات مصر الاقتصادية، فهي ترى أن عبء الإنفاق العسكري قد هبط بمعدل النمو في مصر 6.7% سنويا خلال ألفترة 1956 - 1965 إلى اقل من 5% سنويا بعد ذلك، وهي ترى أن استعادة المعدل القديم للنمو يجعلنا "في أمس الحاجة إلى موارد خارجية" ومن هنا كانت الدعوة للانفتاح الاقتصادي، وهي دعوة مبنية على تقدير لاحتياجات الاقتصاد المصري من ناحية والفرص المتاحة للتمويل من ناحية أخرى، ولا تتمثل فائدة الانفتاح طبقا لورقة أكتوبر في تزويد مصر بالموارد المالية اللازمة للتنمية فحسب، بل وأيضا في تزويد مصر "بأحدث وسائل التكنولوجيا الحديثة" ولا يفوت ورقة أكتوبر أن تؤكد أن "الانفتاح الذي اعلناه هو انفتاح على العالم كله شرقه وغربه" مع الترحيب بالاستثمار الأجنبي لما يحمله معه من معرفة تكنولوجية نحتاج إليها، فالانفتاح الاقتصادي في تصور ورقة أكتوبر، وهي الوثيقة الأساسية في هذا المجال، يعنى فتح الاقتصاد المصري للاستثمار الخاص المباشر من الخارج. [2]

ومن أهم العلامات البارزة على طريق الانفتاح ما يلى:-

1) القانون رقم 43 لسنة 1974 وتعديلاته، وهو أهم خطوة منفردة اتخذت على طريق الانفتاح، فقد فتح باب الاقتصاد المصري لراس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مباشر في كل المجالات تقريبا، وعلى وجه التحديد، يذكر القانون مجالات التصنيع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل واستصلاح الأراضي والإنتاج الحيواني والثروة المائية والإسكان والامتداد العمراني وشركات الاستثمار وبنوك الاستثمار وبنوك الأعمال وشركات إعادة التامين والبنوك وبيوت الخبرة ألفنية وغيرها من المجالات، وتقرير انفراد راس المال العربي والأجنبي في مجالات بنوك الاستثمار وبنوك الأعمال التي يقتصر نشاطها على العمليات التي تتم بالعملات الحرة حتى كانت فروعا لمؤسسات مركزها بالخارج، وعدم جواز تأميم المشروعات أو مصادرتها فضلا عن إعفاء الأرباح التي تحققها المشروعات التي تنشا طبقا لهذا القانون من الضريبة على إيرادات القيم المنقولة وملحقاتها والضريبة على الأرباح الصناعية والتجارية وملحقاتها الضريبة العامة على الإيراد لمدة خمسة سنوات ويسرى الإعفاء ولذات المدة على عائد الأرباح التي يعاد استثمارها في المشروع والاحتياطيات الخاصة وتعفي الأسهم من رسم الدفعة النسبي لمدة خمس سنوات، كما يكون الإعفاء بالنسبة لمشروعات التعمير وإنشاء المدن الجديدة واستصلاح الأراضي لمدة عشر سنوات يجوز مدها "بقرار من رئيس الجمهورية" إلى خمسة عشر عاما...... الخ.

2) القانون 118 لسنة 1975 للاستيراد والتصدير، وهذا القانون ينص على أن يكون الاستيراد مفتوحا للقطاع الخاص كما هو مفتوح للقطاع العام وكذلك مجال التصدير، وكنتيجة لهذه التعديلات تم تفكيك احتكار الدولة وسيطرتها على التجارة الخارجية.

3) قانون النقد الأجنبي رقم 97 لسنة 1976، وهذا القانون قصد به تحرير معاملات النقد الأجنبي في الداخل وبذلك مكن البنوك الخاصة والتي يشارك فيها راس المال الأجنبي بحكم القانون 32 لسنة 1977 من الحصول على الودائع بالعملات الأجنبية.

4) نظام الاستيراد بدون تحويل عملة، والذي استحدث عام 1974، ومكن هذا النظام أي شخص لديه موارد بالنقد الأجنبي أن يستخدمها في الاستيراد مباشرة دون الحاجة للرجوعللجهاز المصرفي.

5) إنهاء العمل باتفاقات التجارة والدفع، والتي أدت إلى الانتقال لممارسة التجارة الخارجية على أساس المعاملات الحرة وأصبح بذلك تخطيط التجارة الخارجية مستحيلا، وجعل تجارة مصر الخارجية عرضه لقوى السوق وتقلباتها الحادة، ومثل هذا الإجراء خطوة حاسمة في سبيل إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية الدولية لمصر وإعادة ربط الاقتصاد المصري بعجلة السوق الرأسمالية العالمية.

6) إعادة تنظيم القطاع العام، وقد بدأت سنة 1975 حين صدر القانون 111 بإلغاء المؤسسات العامة التي تقوم بدور الشركات القابضة التي تنسق وتخطط وتتابع أنشطة الشركات التابعة لها.[3]

تلك هي نقاط الارتكاز الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي والتي أحدثت تحولات هيكلية في الاقتصاد المصري من عدة وجوه، ففي المقام الأول، نجد أن باب الاقتصاد قد فتح بعد سلسلة من التعديلات على مصراعيه لراس المال الأجنبي والتي تسيطر عليه الشركات متعددة الجنسيات مما أدى إلى تكريس سيطرة هذه الشركات على الاقتصاد المصري وبالتالي فكل التنمية الحادثة لابد أن تكون "تنمية تابعة".

وفي المقام الثاني، فرغم انه من المبادئ الدستورية المقررة في مصر أن القطاع العام يسيطر على القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد القومي إلا أن القانون 43 لسنة 1974 معدلا بالقانون 32 لسنة 1977 لا يحدد مجالا معينا للقطاع العام، فكل مجالات النشاط الاقتصادي تقريبا مفتوحة للاستثمار الأجنبي الخاص، وفي المقام الثالث، فطالما أن الشركات التي تنشا طبقا للقانون المذكور تعتبر من شركات القطاع الخاص أيا كانت صفة رؤوس الأموال المساهمة فيها، فأن هذا يقلص حجم القطاع العام بالمقارنة إلى القطاع الخاص. [4]

لقد أدى الانفتاح الاقتصادي إلى نتائج اقتصادية عديدة، كان أبرزها من ناحية أولى، أدى الانفتاح الاقتصادي إلى تجزئة الاقتصاد المصري، فقد تحول إلى مجموعة متمايزة وأحيانا متنافرة من الاقتصاديات، فلم يعد الأمر قاصرا على القطاعيين العام والخاص والقطاع التعاوني، وإنما ظهرت إلى جانب هذه القطاعات أربعة قطاعات أخرى هي القطاع المحلى المختلط القائم على المشاركة بين راس المال المحلى وراس المال العام، والقطاع الأجنبي الخالص المملوك للأجانب، والقطاع المشترك الذي يقوم على المشاركة بين راس المال العام وراس المال الأجنبي، والقطاع المختلط القائم على المشاركة بين راس المال الخاص المحلى وراس المال الأجنبي، وبالتالي أصبح الاقتصاد المصري منقسما إلى أجزاء عديدة، فكل منها قواعده والياته الخاصة، مثل السوق الخاصة وقواعد خاصة بالتسعير وتشغيل العمال والأجور والتمويل...... الخ.

ومن ناحية ثانية، فقد أدى الانفتاح إلى أضعاف القطاع العام، والذي كان يمثل الركيزة الأساسية لما حدث من نمو اقتصادي في الستينات، وكان الأداة ألفعالة للسيطرة المركزية على الاقتصاد و السند الرئيسي في ممارسة التخطيط، وإذا كان القطاع العام لم يتعرض بأكمله للتصفية "الجسدية" في زمن الانفتاح، فمن المؤكد انه قد تعرض لما هو اخطر، وهو التصفية في زمن الانفتاح، فمن المؤكد انه قد تعرض لما هو اخطر، وهو التصفية "الروحية" والتفريغ "المعنوي" فقد انخفض نصيب القطاع العام في الاستثمارات الإجمالية بانتظام من نحو 90% في أوائل السبعينات إلى نحو 77% في عام 1979 وإلى نحو 75% خلال سنوات الخطة الخمسية "82 / 83 - 86 / 87" ولا يقل أهمية من ذلك ما جرى للقطاع العام من استنزاف للخبرات والمهارات والعمالة المدربة، ليس فقط بالهجرة إلى الدول العربية، بل وانتقالها إلى الشركات الانفتاحية، أي لتشغيل القوة المنافسة للقطاع العام ذاته.

ومن ناحية ثالثة، أدى الانفتاح إلى ظهور مراكز قوى جديدة، فقد نشأت مراكز قوى اقتصادية اكتسبت نفوذا وهيمنة لا يستهان بها على توجيه السياسات الاقتصادية ووضع القرارات العامة.

ومن ناحية رابعة، أدى الانفتاح الاقتصادي إلى "نمو هشا" في الاقتصاد المصري، فهو نمو خدمي بالدرجة الأولى لم تكن الأولوية فيه للقطاعات السلعية كالزراعة والصناعة وإنما للقطاعات غير السلعية كالتجارة والتوزيع والمال والإسكان ألفاخر والنقل الخاص وسياحة الأغنياء وما إليها فبينما بلغت معدلات النمو في القطاعات الخدمية من 12% إلى 14% لم يزد معدل نمو الزراعة عن 2% على أكثر تقدير ولم يتعد معدل النمو في قطاع الصناعة والتعدين 6% طبقا للإحصاءات الرسمية، كذلك فانه نمو لا يستند إلى عناصر القوة الذاتية للاقتصاد المصري بقدر ما يستند أما إلى اعتبارات طبيعية كالطفرة في استخراج البترول وتصديره أو اعتبارات خارجية مثل حركة الملاحة العالمية وتأثيرها على إيرادات قناة السويس أو الأوضاع الخاصة بدول الخليج وتأثيرها على استيراد العمالة المصرية، أو تدفق الاستثمارات الخارجية الأخطر من ذلك القروض والمعونات الخارجية، وهو نمو هش لا يستمر لأمد طويل، هذا فضلا عن انه نمو "مرهون" للأجانب، فهو مثقل من البداية بعبء دين خارجي ضخم، اتجه للتزايد في سنوات الانفتاح، على الرغم من أن أحدى ذرائع الانفتاح هي تقليل الاعتماد على القروض الأجنبية وإحلال الاستثمارات الأجنبية محلها، غير أن ما جاء إلى البلاد من استثمارات أجنبية كان قليلا، ولم يزد في مجموعه عن 2 مليار دولار طوال السنوات من 1974 - 1979، ولم تتعد رؤوس الأحوال العربية والأجنبية ثلث رؤوس أموال الشركات الانفتاحية التي تم الموافقة عليها منذ 1974 وحتى 1985 ومن جهة أخرى فقد قفز حجم الدين الخارجي من 2.1 مليار دولار سنة 1973 إلى نحو 15 مليار دولار في 1979 ثم ما يقرب من 20 مليار دولار 1983، وبالجملة لم تر البلاد من غيث الاستثمار الأجنبي سوى القطرات وتم إغراقها في بحر من الديون الخارجية بالإضافة إلى ذلك فأن هذا "النمو الهش" اقترن باتساع الفوارق بين الطبقات، وبالتالي ازدياد حدة الصراع الطبقي في المجتمع.

ومن ناحية خامسة، أدى الانفتاح إلى "تفشى الطفيلية" فقد شهدت مصر نموا هائلا في الأنشطة الطفيلية منذ أن دخلت عهد الانفتاح، وقد اتخذ النشاط الطفيلي صورا عديدة مثل استغلال النفوذ السياسي والإداري، والارتشاء، والتواطؤ مع القطاع الخاص على حساب القطاع العام، والمضاربة في الأراضي والمباني، وتضخيم الأزمات، والاتجار في السوق السوداء، والتهريب، والتهرب من دفع الرسوم والضرائب الجمركية، والاستيلاء على أموال الدولة، وغيرها مما ظهر في محاكمات الفساد بعد رحيل السادات، وهي ظواهر بالغة الخطورة، وأثرت سلبيا على نظام القيم في المجتمع لما تنطوي عليه من استغلال ومن انفصام في العلاقة بين الجهد والكسب، ولها عواقب وخيمة في المجال الاقتصادي سواء من حيث العبث بنظام الحوافز الذي يقوم على مبدأ ربط الأجر بالجهد ولما يترتب عليها من انصراف عن العمل المنتج الذي هو أساس النمو الاقتصادي ولما تضعه من عراقيل أما التخطيط، حيث يتعذر معها إجراء الحسابات الاقتصادية المعتادة والتنبؤ بالسلوك المحتمل للاقتصاد القومي.

ومن ناحية سادسة، أدى الانفتاح إلى التضخم الانفجاري، فقد اتخذ التضخم صورة انفجارية في سنوات الانفتاح، فالثابت من الإحصاءات الرسمية للأسعار أنمعدل التضخم لم يكن يتجاوز 3% - 4% حتى سنة 1973، بينما بدا المعدل في الزيادة بخطوات متسارعة منذ سنة 1974 فقد قفز معدل التضخم إلى 11% في عام 1974 ثم إلى 13% في 1977 ثم إلى 21% في 1980، وطبقا لتقرير صادر عن وزارة الاقتصاد، فأن التضخم قد بلغ في المتوسط 13.5% خلال ألفترة من 1973 - 1979 ونحو 22.3% في المتوسط خلال السنتين 1978 - 1979، وقد بلغ 25% في 81 / 82 طبقا لتصريح وزير الاقتصاد د. مصطفي السعيد في ذلك الوقت.

ومن ناحية سابعة، أدى الانفتاح الاقتصادي إلى اغتيال التخطيط، وكانت أسوأ نتائج الانفتاح الاقتصادي، فبرغم أن المادة 3 من قانون الاستثمار قد نصت على أن "يكون استثمار المال العربي والأجنبي في جمهورية مصر العربية لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إطار السياسة العامة للدولة وخطتها القومية" فأن أحدا من المسئولين عن الانفتاح لم يأخذ هذه المادة مأخذ الجد، بما فيهم السادات نفسه، فقد قال "يوم أن تكون هناك خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فأن راس المال سيهرب" مما يوحى بأن غياب التخطيط لم يكن من قبيل السهو، وإنما كان مقصودا أو مدبرا من البداية لتهيئة المناخ المناسب للانفتاح.

لقد كانت النتيجة النهائية لسياسة "الانفتاح الاقتصادي" هي وقوع الاقتصاد المصري في فخ التبعية، فلم يعد محلا للجدل أن مصر في عهد الانفتاح قد صارت تابعة تبعية كاملة للمركز الرأسمالي العالمي، فقد كان عام 1976 شاهدا على تجربة التحديث التابع وتدخل صندوق النقد الدولي ضامنا لتدفق قروض الحكومات والمصارف العالمية بهدف فتح الاقتصاد أمام صادرات ورؤوس أموال المركز الرأسمالي، ثم عودة الصندوق للتدخل في أعوام 1977 و 1978 و 1981 و 1986 بعد رصف سبل التدخل، فالافتراض عن الخارج أصبح الوجه الآخر لعجز البناء الاقتصادي التابع، حيث يؤدى عجز ميزان المدفوعات إلى اللجوء للاقتراض الخارجي، ويؤدى الاقتراض إلى تراكم أعباء خدمة الدين من أقساط وفوائد، بما يؤدى إلى الاقتراض من جديد لعلاج العجز، ويتدخل الصندوق لعلاج عجز المدفوعات وتسهيل الاستدانة من الخارج ثم لإعادة جدولة الدين، وتكون النتيجة تكريس التبعية. [5]

 الجزء الثاني

مع تغير القيادة السياسية المصرية في 1981، تردد التعبير عن الحاجة إلى إعادة النظر، على نحو جدي، في السياسات الاقتصادية المتبعة بهدف وقف التدهور في حالة كل من المديونية الخارجية والهيكل الاقتصادي. [6]

فعندما تسلم الرئيس مبارك مقاليد الحكم، كانت سحب الأزمة الاقتصادية التي تراكمت في سماء الاقتصاد المصري قد بدأت تتكاثف على نحو واضح وكانت أهمها هي تراكم جبل من الديون الخارجية وارتفاع واضح في أعباء خدمتها وعجز مستمر في ميزان المدفوعات المصري مع تضاؤل واضح في حجم الاحتياطيات الدولية النقدية وتزايد شديد في اعتمادنا الغذائي على الخارج، وتدهور بليغ في معدل الادخار المحلى واعتماد مصر على الموارد الخارجية لتمويل الاستثمارات المحلية، وعجز كبير في الموازنة العامة للدولة، وزحف راكض للتضخم المحلى والمستورد وبطء في معدل النمو الاقتصادي. [7]

وفي ضوء هذا الوضع الاقتصادي الحرج، وعدم وضوح الصورة وفقدان مصداقية الخطاب الإعلامي الساداتي،والتي كانت تؤكد دوما على سلامة أوضاع الاقتصاد المصري وإننا سائرون على طريق الرخاء بعد التوقيع على معاهدة "كامب ديفيد" وأن موارد مصر التي كانت توجه وتبدد في الحروب سوف توجه إلى اقتصاديات السلام وإنعاش الاقتصاد المصري، وأن إنهاء حالة الحرب مع "إسرائيل" سوف يجعل المعونات والاستثمارات الأجنبية تتدفق على مصر للإسراع بخطاها على طريق النمو.

في ضوء هذا الوضع حرص الرئيس حسنى مبارك في أوائل حكمه على أن يتعرف على حقيقة الوضع الاقتصادي المصري، ومن هنا جاءت دعوته إلى عقد مؤتمر اقتصادي على مستوى عال، يضم نخبة مختارة من الاقتصاديين المصريين، وهو المؤتمر الذي عقد في ألفترة ما بين 13 - 15 فبراير 1982، وشارك في حضور بعض جلساته، وكان هناك إحساس بأن الأوضاع والسياسات الاقتصادية القائمة تحتاج إلى مراجعة، لأن الاستمرار في هذه السياسات سوف يؤدى إلى أخطار شديدة ينعكس أثرها ليس على الاقتصاد فحسب بل أيضا على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، الداخلية والخارجية، وعقد المؤتمر وحضره ثمانية وأربعون اقتصاديا مصريا. [8]

وقد تم الاتفاق على كثير من القضايا والتي رفعت إلى الرئيس مبارك ولخصها أستاذنا الدكتور رمزي زكى في الآتي:-

1) أن التعديلات المقترحة لإصلاح المسار الاقتصادي سوف تتم مع المحافظة التامة على المقومات الرئيسية الحالية للاقتصاد المصري بقيادة الدولة والقطاع العام والتنسيق بينهما وبين الدور الضروري للقطاعين الخاص والتعاوني والاستمرار في سياسة الانفتاح والتعاون الدولي الخارجي مع التعديلات التي تزيل ما شابها من سلبيات.

2) حشد الطاقات القومية الطبيعية والبشرية والمالية والتنظيمية، حكومية كانت أو شعبية، ووضع السياسات ألفعالة في مختلف المجالات وفقا لتخطيط قومي شامل، تلتزم به الدولة والقطاع العام، ويسترشد به القطاع الخاص والفردي بما يخدم خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفقا لأسلوب التخطيط القومي المناسب مما يؤدى إلى التكامل والتنسيق بين مختلف السياسات وتحديد الأولويات.

3) أن تكون التغيرات المطلوبة ذات بعد اجتماعي واضح وذلك بالتركيز على خلق فرص للعمالة الحقيقية المنتجة، بدلا من تكدس التوظيف العاطل، والعمل على تحسين توزيع الدخول ورعاية الطبقات الأقل دخلا، وضمان التنسيق بين عوامل الإنتاج المختلفة من راس المال وإدارة وعمالة ماهرة لرفع مستوى الإنتاج السلعي خاصة وزيادة الدخل القومي عامة.

4) تبنى المؤتمر قضية مكافحة البطالة والحرص على تحقيق التوظف الكالم كهدف عزيز، باعتبار أن اثمن ما تملكه مصر هم البشر.

5) ولمواجهة عجز الموازنة العامة نادى المجتمعون بضرورة تخفيض الإنفاق العام غير الضروري وكذلك الإنفاق المظهري، نظرا لما يستنزفه من موارد ومن تأثير سلبي على معنوية مختلف طبقات الشعب وضرورة تحسين تحصيل الضرائب وزيادة الضرائب على الاستهلاك الترفي.

6) كذلك نوقشت قضية الدعم وسبل ترشيده، وكانت هناك بالمؤتمر معارضة شديدة بعدم المساس بالدعم، إلا بعد استنفاذ إجراءات الوفر في أوجه الإسراف في الإنفاق الحكومي وبقدر ما يتحقق من زيادة في الأجور وتحسين في توزيع الدخل، حيث أن الدعم يكفل الرعاية الضرورية للطبقات الشعبية ويحميها من التضخم وارتفاع الأسعار وازدياد نفقات المعيشة.

7) أما فيما يتعلق بدعم قطاعات الإنتاج السلعي "الزراعة والصناعة" فقد اتفق المجتمعون على ضرورة زيادة إنتاج هذه القطاعات بما يفي بالاحتياجات الأساسية للشعب وفقا لخطط محددة ومتناسقة ضمن إطار الخطة العامة للدولة، ففي المجال الزراعي لاحظ أعضاء المؤتمر كيف تدهور نصيب ألفرد من الرقعة الزراعية "سبع فدان" وانه يلزم للمحافظة على هذا النصيب حتى عام 2000 أن تكون هناك إضافة تقدر بثلاثة ملايين فدان جديد، وهو ما يعنى ضرورة استصلاح ما بين 150 - 180 ألف فدان سنويا مع الاهتمام بزيادة الإنتاجية وموارد المياه، وفي المجال الصناعي، كان هناك إجماع على أن تكون الأولوية لإنتاج السلع الوسيطة اللازمة للإنتاج الزراعي والتشييد ولقطاع الصناعة والبترول والقطاعات الأخرى وتنفيذ برنامج لإحلال الواردات عن طريق صناعات تنتج سلعا ضرورية محلية بدلا من الاستيراد، وذلك على أسس اقتصادية، وفي ظل حماية محددة ومحسوبة، مع رقابة الأسعار والجودة.

8) ليس من مصلحة الاقتصاد المصري أن يظل اعتماده متزايدا على العالم الخارجي، خاصة أن تزايد أعباء خدمة الدين وأقساطه قد تزيد على موارده السنوية مما يلقى عبئا على الموارد الذاتية فضلا عن مخاطر الاعتماد على موارد خارجية، وكذلك ضرورة إصلاح الخلل في ميزان المدفوعات وما يتطلبه ذلك من ترشيد للوارداتوزيادة في الصادرات وفي معدل الادخار المحلى وضرورة تخصيص عائد تصدير البترول لتمويل الاستثمارات المحلية.

9) أما فيما يتعلق بالقطاع الخاص، وهو ركيزة أساسية في الانفتاح الاقتصادي، فقد أشار المجتمعون إلى غلبة النشاط التجاري والمضاربات العقارية على سلوكه في تلك الآونة، واستغلاله مزايا قانون الاستثمار الأجنبي لإنتاج السلع الاستهلاكية والكمالية ولهذا كانت هناك توصية بأن يراعى مستقبلا الموافقة على المشروعات التي تتفق مع سياسة الدولة في توفير الاحتياجات الضرورية للشعب، ورفع المستوى التكنولوجي وتشجيع التصدير السلعي، واجتذاب رؤوس الأموال العربية والأجنبية للتنمية والاستثمار وتفضيل المشروعات التي تقام خارج المدن وفي المناطق الجديدة. [9]

كانت هذه تقريبا، هي أهم الرؤى التي تمخض عنها المؤتمر الاقتصادي والتي وأن لم ترسم في مجموعها استراتيجية شاملة لتنمية مصر ونهوضها ولكنها في جميع الأحوال رسمت في مجموعها ملامح توجهات اقتصادية واجتماعية أفضل مما كان سائدا في فترة الانفتاح المنفلت في عقد السبعينات.

والمثير للدهشة حقا، هو أن المؤتمر عقد وانتهي دون أن تنعكس هذه الرؤية في إصلاح مسار الاقتصاد المصري فيما بعد، إذ سرعان ما نسى المؤتمر وعلقت الأتربة بأوراقه وبحوثه التي كان وراءها جهد ضخم ودراسات عديدة وأفكار مصرية مبدعة. [10]

وجاءت الخطة الخمسية الأولى للسنوات (81 / 1982 - 86 / 1987) مخيبة للآمال، بل جاءت على الضد تماما مما كان عليه الاجماع في المؤتمر، فقد تزايد الاعتماد على القروض الخارجية، وتراجع دور التخطيط، وتخلت الدولة عن قيادة التنمية، وفككت وأضعفت القطاع العام تمهيدا لبيعه، وألغت الدعم، وأطلقت حرية تكوين الأسعار، ولم تهتم بمشكلة العمالة وزيادة البطالة، وتزايد التعاون في توزيع الدخل والثروة، ففي 30 يونيو 1986 كان إجمالي مديونية مصر الخارجية قد زاد بنسبة 26% عما كان في 1981 فزاد من 30 بليون دولار إلى حوالي 37.8 بليون دولار، وانخفضت إيرادات مصر من البترول بنسبة 36%، وظلت المصادر الثلاثة الرئيسية الأخرى للعملات الأجنبية (تحويلات العاملين بالخارج وقناة السويس والسياحة) راكدة تقريبا، وثبت معدل تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة عند نحو بليون دولار سنويا، ولم يتجاوز معدل الزيادة في صادرات مصر من السلع الأولية "غير البترول" 4% في السنة، ومع تواضع الزيادة في الصادرات الصناعية، كان إجمالي قيمة الصادرات من السلع والخدمات في 85 / 86 اقل في الواقع مما كان في 81 / 82 بنسبة 11% وارتفع العجز في ميزان الحسابات الجارية بميزان المدفوعات من 1.7 بليون دولار في 81 / 82 إلى 3.5 بليون دولار في 85 / 1986. [11][11]

ولم تك الخطة الخمسية الثانية (86 / 1987 - 91 / 1992) بأحسن حال من سابقتها، فبعد أن بلغ معدل النمو في الناتج القومي الإجمالي، بالأسعار الثابتة 8% في ألفترة (75 - 1982) انخفض إلى 5% في السنوات الثلاث التالية (83 - 1985) ثم إلى نحو 1% في ألفترة (86 / 1987 - 98 / 1990) ومع معدل لنمو السكان يبلغ نحو 2.7% تدهور مستوى المعيشة خلال النصف الثاني من الثمانينيات بمعدل سنوي قدره نحو 1.7% في السنة، زاد الأمر خطورة أن مصر أصيبت بصدمة خارجية في مطلع عام 1986 متمثلة في انخفاض نفاجئ وكبير في أسعار البترول، ولم يقتصر اثر هذه الصدمة على الانخفاض الكبير في إيرادات مصر من صادرات البترول، بل كانت لها آثار غير مباشرة تمثلت في تراخى تحويلات المصريين العاملين في الدول العربية الغنية بالبترول، وانخفاض إيرادات السياحة بسبب انخفاض عدد السياح العرب من نفس هذه الدول، كما أن هذا الانخفاض في إيرادات البترول اقترنت به زيادة حادة في التزامات مصر المتعلقة بخدمة الديون، فطبقا لاحد المسئولين في صندوق النقد الدولي، بلغ حجم هذه الالتزامات في 85 / 1986 ما لا يقل عن 5.5 بليون دولار (2.9 بليون لسداد جزء من اصل الدين و 2.6 بليون كفوائد) وهو ما يكاد يساوى ضعف مبلغ خدمة الديون في 1981، وأكثر من 50% من قيمة إجمالي الصادرات من السلع والخدمات في 85 / 1986. [12]

وكان لابد لذلك كله وما عكسه من سياسات أن يثمر في النهاية تلك الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي انتهت بنظام الحكم أن يوقع مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1991 اتفاقا من شانه أن تتولى هاتان المؤسستان رسم وتحديد سياستنا الاقتصادية والاجتماعية عبر ما عرف باسم سياسة "الإصلاح الاقتصادي". [13]

وثمة نقطة هامة جديرة بالتسجيل في هذا المقام، وهي أن الإتجاه نحو تنفيذ برامج التثبيت الإقتصادي والتكيف الهيكلي و المعروفة بما يسمى بسياسة " الاصلاح الاقتصادى " ،وما تنطوي عليها من إنفتاح وتحرر وإعمال لآليات إقتصاد السوق، هذا الإتجاه لم يأت كنتيجة لضغوط داخلية من قبل القوى والفئات الرأسمالية، التي إتسمت – ولا تزال – بالضعف والهشاشة والتبعية لرأس المال العالمي في عديد من الدول، ولكنه اقترن في جانب هام منه بضغوط بعض القوى والمؤسسات الخارجية وبخاصة صندوق النقد والبنك الدوليين، كما أن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها هي التي تدير عملية تطبيق برامج التثبيت والتكيف.(4) وبذلك فإن العوامل الخارجية خاصة الضغوط التي مارستها مؤسسات التمويل الدولية هي العامل الحاسم في توجيه السياسة الإقتصادية لإتخاذ إجراءات ما يسمي " بالإصلاح الإقتصادي "..

ففي عام 1989 صاغ الإقتصادي "جون ويليمسون" نائب رئيس البنك الدولي ما عرف " بتوافق واشنطن".. وهو مجموعة السياسات والتوصيات والمبادئ التوجيهية التي تم التوصل إليها بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة، ومقر هذه الأطراف الثلاثة العاصمة الأمريكية واشنطن [14]...

كما يحتوي على مجموعة من الإتفاقات غير الرسمية "إتفاقات جنتلمان"، عقدت طيلة الثمانينات والتسعينات بين الشركات الرئيسيةالعابرة للقارات وبنوك وول ستريت، وبنك الإحتياطي الإتحادي الأمريكي والمنظمات المالية الدولية " البنك الدولي صندوق النقد الدولي".([15][15])وقد صاغ جون ويليمسون "التوافق" ومبادئه الأساسية بزعم أنها تطبق على أي فترة تاريخية، وأي إقتصاد، وأي قارة، وبإستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق "الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات " 0

وفي النهاية إقامة حكم كونى بلا دولة، وسوق عالمي موحد ومنظم ذاتياً تماماً.

وهذه هي المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها:

1- من الضروري – في كل بلد مدين – البدء في إصلاح المالية العامة وفق معيارين: تخفيض العبء الضريبي على الدخول الأكثر إرتفاعاً، لحفز الأغنياء على القيام بإستثمار إنتاجي، وتوسيعالقاعدة الضريبية، وبوضوح، منع الإعفاءات الضريبية للأفقر، من أجل زيادة مقدار الضريبة.

2- أسرع وأكمل تحرير ممكن للأسواق المالية.

3- ضمان المساواة في المعاملة بين الإستثمارات الوطنية والإستثمارات الأجنبية من أجل زيادة مقدار – وبالتالي ضمان – هذه الأخيرة.

4- تصفية القطاع العام بقدر الإمكان، وخصخصة المنشآت التي تملكها الدولة، أو هيئة شبيهة بالدولة.

5- أقصي حد من إلغاء الضوابط في إقتصاد البلد، من أجل ضمان الفعل الحر للمنافسة بين مختلف القوي الإقتصادية الموجودة.

6- تعزيز حماية الملكية الخاصة.

7- تشجيع تحرير المبادلات بأسرع الوسائل الممكنة بهدف تخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المائة كل سنة.

8- لما كانتالتجارة الحرة تتقدم بواسطة الصادرات فينبغي في المقام الأول تشجيع تنمية تلك القطاعات الإقتصادية القادرة على تصدير منتجاتها.

9- الحد من عجز الميزانية.

10-  خلق شفافية الأسواق: فينبغي أن تمنع معونات الدولة للعاملين الخاصين في كل مكان، وعلى دول العالم الثالث التي تقدم دعماً من أجل إبقاء أسعار الأغذية الجارية منخفضة أن تتخلي عن هذه السياسة، أما عن مصروفات الدولة فينبغي أن تكون للمصروفات المخصصة لتعزيز البني الأساسية الأولوية على غيرها.[16]

فتوافق واشنطن، "Washington Consenus"، كانت أهم توجيهاته، مبدأ حكومة الحد الأدنى، وأقل تدخل ممكن من جانب الدولة، التثبيت الإقتصادي بغرض السيطرة على التضخم " التضخم المنخفض "، عدم الحرص الزائد على خفض البطالة، وتجنب العمالة الكاملة " الكثيفة "، إحلال الواردات، عدم وجود معدلات شديدة الإرتفاع للإدخار، مثل تلك الموجودة في اليابان، تيسير الخصخصة، دعم الأسواق .[17]

والحديث عن "توافق واشنطن" لا ينبغي أن يمر دون الإشارة إلى الأسباب الجوهرية التي أدت إليه.

فحينما اندلعت الأزمة الإقتصادية في المنظومة الرأسمالية منذ بداية حقبة السبعينات من هذا القرن، وأنهت بذلك سنوات الإزدهار اللامع لعالم ما بعد الحرب (1945 – 1971)، وكان من الواضح أن تلك الأزمة تختلف عن الأزمات الدورية العادية (الدورات الاقتصادية القصيرة والمتوسطة المدى) من حيث أنها ذات طابع هيكلي طويل المدى وذلك بسبب طبيعة المرحلة الجديدة التي إنتقلت إليها الرأسمالية بعد تسارع عمليات التدويل وسرعة حركة الثورة العلمية والتكنولوجية وما أحدثته من تغيرات مذهلة في قوي الإنتاج، على أن هذه الأزمة قد عبرت عن نفسها، في التحليل النهائي، في أزمة تراكم رأس المال سواء في صعيده المحلي (حيث تدهورت معدلات الربح وزادت البطالة مع التضخم)، أو على صعيده العالمي (إنهيار عصر ثبات أسعار الصرف وإضطراب أسواق النقد الدولية، أزمة أسعار النفط، تغيير علاقات القوي النسبية بين اليابان، وأوروبا، والولايات المتحدة، الإضطرابات الحادة في علاقات العجز والفائض بين الدول).

وفي الوقت الذي حاولت فيه البلاد الرأسمالية الصناعية أن تواجه هذه الأزمة داخلياً من خلال الليبرالية الجديدة التي راهنت على إضعاف تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتغيير أشكال علاقتها بالقطاع الخاص، وهو الأمرالذي ترجم في النهاية التراجع عن الكينزية والإتجاه نحو السياسات النيوكلاسيكية المحافظة التي تؤمن بالفاعلية المطلقة لقوي السوق والحرية الفردية، فإن الرأسمالية حاولت في صعيدها العالمي أن تواجه أزمتها عن طريق تطبيق نوع من الكينزية العالمية خلال الفترة من 1973 – 1982 حينما راحت تضخ كميات هائلة من القروض إلى بلدان العالم الثالث عن طريق تدوير فوائض النفط الدولارية و السيولة المتراكمة فى السوق الأوربية للدولار لتمويل عجز موازيين مدفوعات هذه البلاد و تمكينها من تمويل وارداتها من الدول الرأسمالية الصناعية، صحيح أنهذه الكنزية العالمية قد خفضت، إلى حد ما من حدة الكساد التضخمي في المراكز الرأسمالية، لكن هذه الكنزية التي إستهدفت زيادة حجم الطلب الكلي الفعال العالمي من خلال الإئتمان الدولي المفرط سرعان ما أدت إلى اندلاع أزمة مديونية عالمية مزعجة أصبحت تهدد بإنهيار نظام الائتمان الدولي وحركات رؤوس الأموال القصيرة والطويلة الآجل، وأدت من ثم إلى حدوث إضطراب في علاقة الشمال بالجنوب.[18]

ونظراً لأن الرأسمالية تتعلم دائماً من أزماتها، فقد أدركت أن ضبط وتنظيم علاقاتها مع بلاد العالم الثالث في مرحلة التوسع القادمة وعلى النحو الذي يجنبها من تكرار الوقوع في أزمة المديونية وعلى النحو الذي يؤهلها لإستمرار نقل ونزح الفائض الإقتصادي من هذه البلاد، أدركت أن ذلك يتطلب خلق آليات جديدة للسيطرة على مجمل الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في تلك البلاد " نمط التخصص وتقسيم العمل، توزيع الدخل، دور الدولة، العلاقات الاقتصادية الخارجية، ضبط قوة العمل عند مستويات أجرية منخفضة.". وهذه الآليات الجديدة، التي تعرف الآن تحت مصطلح المشروطية Conditionality التي تنطوي عليها برامج التثبيت والتكيف الهيكلي، قد شكلت، في الحقيقة عبر دقة صياغتها وشروطها ما يمكن أن يسمى بأول مشروع أممي مُحكم لرأس المال الدولي بهدف إخضاع الجنوب لشروط التراكم والتوسع الرأسمالي في الشمال. وهذا المشروع تروج له المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) والشركات دولية النشاط والمستثمرين الأجانب على أنه سيمكن بلاد العالم الثالث من التغلب على إختلالاتها الهيكلية والقيود التي تعوق النمو الإقتصادي وعلاج مشكلات الفقر والبطالة. وعليه فإن هذا المشروع هو عملية لا مهرب منها ويجب قبوله كما هو، وإلا فإن الأحوال الإقتصادية والإجتماعية لهذه البلاد ستستمر في التدهور، وستفرض عليها العزلة الدولية، وستستبعد من التعامل. ويعتمد هذا المشروع، في خطابه الإعلامي والأيديولوجي، على الليبرالية المطلقة التي ترتكز على إضعاف قوة الدولة وإبعادها عن التدخل في النشاط الإقتصادي، والإعتماد على آليات السوق والمراهنة على الدور " القائد " الذي سيلعبه القطاع الخاص (مع تصفية القطاع العام) والإنفتاح بقوة على الإقتصاد الرأسمالي العالمي.[19]

......................................................

هوامش/

[1] محمد انور السادات: ورقة اكتوبر ,, القاهرة ,, هيئة الاستعلامات ,, ابريل ,, 1974

[2] د. جودة عبد الخالق: اهم دلالات سياسة الانفتاح الاقتصادي ,, منشور فى الاقتصاد المصري فى ربع قرن 1952 - 1977 ,, القاهرة ,, الهيئة المصرية العامة للكتاب ,, 1978 ,, ط1 ,, ص364

[3] المرجع السابق ,, ص 367: ص 372

[4] د. جودة عبد الخالق:السابق ,, ص 373

[5] تم الاعتماد على رصد نتائج الانفتاح الاقتصادي على د. ابراهيم العيسوى: فى إصلاح ما افسده الانفتاح ,, كتاب الاهإلى ,, العدد الثالث ,, القاهرة ,, سبتمبر 1984 ,, ط1 ,, ص 16: ص 30

[6] د. جلال امين: معضلة الاقتصاد المصري ,, القاهرة ,, دار مصر العربية للنشر والتوزيع ,, ط1 ,, 1994 ,, ص 32

[7] د. رمزى زكى: فى وداع القرن العشرين - تاملات اقتصادية فى هموم مصرية وعالمية ,, القاهرة ,, دار المستقبل العربي ,, ط1 ,, 1999 ,, ص 189

[8] د. رمزى زكى: المرجع السابق -,, ص 90

[9] د. رمزى زكى: فى وداع القرن العشرين - تاملات اقتصادية فى هموم مصرية وعالمية ,, القاهرة ,, دار المستقبل العربي ,, ط1 ,, 1999 ,, ص 192: ص 196

[10] د. رمزى زكى:المرجع السابق,, ص 196

[11] د. جلال امين: معضلة الاقتصاد المصري ,, القاهرة ,, دار مصر العربية للنشر والتوزيع ,, ط1 ,, 1994 ,, ص 32، 33

[12] د. جلال امين:المرجع السابق ,, ص 35، 36

[13] د. رمزى زكى: فى وداع القرن العشرينمرجع سابق,, ص 196

[14] جون جراى، الفجر الكاذبأوهام الرأسمالية العالمية ، القاهرة، المجلس الاعلى للثقافة، ط1، يناير 2000، ص9

[15] جان زيجلر، سادة العالم الجدد، كتاب سطور، دار سطور للنشر، القاهرة، ط1، 2003، ص65

[16] المرجع السابق، ص 6768

[17] جون جراى، مرجع سابق، ص9

[18] لستر بيرسون و أخرون: ماذا يجرى فى العالم الفقيرشركاء فى التنمية ، ترجمة ابراهيم نافع، دار المعارف، القاهرة، 1971أ0د رمزى زكى، الليبرالية المتوحشةملاحظات حول التوجهات الجديدة للرأسمالية المعاصرة، القاهرة، دار المستقبل العربى، ط1، 1993، ص184 185 0 ولنفس المؤلف: الليبرالية المستبدةدراسة فى الآثار السياسية و الاجتماعية لبرامج التكيف فى الدول النامية، القاهرة، دار سينا للنشر، ط1، 1993

[19] المرجع السابق، ص 186

توابع التبعية: دراسة في ميكانزمات أزمة تخلف المجتمعات العالمثالثية(4)

.ـإن الاشكالية الرئيسية التي تحاول هذه الدراسة ملامستها تتجلى في ظاهرة خطيرة ،ظهرت ملامحها بجلاء ووظوح،مع بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين أي مع تدشين ما أصبح يصطلح عليه بالنظام العالمي الجديد الذي يقوم على عولمة العالم وجعله قرية صغيرة تذوب فيها الحدود الوطنية واقتصادياتها وثقافاته،هذه الظاهرة هي "ظاهرة التبعية"..

. ــ فما هي تعريفات هذه الظاهرة ؟

ــ وما هي أبرز تجلياتها و انعكاساتها على اقتصادات و ثقافات وسياسيات الدول التابعة ؟ بإعتبارها البنيات الأساسية التي تقوم عليها كل حضارة..

. ــ وهل هذه الظاهرة تشكل قدر محتوم على الدول الضعيفة تبعا للمنطق الخلدوني القاضي بأن" المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء"؟.

. ــ من هو المسؤول الريئيسي عن ظاهرة التبعية ومن هو المستفيد الأكبر منها ؟.

. ــ وما هي الآليات الكفيلة بمواجهة هذه الظاهرة ؟وكيف السبيل للحد من انعكاساته الخطيرة على كل ما يتعلق بالهوية والثقافة والاستقلال السياسي..

. مفهوم التبعية: .

. إن مصطلح التبعية من المصطلحات السياسية ذات الطبيعة المطاطية، لتميزها بتعدد تعاريفها وبإختلاف .

. استعمالاتها ،فمن التوصيفات التي تعطى له نجد على سبيل المثال لا الحصر تبعية الفرد لوطنه الانتماء .

. القانوني للفرد بوطنه وهذه تسمى بالتبعية الوطنية فنقول مثلا (فلان تابع لدولة فرنسا،وفلان تابع لدولة الجزائر..).ثم نجد أيضا التبعية السياسية ومعناه انتماء الفرد لتوجه سياسي معين....

. لكن من التوصيفات المهمة لمصطلح التبعية والتي عليها معولنا في هذه الدراسة نجد مصطلح التبعية للغرب أي تبعية المجتمعات المتخلفة بقواعدها السياسية الاقتصادية والثقافية إلى المنظومة الرأسمالية العالمية المتمثلة في دول المركز..

. وهذا ما سنعمل على تحليله وتبيان أبعاده وتجلياته وكذا وجوه تأثيره على وتيرة التطور والتنمية في البلدان التابعة..

. فمفهوم التبعية إنطلاقا من التوصيف الأخير هو عبارة عن علاقة تنطلق من التابع إلى المتبوع،عبر عملية إلحاق قصري بوسائل سياسية وإقصادية وعسكرية،وغزو ثقافي وفكري لتعميم نظام الانتاج الرأسمالي ،وتسويغ للهيمنة التي تمارسها دولة عظمى أو مجموعة دول أحرزت تقدما في محال الاقتصاد والتيكنولوجيا والتعليم فتستخدمها لتحقيق أهداف مادية واستراتيجية ،بما تفرظه على أمم وشعوب أخرى أقل تقدما من إجراءات تلزمها بها وتجبرها على تنفيدها كي يمكنها البقاء والإستمرار.(1).

. إذن فالتبعية هي ظاهرة ملموسة وواقع سياسي واقتصادي مفروض ومعاش،والحديث عنها يجعلنا ننطلق من فرضية أساسية مفادها أن النظام العالمي الجديد يتميز بتركيبة تنقسم إلى صنفين من البنا الاجتماعية : الصنف الأول تمثله الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى وتسمى بدول المركز(centre) أو ما يعرف في المفهوم الشائع بدول الشمال و التي لا تمثل إلا 20 في المائة من مجموع سكان العالم،أما الصنف الثاني فيتمثل في التشكيلات الاجتماعية المتخلفة والتي تسمى بدول الهامش (peripheral) أو ما يعرف في المفهوم التقليدي بدول الجنوب و التي تشكل الحصة الكبرى من مجموع سكان العالم ب 80في المائة.وهذا التقسيم الطبقي ما هو إلا نتيجة للإستعمار الكلاسيكي الذي خلف مجتمعات متأخرة خاضعة لمنظومة كونية globalization تشكل حياتها وتحدد مساراتها السياسية والاقتصادية والثقافية،وهو ما أكده المفكر "محمد عابد الجابري" عندما قال(لقد شكلت الدول المستقلة عن الاستعمار الكلاسيكي ما يسمى بالعالم الثالث ،وهي تشكل دول التخلف بالمقارنة مع الدول التي كانت تستعمرها من قبل، والتي بقيت تتحكم في اقتصادياتها، مما جعل العلاقة بين الطرفين تبدو لبعض الكتاب أنذاك في صورة علاقات طبقية على مستوى عالمي،من هنا وصفتأمام البلدان المستقلة حديثا بكونها أمم بروليطارية). ونفيد من هنا أن السياسة الطبقية إذا كانت على المستوى الوطني تتجلى في إستغلال الطبقة البورجوازية التي تسيطر على معظم وسائل الانتاج ومختلف آليات السلطة للطبقية البروليطارية التي تتكون في معظمها من الطبقة المسحوقة في المجتمع ،فإن السمة البارزة التي تطبع العلاقة ما بين دول الشمال التي كانت تشكل دول الاستعمار المباشر في السابق ودول الجنوب التي كانت تشكل الدول المستعمرة (بفتح الميم) ،هي علاقة العبد بالسيد، والنبيل بالعامي ، والمنتج بالمستهلك...،والمستغل (بكسر الغين) والمستغل (فتح الغين) أو بمعنى آخر هي علاقة طبقية على مستوى عالمي،يترتب عنها تكريس وتعميق وضعية الانحطاط والتخلف التي يقبع فيها المجتمع الجنوبي، عن طريق سلب إرادة الشعوب و إستقلالها السياسي والاقتصادي والثقافي ، وعن طريق تقييد حريتها وسيادتها وسط عصر سريع الاقاع تظل الشعوب المتعثرة فيه تهرول وراءه كالعطشان الضمآن وسط الصحراء القاحلة الذي يلهث نحوالسراب دون جدوى..

. وهنا يثار سؤال ماهي وجوه تأثير ظاهرة التبعية على اقصادات وثقافات وسياسات دول الجنوب؟.

. توابع التبعية الاقتصادية:.. .

. يقوم الاقتصاد العالمي في ظل النظام العالمي الجديد على التبادل الغير متكافئ بين البلدان الاستعمارية الرأسمالية التي تسيطر على معظم الخدمات التيكنولوجية والتي تحتكر إنتاج السلع المصنعة وبيعها بأسعار إحتكارية لدول الجنوب التي تقتصر في عملياتها الانتاجية على تصدير المواد الأولية وإنتاج بعض الصناعات .

. الخفيفة وكذا تقديم بعض الخدمات المعدنية فتقوم ببيعها بأسعار زهيدة تفرضها طبيعة السوق .مقابل .

. الأسعار النارية للمواد المصنعة القادمة من الشمال.مما يجعل عملية التكافئ بين هاته البلدان غير ممكنة بل قل مستحيلة خصوصا إذا علمنا أن دول المركز التي تسيطر على العوامل الرئيسية للتبادل والرساميل تجبر بلدان الهامش من خلال الشركات المتعددة الجنسية على نمو غير متوازن بالتخصص في إنتاج المواد غير مصنعة ذات القيمة المضافة الضعيفة ــ المواد الأولية والخدمات المعدنية البسيطة والطاقة الرخيصة ــ(2).

. وبهذا الشكل ستضمن الدول الرأسمالية الكبرى سوقا خصبة تروج فيها سلعها ورساميلها وتحقق من خلالها ثروات ضخمة وتراكمات مالية هائلة على حساب أزمات دول الجنوب التي تعتبر في خضم هذه المعادلة مجرد مجتمعات مستهلكة بإعتمادها على بنا اقتصادية مشوهة وعلى آليات تدبير بدائية لا تناسب مستوى مثيلتها لدى بلدان الشمال .فماهي إذن الغايات الحقيقية وراء استنزاف اقتصاديات دول الجنوب من قبل دول الشمال؟ هناك حقيقة أكدتها الدراسات الفكرية التي قام بها مجموعة من المفكرين الاقتصاديين بتعدد توجهاتهم وتلويناتهم الفكرية ،على أن معدل الربح في النظام الرأسمالي يتجه على المدى نحو التدهور والتراجع عن مستوياته .

. العالمية. ومن هنا تتأكد نظرية الدورة الاقتصادية التي تبدأ في مراحلها الأولى بالازدهار ثم تليها بعد ذلك فترة من الكساد والأزمة. .

. ومن هنا صيغت المقولة الشهيرة التي تأكد أن تاريخ الرأسمالية عبارة عن سلسلة من الأزمات الدورية ،و المتضرر الأول من هذه الأزمات هي الطبقة الكادحة ،ففي فترة الرواج تكون تحت طائلة الاستغلال البشع ،وفي فترة الكساد تعاني من تخفيضات الأجور أو تجميدها. وعلى العموم يؤدي هذا التناقض على المدى الطويل إلى التفاوت ما بين قدرة النظام الرأسمالي الكبيرة على الانتاج و التراكم المالي من جهة وبين التدهو الكبير على القدرة على تصريف المنتجات واستهلاكها نتيجة سوء توزيع الدخل الوطني .

. وتدهور القدرة الشرائية لدى العمال الذين يشكلون القوة الاستهلاكيةالرئيسية للنظام من جهة أخرى... من هنا يشرع النظام في البحث عن سبل تدبير أزمته بدلا من علاجها، حيث يكون الهدف إنتاج نفس الشروط السابقة للإنتاج والتراكم على الصعيدين الداخلي والخارجي ثم السقوط بعد ذلك في أزمة جديدة. ويشكل التفاوت الدائم بين القدرة الهائلة على زيادة حجم الانتاج وبين القدرة المحدودة على تصريف المنتجات ،تناقضا أساسيا يهدد النظام الرأسمالي بعدم التوازن وبصعوبات تكرار الانتاج الموسع واندلاع الأزمات، لذلك يصبح تصريف فائض الانتاج داخل النضام الاقتصادي الرأسمالي مع مرور الوقت مستحيلا. لذا وجد النظام الرأسمالي أن حل التناقض يجب أن يكون خارجيا ،أي خارج دائرة الاقتصاد الوطني،وفي بيئات غير رأسمالية، أي في مناطق وبلاد لم تتحول بعد إلى النظامالرأسمالي،لأنه لو تمت محاولة التصريف في بيئات رأسمالية مماثلة، فإن المشكلة ستستفحل أكثر.(3).

. من هنا يلجأ النظام الرأسمالي لتصريف أزمته، عن طريق غزو إقتصاديات الدول السائرة في طريق النمو، بضخ استثماراتها في شرايين اقتصاديات هاته البلدان، وبتسهيل عملية التنشيط المالي عن طريق تقديم الديون والمساعدات المالية وكذا بتخصيص برامج اقصادية إصلاحية لها ،وهذا إن دل على شيء إنما يدل كما أكدت"روزا لوكسومبورغ"على أن الانتاج الرأسمالي لا يقدر على الوجود بذاته فهو في حاجة إلى أنظمة اقتصاديةأخرى كأدوات وكتربية للنمو والتكاثر. فالنظام الرأسمالي يجد نفسه عاجزا عن النمو والتطور بدون أسواق شاسعة تمكنه من بسط نظمه ومناهجه الاقتصادية التي تعتبر الأساس لتحقيق أطماعه وغاياته الوحشية..

. هذه الأطماع التي تنحصر في استنزاف الثروات الباطنية واستتباع الطاقات المادية والبشرية لدول الهامش،وكذا في زرع الثقافة الانهزامية، حتى تتمكن الدول الامبريالية من عزل الدول الفقيرة وحصرها في قاع الاقتصاد .

. العالمي.(قي الوقت التي تنمي هي الثروة وتدفع بعجلة نمو اقتصادياتها مخلفتا العوز والتدهور لذا دول الهامش التي ستبقى دائما وفق هاته الخطط الوحشية على هامش التاريخ).فالامبريالية كما يعرفها المفكر .

. الاقتصادي "أندريه جندر فرانك"بأنها أسلوب للإستعمار والاستغلال تتوجه إلى ؛حصر النمو الاقتصادي للدول المتخلفة في قطاعات التعدين و الزراعة ،لكي تأمن المواد الخام للدول الرأسمالية المتقدمة في توجهها إلى .

. تصنيع أكبر، ليزيد الغني في غناه وليستمر الفقير في فقره وباستمرار العوز والتدهور ستبقى دول .

. الهامش في حاجة دائمة إلى إستثمارات ولأموال وصناعات المركز، وبالتالي ستبقى في تبعية دائمة لهذا الأخير الذي سيعتبر بهذا الشكل قد حقق أسما غاياته الاستعمارية..

. لكن ماهي الآليات التي يعتمد عليها النظام الرأسمالي لتحقيق ذلك؟.

. لقد لعبت الشركات المتعددة الجنسية(multinational firm) لمدة تزيد عن خمس عقود دورا محوريا في تنامي .

. الرأسمال الغربي وفي تمتين أدواته ومرتكزاته لدى دول الجنوب، بإعتبارها تقوم على منطق أن الرأسمال .

. لا وطن له أولا حدود له، وبهذه الطريقة شكلت الشركات العبر وطنية إحدى أقوى الآليات .

. التي إعتمدها المركز الرأسمالي لإمتصاص أزماته الاقتصادية والمالية، فالتأثير القصير المدى لهذه الشركات على إقتصاديات دول الهامش كما يرى ذلك "بيكفورد"يزيد من حجم الدخل القومي ويفتح مجالات جديدة للإنتاج، ولكن تأثيره المؤسساتي البنيوي الطويل الأجل يتمثل في تشويه استخدام الموارد في إقتصاد المحيط وكذا في إستخدام الأرض و أسواق العمل وحصص الاستثمار، و يضيف" بيكفورد" أن المنطق الذي تعمل بيه هذه الشركات مشتق من هدف المشروع ككل، ومن ضمنها عملية التصنيع والتسويق في المركز، وبالتالي فهو يؤثر في تخصيص الموارد من وجهة نظر هذه بإستخدام عيوب السوق(قوة الاحتكار في المبيعات والاستهلاكات) للوقوف ضد مخاطر الكوارث الطبيعية والاستهلاكية. إن إهتمامهم بالحفاظ على عمالة رخيصة نسبيا وعلى ضرائب منخفضة وعلى حرية المناورة لا يناسب عادتا التنمية المتوازنة لدول المحيط التي ينتجون فيها.(4).

. وهكذا يلاحظ أن عملية الاستيطان التي تقوم بها هذه الشركات تمر بمرحلتين:.

. تتمثل الاولى في عمليات الاستثمار والتوسيع من نطاق الانتاج وضخ العملة الصعبة في البلد، كل هذه العوامل تساهم في الرواج الاقتصادي وفي الرفع من مستوى الدخل الإجمالي للبلاد.وعلى العموم فهذه المرحلة تتسم بالليونة واللطافة إن صح التعبير، بيد أن، هذه العملية تعتبر مرحلية أو بمعنى أصح مجرد تبسيط للساحة، من أجل عملية ومرحلة أخرى تتمثل في إحتكار الانتاج الصناعي و السيطرة على المنافذ المالية، و التحكم في آليات التسويق ثم الاستحواذ على معظم الاستثمارات في مجال المواد الأولية ،وهذه المرحلة التي يمكن تسميتها بالمرحلة الوحشية على نقيض سابقتها تؤدي إلى إفقار الانتاج المحلي ثم القضاء عليه وكذا نمو نشاط إقتصادي تصديري موجه للخارج، إنفصام البنية الانتاجية وتفاوت في توزيع الدخل ثم بزوغ بورجوازية تجارية كمبرادورية مرتبطة بالرأسمال الأجنبي،و بالتالي تشويه البنية الاقتصادية المحلية وجعلها في علاقة تناسبية مع الاقتصادات المستعمرة. .

. وهذا ما يفسر سيطرة ثلة قليلة جدا من الشركات معظمها أمريكية على معظم إقتصادات العالم، إلى درجة أصبح الدخل الإجمالي للواحدة منها يفوق الدخل الإجمالي لمعظم دول جنوب الصحراء..

. و تتجلى ظاهرة التبعية الإقتصادية بجلاء خصوصا على مستوى العلاقات التجارية لدول الهامش ، حيث نجد الأرقام الإحصائية والنسب المأوية واضحة وفاضحة في هذا الجانب:.

. ــ فعلى المستوى التيكنولوجي تستورد هذه الدول جل مستلزماتها من الصناعات الثقيلة والخفيفة والمتوسطة من دول المركز بنسبة تزيد عن 70 في المائة من إستعمالاتها..

. ــ وعلى المستوى الغذائي تصل نسبة المواد الغذائية القادمة من المركز إلى الجنوب إلى 60 في المائة حتى تتمكن من هذه الأخيرة من تحقيق حاجاتها و أمنها الغذائي. كما أن مساهمة التجارة الخارجية في الناتج المحلي لهذه البلدان تفوق 80 في المائة وهو رقم جد مهول..

. ــ وعلى المستوى المالي فإن المديونية الإجمالية للدول العربية على سبيل المثال لا الحصرـ كنموذج لدول الجنوب ـ تبلغ اليوم حوالي 380مليار دولار وهي بذلك تساوي إجمالي الدخل السنوي لبلدان الوطن العربي مجتمعة..

. ويجب التذكير بأن المديونية الخارجية كانت دائما هي السبيل الناجم عن التحكم المطلق للرأسمالية على الصعيد العالمي، ويعتبر هذا التحكم المطلق هو التعبير الاقتصادي و السياسي على بلوغ مرحلة العولمة الليبرالية.(5).

. فهذا الرقم الفاحش من المديونية العربية سيبقى كرقم سجين على صدرها، لأنها ستبقى حبيسة الرأسمال الأجنبي ورهينة لمناهج ونظم إقتصادها ،تفرضها عليها بعض المنظمات التي وجدت خصيصا لخدمة ظاهرة التبعية ولتنميط النظام الرأسمالي على سائر بقاع العالم في ظل ما أصبح يصطلح عليه بالنظام العالي الجديد، و نجد من بين أبرز هذه المنظمات و المؤسسات الإستعمارية (البنك الدوليworld bank، صندوق النقد الدوليinternational monetary find، الجاط gatt، منظمة التجارة العالمية...)..

. كما أنه بقراءة بسيطة للأرقام السالفة الذكر يتضح أن أسواق دول الهامش تمثل أسواقا إستهلاكية وتربة خصبة للخدمات القادمة من دول المركز،وبالتالي سيبقى مصير هاته الأسواق محكوما بمدى توسع و انكماش وضعية الرأسمال الأجنبي ففي الوقت الذي سيعرف فيه إنتعاشا وزيادة في حجم التراكمات الماليةسيصل هذه البلدان نصيبها من فتات التنمية و الرخراء،أما في الأوقات التي سيمر فيها الرأسمال الأجنبي من لحظات الانكماش فإن الواقع سيكون مهولا على الدول التابعة له. وهنا تكمن المفارقة التي تبين مدى ضخامة الوحشية الرأسمالية ، حيث أن الازدهار المالي الناتج عن التراكم المالي الذي تم تصريفه في دول الهامش لا تستحق منه هذه الأخيرة إلا الفتات القليل، بيد أن ثقل الأزمة وظروف الأزمة التي قد يمر بها الوضع الرأسمالي العامي لبرهة لا تتحملها ولا تتكبدها إلا الدول المستضعفة. وهذا ما يفسر حالات البطالة والعطالة والفقر والتهميش والفساد والتشظي الأمني والأهلي الذي تمر به معظم دول الهامش. بحيث لايعقل أن تستحوذ دول المركز التي تمثلها الدول الأكثر غنا في العالم على معظم الثروات المالية في العالم مع العلم أنها لا تمثل سوى20 في المائة، في الوقت الذي تقبع فيه 80 في المائة من سكان العالم الذين يمثلون الدول الفقيرة على عتبات الفقر و الجوع والحرمان والكساد والإنفلات الأمني. .

. وحاصل القول في هذا الجانب هو أن التبعية الإقتصادية وما لها من إنعكاسات على إقتصادات دول الهامش من خراب في هياكلها وفي نظم تسييرها وفي إستقلالية قراراتها الإقتصادية، و كذا في إنعكاساتها على مستوى معيشة الشعوب، تلك ماهي إلا شكل من أشكال التبعية الممنهجة للغرب الرأسمالي الذي لا تنحصر أطماعه في بسط يده على إقتصاد العالم فقط بل يتعدى ذلك إلى الإختراق والتعدي على ثقافات وحضارات الشعوب وأيضا حتى إستقلالها السياسي..

. فكيف يتم ذلك؟.

. توابع التبعية الثقافية:.

. إذا كانت من الانعكاسات السلبية "للتبعية " على المستوى الإقتصادي كما سلف الذكر تتجلى في بوغ درجات دنيا من مستويات التنمية وفي تفشي ظواهر خبيثة من فقر وعوز وبطالة وركود و إنهيار مهول للخدمات الاجتماعية والصحية و إفتقاد شروط الحياة الكريمة وبزوغ هوة ضخمة بين طبقات المجتمع ،فإن إنعكاسات هذه الظاهرة على المستوى الثقافي والحضاري ــ وهو ما يسمى بالغزو الثقافي أو التغريب الحضاري ــ يكون أكثر كارثية بحيث يتجلى ذلك في تفكيك قيم المجتمعات وتدمير نسيجها الثقافي والتاريخي و إستبدالها بمنظومات قيم أخرى وبنيات ثقافية جاهزة يقال عنها أنها الأرقا..

. فماهي أشكال هذا الغزو الثقافي؟ وماهي أبرز مظاهره الحالية؟و أين تتجلى نتائجه وانعكاساته على مستوى الثقافات الوطنية والقومية؟.

. يختلف الغزو الثقافي عن الغزو العسكري في أن هذا الأخير كان يستمد قوته من آليات الإخضاع الخارجي، من إستراتيجيات عسكرية ومن أسلحة فتاكة ومن جيوش ضخمة بالإضافة إلى المناورات والضغائن السياسية. .

. بخلاف الغزو الثقافي الذي يعتمد على آليات الإخضاع الداخلي وهي أشد خطرا من سابقتها، لأنها من جهة غير ظاهرة ومن جهة أخرى غير خشنة بإعتمادها على أساليب لينة ومهظومة،وبالتالي فعدو الأمس كان محترسا لأنه كان يعلم بأنه سيواجه مقاومتا شديدة ورفظا مطلقا من أصحاب الدار، بينما عدو اليوم هو في أتم راحته وطمأنينته لأنه يعلم ببساطة أنه يستطيع أن يخترق جميع البيوت حتى المحكمة إغلاقا أبوابها ونوافذها. وهكذا فالاستراتيجية القديمة التي كانت قائمة على منطق "إخضاع الأبدان أولا... ثم إخضاع النفوس" تحولت اليوم إلى إستراتيجية إخضاع النفوس أولا التي ستعبد الطريق إلى إخضاع الأبدان بعد ذلك بكل سهولة ويسر، وبدون إستخدام أي نوع من أساليب الضغط العسكر..

. فلا جرم من القول إذن بأن "الغزو الثقافي" هو آلية لتذويب الثقافات الوطنية والثافات القومية بزعزعة هوياتها وطمسها وسلب مكوناتها وجعلها رهينة لنمط ثقافي واحد و وحيد هي ثقافة المركز المهيمن بزعامة أمريكا.وقد سبق أن قال الرئيس الأمركي السابق "غروفور كليفلاند"(1893)في إحدى خطبه :"إن دور أمريكا الخلاق هو تحضير العالم ليصبح أمة واحدة تتكلم لغة واحدة" أي بمعنى آخر جعل الأمم سجينة سلوكيات وثقافة أمريكا الهجينة، بنقل هوامش الثقافة التي تعبر عن واقع وطن أو أوطان أخرى أجنبية ذات ماض وحاضر مختلفان، بقدر كبير، إلى حاضر وطن آخر بل إلى ماضيه وحتى مستقبله..

. ووبهذه الطريقة ستفرز لنا الثقافة التابعة أو "التبعية الثقافية" مجتمعات معادلة للثقافة اللاوطنية و اللاقومية، بإعتبارها قائمة على تجاهل تراثها وقيم تاريخها. وهنا يلاحظ بأن مفهوم التبعية الثقافية مرتبط كل الإرتباط بمفهوم التغريب والإستلاب، أي الإحتداء بالغرب و بأنماط عيشه المختلفة، وخلق هوة شاسعة مابين المرء و واقعه. حيث تسكن الذات مشاعر التغرب والانسلاخ عن الذات،الشيء الذي يحولنا (نحن الأمم التابعة) إلى أمم ميتة، جامدة مقلدة، مستهلكة وغير منتجة، مفعول بها وغير فاعلة..

. وهنا يقدم جبران خليل جبران توصيف عميق يصلح لتصوير حالة الاستلاب و العجز التي أصبحت تعرفها البلدان المتخلفة بصفة عامة والبلدان العربية بصفة خاصة في ظل ما أصبح يصطلح عليه ب (النظام العالمي الجديد)، حيث يقول(كان الغربيون في الماضي يتناولون ما نطبخونه فيمضغونه محولين الصالح منه إلى كيان غربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لايتحول إلى كيانهم بل يحولهم إلى أشبه غربيين وهي حالة تبين لي الشرق كعجوز فقد أضراسه و طور آخر كطفل بدون أضراس)..

. وتتم عملية التنميط الثقافية عبر شتى وسائل السيطرة التقنية والمعلوماتية والإتصالات، ولاسيما إستعمال الأقمار الصناعية.ولا شك أن أخطر مظاهر التنميط وسيلتا هو شيوع ثقافة الصورة بديلا عن ثقافة الكلمات ، و إنتشار الكتاب الإلكتروني (أقراصcd.rom) مما يضع جمهور الأطفال والناشئة أمام الاستبداد التقني الذي يقلل الخيال والإبداع جراء ذلك، ناهيك عن سرقة الوقت... والمشاعر والأفكار ووضع هذا الجمهور في حالة عطالة ذهنية وثقافية أمام منتجات التنميط الثقافي وقوتها الهائلة.(6).

. وبهذا الشكل يسهل على الإحتلال الثقافي أن يرسي جذوره و أن يوسع مقامه داخل الثقافات المحتلة بعدما يكون قد تخلص من كل ما له صلة قريبة أو بعيدة من الثقافة المحتلة..

. فبرؤية بسيطة لمجال الإعلام على سبيل المثال لا الحصر نجد الإحصاءات أيضا واضحة وفاضحة، بحيث تسيطر دول الشمال على 95 في المائة من وسائل الإعلام العالمي مقابل 5في المأة لدول الجنوب. فألا تدل هذه المعدلات على مدى السيطرة الغربية على مجال الإتصال بكافة أنواعه، من القنوات الفضائية ومن الأقمار الصناعية ومن الصحف والمجلات والإذاعات والكتب، بالإضافة إلى وكالات الأخبار التي تسيطر على جل مصادر الخبر. و بالتالي قدرتها على تسريب ما يحلو لها من الأفكار والبرمجيات والثقافات التي تخدم مصالحها وتذكي علوها وهيمنتهان على حساب خصوصيات الآخر وثقافته وحضارته..

. فخطاب الغر المستعلي في ظل زمن العولمة أو مايسمى بالنظام العالمي الجديد، هو خطاب العقل والنفوس، وعليه (فإن الهجوم الثقافي الواسع يحمل خطاب متعدد الأوجه والأبعاد. .

. و ملتمس بمائة خطاب، وهو موجه بالدرجة الأولى إلى العالم الثالثي بغية تذليله وتحويله إلى مجرد جهاز مستقبل مكدود ومحدود). الشيء الذي سيجعله جهاز سلبي وفقير مسلب الخصوصية والهوية ومفتقد إلى روح الإبداع والإبتكار لأنه مجرد عقل تابع وجامد..

. وفي خضم هذه البهرجة الغربية نجد معظم النخب المثقفة في بلدان العالم الثالث تتشبث بالأنجاد والأوتاد بالتجربة الغربية وبإستراتيجيتها الحداثية المبنية على منطق وحشية الرأس مال، بل تعمل على إستلهامها وزرع كيانها داخل تراب أوطاننا و أراظينا وواقعنا.وبالتالي تكريس ثقافة التبعية للغرب وتسليمه مصيرنا و أوراق إعتمادنا له بإعتباره الوكيل الذي يملك المفاتيح التي ستخرجنا من غيابات التخلف واللا إستقرار .غافلين غير شاعرين بمسوؤولية هذا الملاك الوهمي عن هذا التخلف وحالة البطالة والعطالة التي نتكبد خسائرها يوما بعد يوم، و ما إنغماسنا في نظمه الثقافية والإقتصادية إلا تعميق للأزمة المعاشة وتكريس لمنطق الهزيمة التي يريدها لنا الغرب. فإنصراف النخب للإنبهار بالغرب والإنشغال بالجدل اللفظي والحوار العقيم، بدل أداء دورها التحسيسي والتوعوي بالأخطار الحقيقية التي تصدر عنه، يجعلها نخبة عميلة ومستلبة تضر ثقافات وحضارات وقيم بلدانها أكثر مما تنفعها..

. ومخلوص القول هو يجب الاعتراف بأننا نعيش حالة من غزو الثقافات والخصوصيات وهذا ما أكدته أطروحات غربية عديدة"كصراع الحضارات لهنغتنتون"،و"نهاية التاريخ لفوكويام" وغيرها من الالأطروحات (التي سنحاول إلقاء شيء من الضوء عليها في مقالات مقبلة )..

. فما هو السبيل للتصدي لهذا الغزو؟ و أليس التبعية السياسية هي التي تمهد للتبعية الاقتصادية وكذا للتبعية الثقافية؟ وبالتالي الحد منها هو الحل في التصدي لذلك؟.

. توابع التبعية السياسية: .

. أدى إنهيار المعسكر الاشتراكي و توحيد الألمانيتين عشية بداية التسعينات، إلى تغيير واضح على مستوى النظام الدولي ودواليبه وتشكيلاته، بحيث برزت مجموعة من القوى العالمية والإقليمية الجديدة والتي أخذت تنافس الدول في المجال السياسي، و من أهم هاته القوى المجموعة الأوربية التي تشكل أكبر تكتل إقليمي في العالم، ثم نجد إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بعد إنزياح السوفييت عن الطريق..

. كل هذه العوامل وعوامل أخرى ستساهم في رسم حريطة جديدة للعالم من أبرز سيمها، بروز مايسمى بالقطبية الأحادية و أطماع السيطرة على العالم من طرف الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق" الإستتباع السياسي " الذي يعتبر الممر للتبعية الإقتصادية ثم التبعية الثقافية والاجتماعية..

. فكيف يتم إخضاع القرارات السياسية للإرادة الأمريكية؟ و ماهي أبرز تجليات هذا الإخضاع على السيادات الوطنية؟.

. إن سيادة الدولة وإستقلالها السياسي كانا يشكلان دائما الوحدة الارتكازية لممارسة الدولة لصلاحياتها ونشاطاتها وقراراتها وتشريعاتها ومراقباتها لأراضيها وثرواتها، أصبحت الآن مجرد حلقة صغيرة ضمن سلسلة من العلاقات و التأثيريات في عالم يزداد إنكماشا يوما بعد يوم " فالقرارت التي تتخد في عاصمة من العواصم العالمية، والتشريعات التي تخص دولة من الدول تستحوذ مباشرة على إهتممام العالم بأسره.والسياسات التي تستهدف قطاعات اجتماعية في مجتمع من المجتمعات تؤثر تأثيرا حاسما في السياسات الداخلية والخارجية لكل المجتمعات القريبة والبعيدة" .

. فالبلدان المتخلفة في ظل النظام العالمي الجديد ونظام الأحادية القطبية، هي مجرد مفعول بها بفعل فاعل الفعل السياسي الدولي، الذي تلعب فيه أمريكا و من حولها باقي البلدان عالم المركز، مركز صنع القرار السياسي وترسيم الخيار الاقتصادي ورسم التصور الأيديولوجي للعالم..

. وهذا ما يظهر بجلاء على ساحة العلاقات الدولية التي أصببحت محكومة بسياسة softpower تارتا و hardpower تا رتل أخرى، الهادفة إلى سلب إرادة الشعوب السياسية و إخضاع قراراتها و إختياراتها السياسية،حتى تتمكن من تحقيق مخططاتها التوسعية في المجال الإقتصادي و حتى الحضاري. سواء من خلال سياسة القوة الناعمة softpower التي ترمي إلى إخضاع الشعوب للقرارات الأمريكية بالوسائل السلمية، أو من خلال سياسة hardpower التي تستعمل فيها قوة السلاح والعسكر والقمع والحصار ضد الشعوب الرافض لسياسة أمريكا التسلطية. و أبرز توصيف لهذه الآلية الحرب على العراق الذي رفض الرضوخ للمخططات الأمريكية فكان مصيره الغزو العسكي الذي إستطاع بقوة الحديد والنار أن يخضع مصيره وفق المصالح الأمريكية. ونفس المآل عرفه الأفغان حيث تم إستبدال نظام الدولة السياسي بنظام يتوافق مع الإرادة الأمريكية وكذلك وذواليك مع الحصار الذي كان مضروبا على ليبيا بالإضافة إلى إيران وسوريا....

. كما تتجلى أشكال التبعية السياسية حتى في أحقية تقرير مخططاتنا الإصلاحية، فها هو "مشروع الشرق الأوسط" يطل علينا مبشرا بالإصلاح والتنمية المزعومة، وهو مشروع أمريكي محض مضمونه الأساسي الليبرالية وفق المقاصاة الأمريكية، أي ديمقراطية إطلاق العنان لحرية السوق وللمضاربات الرأسمالية دون التفكير فيما يتفاقم عن هذه القوانين المضنية من إضعاف إرادة الدولة ونهب خيراتها وإحتكارها بيد طبقة واحدة وبالتالي تنامي المشاكل الإجتماعية وسحق الطبقات الدنيا وبروز طبقة بورجوازية عميلة لأطماع المركز. ب.

. الإضافة إلى إقحام إسرائيل في المنطقة و إعطائها الدور الريادي في تسيير دواليبها، وكذا الترويج لمصاح الشركات الإستيطانية، إضافتا إلى حراسة المصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة..

. ولا تتجلى التبعية السياسية فقط في إخضاع سيادة الدول للمركز، بل تتجلى أيضا في إخضاع وتوظيف بعض المنضمات الدولية كالأمم المتحدة و مؤسسات التمويل الدولية كالبنك الدولي و منظمة التجارة العالمية من أجل خدمة مصالح القوى العظمى في العالم، بالضغط على حكومات الدول وخاصة دول العالم الثالث، والتأثير على سياستها وقراراتها السيادية..

. ونخلص مما ذكر إلى أن التبعية السياسية تعتبر المفتاح والقنطرة التي يمر منها إلى التبعية الإقتصادية والثقافية. لأن الإرادة السياسية والإستقلال الوطني والحرية في الإختيارات السياسية هي المحدد لمصير الشعوب( فلو حصنا ذاتنا مثلا بفرض أنظمة سياسية ملائمة للمعطيات الإجتماعية الوطنية و للخصوصيات الثقافية المحلية، وفرضنا قيود صارمة على الإملاءات التي تأتينا من المركز من المأكد أنه سنستطيع بناء مجتمعات مستقلة صامدة ضد كل الرياح التي تأتي من الخارج ولو كانت من طينة الأعاصير..

. نهاية من أجل البداية:.

. وبعد إننا نخلص من هذه الدراسة المقتضبة حول إنعكاسات وتجليات ظاهرة التبعية على النظم السياسية و البنيات الإقتصادية و السوسيوثقافية للمجتمعات العالم الثالثية إلى نتيجة واضحة وفاضحة، مفاذها:.

. ــ أننا نعيش في مجتمع عالمي طبقي تستحوذ فيه أقل من 300 عائلة غربية على 80 في المائة من ثروات العالم..

. ــ زرع إستراتيجية "تنمية التخلف" داخل البلدان النامية من أجل تمتين جذور التبعية..

. ــ تفشي الإستيلاب الثقافي الناتج عن الإنبهار بالحضارةالغربية..

. ــ ظهور بورجوازية كمبرادورية داخل البلدان التابعة كعملاء للإستراتيجيات الغربية..

. ــ تبعية القرار السياسي للغرب الرأسمالي عن طريق سلب إرادة الشعوب بمختلف وسائل الإخضاع الوحشية..

. ــ هيمنة النظام الرأسمالي الإحتكاري بمبادئه و قواعده على الإقتصاد العالمي..

. كل هذا وذاك يجعلنا نعيش اليوم في مرحلة مواجهة بين الشمال والجنوب، بحيث لا يمكن وضع حد لهذا الصراع .

. إلا بتغيير حقيقي للنظام الدولي، بما يحقق دمقرطة العلاقات الدولية وتطبيق المبادىء .

. الديمقراطية التي ينادي بها الغرب داخل بلدانه على الصعيد العالمي و تحقيق العدالة الإجتماعية و الإقتصادية و محاربة الرشوة و الفقر والأمية و الأمراض داخل بلدان العالم الثالث. إذ لا يعقل أن يبقى الغنى الفاحش في مناطق جد محدودة من العالم و الفقر المدقع في بقية المعمور.(7) بيذ أن لاشك من أنه لابديل عن السير قدما نحو الخلاص من دواليب التبعية وتبعاتها و رسم أفق التقدم والإزدهار الإقتصادي، إلا بإحداث طفرات واسعة على مستوى الإطار السياسي و الإقتصادي و الثقافي الذي نعيش فيه، وإقامة مجتمعات مدنية مستقلة الإرادة تستمد قوتها من أسس ديمقراطية متينة. ورسم مشاريع سياسية وإقتصادية إنتاجية متحررة عن النموذج الغربي ..

. ثم وضع خطط إستراتيجية دفاعية ضد كل الأطماع الأجنبية على ثرواتنا و على أسواقنا. وتكثيف التعاون الإقتصادي جنوب ــ جنوب و إحداث تظيملت مالية خاصة بها.بيذ أن هذا لايعني إحداث قطيعة تامة مع الغرب الرأسمالي بل بالعكس من ذلك من الضروري إحداث تلاقح معه على كافة المستويات و المجالات على أساس الإستفادة من تجاربه التيكنولوجية وكذا الإقتصادية و الإجتماعية ومحاولة تبيئتها وفق أنساقنا السياسية ووفق خصوصياتنا السوسيوثقافية.فهل يمكن ذلك؟.

. ســـؤال فـــيـــه نــظــر....

. ســـؤال يــؤســس لــقــول و لإشــكــال آخــر..... .

. /المغرب /تاونات.

. في 22 غشت 2005 .

. (1) محمد سعيد الطالب : الثقافة والتنمية المستقلة في عصر العولمة.(من منشورات إتحاد كتاب العرب )عن موقع إتحاد كتاب العرب.دمشق..

. (2) نفسه....

. (3) عبد السلام أديب : الأزمة الإقتصادية في المغرب إلى أين؟منشورات النهج الديمقراطي 2005 ص:23و24..

. (4) تيمونز روبيرتس، أيمي هايت، ترجمة: سمر الشيشكلي: من الحداثة إلى العولمة. سلسلة عالم المعرفة .

. عدد 310 ص:57. (5) عبد السلام أديب نفس المرجع السابق... ص:19..

. (6) عبدالله أبو هيف.الغزو الثقافي.مجلة النبأ العدد 63..

. (7) المهدي المنجرة.حوار التواصل (من أجل مجتمع معرفي) دار وليلي 200 ص:60. .

العرب بين التبعية... والتصحر السياسي(5)

 يمرّ العرب في أصعب مرحلة سياسية تستهدف وجودهم السياسي على مستوى الأمة وعلى مستوى البلاد المستقلة حيث يواجهون مصير الانقياد والتبعية على ثلاثة مستويات (الفرد... الدولة... الأمة).

فعلى مستوى الفرد يتعرّض الإنسان العربي لحالة مسح لذاكرته التاريخية والثقافية والعقائدية لتحويله إلى فرد تابع دون جدال لا يملك حق تقرير مصيره فيصادر فكرياً وثقافياً ليغرق في العولمة الاقتصادية والعلمية والسياسية بدأت تنعكس على مظهره الخارجي ومفرداته وسلوكياته المتنوعة ليقلد بالشكل ما يفترضه انسجاماً مع الآخر (الغربي) أو إنكاراً لانتمائه ظناً بأنه الطريق لكسر الحصار المفروض عليه خارجياً وفراراً من القيود الداخلية التي تقزمه وتصنعه كآلة بشرية بما يخدم النظام عليها أن تقنع بما يعطى لها لتأمين الحياة دون أن تتدخل بالسياسة او التفكير وتمارس نشاطها الديني الجاف المحصور بطقوس بين المخلوق والخالق دون انعكاس للدين على السلوك الفردي والجماعي مما صنع إنساناً عربياً على نوعين:

ـ إما مستسلماً للواقع المفروض طلباً للسلامة أو بالتالي الرضى بالإلغاء من حركة المجتمع العامة.

ـ أو متمرداً على الواقع فيتحول الى سجين في المعتقلات او مطارداً كإرهابي او خارجاً على القانون.

ـ مهاجراً كلاجئ سياسي في بلاد الله الواسعة وبالتالي يختار الإلغاء السلبي خارج المعادلة، ولأن الكيان الاجتماعي هو البناء المتكامل للأفراد فبعد ضياع الفرد وتصنيعه بشكل يتلائم مع النظام فيؤدي ذلك لهدم البنية الاجتماعية وتدمير المجتمع الأهلي بصفاته السياسية والفكرية، ويبدأ تتلاشى هوية الدولة ويتحول النظام الى مجلس إدارة سياسي او عسكري لتنظيم عملية القيادة والضبط العام لما يسمّى (الشعب) المفرغ من طاقاته والذي يحتفظ بدوره الذي يصفق للزعيم أو القائد او يكون عدداً يحقق نسبة الـ 98٪ في الاستفتاءات الشعبية.

ـ وبعد تفكك الدائرة الأولى على صعيد الفرد والمجتمع يرى النظام نفسه في مرحلة الصراع الدائم مع شعبه أو الانشغال بضبطه وتصبح قاعدة استقراره معرضة للاهتزاز الدائم وعدم الحماية الداخلية فيصبح لقمة سائغة بيد الدول العظمى التي تعرض خدمات الحماية السياسية والأمنية والمساعدات الاقتصادية مقابل مصادرة سياساتها الخارجية والعمل الأمني المقابل بما يعني التبعية الكاملة والانقياد الأعمى للخارج بحيث يصبح الحاكم وكيلاً سياسياً عن الدولة التي يحكم لمصلحة الدولة الراعية مقابل مكاسب شخصية له ولعائلته وبطانته.

هذا الواقع السياسي للعرب والذي تم التفلت منه بشكل ما في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية والسبعينيات، حيث حصلت بعض الانقلابات الوطنية او الثورات، تعرض لانتكاسات سياسية وجيو سياسية باحتلال فلسطين عام 1948 او بانتكاسة حزيران عام 1967 وحاول العرب النهوض من هذه النكسات عبر حرب تشرين عام 1973 بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي السابق حيث نجحوا الى حد ما في إعادة الحياة لقرارهم السياسي والاقتصادي (النفط) وإدارة التكامل بين الاقتصاد والسياسة، لكن ما لبثوا أن دخلوا في سبات عميق بعد الانكفاء السياسي لمصر بعد اتفاقية كامب دايفيد مع الكيان الصهيوني.

وتجاوز هذا السبات الثلاثة عقود حتى الآن، وبدأ انفراط عقد الموقف العربي الموحد من خلال تقويض العمل العربي المشترك وإلغاء الجوامع المشتركة بحيث تم تهميش الجامعة العربية ودورها واستبدالها بكيانات اقليمية عربية (مجلس التعاون الخليجي...) والتحالفات الثنائية او الرباعية ومن ثم تكوين ثلاثية سياسية عربية (مصر ـ السعودية ـ سوريا...) في القرارات المصيرية الكبرى كعمود فقري يجمع الشتات العربي، وبدأ عقد الدول العربية بالانفراط واحداً تلو الآخر، العراق يجتاح الكويت، يهدّد السعودية ويستفز سوريا، الأردن توقع اتفاقات السلام مع اسرائيل، وتوتر مع سوريا حول المياه، ليبيا تحت الحصار بعد حادثة لوكربي، الجزائر وإلغاء الانتخابات النيابية بعد فوز جبهة الانقاذ والحرب الأهلية التي حصلت وجعلت الجزائر على هامش الفعل السياسي العربي والعالمي وإلغاء دورها الجامع او المساند، حصار العراق وبعده الاجتياح الاسرائيلي للبنان، واحتلاله وعمليات الاغتيال، موريتانيا والعلاقات مع اسرائيل، حروب السودان الداخلية التي بدأت ما بين النظام وحركة حسن الترابي الاسلامية لإضعاف مركزية الحكم قبل إعطاء الزخم لحركة الانفصال في الجنوب السوداني، ولحركة التمرد في الشمال.

وبالتالي دخل العالم العربي القرن الواحد والعشرين أشلاء سياسية متناحرة إما بين بعضه البعض كدول، او داخلياً كأنظمة وشعوب، وبالتالي أسقط لفظ العالم العربي كواقع سياسي وجغرافي وجيو سياسي وتحول الى (الشرق الأوسط) لتكون اسرائيل جزءاً من هذه المنظومة السياسية دون غربة مع العالم العربي (السابق) ومن ثم تم تطوير الشرق الأوسط الى الجديد وفق الرؤيا الأميركية، بإضافة الوجود الاميركي إقليمياً في أفغانستان والعراق والكويت وقطر.. والأردن وبقية البلاد العربية أُعطي هذا الشرق الأوسط إسماً جديداً هو (الشرق الأوسط الجديد) الذي يرتكز على قواعد جديدة تحدّد هويته وهي:

1ـ شطب الهوية العربية الحضارية والثقافية والتاريخية.

2ـ إلغاء السلاح الاقتصادي (الأساس) في العالم العربي وهو النفط إما عن طريق المصادرة المباشرة (الاحتلال) او التحكم بالأسعار (20 دولاراً او استرجاع عائدات النفط بطرق الخداع كما حصل في قضية الأسهم في السعودية والخليج عام 2006 حيث بلغت خسائر المملكة العربية السعودية 243 مليار دولار بينما بلغت عائدات النفط لعام 2006 ما يقارب 170 مليار دولار، وكذلك فإن خسائر دول الخليج في البورصة عام 2006 بلغت 423 مليار دولار أي ما يوازي مرة ونصفاً مبيعات النفط عام 2006 للدول الخليجية.

3ـ إحداث الثقوب السياسية والأمنية في العالم العربي على مستويين:

أ ـ على مستوى الصراع بين الأنظمة والحركات الأصولية (القاعدة).

ب ـ الاحتلال المباشر او التدخل الأمني المباشر.

اسرائيل في فلسطين والتهديد والتدخل في دول الطوق (لبنان ـ سوريا ـ الأردن ـ مصر)، أثيوبيا (الصومال)، الوجود الأميركي (العراق ـ الكويت ـ قطر ـ البحرين)، السودان (حركة الجنوب ـ والشمال..) الجزائر (الحرب مع الجماعات الاسلامية)، المغرب (الصحراء الغربية)، السعودية (القاعدة)، مصر (الأخوان المسلمين)، وبعدها تحريكاً لأقباط (بعد شق الكنيسة القبطية لحصار البابا شنودة) المعارض لأي تحرك عدائي ضد النظام او الانتماء القومي العربي.

4ـ مسح الهوية الثقافية والعربية للشعوب، وصف الإسلام بالفاشية او الارهاب وتفريغه من محتواه الحضاري وإعطاؤه الوجه الدموي غير الحضاري الذي يعتمد القتل (الذبح) وليس الحوار.

5ـ تدمير الهوية العربية الجامعة واللغة الواحدة وإظهار الهويات الأمنية والعرقية والطائفية فيصبح العرب (عرباً ـ أكراداً ـ بربراً ـ أمازيخ ـ مسيحيين ـ مسلمين ـ أقباطاً ـ سنة ـ شيعة ـ علويين متطرفين... معتدلين.. عرباً... وعرباً أفارقة..)، فتصــبح الأمـة مقسمة إلى أكثر من خمس عشرة جماعة حضارية متناحرة وتتحوّل من جماعة سياسيــة مؤثـرة الى جماعة سياسية تابعــة ومـن جماعــة اقتصــادية غنية إلى جماعة فقيرة تعيــش على المسـاعدات، وفي هذا يكون العالم العربي على أعتاب صحراء عربية سياسية واقتصادية وثقافية تنسجم مع الصحراء العربية ورحالها ويصادر الغرب (أميركا) بشكل خاص ما فيها من كنوز (نفط ومواد أولية) وتصادر من الصحراء البشرية ما فيها من كنوز عقلية وفكرية (علماء... مبدعون) من خلال فتح أبواب الهجرة إلى الخارج ويتحوّل هذا العالم العربي (من أمة) تعطي الى أمة تستجدي، لكنها أمة تستجدي بكامل أناقتها تلفها الأوسمة والنياشين وتنقلها السيارات الفخمة وتسكن القصور المزينة، لكنها تعطي كل ما تملك وكل ما لا تملك فتبيع الماضي والحاضر وترهن المستقبل باتفاقيات تصادر القرار والهوية.

فهل يمكن لبعض الواحات المقاومة والممانعة أن تمنع هذا التصحر السياسي وتعيد للصحراء العربية أخضرها الفكري والثقافي أم ستحترق بوهج براميل ويغطينا دخانه الأسود لنغرق في عالم النسيان؟

نظريات الخطاب النقدي لعولمة أنظمة الاتصال العالمية والتبعية الإعلامية(6)

توقف الخطاب النقدي العالمي والعربي طويلاً أمام مظاهر الخلل في بيئة النظام الاتصالي والإعلامي الدولي، إذ اجتهد هذا الخطاب في رصد وتحليل مظاهر وآليات هيمنة الدول الصناعية المتقدمة والشركات المتعددة الجنسيات سواء على منتجات تكنولوجيا الاتصال والإعلام والمعلومات أو على عمليات الإنتاج وتوزيع الأخبار والمضامين الإعلامية التي تبثها وسائل الإعلام في عصر العولمة والسماوات المفتوحة، وفي محاولة لفهم وتفسير عدم التوازن في النظام الاتصالي الدولي، ورصد آثاره ونتائجه، طرحت مجموعة من النظريات لعل أهمها:

- أولاً: نظرية التبعية الإعلامية: ظهرت هذه النظرية في إطار مقولات مدرسة التبعية التي ظهرت في أمريكا اللاتينية في أواخر الستينيات كرد فعل لفشل كثير من النظريات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بتنمية دول الجنوب، واهتمت مدرسة التبعية بتحليل العلاقات الاقتصادية بين دول الشمال والجنوب، وتفسير أسباب تخلف دول الجنوب. ويذهب أنصار مدرسة التبعية إلى أن الاستعمار كان أحد أهم أسباب تخلف دول الجنوب، إذ ارتبطت الظاهرة الاستعمارية بتطور الرأسمالية في الغرب. وقد أسس الاستعمار ظاهرة التبادل الاقتصادي اللامتكافئ بين دول المركز الرأسمالي، أي الدول الصناعية المتقدمة التي مارست الاستعمار، وبين دول الهامش أو الأطراف، وهي دول الجنوب المستعمرة. إن هذه العلاقة قامت على قاعدة إخضاع البنية الاقتصادية في الدول المستعمَرة (بفتح العين) لاحتياجات ومقتضيات نمو الدول المستعمِرة (بكسر العين). أو بعبارة أخرى نشأت علاقة تبعية بين اقتصادين يتوسع أحدهما (الطرف المسيطر) ويواصل نموه الذاتي، على حين لا يمكن للطرف التابع أن يحقق ذلك إلا بشكل محدود وكانعكاس لهذا التوسع.

على الرغم من حصول دول الجنوب على الاستقلال إلا أن دول المركز حافظت على علاقات التبادل اللامتكافئ والتبعية مع الدول التي كانت تحتلها عسكريا، أي أن الاستقلال السياسي لم يؤد إلى استقلال اقتصادي، بل ظهرت علاقات تبعية وآليات تحكم اقتصادية وسياسية وتكنولوجية جديدة. وحتى عندما سعى كثير من دول الجنوب نحو إنجاز التنمية، فإن هذا المسعى لم يقد إلى تنمية مستقلة، بل إلى تنمية تابعة ومشوهة. فقد ظلت علاقات التبعية والتبادل غير المتكافئ قائمة، وأدت الثورة التكنولوجية وتطور الرأسمالية العالمية إلى تعميق مظاهر وآليات التبعية التي اتخذت أشكالاً اقتصادية واجتماعية وسياسية وتكنولوجية وثقافية وإعلامية. فأصبحنا نجد الكثير من دول الجنوب غير قادر على اتخاذ مواقف سياسية مستقلة عن مواقف دول المركز أو الدولة الصناعية المتقدمة التي ترتبط بها اقتصادياً وتكنولوجياً. ذلك أن دولة المركز تستطيع من خلال علاقات التبعية ممارسة ضغوط قوية على الدول المتمردة أو التي تريد إنهاء علاقات التبعية. ولعل المساعدات الاقتصادية والعسكرية هي من أهم أدوات سيطرة دول المركز على دول الأطراف (أي الدول التابعة).

والحقيقة أن مدرسة التبعية لم تهتم بالجوانب الثقافية والإعلامية إلا في أواخر السبعينيات إذ أشارت إلى دور الثقافة والإعلام في تكريس علاقات التبعية وتعزيزها. وظهرت كتابات عديدة ترى أن التبعية الإعلامية يجب أن ننظر إليها في إطار مجمل علاقات التبعية التي تربط دول المركز بالأطراف، أي أن التبعية الإعلامية هي سبب، وفي الوقت نفسه نتيجة، لوجود واستمرار علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والثقافية والإعلامية. أيضاً يمكن النظر إلى التبعية الإعلامية لمجمل علاقات التبعية بين دول المركز والأطراف، وفي الوقت نفسه يمكن النظر إلى التبعية الإعلامية كأحد أسباب بقاء وتعزيز مجمل علاقات التبعية الاقتصادية السياسية والثقافية والتكنولوجية. وعلى الرغم من التماسك المنطقي لنظرية التبعية، إلا أن النقد الذي يمكن توجيهه هو عدم اهتمامها بتحليل الجوانب الداخلية والتاريخية التي ربما تفسر أسباب التبعية في دول الجنوب، كذلك هذه النظرية لم تهتم بطرح حلول أو تصورات عملية لمواجهة التبعية الإعلامية والحد من آثارها السلبية.

- ثانيا: نظرية الإمبريالية الاتصالية: تعتمد هذه النظرية على المقولات الرئيسية لمدرسة التبعية وقد طرحها غالتنغ (Galtung ) عام 1971، إذ يرى أن العالم منقسم إلى دول مركز قوية وغنية، ودول أطراف ضعيفة وتابعة. لكن بداخل دول المركز والأطراف على حد سواء نخب مهيمنة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً مقابل جماهير أقل نمواً وتطوراً تمثل دور الأطراف أو الهوامش، ويوجد تنسيق في المصالح بين المراكز أو النخب في دول المركز والأطراف، بينما تختلف مصالح الأطراف (الجماهير) في دول المركز والأطراف. وأشار غالتنغ إلى أن التدفق الاتصالي يجري من المركز إلى الأطراف، وليس العكس، في الوقت نفسه يقل التدفق والتفاعل بين دول الأطراف، وأكد غالتنغ أن هذه المظاهر تعبر عن إمبريالية اتصالية أو إعلامية هي أحد جوانب ظاهرة الإمبريالية بعامة التي تشمل الإمبريالية الاقتصادية، والإمبريالية السياسية، والإمبريالية العسكرية، والإمبريالية الثقافية، والامبريالية الاتصالية. وأوضح غالتنغ أن الإمبريالية الإعلامية أكثر ارتباطاً بالإمبريالية الإعلامية أو الاتصالية. أما ظاهرة الإمبريالية أي الاستعمار فقد مرت بثلاث مراحل، الأولى: مرحلة الاستعمار العسكري المباشر، والثانية: مرحلة الاستعمار الجديد التي تقوم على منح الدول المستعمَرة (بفتح العين) الاستقلال مع إيجاد آليات ومصالح النخب في دول المركز مع النخب في دول الهامش (الأطراف)، أما المرحلة الثالثة فهي أكثر أشكال الاستعمار جدة أو ما يطلق عليه الاستعمار الجديد - الجديد. وستشهد هذه المرحلة توحيداً ودمجاً بين النخب المسيطرة في المركز والهامش (الأطراف) من خلال سرعة الاتصالات الدولية. من هنا يمنح غالتنغ وزناً كبيراً في نظريته لوسائل الاتصال الدولية. ويؤكد أن السيطرة على وسائل الاتصال الدولية هي نمط مميز من الإمبريالية، لأنها تتيح للنخب في المركز والأطراف (الهامش) سرعة الاتصال وتنسيق المصالح لمواصلة ودعم كل أشكال الإمبريالية. كذا تكشف لنا نظرية غالتنغ عن جانب من أسباب حرص الدول الصناعية الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات على الهيمنة على بيئة الاتصال الدولي وعلى وسائل الاتصال الدولية. لكن هذه النظرية لا تطرح علينا حلولاً لمواجهة الإمبريالية الإعلامية أو الحد من الآثار والتداعيات السلبية لعدم التوازن في النظام الاتصالي العالمي، أي أنها اكتفت بالتفسير والتحليل من دون أن تطرح وسائل لتغيير الواقع أو على الأقل تحسينه.

- ثالثاً: نظرية الهيمنة الثقافية: طرحها سنغهام وهون (Hune - Singham ) في أواخر الثمانينيات، واعتمد فيها على مفهوم المفكر الإيطالي غرامشي لهيمنة الطبقة الحاكمة على المجتمع بطرق وأساليب غير عنيفة، أهمها التعليم والإعلام. وأشار الباحثان إلى أن الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة تهيمن على النظام الاتصالي العالمي وترفض أي محاولة لتعديله أو إصلاحه، لأنه يضر بمصالحها ومصالح الدول الرأسمالية المسيطرة على العالم. وميز سنغهام وهون بين أنواع مختلفة من الهيمنة هي: الهيمنة النووية، والهيمنة السياسية، والهيمنة الاقتصادية، والهيمنة الثقافية. وأوضحا أن الهيمنة الثقافية تتطلب وتتضمن بالضرورة هيمنة اتصالية وإعلامية، وأكدا أن الهيمنة على الاتصال والإعلام الدولي تدعم أشكال الهيمنة الأخرى من خلال نشر نماذج النمو الرأسمالي، والترويج لأنماط من السلوك والاستهلاك التي تدعم من هيمنة الدول الصناعية المتقدمة أو دول المركز الرأسمالي. كذلك فإن الهيمنة على الاتصال والإعلام تمكن من الهيمنة السياسية على النظام الدولي. وعلى سبيل المثال يشير الباحثان إلى تأييد الإعلام الغربي للحكومات المتحالفة مع الدول الغربية، وهجومه بل وتشويهه للحكومات المعارضة للسيطرة الغربية. وكذلك قيام وسائل الإعلام الغربية بتعريف العناصر والقوى التي تقاتل من أجل تحرير بلادها بالعناصر الإرهابية ما دامت هذه القوى لا تتفق والمصالح الغربية (مثل حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان). في الوقت ذاته فإن الإعلام الغربي يطلق على عناصر وقوى تقاتل في أماكن أخرى من العالم تعبير المدافعين عن الحرية، ما دامت مصالحهم تتفق مع الغرب (مثل المقاتلين ضد الحكومة في جنوب السودان).

- رابعاً: نظرية التدفق الحر للمعلومات: تعتمد هذه النظرية على الفكر الليبرالي الداعي لحرية الفكر والتعبير وحرية الاقتصاد، والحد من تدخل الدولة في تنظيم حياة الفرد والمجتمع. وفي إطار حرية الفكر والتعبير تطرح أفكار أساسية في مجال الاتصال والإعلام، أهمها الحق في الاتصال وتسهيل التدفق الحر للمعلومات الذي يشمل الحصول على المعلومات، والمشاركة بحرية في عمليات الاتصال. وفي هذا الإطار يؤكد أصحاب نظرية التدفق الحر أن تسهيل التدفق الحر للمعلومات يشمل جميع أنحاء العالم، وعلى الحكومات أن تلتزم بها، لأن أي نوع من التدخل - أيا كانت أسبابه - هو انتهاك لحق أصيل من حقوق الإنسان واعتداء على حريته. وعلى هذا الأساس يرى أنصار نظرية التدفق الحر للمعلومات أن ما يقال عن عدم التوازن في النظام الدولي هو أمر طبيعي يعكس عدم التوازن في عناصر القوى بين دول العالم المختلفة. وحقيقة أن معظم الأخبار والمعلومات تنتج في دول الشمال، ثم تنقل من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي يرى أنصار التدفق الحر أن أي اقتراح بتعديل النظام الاتصالي، وجعله أكثر توازناً وعدلاً، ستقود عملياً إلى الاعتداء على حرية الوصول إلى المعلومات، وستسمح للحكومات المستبدة في دول الجنوب بوضع قيود وعقبات تحول دون التدفق الحر للمعلومات.

هكذا ترفض نظرية التدفق الحر للمعلومات أي تعديل أو تغيير في النظام الاتصالي العالمي على الرغم من توازنه، وعلى الرغم مما ينتج عن ذلك من مشكلات. فمن البديهي أن التدفق الحر للمعلومات بين أطراف غير متساوية في القوة الاقتصادية أو السياسية أو التكنولوجية سيكون في مصلحة الأطراف الأكثر قوة، كما أوضحنا ذلك من قبل، من هنا تبدو نظرية التدفق الحر للمعلومات وكأنها تبرر عدم عدالة الأوضاع الحالية في بيئة الاتصال الدولي وفي النظام الاتصالي الدولي.

محنة العقل العربي بين التبعية والسلفية(7)

«من الاضطرار يكون الاختيار وليس من الاختيار يكون الاضطرار»

أبو حيان التوحيدي

سمحت الطفرة التكنومعلوماتية وما صاحبها من تأثيرات في وعي الإنسان وسلوكه، له بأن يدخل محطة نوعية جديدة في تاريخ البشرية، أولها أن العالم أصبح قرية صغيرة تتحكم فيه الثورة التقانية والمعلوماتية، ما ذلل بعد المسافات وغيّر من مفهوم الزمن والمكان. إلا أن ما نود الإشارة إليه تأثير العولمة الاقتصادية والطفرة التكنومعلوماتية التي اخترقت جميع المجالات الإنسانية ساهمت في التعجيل بوحدة فتحت آفاقا جديدة من نوع ومقاس جديدين في أوروبا.

 من الآثار المهمة لتفوق المجال التكنومعلوماتي على ما عداه من المجالات الإنتاجية كان خروج العالم من الهندسة الميكانيكية والحرفية الصناعية إلى عصر الهندسة الإلكترونية والمعلوماتية، بحيث حلت التقانة محل الأيدي في إدارة عجلة آلات العديد من المصانع. ولن نبالغ اذا قلنا أن العصر الذهبي للبترول إلى زوال حثيث، بحيث أن كبار أثرياء العالم اليوم هم من المشتغلين في قطاع الهندسة المعلوماتية والإلكترونية، ولربما في الأمد القريب في مجال الهندسة الجينية الذي يبشر العديد من الخبراء أنها ستكون من دون شك مجالاً للتنافس مستعر الأوار.

ولعل موضوع السياسة والقيم في عصر التقنية متعدد ويشتمل على أبواب وتقاسيم وموضوعات عدة، إلا أننا سنقصره على موضوع باهتمام بالغ.

لقد أثارت مسألة الوحدة بين شعوب أوروبا ودولها وقضايا التكتل السياسي والاندماج الاقتصادي في زمن العولمة اهتماما كبيراً، نظراً لما تطرحه التغيرات التقنية المتسارعة من التحديات على الشعوب والدول، وما تفرضه من متطلبات تفوق أحيانا بكثير قدرات كل دولة على حدة. ومن أبرز نتائج العولمة يمكن إجمالا الوقوف عند خمس:

1- إلى جانب القطيعة التراجيدية، التي برزت في العالم المتقدم، بين من يمتلكون مهناً ووظائف ومندمجين تمام الاندماج في المجتمع، ومن لفظهم سوق العمل وأصبحوا على هامش المجتمع وعلى قارعة الرصيف، أضيفت القطيعة الثقافية والنفسية بين أفراد بوسعهم العيش كمواطنين كاملي الحقوق في هذا العالم، متدثرين بدثار العولمة التي وصل إليها كوكب الأرض، وأفراد يعيشون حالة من الاستبداد والوصاية والفزع ولا يستطيعون مسايرة هذا التطور ولا اللحاق به. إذ أصبحت العولمة بالنسبة إليهم شبحا يهدد بتصاعد البطالة وسببا لاندثار العديد من المهن والحرف، وإعلانا لأمية معلوماتية أشد وقعا على النفس من الأمية الأبجدية.

ويعزز هذا الإحساس لديهم عدم قدرة الدولة ـ الأمة على ضبط موازين الأمور وتضارب المصالح الاقتصادية والاجتماعية والجهوية داخلها على نحو لا يساعد على فهم ما يجري، لدرجة أن كابوس الخوف مما تحمله الأيام لم يعد يهدد الفرد وحده، بل أصبح يهدد الدولة نفسها في الوجود كما حدث للاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا من انفجار أو للأرجنتين عند إشهار إفلاسها المالي...

ضعف الدولة ـ الامة

2- أصبحت الدولة - الأمة في هذا العالم الواحد غير قادرة على مباشرة مهام الدفاع والحماية والأمن بكل ضروبه (إحدى المهام الأولى التي كانت منوطة بها) بحيث لم تعد قادرة على تقنين قوى الإنتاج وضبط النفوذ المالي الدولي الذي أصبحت تترنح تحت قبضته.

ولعل التعارض القائم اليوم بين الديموقراطية واقتصاد السوق مؤشر نوعي للأزمة التي تعيشها الدولة في عصر العولمة، بحيث بدأنا نعي أن طبيعة الديموقراطية مختلفة عن طبيعة السوق، لأن للسوق خاصية أساسية تتجلى في طبيعتها العالمية وعدم تحملها لوجود حدود أمامها، فهي دائما في حركة مستمرة ولا تريد بالطبع أن يقف أحد في وجهها. أما الديموقراطية فتفرض حدودا، لأنها قائمة على من هو منتمٍ لتلك الحدود ومن هو غير منتمٍ لها: من يحق له التصويت ومن لا يحق له. أي أن الديموقراطية لا تستقيم من دون حدود المواطنة، في حين لا يستقيم اقتصاد السوق مع وجود أية حدود.

فالحدود الإقليمية والجغرافية للدولة كانت دائما بمثابة السياج الذي يحمي هوية أي شعب وما يميزه عن الآخرين، وهي شرط لممارسة الديموقراطية. إلا أن ذلك لا يتطابق مع اقتصاد السوق الذي لم يقف فحسب عند إلغاء الحدود، وإنما دفع بشبكاته وأنساقه في اتجاه إلغاء التعددية وإضعافها وتعميق عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء، وبين دول الشمال ودول الجنوب.

والتضارب الكبير بين منطق اقتصاد السوق ومنطق الديموقراطية لا يجب أن يحجب عنا أن كلاهما من أعمدة المشروع المجتمعي الحداثي الغربي. بل ان كلاهما أيضاً يحملا قيماً ومبادئ مشتركة، أي أن ما يجمع بينهما يتمثل في قيمة الحرية.

 فاقتصاد السوق يقوم على حرية التجارة وحرية الاستهلاك التي بموجبها يتم اختيار بضاعة محل أخرى، أي أن حرية الاختيار متاحة بالقدر نفسه الذي يسمح بتغيير الاختيار نفسه. كما أن الديموقراطية في الوقت نفسه تقوم على حرية الاختيار، وهي بمثابة اختيار حر وهي تسمح بتغيير الاختيارات كما الآراء طبقا لسوق الأفكار والتيارات ووجهات النظر.

ولدرء هذا التناقض بين الديموقراطية واقتصاد السوق، عمدت بلدان أوروبا إلى امتصاص هذا الاحتقان بين السياسي والاقتصادي الذي تعرفه الرأسمالية ما بعد الحداثية بالاندماج والتكتل، لاسيما أن الاقتصاد يقرر اليوم في كثير من المجالات التي كانت حكرا على المجال السياسي. ولكي لا يصطدم منطق اقتصاد السوق بمنطق الحدود السياسية والإقليمية، عمدت في الوقت نفسه الى إيجاد آليات عملاقة قادرة على توحيد النظم والشبكات والمعاملات بما يخدم مصالحها في كل أنحاء المعمورة.

اكتساح الحدود

 وبناء على ما تقدم، تفرض العولمة منطق اكتساح الحدود وإلغائها لأن منطقها قاري، لا يحفل بالدول والجماعات والأسواق ذات الحجم الصغير. ويمكن القول أن أوروبا أعدت العدة لذلك منذ زمن طويل، فهي الآن تطل مباشرة عبر دول البلطيق الثلاث دول الاتحاد الروسي بعد أن أُطيح بحلف وارسو، ويبلغ تعداد سكان سوقها الموحدة 450 مليون نسمة، وتعتمد عملة نقدية موحدة أكسبتها منعة أمام سياسة الدولار النقدية ومكانة اقتصادية وسياسية لا يستهان بها بفضل سياسة تعاون مشتركة في العديد من الميادين، كاندماج العديد من الشركات والمقاولات الصناعية والتجارية والمالية، ومنها أيضا سن سياسة مشتركة في ميدان البحث العلمي والتقني كبرنامج إراسموس (Erasmus) لتبادل الخبرات، الذي سمح في ظرف وجيز لمليون طالب وأستاذ أن يتنقلوا ويقيموا في الجامعات الأوروبية لمدة سنة كاملة.

ولعل إحدى أبرز سمات العولمة الجيوستراتيجية اليوم ظهور ما يعرف بالدول القارية أو الإمبراطورية (أميركا والصين والاتحاد الأوروبي) التي أصبحت تطل مباشرة على جل مصادر الطاقة والممرات والطرق الاستراتيجية والبحرية في العالم. الأمر الذي من شأنه أن يعرض الدول العربية والإسلامية، إحدى أضعف الحلقات في هذه التقاطعات والمفترقات، إلى التدخل المباشر والضغوطات الشديدة.

3- أصبحت قيم الفكر الأوروبي من ديموقراطية وحرية سياسية وحقوق انسان وتضامن اجتماعي وصحي هي المعتمدة كمعايير في العلاقات الدولية ومقاييس للاستثمار والتعاون. وهذا يعني انفراد الغرب في المدى المتوسط بالقسط الأكبر من الإبداعات الفكرية والتقنية والجمالية وصهره لجميع الثقافات والإبداعات البشرية الأخرى في بوتقة نظمه وقيمه الرمزية بوصفه مركزاً للرأسمال العالمي والمحطة الكبرى للتقنيات والسوق الواسعة التي بإمكانها تصريف وامتصاص كل الصرعات وألوان الموضة والابتكارات.

4- إذا كانت الطفرة التكنومعلوماتية قد ألغت الحدود وقرّبت بين المسافات، فإن اندماج الهندسة المعلوماتية والهندسة الإلكترونية والهندسة الجينية يبشر بعهد جديد، سيلغي من دون شك المسافة والفصل القائم بين الإنسان والآلة بعد فك شفرة الطاقم الوراثي (جينوم) للإنسان الذي تتحكم فيه التقانية المعلوماتية، وهو ما يبشر حتما بزوال الحدود بين العلم والفن، بالقدر نفسه الذي يهدد بزوال الحدود بين الذكر والأنثى وبين الإنسان والآلة وبين الإنسان والحيوان.

5-  خلق الاندماج الاقتصادي قوى صناعية ومالية بحجم العنقاء، فالشركات والمصانع لم تعد وطنية بل أخذ أفقها الوطني يتقلص يوما بعد يوم، كما أن التنافس بين الدول لم يعد اقتصاديا فحسب، بل معرفيا وروحيا وأيديولوجيا بامتياز، بحيث أن عبقرية الأمم أصبحت تقاس بمدى قدرتها على تصدير الأفكار والقيم والإبداع الفني والسياسي والاقتصادي والتقني. إذ أصبح التحدي معرفيا في زمن العولمة.

وعلى غرار هذه النقاط الموجزة اقتنعت أوروبا بضرورة لم شملها وجمعه من المملكة المتحدة إلى ليتوانيا وتنظيم شؤون قارتها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا بصفة مشتركة، بخاصة بعد أن انضمت إليها أوروبا الوسطى والاسكندنافية ودول البلطيق. ومن المحتمل أن تصل هذه الدينامية يوما ما إلى تركيا ودول شمال إفريقيا. ولن يترك الاتحاد الأوروبي البحر الأبيض المتوسط يفلت من دائرة نفوذه. وهذا ما يحاول المشروع الأميركي الجديد تطويقه والوقوف في وجهه بتغيير مساره.

الفكر العربي المعاصر ومعضلة البناء الوحدوي

لم يعدم الوضع العربي قوى وتيارات مخلصة وكفاءات ذات جدية بحثت وما زالت تبحث عن تحقيق تغييرات جذرية للخروج من الوضع الجامد والراكد، ولعل التطورات المتسارعة في الوطن العربي والإسلامي التي تثيرها حركة التحلل والتفكيك والتدخل المباشر في كل من أفغانستان والعراق والسودان ولربما غدا في سوريا وإيران والعربية السعودية، تحتم إعادة النظر في الاغتيال الذي وقع للعقل العربي عبر محنته بين التبعية والسلفية كما يقول برهان غليون. وهو ما يعني عمليا الخروج من الإشكالات السطحية التي أثارتها ثنائيات متقابلة من قبيل: هل الفكرة القومية أفضل أم الفكرة الإسلامية أم الفكرة الاشتراكية؛

  درج القارئ أن يقرأ العديد من الكتب والأدبيات وأن يستمع إلى العديد من البرامج وأن يتصفح العديد من الجرائد والمجلات التي صورت أهمية الوحدة والتعاون العربي كيفما كانت أشكاله المفترضة. وكان الفكر القومي باتجاهاته وتياراته المختلفة أحد أبرز الداعين إلى رفع راية تلك الوحدة في وجه التفرقة والتشتت ومخافة ضياع فرص التنمية المستقلة وفقدان الدول العربية استقلالها الذاتي وتحكمها بمصيرها.

ووجد بناء تلك الوحدة نظريا العديد من الأتباع والأنصار يتعاطفون معه ويؤمنون بضرورته، إلا أن سقوط الأنظمة القومية في مستنقع احتكار السلطة والاستبداد والشمولية، أفقدها الكثير من المصداقية، ما هيأ لفكر الإسلام السياسي من جديد أن يرفع لواء الحمية الدينية والأخوة الروحية كبديل، واعتبار الدين عماد الوحدة والهوية لاسترجاع الأمة الإسلامية ماضيها التليد. إلا أن دار لقمان ما زالت على حالها، ما دامت التجارب التي قامت في كل من السودان وأفغانستان وإيران أثبتت أنه لا فائدة ترجى ولا جدوى من إقامة أنظمة شمولية مناقضة مكان أنظمة شمولية.

إذ كثيرا ما يحدث للقارئ، وهو يستعرض رأي هذا، فيراه صادقا، ورأي ذلك، فيراه موثقا، ثم يعود لرأي جديد للأول فيقتنع به ثم يقرأ رأيا معاكسا للثاني فيستمسك به، حتى يصل إلى موقف تشتبه عليه فيه الأمور، ويجد نفسه في منطقة شائكة تنادي بأسبقية أسس دون أخرى: كالدين واللغة والثقافة، بحيث يرى كل من دعاتها أنها الأفضل سبيلا والأجدر من الأخرى في بناء تلك الوحدة الموعودة.

وكل من هذه التيارات الفكرية متناحرة، تعتقد في صوابها المطلق، واعتقاد كهذا شأنه لا بد وأن ينعكس في نتيجة منطقية، وهي الاعتقاد بالخطأ المطلق لمن يختلف معها، حيث لا سبيل للحقيقة غير أسلوبها في التفكير، ولا احترام أسلوب الآخرين، ولا اعتقاد لديها أن الآخرين لهم منهج خاص وعقل وحجج وأسانيد. فالمنهج لديها هو ما تنهج، والعقل في مفهومها هو ما تعقل، والأسانيد في تصورها هي ما يساند أفكارها ومنهجها ونتائجها، وما عدا ذلك يلحقه الطوفان...

أحسب أن سؤال الوحدة والتكتل أو الاندماج بالمفهوم العام سواء كان سياسيا أو اقتصاديا على الأهمية بمكان في عصر «ملوك الطوائف» والتناحر والاستقواء بالأجنبي. إذ أن سقوط ورقة التوت عن جامعة الدول العربية وظهور مشروع أميركي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يعتبر بالفعل تعطيلاً وتعويماً للعرب وللمسلمين ولإرادتهم السياسية والاستراتيجية في مستنقع الأمن القومي الأميركي، وإرادة واضحة تحول دون أي استراتيجية للأمن القومي العربي والإسلامي في الأمد المنظور. ولعل سقوط بغداد وكابول والضغوطات التي تواجهها كل من سوريا والسودان وإيران مؤشر كبير على تزايد التدخل الأجنبي في العالم العربي والإسلامي، إن لم يكن عنوانا عريضا له.

وبناء عليه إن الموضوع الذي سيشتغل عليه هذا النص، يتعلق فقط بحدود ومحدودية أسس الفكر القومي والفكر الإسلامي السلفي في بناء تلك الوحدة العروبية التي روج لها القوميون، أو تلك الوحدة الإسلامية التي دعا إليها الإسلاميون.

ورغم اختلاف التيارات داخل الفكر القومي والإسلامي وتنوعها، فإن ما يميز هذا النقد طرحه للمساجلة والجدل المقومات والأسس التي يعتمد عليها كل منهما لبناء تلك الوحدة، إسلامية كانت أو قومية. وهو نقد يعتمد خلاصات علم الاجتماع النقدي والتحديات المقرونة بالطفرة التكنومعلوماتية، ويحاول مقاربة الظاهرة في سيرورتها التاريخية وموقعها بين تجارب الشعوب الأخرى التي يفصلها عنا بون شاسع في البنيات الاقتصادية والاجتماعية وآليات الإنتاج المادي والفكري.

ومضمون ما سبق أنه بصرف النظر عن المعتقد المشترك الواحد، لم تمنع الملة الواحدة من حدوث هزات كبرى وحروب وتطاحن بين أهل الدين الواحد، عصفت بهم حيص بيص.  وإجمالا يمكن القول أن الفكر العربي المعاصر توزع بين اتجاهات عدة:

يعتبر الاتجاه الأول الدين أحد مقومات الأمة وركيزتها الأساسية، أما الثاني فيقرن كينونتها باللسان المشترك، يُصبح الوسيط اللغوي بموجبه العروة الوثقى التي بدونها لا يستقيم لأمة العرب وجود، في حين يعتمد الاتجاه الثالث على العنصر الإقليمي والجغرافي المشترك بوصفه الأساس الذي تتداخل فيه عوامل المناخ والبيئة مع الطبائع النفسية والاجتماعية والثقافية كقاسِم أول في تحديد الأمة وتقاسيمها المشتركة. كما أن الاتجاه الأخير يعتبر العامل السياسي كمصدر لتكوين الأمة، لكونه يعتقد أنه لا يمكن الكلام عن الأمة بدون دولة، أي الكيان السياسي الذي تنبني عليه قاعدة الترابط العضوي بين التاريخ والشعب والأرض والاقتصاد واللغة القومية.

يطرح هذا التصنيف الذي يتوزع عبره الفكر العربي والإسلامي المعاصر إشكالات كبرى وقضايا شائكة، بحيث يمكن القول بداية أنه عرضة لتصنيفات فرعية أخرى، ويعاني أزمة حادة وهو الآن يراوح مكانه عاجزا، ثقيل الخطى إن لم يكن قليل الحيلة أمام النكسات والارتكاسات والأحداث والتغيرات في عالم يشهد تحولات سريعة.

علاوة على أن هذه المقومات تمثل تيارات الفكر العربي المعاصر كافة، فإن التحدي الأساس الذي تواجهه الآن يتمثل في محاولة أصيلة وجديدة، خرجت على المألوف، يمثلها دستور الاتحاد الأوروبي الجديد، الذي يعكس أبرز محاولة توحيد اقتصادية وسياسية واجتماعية وقانونية عرفها المجتمع المعاصر. ومكمن الجدة والجدية في ديباجة الدستور عدم بناء هذه الوحدة على الأسس التي دافع عنها العديد من المفكرين العرب والقادة المسلمين للخروج من مستنقع التفرقة والتناحر والاستقواء بالأجنبي والتخلف والحداثة الرثة التي يتخبط فيها رجاله ونساؤه.

 إذ لا ترتكن مطلقا إلى العناصر الآنفة الذكر كالدين واللغة والثقافة المشتركة التي اعتبرت مقومات لا بديل عنها، أو ما إلى ذلك من العناصر التي حاول الفكر العربي المعاصر الدعوة إليها باعتبارها المدخل الوحيد والأساس الذي لا محيد عنه في بلورة وحدة عربية وتكتل ذي مصداقية، أو إلى أية وحدة إسلامية منشودة.

وتطرح ديباجة دستور الاتحاد الأوروبي بحق، أن كل ما كنا نعتبره صلبا يذوب، لا سيما بعد أن ترك جانبا مقومات اللغة والدين والجنس والثقافة والنظام السياسي للدولة بالمعنى الحصري. وألغى الاعتبار الإقليمي من حيثياته، بحيث ليس هناك ما يجمع جغرافيا بين بولونيا والدول الإسكندنافية.

 فكل من هذه الأسس والمقومات التي علكتها الألسن منذ قيام الدولة ـ الأمة في القرن الثامن عشر، وضعها هذا الدستور عمليا في مهب الريح، بحيث لم يعتمدها إطلاقا كأسس جوهرية في بلورة أسس الاتحاد ولا حتى كعناصر فرعية في إرساء دعائم الوحدة والتكتل المنشودين بين 25 دولة ذات سيادة. إذ أن هذه الوحدة لا تتقمص مظاهر دينية ولا لغوية ولا ثقافية موحدة، ولا تقوم على الوحدة القسرية التي حاول شارلمان ونابليون فرضها بالقوة على الشعوب الأوروبية.

إن التنافس الشديد الذي طبع كل المجالات الاقتصادية والاستثمارية والمعرفية في عصر العولمة عجل باقتناع جل الدول الأوروبية بضرورة هذه الوحدة نظرا لعدم استطاعة أي دولة منفردة أو أي شركة على حدة، أن تجابه هذا المعترك لوحدها، أو أن تتحكم في الأسواق والاستثمارات أو أن تواجه بمفردها الأزمات والكوارث، كما الشركات العملاقة وحركة الأموال التي تتحرك في أقل من لمح البصر. فزمن العولمة زمن التوحيد القسري والتنافس الشديد، بحيث تجد أي دولة أو أي شركة من يتفوق عليها في مجال من المجالات. لذلك اندمجت العديد من الشركات والمختبرات وابتكرت الدول الأوروبية آليات موحدة للتعاون النقدي والمالي والصناعي والفلاحي يعزز من قدرتها على الصمود في وجه الجبارين الأميركي والياباني من جهة، والعملاق الصيني المقبل من جهة ثانية.

ولعل توحد التقانية المعلوماتية سهل وذلل عملية التوحيد الاقتصادي والسياسي. إذ لم يكن ذلك واردا قبل أن توحِّد التقانية المعلوماتية بين عشرات من الأدوات والابتكارات دفعة واحدة كالطباعة والفونوغراف والتلفاز والتصوير والنسخ والمونتاج والتنضيد والتسجيل والإخراج والهاتف والهاتف المرئي والهاتف الخليوي والناسوخ دفعة واحدة، تلاه تطور هائل في تقنيات الحاسوب نفسه، الذي يعد أحد أبرز ممثلي التقانية العصرية: كالأقراص الصلبة والأقراص المدمجة والأقراص الليزيرية والرقاقات الإلكترونية.

ومعلوم أن لهذا كله من دون أي شك أثراً كبيراً في تغيير القيم ومفاهيمها، كما حصل تقريبا مع اكتشاف الزراعة والنار والكتابة واختراع الورق والطباعة والآلة البخارية. لكن ذلك لا ينفي أهمية السؤال عن الكيفية التي تتفاعل التقنية والقيم (كقيم الوحدة والاندماج والتعاون) وكيفية الربط بينهما، إلا إن الوهم الحاصل عندنا اليوم في التضاد بين الدين والعلم وبين قيمنا والتقنيات، مرده العقل الذي ما زال يشتغل بالثنائيات (الدين/ العلم، الرجل/المرأة، الخير/ الشر... الرابطة الدينية ضد الرابطة الجنسية..).

 ففي هذا المجال بالذات ما نريد التنبيه إليه هو أنه عبر التاريخ: لا الشيوعية، الروسية او الصينية، ولا الأصولية الإسلامية ولا حتى «القيم اليابانية» كان بمقدورها او في وسع أي منها خلق أجهزة تقنية مختلفة أو خاصة بها جوهريا! فجميع العقول تعمل بمنطق واحد ومبادئ التفكير العقلي واحدة.

وما نريد التأكيد عليه أيضا أن العديد من القيم الأخلاقية والسياسية والدينية والفنية والذوقية ستتأثر حتما في المدى المنظور، لأنها لا تملك ماهوية وبنية أزلية ساكنة، شأنها شأن الموجودات والأشياء التي نستهلكها يوميا. فهي عرضة للتأثر بمتغيرات الواقع الموضوعية والطبيعية، وتبعا للظروف والمعطيات التي تطال المجتمع والجماعات في كل آن وحين.

فمن منّا مثلاً، من لم يمارس في صغره استعمال القص واللصق كتزيين ألبوماته ودفاتره أو مذكراته بصور المشاهير من أشخاص أو مأثورات أو الحِكم أو الأمثال. وكم كان ذلك يحتاج الى وقتٍ وطول أناة وكيف أصبحت اليوم عملية تحريك أي صورة وأي فقرة أو مقطع من اتجاه إلى اتجاه آخر مُيسرة وسهلة الاستعمال بفعل الحاسوب، بفضل أيقونات نظام ميكروسوفت التي تقوم بذلك نيابة عنا.

 والمبدأ هو نفسه دخل حيز التطبيق بعد اكتشاف «كتاب» جينات الإنسان وإعداد خريطته الوراثية الجينية التي تحوي كل بيانات خلايا الإنسان وأسرارها، إذ أنه في يوم الإثنين 12 شباط - فبراير -2001 نشرت كل من مجلة الطبيعة (Nature) والعلم (Science) خارطة جينية للإنسان غطت حوالي 95 في المئة من مشروع جينوم الإنسان (Human Genome Project). الأمر الذي يثبت إنجازا هائلا للإنسان وإثباتا لقدراته الخارقة، ويطرح أن اندغام الهندسة الجينية بالهندسة المعلوماتية والهندسة الإلكترونية في طور الإنجاز، وستكون له آثار عدة في المجالات الإنسانية كافة.

ونتحدث اليوم بعد نجاح زرع الأعضاء في الجسد البشري، أن يزرع الإنسان في جسده بالذات آليات تكنولوجية دقيقة لتطوير قدرات السمع والبصر والنظر أو تكييفها بشكل أحسن. ومن أبرز المحاولات التي تشير إلى أن التطور التكنومعلوماتي سيمس الجانب البيولوجي للجنس الإنساني، التقدم الحاصل في البحث على جينات الأمراض الوراثية واكتشاف جينات الذكاء والمناعة والشيخوخة، أو على الأصح إمكان أن تكون للذكاء جينة وراثية كما يزعم مثلا الباحث روبرت بلومين، الذي قام بدراسة الآليات البيولوجية للنبوغ، بحيث إن الجينات لم يعد فقط أمر إحصائها وتبويبها والاطلاع عليها ممكنا، بل أصبح ممكنا تعديل تكوينها وتسلسلها وتتابعها، تقديما وتأخيراً، كما نفعل تماما بالصور والمقاطع والفقرات التي نريد تغيير تسلسلها وتتابعها في النصوص والمقالات التي نكتبها.

وإذا كانت الطبيعة قد أوجدت المقص واللصّاق طبقا لقاعدة الحاجة أم الاختراع، فإن المبدأ نفسه، الذي يطبق في الحاسوب ـ مع تغير في الشكل والدرجة ـ هو ما سيصدق من دون شك بعد حين في الهندسة الجينية، عندما سيعمد العلماء للقضاء على الأمراض المعدية وتحسين النسل وقدرات الذكاء وتعطيل جينات الأمراض الوراثية باللجوء إلى تعديل الجينات وجزيئاتها بتقطيعها وتلصيقها تقديما وتأخيرا هنا وهناك، أو تحويلها من خلية إلى أخرى، أو عن طريق التدخل فيها مباشرة بتقطيع بعض أجزائها وتغيير مكانها من مكان إلى آخر بطريقة تشبه التقطيع والتلصيق في الحاسوب عند مراجعة فقرة أو جملة بتعديل ورودها وتغيير مكانها في النص. ويرجع الفضل لهذا الفتح العلمي الكبير إلى ثورة التقنيات المعلوماتية التي ستفرز حتما العديد من التحولات في القيم والعلاقات الاجتماعية وبين الشعوب لا محالة.

ولو بحثنا في يسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي الذي أصبحت عليه أجهزة التواصل الإنساني، بخاصة عبر الحاسوب، سنجد أن البريد الإلكتروني أو شبكة الأنترنت، بقدر ما أتاحا تواصل العديد من الأفراد وتخطي حاجز الزمن والمكان، بقدر ما أدخلا نظرة جديدة للجغرافيا والحدود والمسافات والزمان والمكان والعلاقات.

فهذا التواصل لا يقتضي حضورا إجباريا قبالة الآخرين، والأفراد عبارة عن تجارب تحت التصرف يمكن أن تٌطلق وتُوقف كما نَفتح أو نغلق حنفية مياه. بمعنى أن الإنسان أصبح كمنتوج يقدَّم عبر جِهازية تقانية. وهذا النوع الجديد من التواصل يضعف من الروابط والقدرة على الالتزام في العلاقات، لكنه في الوقت نفسه يوسعها إلى أبعد حدود.

نعلم بما تقدم أن الحاسوب كابتكار تكنولوجي في البداية، لم يكن موجها لأن يكون وسيطا للتواصل، فالشبكات الكبرى مثل الأنترنت والمينيتيل الفرنسي كانا في البداية بالنسبة للتكنوقراط والمهندسين عبارة عن أدوات إرسال للمعطيات وللتحكم عن بعد لا غير.

 وخلال إقامة تلك الشبكات، تملكها المستعملون خلافا لما رُصِدت من أجله وحولوها إلى وسائل اتصال، بحيث سرعان ما أُغرقت الشبكات بالإرسالات والبلاغات التي لم يحفل بها مخترعو الحاسوب في أول وهلة واعتبروها بدون قيمة، وتَحوَّل المينيتيل الفرنسي إلى أكبر سوق «عكاظ» إلكتروني للعشاق في العالم، أما الأنترنت فاستقبل سيلا جارفا من النقاشات السياسية كانت في البداية بدون قيمة تذكر.

 وبالتدريج ظهرت استعمالات أخرى: اجتماعات تجارية وحلقات للتربية والتثقيف وقيام جمعيات تدافع عن حقوق المرضى أو عن قضايا محددة. وأصبحت هناك نوادٍ أدبية ومنتديات للنضال السياسي، وصحف إلكترونية، وندوات. وأمام هذا التاريخ لا يستطيع المتشبثون بالحدود الوهمية في الفكر والثقافة والقيم وبائعي الرحمة الربانية بالتقسيط ودعاة التعصب للأقواميات والأجناس شيئا، غير انكشاف زيفهم الفكري وخوائهم المعرفي. فهم اليوم إن استعملوا الحاسوب في اتصالاتهم ونشر أفكارهم، يعتبرون أن منفعة الحاسوب للتواصل الإنساني تحصيل حاصل، غير أنهم يجهلون الصيرورة التي جعلت ذلك ممكنة، كما يتجاهلون التأويل الذي خضع إليه استعمال الحاسوب خلال تلك الصيرورة.

والأفظع في ذلك كله تجاهلهم لقيم التنوير والعقلنة التي كانت وراء صناعته واكتشافه والقيم التي يحبل بها هذا التأويل في استعمال الحاسوب، فهي كلها قيم عصر الأنوار بجدارة. والحال أننا ما زلنا نعتقد ببؤس ثقافي لا مثيل له أن مسألة الحداثة والتقدم والتقدم العلمي مسألة استيراد للآلات والتقنيات المختلفة، ونسينا أنه ليس من قيمة للتقنيات من دون الفكر الذي أنتجها وجعل إمكان ابتكارها وارداً.

 وكيف أن جل النخب العربية الحاكمة اعتقدت بعد تحقيق الاستقلال، أنها مكتفية ذاتياً في الأخلاق والقيم ومشبعة روحيا حتى الثمالة، ولا حاجة لها بالفلسفة وعلوم الأناسة والإحاثة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، أي لا حاجة لنا على الإطلاق لقيم العقلانية والديموقراطية والمساواة بين الجنسين وقيم الحرية. بل قرع البعض الطبول معلنا أن قيم العقلانية التي أنتجت الحرية والمساواة والترشيد والفعالية والنجاعة والديموقراطية والتضامن عنوان لتفسخ الغرب وانحلاله وعلامة على اندحاره القريب! واليوم اتضح أن الحداثة بعيدة كل البعد من أن تكون مجرد تصدير واستيراد، وأن الغرب لم يضمحل ولم يتفسخ كما توهم البعض وتمنى.          

وهذا ما يعني أن الحاسوب ووسائط الاتصال الأخرى التي تزخر بها الطفرة التكنومعلوماتية ليست مجرد تقنيات فحسب وليست فكرا تقنيا محضا، لأنها تتضمن أيضا قيماً إنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية مضافة، تجد مرجعها المعرفي في عصر الأنوار الذي حاول المصالحة بين المعرفة والمصلحة. 

والشبكات اليوم هي بمثابة الطرق والفيافي نفسها، التي كانت تقطعها القوافل في القديم لجلب التوابل والذهب والحرير، وهي اليوم مسرح أساسي للنشاط والثروة والتبادل الإنساني. وإذا كانت الطفرة التكنومعلوماتية قد تخطت حاجز الجغرافيا والحدود الدولية والأديان والطبقات، فلقد تبعتها من دون شك منافع شتى وعظمى للبشرية، ولها الأثر الكبير في تبدل نظرة الإنسان للجغرافيا والزمن والمكان والاتصال والتواصل وفي تفاعله مع محيطه القريب والبعيد وفي علاقاته الإنسانية وحتى الحميمية، بحيث ذلّل البريد الإلكتروني وشبكة المعلومات الدولية مثلا الحدود التي كانت قائمة على عوامل مثل الانتماء الجغرافي واللغوي أو الديني.

وإلى جانب ذلك سهّلت سابرات الفضاء بثا فضائيا غير منقطع للمعلومة في أي جزء من العالم وبتكلفة جد زهيدة، حيث أصبح بإمكان أي كان أن يتعرف على أي خبر وعلى أي تعليق من طرف مواقع مختلفة بلغت رقما قياسيا وصل الى أربعمائة مليار موقع، كما أصبحنا كذلك نشهد قيام منابر ونوادٍ وهيئات وتجمعات للنقاش ورصد المعطيات وجمع المعلومات في ظرف وجيز.

إنجاز قل نظيره، يكفي بموجبه الحصول على المعلومة أن تضغط على زر وتكتب المعلومة التي تريد لتحصل على التو كمّاََّ لا يُحصى ولا يُعدُّ من البوابات تفتح لك بنوكها المعلوماتية المختصة في الموضوع، والتي توافيك بكل الشروح والتعاليق والتفاصيل، أقلّه المسح الكامل والمدقق لكل ما تريد، إن لم تصادفه أحيانا بالمجان.

كذلك اكتسحت هذه التقنيات والبرمجيات مجالات أخرى: فبعد أن شهدنا سابرات الفضاء نشاهد اليوم ظهور سابرات الأعضاء والخلايا والجزيئات والقلوب والعقول، وانتقال الثورة المعلوماتية إلى مجالات أخرى كالتجارة والطب والصناعة والإعلام والزراعة.

ذلك كله ومن دون شك سيترك الكثير من الآثار على نظرة الإنسان للكون والقيم التي سادت حتى اليوم، بخاصة بعد «نجاح» عملية الاستنساخ التي سرّعت من وتيرة زرع وإنتاجها الأعضاء. وهي عملية مشابهة إلى حد كبير لِما صاحب اكتشاف الورق والطباعة من تسريع في صدور الموسوعات والكتب والمجلات والجرائد والكرّاسات والملصقات والدفاتر، سيكون احد آثارها استنساخ، إن لم يكن طباعة، قِطع غيار للجسم البشري شبه أكيد وتحت الطلب: كلية، كبد، أصبع، شعر، بنكرياس.. كما يحدث اليوم تماما بالنسبة لطباعة أكواب وصحون وأدوات من ورق تلاها بعد ذلك «طباعة» قمصان وجوارب وبنطلونات تحمي من النار والثلوج.

ولو أن عملية الاستنساخ حاليا غير واردة وممنوعة، فإن العديد من المختبرات والدول تقوم حاليا بالبحث والتجريب سريا، ولا شيء يمنع من حدوث ذلك بعد حين، ما دام أن عملية الزرع والتخصيب الاصطناعي وأطفال الأنابيب وبنوك النطاف والبويضات حقيقة قائمة بذاتها، وتلقى إمكانية الحمل عند السيدات بعد الخمسين وتأخير الشيخوخة رواجا كبيرا.. وهو ما يؤكد أن الإنسان منذ القدم اتخذ نفسه مطية للتعديل منذ أن اكتشف تحديد النسل وصولا إلى جراحة التجميل وحق اختيار خلفه اليوم ذكرا أو انثى. ولنتأمل آثار استنساخ أطفال كصورة طبق الأصل عنا أو عن أبطال نحبهم ونكن لهم الإعجاب أو نتمثل فيهم القدوة!

 كيف ستصبح علاقات القربى والدم والمواطنة ما دام أن الإنسان نفسه سيتم تعليبه في قرص مدمج ويتم بعثه عبر الحاسب لإخراج نسخة منه أو نسخ عدة قابلة للتطوير والتعديل والتحسين؟ ثم كيف ستكون آثار انتقاله من عمل إلى عمل ومن مستقر إلى مستقر بحسب ما تقتضيه مصلحة العمل وأين وُجِد، لا ديمومة في الارتباط الزمني والمكاني ولا مع الأشياء ولا مع أهله وأصدقائه إلا إلى حين؟ وكيف ستصبح علاقات النسب والدم ما دام من استنسخ مِن ذاته نسلا هو ذاته؟ أي أن يكون هو أب نفسه أو أم نفسه مقطوعا من شجرة كما يقال! ولكم أن تروا بأم أعينكم النتائج على العلاقات الأسرية (انعدام مفهوم الأب والأم) والاجتماعية (تبدل معايير الحلال والحرام) وزوال علاقات القربى (العم، الخال..).

ولعل اشتداد الجدل بين الأخلاق والتقنية أو ما يسمى التقانيات الإحيائية (Biotechnologies) ينذر عند البعض حلول عصر «حديقة الإنسان» بالمقاييس نفسها التي شيدت على مقاسها حديقة الحيوانات: كحفظ النسل وتحسين قدرات الأنواع المهددة بالانقراض وسط محيط بيئي عدواني، بالدرجة نفسها التي يتحول فيها بطل فيلم السلسلة الخيالية هولك (Hulk) من الدكتور ريتشارد بانر إلى حيوان عملاق في جسم إنسان وبقدرات خارقة في الحركة والقوة معا، أو ما يعيشه بطل السلسلة الخيالية الرجل العنكبوت مع الإنسية المُهجنة بفعل الإِنغال (Hybridation) ومع أنواع وفصائل الإنسان الآلي.

أمام كل هذه التحديات المتسارعة في الهندسة الجينية والهندسة الإلكترونية والمعلوماتية تحاول الشعوب الأوروبية مواجهتها بالتكتل والتوحد نظرا للصعوبات والتغيرات التي تفرض جهدا وموارد وتعاون الجميع لمواجهة آثارها. وهذا ليس على صعيد المتوقع والمفترض المحض، بل ما هو معد في برامج المختبرات ومراكز البحث في الجامعات والمؤسسات.

  إلا أن ما يهمنا هنا هو آثار الطفرة التقنومعلوماتية وما اصطحبت معها من قيم ومتغيرات جديدة ـ في السلوك والفكر ـ على المقومات الأساسية التي اعتبرها المفكرون القوميون والإسلاميون لا محيد عنها في بناء الدولة القومية أو الدولة الإسلامية؟ وما هي حدود هذه التنظيرات التي علكتها الألسن منذ زمن؟ وما هي أوجه مكامن الضعف والقصور فيها بناء على ما نشاهده اليوم؟

فالغالبية من الأنظمة العربية تفضل دفن رأسها في الرمال كالنعامة، ولا تريد أن تحيط المواطنين بهاته الإشكاليات والقضايا التي تثيرها، لأنها تعي أولا أن أمر تلافيها غير ممكن بالمرة. وأنها عاجزة كل العجز عن دفعها، كما عجزت تماما عن دفع ما يثير الشبقية والشهوانية ويؤججها كالفياغرا والبروزاك والوسائط التي أفسدت الذوق الجمالي والنفسي.. لأنها مستهلكة أكثر منها منتجة لهذه التقنيات. علاوة أنها تريد وبأي ثمن حجب الحوارات والنقاشات والصدامات والمواجهات الفكرية والنقدية حولها، والتي ربما ستكشف بعمق خواء نظامها المعرفي والأيديولوجي وتخلفها وعجزها وتبعيتها واستبداديتها واغترابها كليا عن مصالح شعوبها.. كما التحديات العصيبة التي تواجهها الشعوب العربية، إلا أن ذلك لا يعد أن يكون محاولة لحجب ضوء الشمس بالغربال!.

لا يتسع المجال هنا لدراسة آفاق وآثار ذلك، فكل المؤشرات تشير إلى أن انعكاسات ذلك على المجتمعات العربية والإسلامية سيكون بالغ الأثر وبالغة القسوة كوقع أسلحة الدمار أو يزيد.

 ليس مقصود القول هنا زوال جنس وحضارة من الوجود كما يهلل البعض، بل المقصود (وهو أنكى) أن كل قيمنا ومنظوماتنا الرمزية التي ميزتنا بين الأمم وحفظت لنا وجودنا في التاريخ كعرب وكمسلمين معرضة للذوبان في قيم وثقافات أخرى.. ولا غرابة إذا أشرنا هنا في هذا المجال بالذات إلى ابن خلدون في المقدمة عندما قال ان المغلوب مولع دائما بمحاكاة الغالب والإقتداء به، لأنه يعتقد أن انتصاره راجع إلى صحة مذاهبه وعوائده: «فالنفس تعتقد أبدا الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به. وذلك هو الاقتداء».

فإذا كان العالم يتجه حثيثا إلى نوع من التقارب والتواصل والاتصال يختلف في مضمونه وفي شكله عما عرفناه في الماضي. فإن أوروبا اتجهت في بناء اتحادها بشكل يخرج عن ما تصورناه حقيقة مطلقة في بناء الوحدة العربية أو الإسلامية.

فكل من مقومات الدين واللغة والثقافة انسحبت إلى دائرة كل الجماعة ومجالها الخاص بها. في حين تم إعداد المجتمع على قاعدة عقد سياسي يقبل به الجميع ويخضع له الجميع لأنه من وضع الجميع. والدستور الأوروبي الجديد رفض أية إشارة للمسيحية في ديباجته ولم يعر أي أهتمام لكل مقومات الجماعة من لغات وثقافات في ديباجته، فغايته أن لا يفاضل بينها ولا أن يقصي أحدا منها. لكن في الوقت نفسه لم يعتمدها في بناء هذا الفضاء الذي يوحد بين شعوب وأقوام وديانات ولغات مختلفة.

 الأمر الذي يطرح بحدة مدى جدوى هذه الانقسامات والاختلافات العصية التي لا تساير روح العصر بين الفكر الوحدوي العروبي و الإسلامي، أي باختصار أن الإشكال المطروح يتمثل في زوال أهمية العناصر والأسس ـ في عصر الطفرة التكنومعلوماتية ـ التي اعتبرناها أساسية في بناء الثقافة القومية بما هي إنتاج موحد لصورة العرب والمسلمين،  ولله في خلقه شؤون!

الإعلام ومشكلة التبعية: حالة بلدان العالم الإسلامي(8) 

مقدمة

تنبع مشكلة الإعلام في العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي- بما في ذلك موريتانيا – من التبعية الفكرية و الحضارية للغرب وهذه المشكلة بطبيعة الحال تتفرع منها مشاكل أخرى، تتحد لتشكل عامل هدم للتنمية الإعلامية في البلدان الإسلامية وقد حان الوقت لمعالجة هذه الأوضاع الصعبة المتأتات عن السير خلف الغرب شبرا بشبر وذراعا بذراع، خاصة مع انبلاج صبح الوعي بخطورة التقليد الأعمى وتزايد إقبال الجماهير في الدول الإسلامية- وخاصة المثقفين- على الإسلام الحق، ومحاولة نفض الغبار عنه بعد أن ران عليه حين من الدهر يساء فهمه وتطبيقه وتحرف آياته المقدسة عن مواضعها في التنزيل و التأويل الصحيح.

وهو ما يمكن أن نسميه" بتزايد العودة إلى الذات" ونقصد هنا الهوية الحضارية الأصلية التي كانت تحجبها شوائب الإنبهار بالآخر ومحاولة التنكر للثابت و المتحول في شخصيتنا العربية الإسلامية.

فكيف يمكن استثمار الوضع الحالي المتسم بقدر من الوعي بضرورة التغيير للتخلص من هيمنة الغرب السياسية والإقتصادية و العسكرية و الثقافية؟

أعتقد أن المدخل المنطقي لهذه المسألة محل التساؤل هو ضرورة فهم واقع المجتمعات المسلمة حتى يتمكن من ينشد الإصلاح من أبناء العالم الإسلامي من تغيير هذا الواقع، ويقدم الإعلام نفسه كمترشح موفور الحظ لمواجهة التحديات المنجرة عن مسلكيات تمثل الآخر في الشأن الثقافي والإعلامي، هذا التمثل الذي تكرس مع مرور الوقت و أصبح ممارسة اعتيادية بعد أن الفته النخب وتقبلته الجماهير على مضض وحافظ الغرب على تكريسه منذ الحملة الإستعمارية في القرن التاسع عشر التي واكبها إنشاء مؤسسات إعلامية مضللة مثل وكالة أنباء رويتر « البريطانية» ووكالة الأنباء الفرنسية، و الوكالتان الأمريكيتان( يونيتد برس- اسو شيتدبرس)، لقد مارس الغرب من خلال مؤسساته الإعلامية الكبرى شتى مظاهر الظلم للإستحواذ على موارد وأراضي المسلمين حيث نهب الحديد و النحاس الموريتاني وامتص المستعمر النفظ و الغاز الجزائري وسلب الأراضي الزراعية في المغرب وتونس و السودان وتاجر بالخشب الأندنوسي و القطن التركي و السجاد الإيراني واستحوذ على مزارع افغانستان وأذربيجان واستعبد السينغاليين و الماليين و الغينيين و النجريين و احتل المواقع الإستراتيجية في مصر وليبيا و الصومال و الخليج و استطاع إقناع بعض أبناء المسلمين بشراكة غير متكافئة يبرر بها بسط نفوذه على الحرث و النسل كالإتفاق الذي تم مع الملك نصر الدين، شاه ملك إيران في 25 يوليو 1872 و الذي تم بموجبه الإستحواذ على مصادر الثروة الإيرانية من قبل الإمبراطورية لبريطانية.

I- الشكل المعاصر للسيطرة

لم يعد الغرب بعد التجربة التي خاضعا مؤخرا في العراق مستعدا لإستخدام القوة المسلحة لحماية مصالحه في الوطن العربي و العالم الإسلامي لأن أسلوب الحرب التقليدية مكلف إلى أقصى الحدود وغير مضمون النتيجة لذا تمت الإستعاضة عنه بأسلوب آخر أقل تكلفة وأكثر فتكا، هو الغواية و التضليل الإعلامي من خلا ل بث الخبر و الخبر المضاد و الكلمة الموجهة عبر منابر نصبت في كل مكان لتكون الصوت المجلجل الذي لا يمكن أن يضيع في خضم الأصوات المبحوحة الصادرة من مراكز الرفض في الساحة العربية الإسلامية.

لقد أدرك الغرب عموما و الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا بعد محنة الفلوجة، وجبال تورا بورا ومن قبلهم شعاب و أودية وهضاب الصومال، أن القوة العسكرية عاجزة عن تحقيق الأهداف الإستيراتيجية البعيدة المدى، لأن الشعوب الإسلامية قادرة على رفع التحدي و مواجهة الآلة العسكرية بالإيمان و الصبر وحب الشهادة، و التشبث بالأرض، و رفض الإستسلام، فكان العدول عن معركة السلاح، والأخذ بمنهج الغزو الإعلامي، و الثقافي هو الحل الأنسب للمرحلة الراهنة التي يعاند فيها الإيمان الكفر، ويستعصي خلالها المستضعف على البطل وجبروت القوى.

فكيف مررت قوى الإستكبار العالمي منهجها السلمي ظاهريا و الفتاك باطنيا. أعنى منهج الإحتلال الإعلامي و التسلط الثقافي؟

طرحت دول الغرب على العالم الإسلامي ما يسمى بالقانون الدولي، و الشرعية الدولية كخيار يضبط التعامل بين الطرفين، و تم تفعيل مجلس الأمن الدولي ليكون بمثابة كلب الحراسة الذي ينهش جسم المتطلع إلى الخروج على القواعد المنظمة للقانون الدولي الجديد.

ولكن لكي يصبح هذا المنهج التعاملي الجديد مستساغا وممكنا طلب من الإعلام الغربي أن يتولى مهمة تمهيد الطريق لسياسة الإختراق، و اكتتاب الوكلاء الذين سوف يتولون تطبيق مخطط طمس الهوية وابتلاع الوافد الغربي بكل أظلافه وشعره دون غرابة أو تمييز فكان المسلم الذي يتكلم بلغة قومه ويلبس لباسهم، هو من يدس لهم السم بالعسل دون أن يتفطن الشقيق إلى شقيقه بأنه طعنه في الخلف وأتاه من مكان كان يعتقد أنه في أمان من أن يمرق عليه مارد يدنس عرضه، أو ينهب ماله، أو يفسد عقيدة أبنائه ويضلل نساءه و يوسع الهوة بين شيبه وشبابه

يريد الغرب عموما وأمريكا بشكل خاص أن يلعب الإعلام والإتصال دورا مزدوجا، عندما يصبح قادرا على أن يحل محل الجيوش المدججة بالسلاح، ويتغلغل في أعماق العالم الإسلامي، ويحاول إعادة صياغة الشخصية الإسلامية وفقا للشروط المرجعية الغربية أي يصبح الفرد المسلم " متبتلا في محراب البيت الأبيض" وليس" عابدا في كنف البيت الحرام ".هذا مايراد من الإعلام الغربي أن يقوم به في المنطقة العربية و الإسلامية، أما الدور الثاني فهو أن يصبح مصدر دخل ثابت يدر المال الكثير على خزائن ومصارف أمريكا وهذا ما أصبح ممكنا وجائزا بعد توسع قطاع المعلومات على مستوى العالم الغربي حيث شكل رافدا من روافد الدخل القومي وزاد عدد المنشغلين جراء ذلك في ميدان المعلومات ووسائل الإتصال و الإعلام و الخدمات المتصلة به.

لقد أصبح الإعلام الغربي مع مطلع القرن الواحد و العشرين هو ثروة الثروات وشكل قطب الرحى الذي تدور حوله كل المنافع و الأرزاق، وأصبح من يريد الجاه، أو المال يتوجه قبل الإعلام الذي أصبح سيفا مسلولا فوق رقاب الناس وفي نفس الوقت قبلة للعاملين في المال السهل وتجار وسماسرة المعلومة و الدعاية و الخبر.

II- الضمانات الكبرى للخلاص

نحن أمة مكلومة منذ عصور، ومشاكلنا عديدة، ولنا حسابات مع أمم أخرى، وتلك الأمم تريد تصفية الحسابات العالقة، عبر الإنتقام، ولا أريد هنا أن أدفع بعدم شرعية الثأر الثقافي، و الحضاري الذي يصر الغرب على أخذه من المسلمين، كما أنني لن أتعرض لحجج ومبررات المسلمين فيما يخص علاقتهم مع العالم أيام ازدهار دولتهم، فهذا الحديث يخرج عن نطاق هذه المعالجة، كل ما أريد أن أستعرضه في موقفي هذا هو المساهمة في وضع تصور عن الضمانات الكبرى الكفيلة بالخلاص من مأزق التحدي الإعلامي و الثقافي الذي يواجه المجتمعات العربية، و الإسلامية في الوقت الراهن.

وفي البداية أنبه إلى أن جميع الدول الإسلامية تواجه أوضاعا صعبة فيما يخص علاقتهما بالإعلام الغربي، فهذا الإعلام يشوش على المسرح الوطني لكل بلد إسلامي، ويسعى جاهدا إلى خلق رأي عام مسلم موالي له قادر على استيعاب الفكر الليبرالي الغربي وتمثل القيم الحضارية والثقافية الغربية في مرحلة أولى، ثم نشرها وترويجها في مجتمعه المسلم في مرحلة ثانية.

وينعت الغرب العلماء المحليون الطبعيين بأنهم نخبة وطليعة المجتمع، ويطلق عليهم تسمية "المثقفون المستنيرون" و يحفزهم على المواجهة مع إخوتهم الذين يتمسكون بقيمهم الدينية والحضارية، و الذين يطلق عليهم الغرب تسميات عديدة من أشهرها" الظلاميون " و المتطرفون" أو" الإرهابيون" إن الهزة النفسية و السياسية التي أحدثتها واقعة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير عندما أعلن المارد الغربي عن بدء الحرب الصليبية على الإسلام و المسلمين، وكانت أفغانستان، مسرحا لإنطلاقة هذه الحرب" المقدسة" التي من أبرز خصائصها أن الإسلام ملة واحدة، وأن المسلمين متواطؤون بالإجماع على هدم البيت الغربي الموحد على رؤوس ساكنيه دون تمييز بين مرابعهم الأوربية أو الأمريكية فهم يستحقون بمنطق حكم الغرب على نفسه الزوال والإضمحلال، ومادام الغرب قد وضع أقاويله على المسلمين وأبرم أمره ليلا فعلى المسلمين واجب الحيطة و الحذر من هذا الآخر الذي يصر على نعتنا بالعدو، ويرفض التمييز بين عقلائنا وسفهائنا بين منطق الحكمة عندنا و لحظات الإنفعال العابر عند بعضنا.

إن احتلال العراق، فجيعة كبيرة ألحقها الغرب بنا وتمزيق افغانستان، و التمالؤ مع اليهود على تحطيم فلسطين في زمن وجيز يدخل في نطاق مسلسل الهدم الذي يمارسه الغرب بأعصاب باردة ويحاول تبريره قانونيا، رغم تكرر الفضائح التي تستعطي على التبرير مثل ما حصل ويحصل في اكوانتينامو، و ابو اغريب وغزة، هذه الحماقات التي سجل الغرب فيها الرقم القياسي في عدم الإنسانية لم تحل بينه وبين محاولة رسم السياسة العالمية بصورة تتجاهل محنة المسلمين من خلال القفز على إحداث ترتيبات إقليمية، و داخلية تقدم إلى الشعوب المسلمة بأنها ضمان الخلاص من البلاء و بلسم الشفاء من أسقام اللحظة التي انحبسنا فيها، وحرمنا من حقنا في صيرورة، وديمومة، واطراد سير التاريخ لقد أراد الغرب أن يتوقف التاريخ الإسلامي فأعلن على رؤوس الأشهاد نهاية التاريخ العربي الإسلامي وموت الإنسان المؤمن بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم – وخلو الساحة للقيم ذات البيت المشترك اليهودي المسيحي.

وقبل أن تنهار الدولة في العالم الإسلامي، ويتمزق نسيجها الإجتماعي، لابد من تدارك الأمر، و التعلق بخشبة النجاة، وهنا يطرح الإعلام نفسه علينا كمنقذ بمقدوره أن يأخذ بيدنا إلى شاطئ الأمان، عبر تنمية الوعي بأهمية الذات الحضارية، و التفاني في الدفاع عن قيم الدين الإسلامي ورفض القطيعة التي يريد الغرب أن يفرضها بين الكتاب و السلطان، بين الحكم و الشرع، ومواجهته بالحقيقة الأزلية: نحن مسلمون ودولتنا دولة مسلمة وهذا لا يعني أننا ننظر، أو ندعوا إلى دولة اللاهوت فهذا الموقف نرفضه بنفس الحماس الذي نرفض ونواجه به الدولة العلمانية، فهذه نظم نشأت وشبت عن الطوق في الغرب، ولنا نظمنا وفهمنا الخاص للدين و للدولة على حد سواء، و الفهم الذي نتمسك به يرفع شعار الحكمة ضالة المؤمن أين ما وجدها فهو أحق بها لأننا أمة تطلب العلم و لو في الصين ونتعلم من حكمة الأمم لنأمن شرها.

خلاصة

هناك ضرورة قصوى لوضع استراتيجية للأمن الإعلامي في العالم الإسلامي تحدد وترتب أولويات الإعلام عندنا، إعلام ينتمي إلى ذاتنا الحضارية ويفتح أعينه وآذانه على ما يجري في العالم.

إعلام يبتعد عن مواقف الإنفعال ويتشبث بالصدق مع الذات ومع الآخر، إعلام يساهم في توجيه السياسة العالمية، ويتفاعل بشكل إيجابي مع منطق العولمة، و المنظمات الدولية، و الشركات، و المنظمات غير الحكومة، و الجماعات، و الأفراد الذين يمكن أن يكونوا فاعلين في تحريك سياستنا العربية الإسلامية بغض النظر عن خلفية هؤلاء العقائدية أو الفكرية، فنحن أمة تعتز بجذورها ولكنها لا تقبل أن يجتث الآخرون من جذورهم أو تطمس هوياتهم.

هناك تحديات تواجهنا في عقر دارنا وعلينا أن نتجنب سياسة النعامة، ونستجمع شجاعتنا ونتصدى لتلك التحديات بمنطق العقل وبروج العصر، والإعلام أحد هذه التحديات التي لا يمكن التقليل من شأنها فهو لا يقل أهمية عن تحدي الأيدز أو التلوث البيئي، و أعتقد أن من أهم آثار 11سبتمبر 2001 أنها فتحت أعيننا على الإعلام وتأثيراته على الأمن الإنساني وعلى العلاقات الدولية والسياسة العالمية بوجه عام.

فالإعلام اليوم يؤثر تأثيرا بالفاعلي البشر ويوجه علاقتهم الإجتماعية و الإقتصادية ويرسم مسار علاقات الدول.

إن الكرامة الإنسانية تتأثر اليوم بالخطاب الإعلامي، وبهذا المعنى نحن ملزمون بأن نوجه إعلامنا إلى الإهتمام با لأوضاع التي يعيش فيها الإنسان المسلم، وتسليط الأضواء الكاشفة على حاجاته الأساسية حتى تكون مشاركته ذات قيمة في مجتمعه.

إن وطأة الإحتلال، و الفقر، و الحرمان. أو ما يمكن أن نسميه الإرهاب الجديد يعاني منها كل فرد مسلم في الوقت الراهن فهي ظاهرة ليست مرتبطة بمواطني الدول التي تئن تحت هيمنة بعض دول الغرب الجاثمة على صدرها مثل افغانستان، و العراق بل هو شعور موجود عند كل مؤمن بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكل المسلمين اليوم لا يتوفر لهم القدر الكافي من الأمن الإنساني ويعانون من الخوف من انهيار دولتهم جراء غياب إعلام قادر على تجاوز المحنة وامتصاص آثارها السلبية واستشراف مستقبل يحظى قيه الإنسان المسلم باهتمام كبير يوصفه صاحب عقيدة خالدة قابلة لأن تتعايش مع فلسفات وعقائد واديولوجيات العالم التي تحترم مبدأ التميز الفكري وترفض التعصب المذهبي.

ولكي يكون الإعلام في البلاد الإسلامية قادرا على التأثير يلزم قيام شراكة إعلامية في البلاد الإسلامية قادرة على الـتأثير يلزم قيام شراكة إعلامية بين الأقطار الإسلامية من أجل استغلا أمثل للحرية الإعلامية في العالم، ومن أجل أن يصبح المواطن في البلدان الإسلامية على اطلاع جيد بكل خبايا ومعلومات العالم الإسلامي، و الحد من تدفق تفاصيل المعلومات عن الغرب لأنها لا تفيد المواطن المسلم في حياته اليومية. ليس من المستساغ أن يجهل بعضنا البعض الآخر، أو تتكون لديه صورة كاذبة عنه من خلال الإعلام الغربي الذي يشكل اليوم المصدر الرئيسي للمعلومات فا لأمة الإسلامية لاتعرف أخبار بعضها إلا عن طريق الإعلام المعادي، وتلعب تكنلوجيا الإعلام والإتصال دورا محوريا في التنمية الإعلامية، لذا ينبغي الأخذ بأسباب التكنولوجيا (الأقمار الصناعية، الإذاعات التلفزيون ، الأفلام السينمائية، و الصحف و المجلات ....)، فهذه الوسائل تلعب دورا أساسيا في زيادة السيادة الإعلامية.

إن الحوار المنطقي بين بلدان العالم الإسلامي، عبر المنتديات القائمة مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، و جامعة الدول العربية، سيمكن من وضع نظام إعلامي جديد قادر على طرح قضايا العالم الإسلامي طرحا صحيحا ويساهم في تثقيف جمهوره بتعاليم الإسلام. وكخلاصة لكل ما تمت إثارته من هموم ومشكلات الإعلام في البلدان الإسلامية، ننبه هنا إلى أن أي تجربة إعلامية إسلامية كي تكون موفقة في مسعاها عليها أن تتمسك بثوابت الإسلام تلك الثوابت التي تركت للعقل المسلم مجالا رحبا للتفكير والإجتهاد. فحيوية الإعلام يستمدها من تنوع الآراء، ثم إن مواجهة الغزو الإعلامي، و الثقافي الغربي تتطلب تظافر جهود كل أصحاب الرأي داخل الفضاء الإسلامي الرحب، واشتراك كل المتطلعين إلى لعب دور في هذا المجال و الكف عن اقصاء الجماعات أو تحييد بعضها بالبعض الآخر.

المواطن العربي بين التقليد والتبعية(9)

المسافة بين التقليد والتبعية هي المسافة بين السبب ونتيجته لأن التبعية تنبثق ابتداءً كحالة وسلوك في حياة الإنسان الفرد والجماعة حينما لا تتمكن الأنا من الفعل الإيجابي في الحياة على مختلف المستويات

حينما يتفاعل الإنسان مع قيم الخير والعمل، فإن هذا الإنسان يتحول إلى إنسان يفعل الخير، ويسعى في قضاء حوائجه، معتمداً على ذاته وإمكاناته ومن ثمَّ ينطلق هذا الإنسان في رحاب البناء والاعتماد على نفسه وقدراتها، في عمله وبناء مستقبله.

أما حينما يُوجد الإنسان لنفسه حاجزاً نفسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، يحول بينه وبين تلك القيم صانعة الخير، ومحركة الإنسان باتجاه الاعتماد على نفسه.. حينذاك يتحول هذا الإنسان إلى كائن لا يأكل إلا من زرع الآخرين ولا يعمل ويبني إلا بعضلات الآخرين. وهكذا يصبح هذا الإنسان في أموره كلها معتمداً على غيره في تنفيذها والقيام بها، وما يصح على الإنسان الفرد يصح على الإنسان الجماعة.. فالمجتمع الذي يصنع لنفسه التبريرات والحواجز النفسية والعملية التي تحول دون تفاعله مع قيم الخير والعمل، يتحول إلى مجتمع استهلاكي.. أما المجتمع الذي يتفاعل مع تلك القيم ويتمثلها في سلوكه فإنه سيعمل ويسعى في سبيل توفير حاجاته ومتطلباته، وبذلك يتحول إلى مجتمع منتج.

من هنا فإن داء التقليد الأعمى الذي يصيب المجتمعات الإنسانية هو وليد كسبهم وفعلهم الذاتي.. حيث إن التقليد هو عبارة عن عجز ذاتي، يمنع الاعتماد على الذات وممارسة دور الخلق الحضاري، وأمام هذا القصور الذاتي والنص الإبداعي، يبدأ الإنسان باستثمار جهود غيره واقتناء منجزات الآخرين كما أن التقليد الأعمى في إطاره العام، هو عبارة عن تأخر مستوى الوعي وتراجع درجة النضج العقلي والنفسي، بحيث ينتقل المرء من آفاق الإبداع إلى حيز الاتباع ومن مناخ المساءلة إلى مناخ التسليم حسب الدكتور (جابر عصفور).

فالتقليد هو عبارة عن حالة معرفية متوقفة عن النمو ونعتقد أن ما وصلت إليه من معارف وعلوم هي المستوى الأقصى للمعرفة والعلوم، فتتوقف عن النمو وتؤمن بأن ما تحمله من معرفة يشكل المعرفة المطلقة، التي تنفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ.

وبهذا تتكرس حالة من الجمود واليباس الفكري، بفعل الانغلاق والانحباس على الذات، انطلاقاً من وهم التميز المعرفي والتفوق الفكري.

والمسافة جد قصيرة بين التقليد بوصفه حالة معرفية ونفسية سائدة في محيطنا العام والتبعية بوصفها علامة من علامات العجز الذاتي والتوقف عن النمو العام وأكاد أقول إن التقليد هو الوجه الآخر للتبعية فهما وجهان لعملة واحدة، لا ينفصل عنوانها الثقافي عن وجهها الاقتصادي والسياسي.

من هنا فإن الاعتماد على الذات والاستقلال أو التبعية والتقليد الأعمى للآخرين. يبدأ بالفكر والثقافة قبل الاقتصاد والسياسة إذ أن الفكر المستقل سيصنع اقتصاداً مستقلاً يعتمد على واقعه الموضوعي وخصوصياته الذاتية. كما أن الفكر التابع أو الثقافة المهزومة مهما أوتيت من إمكانات مادية هائلة لن تخرج عن إطار التبعية الاقتصادية ونقل النظريات الجاهزة وتطبيقها في تربة ليست تربتها.

فالمسافة بين التقليد والتبعية هي المسافة بين السبب ونتيجته لأن التبعية تنبثق ابتداءً كحالة وسلوك في حياة الإنسان الفرد والجماعة حينما لا تتمكن الأنا من الفعل الايجابي في الحياة على مختلف المستويات والصُعد وذلك بالمعنى الذي يصل التقليد والعجز الذاتي عن النمو والإبداع بحالة التبعية والخضوع سواء لسلطة الماضي والتاريخ أو سلطة الحاضر بتطوراته العلمية الرهيبة ونظرياته المعرفية الهائلة.. وإذا كانت التبعية هي الاستجابة الطبيعية لكل من توقف عن النمو ودخل في نفق التقليد الأعمى فإن التقهقر الحضاري والانحطاط الثقافي والاجتماعي، هو الناتج الطبيعي لكلا الأمرين سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. ويُشير إلى هذه المسألة الدكتور (جابر عصفور) بقوله: «ويبدو أن الحاضر الذي نعيشه لا يمزقنا بين الآخر الذي نحيا حضوره في علاقة تبعية من ناحية وتراث الماضي الذي نستعيده في علاقة تقليد من ناحية ثانية فحسب، بل يجعل من علاقة التبعية للآخر علة لعلاقة التقليد للماضي والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحضور التعويضي للتراث لا ينفصل عن الحضور المؤرق للآخر والآليات التي تحكم علاقات السلف بالخلف، فهذه هي تلك، في فعل الوجود الذي تغدو معه المعرفة نقلاً بغير دليل واتباعاً يلازم التسليم وتقليداً يرادف الإذعان والذي تغدو معه هذه المعرفة تبريراً أيدلوجياً لمنطق التبعية وتعبيراً عن آليات التخلف في مختلف جوانبه العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية» (هوامش على دفتر التنوير ص 20).

فجمود العقل ويباس الوجدان وتبلد الإحساس لا يؤدي إلا إلى المزيد من التبعية.. لأن الجمود لا يصنع حركة، وتبلد الإحساس ويباس الوجدان لا يصنعان فعلاً وفاعلية باتجاه الاعتماد على الذات والتحرر من سطوة الحاجة للآخرين. لأن التبعية ليست مسألة مادية أو اقتصادية في بداية الأمر بل هي جمود عقلي، يحارب التجديد ويمنع الحركة الجدية الهادفة إلى تطوير الواقع. وإنهاء معوقاته، لهذا فإن المزيد من التقليد والجمود، يعني المزيد من التبعية والخضوع إلى شروط الآخرين ومتطلباتهم.

فالتبعية للخارج بجميع أشكالها وصورها هي حصيلة التقليد والجمود والوقوف عن النمو في الداخل. فالتبعية تتغذى باستمرار من الأمصال التي تمدها إليها حالات الجمود في العقل والتقليد في التفكير التي يعانيها أي مجتمع.

ولم يسجل لنا التاريخ أن أمة من الأمم أو شعباً من الشعوب، خضع لمشروع التبعية والاستتباع الحضاري واستمر في السيطرة، إلا على قاعدة تخلف عميق، وجمود شامل تعانيه تلك الأمة أو ذلك الشعب في ذاته وكيانه الداخلي.

وأن تقلص مستوى الحركة الذاتية وعمليات الدفع الطبيعية التي يوفرها النظام المعرفي الداخلي هو الذي يؤسس الأرضية المناسبة لانتهاج نهج التقليد واتباع الآخرين (بوعي أو بدون وعي) في أفكارهم وأنماط معيشتهم وطرائق تفكيرهم.. وهكذا كلما تضخم مستوى التقليد كلما سقط الإنسان في مهاوي التبعية والاعتماد على الآخرين في كل شيء، وبطبيعة الحال فإن الاعتماد على الآخرين لا يقف عند حد معين، بل يستمر ويستفحل لدرجة وصول الإنسان إلى حد الاستلاب، وحينما يستلب عقل المرء ونمط تفكيره، يتحول إلى كائن استهلاكي لا هم له إلا إشباع بطنه وتقليد الآخرين في صرعاتهم وموضاتهم.

وبهذا يخرج هذا الإنسان من الدورة الحقيقية للحياة، ويصبح ميت الأحياء لهذا فإن إنهاء الجمود والتحرر من عقلية التقليد الأعمى. وتجديد العقل والداخل في مختلف مجالاته، هو البداية الحقيقية للتخلص من مشروع الاستتباع الخارجي.

أما كيف نخرج من هذه الدوامة فهو عبر (حضور الوعي) وتكثيف آلياته في حياة الإنسان حتى تتأسس الشروط الملازمة للانطلاق في رحاب الوعي وآفاقه، بعيداً عن أُطر التقليد الضيقة أو خيارات التبعية المذلة، ذلك الوعي الذي ينهي كل مفردات التقليد الأعمى من حياة الإنسان، فتصبح ذاته ذاتاً عارفة متحركة باستمرار نحو الآفاق المعرفية المرجوة.

هذا الوعي بآفاقه المعرفية، الذي يعيد صياغة حياة الإنسان وفق منظومة جديدة تنقل المرء من واقع التقليد والتبعية إلى آفاق الإبداع والاستقلال.

إن الوعي وحضور بنوده ومفرداته في حياة الإنسان، هي المهاد الفكري الضروري للانعتاق من قيود التقليد وأغلال التبعية، والانطلاق في آفاق نوعية إلى الأمام. فلا يمكننا أن نتخلص من مرض التبعية إلا بالتخلص من ظاهرة التقليد الأعمى ونهج الاستنساخ الحرفي لتجارب وخبرات الآخرين. وذلك لأن الانبهار بالآخر والتقليد الأعمى له، هو بوابة التبعية السياسية والاقتصادية للآخرين.. فالخطوة الأولى في مشروع التبعية هي الانبهار بالآخر وتقليدهم على نحو عاطفي وبعيد عن موازين العقل ومتطلبات النهضة الحقيقية.

ولا يمكن للإنسان العربي والمجتمع العربي، من التخلص من ظاهرة ومرض التبعية، إلا بإنهاء جذور هذا المرض النفسية والثقافية. ولا ريب أن التقليد الأعمى والانبهار المطلق بالآخر هما من أهم الجذور الثقافية لمرض التبعية السياسية والاقتصادية. ورفض ظاهرة التبعية في العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية بين الأمم والشعوب، لا يعني بأي حال من الأحوال رفض حقيقة وضرورة التفاعل والتكامل ونسج علاقات التعاون والتبادل بين الأمم والشعوب في مختلف المجالات والحقول.

فالمرفوض في العلاقات بين الأمم والشعوب، هو التبعية والانسلاخ والاستلاب، وهذا لا يعني التشريع للانزواء والانطواء، وإنما هو دعوة لصياغة العلاقة بين مختلف المجتمعات على قاعدة التعاون والتبادل السياسي والثقافي والاقتصادي بعيداً عن حقائق التبعية ووقائع الانسلاخ الحضاري والثقافي.

والمواطن العربي بوعيه وإرادته وعزيمته وتصميمه، بإمكانه أن يباشر دوراً رئيسياً في مشروع الاستقلال والانعتاق من قيود التبعية. فحينما يتخلص المواطن العربي من استهلاكه الترفي ويبلور طاقاته وقدراته الإنتاجية، فإن هذا الوعي والسلوك هو اللبنة الأولى في مشروع الانعتاق من التبعية والتحرر من مرض التقليد الأعمى للآخر.

فالعلاقة متداخلة بين التبعية والتقليد، ولا يمكن على الصعيد النفسي والمعرفي والثقافي من التخلص من ظاهرة التبعية إلا بالتخلص من ظاهرة التقليد الأعمى.

فتحرر الإنسان العربي من ظاهرة وقيود انعكاسات وعقلية التقليد الأعمى، هو الخطوة الأولى في مشروع تحرر المجال العربي من ظاهرة التبعية السياسية والاقتصادية. لذلك كله نستطيع القول: إن التحرر من هيمنة الآخر الحضاري، يقتضي العمل على تأسيس ثقافة مجتمعية جديدة، تتجاوز عقلية الامتثال والسعي إلى استنساخ تجارب الآخرين إلى عقلية الإبداع والفرادة الحضارية.

.............................................................

المصادر/

1- علاء هادي/ العالمية

2- بنبراهيم / مدونات مكتوب

3- عبد المجيد راشد/ التجديد العربي

 4- عبدالاله سطي/ موقع ثقافة بلا حدود

 5- نسيب حطيط/ السفير اللبنانية

 6- عصام عز الدين /    جريدة النور

 7-  حسـن مصـدق/ البرلمان الشيعي الهولندي

 8- أ.د محمد الأمين ولد سيد/ موقع الدرب

 9- محمد محفوظ/ جريدة الرياض السعودية

10- المعجم النقدي لعلم الاجتماع/ بودون بوريكو

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7 آب/2007 -23/رجب/1428