إن للقضاء مهمة عظيمة وجليلة ذكرتها الشرائع السماوية قبل القوانين
الوضعية واهتم فقهاء الشريعة الإسلامية في القضاء اهتمام فاق أي أمر
آخر، وجعل البعض من القاضي بمنزلة الأنبياء حيث قال الإمام علي (ع)
لشريح القاضي (يا شريح قد جلست مجلسا ما جلسه إلا نبي أو وصي نبي).
كما قدموا للقاضي أمورا لم تكن تعطى لخليفة المسلمين الذي كان
يمثل رئيس اكبر دول في العالم في حينه، فتكفل المشرع الإسلامي بشؤون
القاضي وقدمها على كل المواقع والمناصب الدينية والدنيوية وأسبغ عليه
نعم الله التي أجراها الخالق عز وجل لعباده المؤمنين. فترى القاضي في
صدر الخلافة الإسلامية يتقاضى راتباً أعلى من راتب الخليفة الذي كان
يمثل الرأس الأعلى للسلطة في الدولة الإسلامية كما تكفل بتامين مسكنه
وقوت عياله وخدمه، والزم القائم بالأمر بتوفير وسائط النقل المتيسرة في
حينه، وذلك من اجل ضمان حيادية ونزاهة القاضي من الميل تجاه الشهوات أو
الميل تجاه ضغط الحاجة عليه.
وأولى العرب قبل الإسلام القضاء منزلة سامية وخصوا بها الكهنة
والعرافين كسطيح الذئبي المعروف بسطيح الكاهن وشق انمار كما عهدوا
القضاء إلى شيوخ القبائل وحكمائها فكان !
الرجل إذا نبغ في قبيلته تولى حكمها والقضاء فيها... وفي قبيلة
قريش كان هاشم بن عبد مناف وابنه عبد الله وعبد المطلب وولده أبو طالب
يتولون القضاء في قبيلتهم ويتولون التحكيم بين القبائل في نزاعاتها ,
كما تولاه أكثم بن صيفي الذي اعتبر أفضل حاكم في عصره فهذه منزلة
القضاء قبل الإسلام.
لذلك نجد إن الاهتمام بالقاضي لا يكون لشخص القاضي بل للدور العظيم
الذي يقوم به القضاء والهدف النبيل الذي يسعى لتحقيقه وكذلك فعلت كل
التشريعات الوضعية في العالم القديم والمعاصر اذ كان عند السومريون
والاشوريون القاضي هو الحاكم وفي العصور الحديثة في البلدان المتقدمة
والمتحضرة نجد ان القاضي له امتيازات مادية ومعنوية تفوق ما لرئيس
البلاد من وكذلك في بعض الدول العربية وفي العراق كان للقضاء دور في
نهوض هذا البلد منذ تأسيسه ولحد الان على الرغم مما عانى هذا الجهاز من
ظلم واعتداء وجور السلطات الحاكمة التي كانت تتصف بالشمولية
والديكتاتورية فوقف لها القضاء موقف شرف تمثل بالعديد من القرارات
الجريئة التي قدم ثمنها القضاة حياتهم وتعرضوا للسجن والاذى (وبقيت في
ضمير كل قاض جذوة الانتصار للحق بوسيلة أو بأخرى , ورغبة جامحة في
أبعاد أصابع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون القضاء وعملت قدر
المستطاع على أبقاء القضاء مستقلاً في أداء مهامه وكافح القضاة في سبيل
ذلك بشكل منظور وغير منظور حتى لحظة سقوط النظام في 9/4/2003... ارتفع
الصوت عالياً باستقلال القضاء ليأخذ دوره في ترسيخ سلطة القانون وحماية
حقوق الإنسان والحريات العامة وقد كان للقضاة ذلك) إلا بعض الذين حسبوا
على القضاء ظلماً وعدواناً وهم ليسوا إلا أدوات لهذه الأنظمة الطاغية
وهؤلاء ليسوا بقضاة حيث يقول القاضي الأستاذ مدحت المحمود رئيس مجلس
القضاء الأعلى (خلال تلك الفترة أيضا فتح الباب واسعاً أمام عناصر غير
مؤهلة للدخول إلى سلك القضاء لأنها تحمل هوية الحكم وأفكاره
وانتماءاته...) وهم مشخصون ومعروفون لدى الجميع بما فيهم أبناء الشعب
وبعضهم ولى والأخر سوف يجد نفسه خارج نهج العراق الجديد آجلا أم
عاجلاً.
وكانت جميع التشريعات التي تنظم عمل القضاء تؤكد على استقلال القضاء
باعتباره سلطة مستقلة حتى وان كان يدمج ضمن الأجهزة التنفيذية للحكومة
وذلك بسبب عدم إيمان السلطات السابقة بمبدأ الفصل بين السلطات، وفي
مرحلة ما بعد عام 2003 وكتابة الدستور العراقي النافذ اعتبر القضاء
سلطة ثالثة مستقلة لا سلطان عليها على وفق ما جاء بالمادة (19) والتي
بينت (القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون) وافرد لها الباب
الثالث في المواد (84 ـ 98) وأشار إلى أن السلطة القضائية الاتحادية
تتكون من (من مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة
التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الإشراف القضائي،
والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون ) وعلى وفق ما
جاء بالمواد (86) كما افرد مواد خاصة للمحكمة الاتحادية العليا التي
تكون بمثابة المحكمة الدستورية على وفق أحكام المواد (90 ـ 93) وإنها
جزء من السلطة القضائية الاتحادية.
لذلك فان الجسم القضائي جسم واحد يتكون من عدة مفاصل منها المحكمة
الاتحادية ومحكمة التمييز ومجلس القضاء وسواها من المفاصل القضائية.
إلا أن الأوضاع السياسية في العراق دعت إلى تشكيل لجنة لإعادة النظر
في بعض مواد الدستور التي كان عليها خلاف بين الكتل السياسية والتي
أدرجت ضمن بنود الدستور في نص المادة (142) وهذه اللجنة لا زالت منذ
تشكيلها تعمل على إعادة النظر في المسائل الخلافية من اجل إعادة كتابة
أو إلغاء بعض بنود الدستور ومن خلال ما تسرب من اللجنة من إنها تسعى
إلى التطرق إلى موضوع السلطة القضائية وتجعل الجسم القضائي ينقسم إلى
عدة كيانات منفصلة عن بعضها البعض أي جعل المحكمة الاتحادية كيان مستقل
لا علاقة له بمجلس القضاء ومحكمة التمييز كيان مستقل لا علاقة لها
بمجلس القضاء ومجلس القضاء مجلس منعزل عن هاتين المحكمتين.
وهذا الأمر فيه خطورة كبيرة لأنه سوف يؤدي إلى تشظي الجسم القضائي
وتقسيمه إلى وحدات لا ترابط وظيفي بينهم وهذا بدوره يؤدي إلى تعدد
مراكز القرار في الجسم القضائي مما ينتج عنه انحراف عن خط الحياد
والخضوع إلى الضغوط السياسية والظرفية كما إن تشكيل الجسم القضائي
بثلاث كيانات سيكون خطوة أولى نحو زرع المحاصصة الطائفية التي لحد الآن
لم تصل إلى هذه المنظومة الحيوية والتي تمثل الضمانة الوحيدة للمواطن
العراقي بعيداً عن الطائفية السياسية المقيتة التي قادت العراق الى ما
هو عليه الآن، ولابد من الإشارة إلى أن خطورة هذا التعديل لا تكمن في
كونها تلحق الأذى بالقضاء والشعب وانما تمثل خروج على الأعراف
القانونية والقضائية المعمول بها في الدول المتحضرة وحتى الدول العربية
والإسلامية ومنها الدول المجاورة للعراق.
لذلك ادعوا لجنة التعديلات الدستورية إلى إعادة النظر في هذا المبدأ
الخطير والنظر إلى الموضوع في إطار الوحدة الوطنية والمحافظة على
استقلال القضاء الذي لن يكون الا بوحدته جسماً ووظيفة وكذلك عليهم
الاسترشاد بالشريعة الإسلامية السمحاء التي لم تكن تعرف التعدد في
تشكيلات القضاء لحرصها على إحقاق الحق وجعله بيد جهة واحدة تعمل على
وفق مقتضيات العدل والعدالة كما ادعوا مجلس النواب إلى التصدي إلى مثل
هذه المحاولة ومنع وقوع أضرار جسيمة بالشعب وان يقف المجلس إلى جانب
استقلال القضاء ودعم وحدته بعدما تخلى عن دعم القضاة ومنحهم ما يستحقون
من عطاء مقابل ما يقدمون من تضحيات جسيمة وكذلك على كل الباحثين في
القانون والقضاء التصدي من خلال إفهام ذوي الشأن بخطورة العمل الذي
يقدمون عليه. |