فايروسات العنصرية تنتقل الى الحيوانات في أوربا !

 الدكتور محمد مسلم الحسيني - بروكسل

 استدعي حاكم التحقيق في محكمة الجنايات البلجيكية المتهم "برونو رامبلبرجو" وهو من سكنة مدينة "هاوزينكين" البلجيكية الى المحكمة بتهمة العنصرية، وذلك بعد ان رفعت عليه الدعوى من قبل أحد الزنوج القاطنين في بلجيكا. تلخصت هذه الدعوى بأن المتهم برونو، وهو رب عمل في شركة صغيرة لتصنيع الحديد، قد رفض مقابلة المشتكي "بيتر الديدايو" الذي جاء الى مقر الشركة من أجل إجراء مقابلة للحصول على فرصة عمل فيها. وقد أعتبر المشتكي بأن عدم إجراء المقابلة الموعودة له ورفضه جملة وتفصيلا من الإنتساب والعمل في تلك الشركة كان لأسباب عنصرية بحته وذلك بسبب لون جلده الأسود وكونه ليس أوربيّا.

حينما سأل حاكم التحقيق المتهم عن سبب رفضه فتح باب الشركة للمشتكي وإستبعاده منذ البداية حتى قبل إجراء المقابلة له!، أجاب المتهم بما يلي : " أن السبب الحقيقي وراء عدم إستقبالي للمشتكي كان في الحقيقة كلبي الذي إسمه "بلاكي" والذي يكره الزنوج كرها شديدا! حيث ما أن يرى زنجيّا حتى يصبح غاضبا عليه وشرسا إتجاهه، بل وخطرا على ذلك الشخص الذي قد لا يسلم من عضّته، وخوفا منيّ على سلامة المشتكي من العض، فأنني لم أفتح له الباب ولم أستقبله!"

لم يقتنع حاكم التحقيق بهذا الجواب الغريب من قبل المتهم، بل أمر بإحضار الكلب"بلاكي" ليختبر صحة أقوال المتهم. وما أن شاهد الكلب شخصا أسودا كان قد أحضره الحاكم من أجل الإختبار، إلاّ وبدأ يستشيط غضبا وينبح بكل عصبية وحنق ويهم بالهجوم على ذلك الشخص وقد إنتصب شعره من بداية رأسه حتى نهاية ذيله وأصبح كالقنفذ!. عندها إقتنع الحاكم بصحة أقوال المتهم وأنهى الجلسة وأطلق سراح برونو وكلبه الثائر على الأجانب !.

 ورغم أن الكلب "بلاكي" لونه أسود داكن فأنه يكره اللون الأسود ولا يتحمله!. وما أن خرج المتهم مع كلبه من قاعة المحكمة حتى تلقفته قنوات التلفاز واستلمه الصحفيون، فأصبحت صورة الكلب "بلاكي" تملأ الصحف البلجيكية!

العبرة من هذه القصة الواقعية القصيرة والتي دارت أحداثها هذه الأيام وأصبحت كالفكاهة يتداولها الناس، هو أن ظاهرة العنصرية اليوم تستشري عند بعض الأوربيين، وقد أصبحت في طور الإنتقال الى الحيوانات على ما يبدو!. واستشراء هذه الظاهرة يفسر صعود نسبة أحزاب اليمين المتطرف في الإنتخابات العامة في أكثر دول أوربا الغربية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ففي إنتخابات الرئاسة التي جرت عام 2002 م في فرنسا، فاز حزب جون ماري لوبان اليميني المتطرف بالمركز الثاني بعد حزب جاك شيراك الحاكم أنذاك، وقد تخطى بذلك الحزب الإشتراكي الفرنسي!. ولولا رفع ساركوزي لشعارات مكافحة الهجرة غير المنظمة ومعالجة شؤون الأجانب في حملته الإنتخابية الفرنسية لهذا العام لحصل الذي حصل في الإنتخابات الرئاسية السابقة. وهذا الصعود في نسبة الأصوات التي تختار أحزاب يمينية متطرفة، ترفع شعارات ضد الأجانب، يتجلى أيضا في الإنتخابات التشريعية التي جرت في العاشر من شهر حزيران المنصرم في بلجيكا، حيث حصل حزب "فلامز بيلانك" اليميني المتطرف على المرتبة الثالثة وتجاوز الحزب الليبرالي الفلامنكي الحاكم بنسبة الأصوات!

 وحصل مثل هذا الصعود في نسبة الأصوات المنتخبة لأحزاب عنصرية متطرفة في كثير من البلدان الأوربية الأخرى مثل النمسا وهولندا وحتى إنكلترا. وهذا ما يجعل المراقب للأحداث يتساءل عن أسباب هذه الحمى العنصرية التي تلهب جسد أوربا اليوم وأكثر من أي وقت مضى. وقد يستطيع المتابع أن يلخص بعض الأسباب بما يلي :

1- إرتفاع ملحوظ في الأعداد البشرية المهاجرة الى أوربا من بلدان العالم الثالث وذلك بسبب تردي الأوضاع السياسية والمعاشية والإجتماعية في تلك البلدان، حيث يبحث المهاجر عن المال أو الأمان أو عن الأثنين معا. وزيادة أعداد المهاجرين يعني زيادة في عدد العاطلين عن العمل وزيادة في مصروفات الدولة المضيفة في مجالات الضمان الإجتماعي، وزيادة موعودة في نسبة دفع الضرائب للمواطن الأوربي. خصوصا أن السواد الأعظم من المهاجرين يفضلون الإعتماد على المساعدات الإنسانية بدلا من العيش على عرق الجبين!

2- الكثير من الجرائم، كجرائم السرقة والقتل والإغتصاب والإعتداءات الأخرى، ترتكب من قبل بعض الأجانب المتواجدين على التراب الأوربي، وهذا ما جعل المواطن الأوربي يفقد الشعور بالأمان والإستقرار ويصبح في دوامة مستمرة من الخوف والهلع من الأجانب في بعض الأحيان. خصوصا أن بعض المهاجرين يتحدرون من طبقات إجتماعية متدنية في أوطانهم ولا يصلحوا أن يكونوا مثلا طيبا لأوطانهم الأم في بلاد الغرب.

3- الكثير من الأجانب يبقون على العادات السيئة التي جلبوها من مجتمعاتهم ويتخلون عن الخواص والخصائل الطيبة التي تتميز بها شعوب أوطانهم، كما أنهم يكتسبون المساوىء الموجودة في المجتمعات الأوربية الجديدة، ويلفظون العادات الحسنة والطبيعة المميزة التي تتحلى بها هذه المجتمعات!. وهذا ما يخلق طبقة من الناس لا تتشابه بصفاتها مع صفات أبناء جلدتها الأصليين ولا تتناغم بخصائلها مع خصائل المجتمع الجديد. هذه الطبقة "العائمة" من البشر يرفضها البلد الأم ويستهجنها البلد المضيف، فلهم صفات وخصال لا تنسجم في كثير من الأحيان مع أي من المجتمعين!

4- يحاول بعض الأجانب أن يتقوقعوا مع بعضهم دون الإحتكاك والإندماج بالمجتمع الجديد الذين هم فيه،فتراهم يتعاشرون ويلتقون فقط مع أبناء بلدهم الأم دونما تحرك أو إندفاع الى الإحتكاك والإتصال مع أبناء المجتمع الجديد.وحتى في مناطق سكناهم تجدهم مع بعضهم، فترى حيّا يسكنه الأتراك وحيّا يسكنه الزنوج وحيّا يسكنه المغاربة وحيّا يسكنه الهنود....الى آخر ذلك من الأحياء المتنوعة داخل المجتمع الأوربي الواحد. وهذا التجمع والتكتل يقلل من فرص الإندماج في المجتمع المضيف، الى درجة أن يبقى بعض المهاجرين لا يتكلمون لغة البلد الذين هم فيه رغم تواجدهم فيه منذ زمن طويل قد يزيد عن العشرين عاما !. ظاهرة التقوقع هذه والإبتعاد عن ساحة الإندماج تعتبر ظاهرة بدائية ترفضها المجتمعات الأوربية المتمدنة.

5- الحوادث الإرهابية التي تعرضت لها أوربا من قبل بعض الأجانب وتحت إسم الإسلام وشعاراته، قد ولّدت ردة فعل عنيفة في نفوس بعض الأوربيين الى كل ما هو عربي ومسلم وزادت من تخوفات الأوربيين منهم. وبقي هاجس الإرهاب هذا يهز المضاجع وينفر النفوس. فأصبح المواطن الأوربي يخشى ويشمئز من أي مظهر ديني إسلامي يراه في الشارع أو الأماكن العامة، كالحجاب مثلا. كما وأن بعض المهاجرين وبإسم الدين أيضا يستحلون كل شيء في الغرب لأنها بلاد "كفار" في نظرهم ! وما تزيد هذه المفاهيم والتصرفات إلاّ الطين بلّة !

6- التكاثر في صفوف الأجانب كبير جدا نسبة الى التكاثر عند الأوربيين. فالعائلة الأوربية الواحدة لا يزيد عدد أفرادها عادة عن الأربعة، بل والكثير من الأوربيين يرفضون إنجاب الأطفال. بينما معدل عدد الأفراد في العوائل العربية أو المسلمة يتجاوز عادة الستة أفراد، وليس منهم من لا يحب إنجاب الأطفال. وهذا يعني ومع مرور الزمن تغييرا "ديموغرافيا" أو سكانيا هاما في المجتمعات الأوربية وزيادة ملحوظة في أعداد الأجانب المتحدرين من أصول عربية ومسلمة. هذا الهاجس الخفي يتحسس له المواطن الغربي ويتحسب له، إذ يشعر بأنه مع مرور الزمن سوف تتحول الأقلية أكثرية في مجتمعاتهم.

7- الحكومات الأوربية المتعاقبة لم تبذل جهدا حقيقيا وجادا في سبيل تحسين شؤون الأجانب المعيشية والإجتماعية، فهي لم تحاول فرض الإندماج بالمجتمع الجديد عليهم وذلك من خلال مختلف الأبواب والطرق. كما ولم تشجعهم على البحث عن فرص العمل أو أن تعرض فوائد تفضيلية لهم أمام الشركات والمؤسسات من أجل تشغيلهم. وقد يصل الحال بأن يشعر بعض المهاجرين بأنهم مهمشون ومرفوضون في المجتمع الذين هم فيه، وهذا مايزيد الهوّة بينهم وبين مجتمعهم قد تصل الى درجة أن يكره المهاجر وطنه الجديد ويحقد عليه!. هذا الحقد الدفين تتجلى مظاهره في حالات الغليان والثورة التي تحدث بين الفينة والأخرى وبين الحين والآخر في بلدان أوربا. وما أحداث العنف والشغب التي إندلعت في أطراف باريس عام 2005 م إلاّ مثالا حيّا لذلك.

هذا هو مختصر لبعض الأسباب التي يراها المتابع لأمور الهجرة منطلقا لتزايد حالة العنصرية عند بعض الأوربيين والتي تتطلب معالجة حاسمة قبل أن تستشري الأمور وينتقل مرض العنصرية الى الجميع حيث لا يسلم منه أحد، بل قد تنتقل فايروساته الى الحيوانات أيضا والكلب "بلاكي" نموذجا لذلك!

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 3 آب/2007 -19/رجب/1428