العولمة والتحدي الثقافي

محمد محفوظ

بلورة نظرية للثقافة، لا تتأتى إلا بدعم وإسناد عملية الاجتهاد الفكري والثقافي، لما توفره هذه العملية من آفاق ثقافية جديدة، ونظرات فكرية تجمع البعد التاريخي التأصيلي، وبعد العصر وتطوراته.

 في نهايات القرن الماضي، الذي شهد العديد من الأحداث النوعية على مختلف الصعد، والمنعطفات التاريخية، برزت في المشهد السياسي والاقتصادي الدولي، ظاهرة جديدة، بل مشروع جديد، سعت الدول الكبرى إلى تنفيذه وتحقيقه، ليس على جغرافيتها فحسب، بل على العالم بأسره وتوظف هذه الدول كل إمكاناتها وطاقاتها في سبيل تعميم هذا المشروع للوصول إلى كونيته وكوكبته.

وأمام هذا المشروع الكوني الجديد والذي يمتلك كل الإمكانات المادية والفنية لإنجازه وجعله حقيقة قائمة، لا بد من التساؤل: كيف ينبغي أن تتعامل الثقافة العربية مع هذا المشروع الجديد، والعصر الذي نعيش، حيث بدأت ملامح هذا المشروع بالبروز على المستوى الفعلي.

إذ أن عصر العولمة، لا يخلق تحديات اقتصادية وسياسية فقط، بل يخلق وبشكل بارز تحديا ثقافيا.

لأن الخلفية الفلسفية والمضمون المعرفي لمشروع العولمة وآليات الفعل والتعميم المستخدمة، هي التي تشكل تحديات جديدة للثقافة العربية، وتتجسد هذه التحديات في الآتي:

1- أن مشروع العولمة، لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال، عن المشروع الثقافي الغربي، إذ هي إحدى استراتيجياته، وكل خطواته السياسية والاقتصادية والتجارية، هي تخدم في المحصلة الأخيرة، المشروع الثقافي الغربي. ولا شك أن امتلاك المشروع الثقافي الغربي، هذه الإمكانيات، يشكل تحديا صريحاً إلى الثقافة العربية بمشروعاتها ومؤسساتها وآفاقها.

2- أن مشروع العولمة، وفر للثقافة الغربية، جميع الإمكانات المادية والفنية، التي تجعله يساهم مساهمة رئيسية في صناعة الرأي العام العالمي. وما زالت مؤسسات الدول الحاضنة لمشروع العولمة، هي التي تتصدر الساحة الدولية فيما يرتبط وصناعة الرأي العام العالمي.

ولا ريب أن هذه الإمكانات، تعتبر تحديا ثقافيا واجتماعيا إلى الثقافة العربية، إذ ما زالت الثقافة العربية، تعتمد في تعبئة الجمهور، وصناعة الرأي العام على وسائل وإمكانات المشروع الثقافي الغربي، ولذلك نجد أن الرأي العام العربي، في الكثير من الأحيان، يوجه وتصاغ أولوياته واهتماماته، من قبل مؤسسات العولمة، ومشروعات الثقافة الغربية.

3- أن القيم التي تبثها وسائل ومؤسسات العولمة، والسلوكيات التي تعطى لها الأولوية، هي قيم وسلوكيات لا تنسجم والمعايير والقيم العليا، التي تنادي بها الثقافة العربية.

لذلك فإن توفر مؤسسات دولية، تأخذ على عاتقها الدعوة إلى الالتزام بقيم ومبادئ مناقضة، إلى قيم وأصول الثقافة العربية، يعتبر تحديا خطيراً، يواجه الثقافة العربية ومستقبلها.

من خلال هذه العناصر، يتضح أن مشروع العولمة، يعتبر تحديا حقيقيا إلى الثقافة العربية.

لذلك من الأهمية بمكان، أن نتحدث، عن الثقافة العربية وآفاقها واستراتيجية عملها في عصر العولمة.

وإن بقاءنا كسلبيين وبدون أن تحرك فينا هذه التحديات حوافز العمل والفعل الثقافي الحضاري، يحولنا إلى أسرى حقيقيين إلى ثقافة الآخر وأولوياته واهتماماته ومصالحه، فعصر العولمة، يدفعنا إلى ضرورة التفكير الجاد في محاولة العمل القادمة فيما يرتبط والثقافة العربية.

وإننا نرى أن في هذا العصر، الذي تحاول فيه الدول الكبرى، تعميم نماذجها الثقافية، ينبغي علينا التأكيد على النقاط التالية:

الوعي الحضاري:

إننا لا يمكن أن نواجه تحديات العولمة، إلا بحضور الوعي الحضاري وتكثيف آلياته في حياتنا، حتى تتأسس الشروط اللازمة للانطلاق في رحاب الوعي وآفاقه بعيدا عن أطر التقليد الضيقة أو خيارات التبعية المذلة.

ذلك الوعي الذي ينهي كل مفردات التقليد الأعمى، من حياة الإنسان فتصبح ذاته ذاتا عارفة متحركة باستمرار نحو الآفاق المعرفية المرجوة، هذا الوعي بآفاقه المعرفية، الذي يعيد صياغة حياة الإنسان وفق منظومة جديدة تنقل الإنسان من واقع التقليد والتبعية إلى آفاق الإبداع والاستقلال.

وإن الوعي وحضور بنوده ومفرداته في حياة الإنسان، هو المهاد الفكري الضروري للانعتاق والتحرر من قيود التقليد وأغلال التبعية وتحديات العولمة والانطلاق من آفاق نوعية إلى الأمام.

نظرية عمل ثقافية:

وإن الزخم المعرفي والمعلوماتي الهائل، الذي تعيشه الإنسانية جمعاء والتحديات التي تواجهنا جميعاً من جراء مشروع العولمة والكوكبة، يحتمان علينا بلورة نظرية متكاملة للثقافة، حتى يتسنى لنا كأفراد ومؤسسات، من الاستفادة القصوى من هذا الزخم المعرفي الضخم.

ومن الطبيعي، أن بلورة نظرية للثقافة، لا تتأتى إلا بدعم وإسناد عملية الاجتهاد الفكري والثقافي، لما توفره هذه العملية من آفاق ثقافية جديدة، ونظرات فكرية تجمع البعد التاريخي التأصيلي، وبعد العصر وتطوراته.

كما أن الاجتهاد الثقافي يمد المسيرة الاجتماعية بالأفكار التجديدية، التي تتجسد في أنشطة وأعمال إبداعية، يتجدد من خلالها المحيط الاجتماعي العام، فيتحول إلى محيط حيوي ذي فاعلية مستمرة.

ولا ريب أن حيوية المحيط وفاعلية الاجتهاد والتجديد الثقافي، سيخلق الواقع القادر على مواجهة تحديات العولمة.

الإبداع الثقافي:

والإبداع الذي نقصده، ويساوق الحياة في معناه وآفاقه، ليس مقطوع الصلة بالواقع، بل هو ينطلق منه دون أن ينحبس فيه من أجل تأسيس منظومة ثقافية جديدة، تعيد لنظامنا الثقافي حيويته ودوره في إعلاء شأن الأمة ومواجهة تحدياتها، وتعيد لها دور الشهود الحضاري.

لهذا فإن إطلاق مشروع الإبداع في حقول الثقافة العربية المختلفة، وتوفير كل الظروف المؤاتية لذلك، هو حجر الأساس في عملية إعادة حيوية الأمة، وسد حاجاتها النظرية والعملية وتحديد أطر الصعود والارتقاء.

فالإبداع يعني فيما يعني، فتح مغاليق الأمور واكتشاف سبل جديدة لخروج الواقع الثقافي من محنته، لذلك فهو يتعاطى مع الواقع الثقافي بمفرداته المتعددة، من أجل إعادة صياغته بما يساوق دور الأمة التاريخي والتحديات المعاصرة.

والإبداع الذي نعنيه يحمل أمل تأسيس خريطة ثقافية، يشترك الجميع في رسمها وتحديد أولوياتها، وبيان منطلقاتها وركائزها، متوسلين في سبيل تحقيق ذلك بلغة الحوار والتفاهم والانفتاح وقبول الآخر وجوداً وفكراً.

فمواجهة تحديات العولمة، على المستوى الثقافي، لا تتم إلا بإنهاض الحياة الثقافية العربية، ووصلها بالأفكار الإنسانية العليا، التي تثري مسيرة الثقافة العربية، وتزيدها زخما وحيوية، فعصر العولمة لا يمكن أن يواجه ثقافيا إلا بالمزيد من إطلاق حرية الإبداع وأفكار المساءلة والنقد والحوار، والتوجه إلى القضايا الاستراتيجية، والابتعاد عن كل ما يمنع حيوية وحرية العمل الثقافي العربي.

شبكة النبأ المعلوماتية- االاربعاء 1 آب/2007 -17/رجب/1428