مصطلحات اجتماعية: الجريمة

الجريمة: Crime

شبكة النبأ: إن إسهام دوركهايم جوهري فيما يتعلق بالجريمة، كما هو الأمر بالنسبة لفعل الانتحار، هذا الإسهام تحتويه الصفحات الشهيرة من تقسيم العمل والقواعد حيث يقدم دوركهايم سلسلة من الاقتراحات:

1- نحن لا نستنكر عملاً لأنه جرمي، وإنما هو جرمي لأننا نستنكره، فسقراط المجرم في نظر الآثينيين، ليس كذلك في نظرنا.

2- الجريمة ظاهرة (عادية)، إذ إن شعور الاشمئزاز الذي تثيره الأفعال المعرّفة على أنها جريمة في إطار اجتماعي معين لا يمكن أن يتطور بنفس القوة لدى جميع الأفراد.

3- إن العقوبة مخصصة للتأثير بصورة خاصة على الناس الشرفاء) إذ هي تدعم شعورهم بالتضامن، أكثر مما هي مخصصة للمجرمين.. يمكن أن يكون للعقوبة بعض الفعالية الرادعة، ولكن بما أن شعور الاشمئزاز تجاه فعل مذموم ضعيف الحضور لدى بعض الأفراد، لا يمكنه أن يدعي إلغاء الجريمة.

4- لا وجود للجريمة إلا حيث توجد العقوبة القانونية، ذلك أنه لا يمكن أن يكون ثمة عقوبة قانونية إلا لأفعال محددة تماماً في القانون. إن تصرفاً ما يمكن أن يستثير استنكاراً قوياً دون أن يعتبر فعلاً جرمياً إذا لم يتعلق الأمر بأفعال يمكن تحديد هويتها بسهولة. (إن الإبن العاق والأناني حتى الأكثر قساوة لا يعاملان على أنهما مجرمان).

ربما ليس من المغالاة القول إن نظرية علم اجتماع الجريمة، كما بنيت فيما بعد عبر تراكم المساهمات المتتالية، قد وجهتها بشكل واسع الأسئلة التي طرحها دوركهايم، يتساءل مرتون في نظريته عن الانحراف، لماذا يكون شعور النفور حيال الأفعال المستنكرة موزعاً بشكل غير متساوٍ؟ يبدو دوركهايم وكأنه يوحي بأن التوزيع وليد الصدفة. ولكننا نلحظ علاقات بين بعض أنواع الجرائم والجنح ومتغيرات المواقع الاجتماعية. فالسرقة هي غالباً من فعل أفراد ينتمون إلى طبقات محرومة. أما (جريمة الياقة البيضاء) التي أعطاها أسمها سوترلاند، هي غالباً من فعل الطبقات الوسطى والعليا، إن فرضية مرتون هي أن غياب النفور بالنسبة للأفعال المعتبرة مذمومة، يمكن ألا يكون ناجماً فقط، كما يقول دوركهايم، عن امتثالية ناقصة بالنسبة للقيم الاجتماعية، وإنما ناجم كذلك عن إفراط في الامتثالية. في المجتمع الأمريكي وفي مجتمعات أخرى يقيّم النجاح الاجتماعي بقوة. ولكن وسائل النجاح ليست بمتناول الأفراد بالتساوي، إن غرض النجاح، إذا استبطن كفاية من قبل الفرد، يمكن أن يوحي له باللجوء إلى وسائل النجاح التي تكون هي، غرضاً لتقييم سلبي اعتباراً من اللحظة التي تبدو له فيها الوسائل العادية بعيدة عن متناوله، طبيعي أنه توجد أنماط أخرى من (الحل) للتناقض. النمط الأول يقضي بأن يقمع الفرد إرادته في النجاح (إني أكتفي بما لدي)، (لا تنشد ما هو عالٍ جداً لئلا تصاب بالخيبة). وعلى الرغم من أنه غير مريح وعرضة للعقوبات الاجتماعية المتفشية فإنه بالتأكيد منتشر جداً، ثمة حل آخر هو (الانكفاء) المتمثل بشخصية شارلو الذي قبل بأن يكون (السيد لا أحد، ... وألا يكون لديه أي طموح للفضيلة أو للتمايز) أما التمرد وهو النمط الثالث من الجواب، فيترجم بمعارضة الأغراض الثقافية. وهو ليس ممكناً إلا في ظروف استثائية. أما فيما يتعلق (بالتجديد) (الخضوع للأهداف الثقافية واستعمال الوسائل المنحرفة) فهو (الحل) الذي يتعلق بالتصرفات الجنحية والجرمية. من الطبيعي أن هذا (الحل) لا يتم اختياره على اثر مداولة عقلانية. يشير أوهلن أنه يلاحظ غالباً لدى الجانحين الشباب شعوراً بالظلم فقد كتب يقول: (يميل الجانحون إلى أن يكونوا أشخاصاً كانوا يتوقعون أن تأتيهم فرصة تأكيد أنفسهم، بمقدار ما كانوا مقتنعين بمقدرتهم الكامنة فيهم للاستجابة لمعايير التقييم الرسمية، المقررة مؤسساتياً، وإذا لم تسنح الفرصة، يمكنهم أن يشعروا أن الخطأ قائم في (النظام) وأن هذا النظام، على الرغم من المظاهر المعلنة، يستند في الواقع على اللاأخلاقية والاختلاس والابتزاز والمحاباة والضغوطات الاجتماعية. فيحس حينئذ أنه يبرر له اللجوء إلى وسائل مستنكرة. ولكن لكي يتأكد الميل الانحرافي، يقتضي أن تجهز أواليات التدعيم، ويلاحظ أوهلن أن الجانح الذي يرتكب اختلاسه الأول يشعر بصورة عامة بأنه مذنب لخرقه المعايير القائمة. ولكن هذا الفعل الأول يمكن أن يضعه في حالة اتصال مع جانحين آخرين. ويصبح حينئذ العمل الجنحي الذي كان مناسبة للشعور بالعار، وسيلة لتأكيد الذات. يمكن أن يستحق الفاعل بسببه موافقة ورضى أعضاء المجموعة الجانحة. ويقدم دوركهايم المجرم، على الرغم من اعتباره الجريمة شيئاً عادياً، على أنه فرد يتحسس بشيء من الضعف، الشعور بالنفور الذي تثيره بعض الأفعال. ومع مرتون والمؤلفين الذين استوحوه مثل كلينار وكلووارد وأوهلن أكملت فرضية دوركهايم بفرضية معاكسة: يصرّ المجرم على متابعة غرض مقيم اجتماعياً، وإذا جدد فيما يتعلق بالوسائل، يمكن أن يظهر له التجديد شرعياً، ويمكن أن يفسر من قبله بأنه جواب على وضع يراه ظالماً، فضلاً عن ذلك، يمكن أن يكون مصدراً ليس فقط للنجاح الاجتماعي وإنما للموافقة من قبل أعضاء المجموعة. ينصح سوترلند باعتبار المجرم كشخص سوي. ويقترح مرتون أن نرى في تصرف المجرم مصيبة الامتثالية.

رغم كل شيء إن الجريمة حدث نادر: إنها تتضمن خطر العقوبة؛ هؤلاء الذين يعانون من الشعور (بالحرمان النسبي) يمكنهم أن يلجأوا إلى الطقوسية والانكفاء ولديهم كل الفرص لأن يفعلوا ذلك إذا اكتسبوا وضعاً اجتماعياً في حده الأدنى، يخاطرون في خسارته عبر انخراطهم في (التجديد) وأخيراً، (إن التجديد) الذي يمثله الانحراف لديه كل الفرص للإجهاض إذا لم يصادف ظروفاً مناسبة، كما تذكر بذلك الطرفة التي أوردها سوترلند. يرتكب جانحان شابان اختلاساً فتلاحقهم الشرطة. الأول الذي يملك ساقين طويلتين يفر. وعندما فكر بأنه كان قاب قوسين من السجن تصبب منه العرق البارد، فتعقل وأصبح مستقيماً. أما الثاني فقبض عليه وأودع السجن، حيث يقيم علاقة مع اللصوص ويدشن مهنة جرمية. إن كتاب اللص المحترف لسوترلند، وهو سيرة ذاتية رائعة عهد بها إلى قلم عالم اجتماع، يبرز دور (التجمعات التفاضلية) أي دور التنظيمات المنتحلة للجانحين في تأكيد طريق الجريمة. يبدأ لص سوترلند ببعض الاختلاسات التي تحدث بالصدفة. وبمناسبة هذه الاختلاسات يلتقي بسارق أكبر منه يدفعه إلى السرقة بواسطة النشل. إن مردود النشل قليل، ولكنه يبقى أكثر ربحاً من الاختلاسات المرتكبة فردياً، فهو يفترض فريقاً مؤلفاً في حده الأدنى من شخصين اثنين. الاول يسرق الغرض المطموع به ويناوله فوراً إلى الثاني. وهكذا يكتشف السارق تدريجياً تقنيات سرقة أكثر فأكثر تعقيداً. في الوقت نفسه، يكتشف أن المكافآت ليس فقط المادية، وإنما الرمزية التي يمكن أن يطمح إليها ترتبط بمدى تعقد العمليات، وإن الأعمال الجنحية ذات تراتبية اجتماعية في الوسط الذي بدأ بالولوج إليه. إن سارق البضائع المعروضة عرضة للاعتقال العام. والنشل، مع أنه يحتل مكانة أفضل يعتبر من فعل البائسين والعاجزين. أما السطو الذي يفترض مهارة وتنظيماً وتخطيطاً دقيقاً فينتسب إلى الدرجة العليا من التسلسل. وقبل أن يقبل تقدمه إلى المستوى الأعلى. يخضع السارق إلى تمرين قاس وربما يتم إسقاطه في الامتحان. فوضعه ومكافآته يرتبطان بالدرجة التي يكون أهلاً للارتفاع إليها. إن قصة سوترلند لا تبين فقط دور (التجمعات التفاضلية) في إعادة إنتاج الظاهرة الجرمية  إذ يقول: (إن الجهود القمعية تميل إلى إزالة اللص المحترف، ولكنها تترك الجهاز بكامله سليماً)؛ وهي تؤكد هكذا فرضية مرتون عندما يصبح السارق جانحاً بالصدفة، يندفع في طريق الحرفة التي يحاول أن يجتاز درجاتها، وكل درجة يجتازها تمنحه تقدماً في وضعه واعتباره وسلطته، إن (التجمعات التفاضلية) التي يتحدث عنها سوترلند لا تأخذ مع ذلك دوماً شكلاً (احترافياً) إن الدراسة الكلاسيكية التي أجراها (W.F.Whyte) حول كورنرفيل وهي حي إيطالي في إحدى المدن الأمريكية، تحلل تفصيلياً العملية التي تتكون بواسطتها (عصابة المراهقين) في نظام تحتي مركب. إن الأفعال الجنحية التي يرتكبونها وهي في غالبيتها ليست خطرة، تسمح لهم بتأمين بعض الموارد ولكنها تمنح العصابة بخاصة أغراضاً مشتركة تفترض قراراً وتنظيماً ونظاماً للسلطة. تتحول العصابة تدريجاً إلى تجمع تسلسلي.

ويفيد نواب الرئيس الفخورون بخدمته، من السلطة التي يفوّضها لهم. والرئيس المهتم بالمحافظة على سلطته لا يسلف مالاً إلا لنوابه وبمبالغ صغيرة، باذلاً جهده لاستعادتها في أقصر فرصة ممكنة. ويسعى المرؤوسون للحصول على الحظوة لدى المراتب التي يمكنهم انتظار مساندتها. يتكون النظام التحتي أو (الثقافة التحتية) الجانحة انطلاقاً من شعور بالرفض، وما أن يتشكل، حتى يصبح ممكناً البحث عن وضع فيه. يقدم فيليب روبير استناداً إلى مراقبته لعصابات المراهقين، ملاحظات مماثلة، وغالباً جداً، تأخذ العصابة في البدء شكل التجمع المتنوع الناجم عن (الشعور بالرفض، الكامن غالباً). وبمناسبة حدث معين ينبني التجمع. (إذا أطلق حجر بشكل سيء فحطم زجاجاً، يكفي لكي يغطي عدة فتيان رفيقهم الأرعن، بشهاداتهم الكاذبة، فقد شددوا من تعاطفهم في موقف دفاعي يخلق التماسك بينهم) وعندما تتشكل العصابة فإنها تمتلك موارد قيمة تجاه أعضائها: فهي قادرة على أن تقدم لهم الأمن والاعتبار، إن الشرعية التي تولدها تتدعم بالطبع، كون العصابة كلما كانت قوية التشكيل، كلما عززت الانفصال عن البيئة المحيطة وكلما كانت قابلة لأن تستتبع ردود فعل (مميزة) لنلاحظ مع ذلك، كما يشير كلو وارد وأوهلن اللذان يكملان مرتون في هذه النقطة، أن الثقافة التحتية المنحرفة يمكن أن تأخذ إما شكل الثقافة التحتية للعنف وإما شكل الثقافة التحتية للإنكفاء، مثل تلك التي يدرسها على سبيل المثال هـ. بكر في بحثه حول مدخني المارغوانا.

كان دوركهايم يؤكد أن لا جريمة إلا حيث يكون ثمة عقوبة لفعل مستنكر، وكان يضيف أن الأفعال المعتبرة مذمومة ترتبط بالتطور العام للأخلاق، هذه الأطروحة مقبولة على المستوى العام، لكن بعض المؤلفين، على أثر سلين أشاروا إلى أن القانون، إذا تعلق بالأخلاق يكون خاضعاً للتأثير النسبي للمجموعات الاجتماعية، في الوقت نفسه، يمكن أن يكون شعور الرفض الذي يثيره فعل جرمي ضعيفاً لدى من لا يدرك بوضوح التبعات الفردية للفعل المقصود، ولمن لا تسمح له تجربته ولا يسمح له وضعه بأن يضع نفسه مكان فاعل الجرم. إن القتل والسرقة هما موضوع رفض عام. ولكن الأمر ليس كذلك مثلاً بالنسبة لبعض أشكال (جريمة الياقة البيضاء) في عام 1961، استدعيت 29 شركة للتجهيز الكهربائي أمام المحكمة بسبب خرقها للقانون الأمريكي الذي يمنع التجمعات الاحتكارية. وعلى الرغم من أن الجرم ليس دون نتائج على المكلف كما على المستهلك، من غير المؤكد أن يكون هذا الأخير قد أحس بشعور رافض قوي. لذلك استطاع المتهمون أن يرددوا أثناء المحاكمة، الواحد بعد الآخر أنهم لا يشعرون بأنهم بصورة مستنكرة، إن (جريمة الياقة البيضاء) لا يندد بها غالباً إلا اعتباراً من اللحظة التي تنشئ فيها المجموعات الخفية ذات المصالح المتضررة، مجموعات للضغط. إن شعور الاستنكار الذي اثاره الإعلام الاحتيالي لم يكن ليكفي وحده لتحقق الجريمة، دون وجود الجمعيات الاستهلاكية ودون عملها، إن العلاقة بين الأخلاق والقانون والجريمة هي إذن أكثر تعقيداً مما أراده دوركهايم. يقتضي أن ندخل بين هذه العبارات الثلاث متغيراً وسيطاً هو النفوذ النسبي للمجموعات الاجتماعية المنظمة أو المنتشرة. ينبغي كذلك أن نرى، أن شعور الرفض تجاه فعل معين يمكن أن يتغير وفقاً للمجموعات الاجتماعية، ففلاحو بلزاك يعتبرون أمراً طبيعياً خلط بعض الرزم مع السنابل الملتقطة بعد الحصاد وبعض الجذوع الفتية مع الحطب. خلال الأزمة الكبرى، استثمر عمال مناجم عاطلون عن العمل آباراً غير مربحة تخلت عنها شركات المناجم ولكنها ما تزال ملكاً لهذه الشركات. وعندما أراد المالكون ملاحقة (السارقين) لم يلاقوا أي مساندة لدى السلطات القضائية، إن حظر ألعاب القمار، بما أن هذه الألعاب ليست – ما عدا في بعض البلدان – عرضة لرفض بارز جداً، يمكن أن يكون له آثار مضادة للإنتاج، في ولاية نيويورك، حيث منع اليانصيب، كان بالإمكان حسب سلين الاتصال بسهولة بمستلمي المراهنات وإعطاؤهم ثلاثة أرقام كانوا يدونونها على ورقة ومعها في الوقت نفسه عنوان المراهن. والأرقام الرابحة تتعلق بالأرقام الثلاثة الأخيرة للمبلغ الاجمالي للشيكات المودعة خلال النهار، معطى ينشر يومياً بواسطة نشرة مالية. من الطبيعي أن أغلبية مستلمي المراهنات الذين كانوا يمارسون هذا اليانصيب المخالف للقانون كانوا (شرفاء) ولكن بعضهم لم يكونوا كذلك، لم يكن الحظر غير معمول به وحسب، فالشرطة والقضاة المكلفون بتطبيق القانون كانوا يبدون اهتماماً ضعيفاً، أكثر من ذلك، كان يدعو إلى الفساد وكان مسؤولاً عن تصفية حسابات. وفيما يتعلق بمستلمي المراهنات، كانوا يعتبرون الجزاءات النقدية التي يحكمون بها من وقت لآخر وكأنها جزء من مصاريفهم العامة. وبصورة عامة، كانت الفرضيات الناجمة مباشرة من تقليد دوركهايم – مرتون قابلة للتطبيق على التعرض المباشر ضد الملكية والأشخاص. ولكنها أقل فائدة عندما يتعلق الأمر بأشكال أخرى من الجريمة. في حالة الحظر، تتولد الجريمة من الفارق بين القانون والشعور العام بصدد اللعب. عندما لا تضر ممارسة ما، الأفراد، إلا هامشياً وجماعياً (مخالفة القوانين التي تمنع التجمعات الاحتكارية والإعلانات الاحتيالية). يمكن ألا تولد سوى ردة فعل جماعية ضعيفة. في هذه الحالة، إن المشترع أو عمل المجموعات التمثيلية (مثلاً جمعيات المستهلكين) يتقدمان غالباً (الأخلاق).

لقد ساهم تقدم أبحاث علم الاجتماع في فهم أفضل للظواهر الجرمية على مستوى علم الاجتماع الضيق: أما على مستوى علم الاجتماع الواسع، فتقدم فرضيات مثل فرضيات مرتون، مرشداً فعالاً. ولكن ثمة قضية أساسية مطروحة من قبل تارد ما تزال أيضاً دون حل كامل: وهي قضية تأمين العلاقة بين الظواهر الصغيرة من جهة، والمعطيات الإجمالية الخاصة، سواء بتطور الجريمة في الزمان، أو بالفوارق في بنية الجريمة في المكان، من جهة أخرى. في شتى الأحوال، ثمة نقطة تبقى مؤكدة: من غير الكافي تماماً السعي لتفسير تطور نسب الجريمة بإقامة علاقتها مع المتغيرات المحددة على مستوى المجتمعات الشاملة (مثلاً درجة الارتباك) لقد لاحظ تقرير رسمي أمريكي عام 1969 أنه بين 1947 و1967، أصبحت أغلب مؤشرات الجريمة التي نعتبرها بصورة عامة مرتبطة إيجابياً بجرائم المدن، أكثر ملائمة، تقدم التعليم بين السود، انخفاض معدلات البطالة، ارتفاع الدخل العائلي المتوسط للسود في شكل مطلق ونسبياً في المستوى المتوسط للبيض، انخفاض عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت المستوى القانوني للفقر. رغم ذلك، ازدادت الجريمة في المدن خلال الفترة نفسها. لماذا؟ يلقي كوهين وفلسن فرضية مهمة لحل اللغز: إن الأثر الملائم للمؤشرات الواردة أعلاه تم إضعافه، وربما أكثر من ذلك، بفعل تطور آخر. إن التعديات، سواء التعديات على الأموال أو الأشخاص هي أسهل على الجانح بمقدار ما يكون الهدف أقل حماية. ذلك أن عوامل مختلفة (طول المسافة والوقت في الانتقال إلى مكان العمل، والى المؤسسة التجارية الصغيرة ونمو المؤسسات الكبرى مسببة تباعداً بين نقطة البيع وإقامة المستهلك، وتقتت العائلة، وابتعاد الأولاد في نهاية تخصصهم الدراسي، وتطور الاستخدام النسائي، الخ). أدت إلى وجود الأفراد غالباً لوحدهم والمنزل غير محروس غالباً. يبدو أن تحليلاً إحصائياً أجري على مجموعة من الوحدات البيئية، يؤكد الفرضية، إن القتل المتعمد، والاغتصاب، والطعنات والجراح، السرقة والسرقة الموصوفة تتكاثر بمقدار ما يتقلص المؤشر الذي يقيس الوقت الذي نمضيه في المنزل بالنسبة للوقت الذي نقضيه في الخارج. وتتزايد الجرائم نفسها بين السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. وإن نمو الجريمة في الفترة نفسها يمكن أن ينجم إذن ولو جزئياً عن كون التطورات البنيوية المشار إليها أعلاه تجعل اللقاء أكثر أو أسهل حدوثاً بين الجانحين وأهدافهم غير المحميين. أي أن بعض البنى البيئية مثل المجموعات الكبيرة، يمكنها أن تثير تطوراً للجنوح: أنها تسهل تكوّن العصابات؛ وهي تحث هكذا على بعض أنواع الجريمة مثل سرقة السيارات والدراجات النارية، التي تسمح بالتخلص من بيئة موحشة.

رغم هذه النتائج، نحن بعيدون اليوم عن إمكانية إقامة العلاقة بشكل مرض تماماً، بين معطيات علم الاجتماع الواسع وعمليات علم الاجتماع الضيق. وهكذا، يبدو الجدل التقليدي حول الأثر الردعي للعقوبة مفتوحاً باستمرار، يقترح البعض تطبيق نموذج مستوحى من الاقتصاد على التصرفات الجرمية ويتمثلون العقوبة المتوازنة بأرجحية اتخاذها لقاء ثمن. ولكن لا يكفي للتحقق من الأثر الردعي للعقوبة، إثبات وجود علاقة متبادلة سلبية بين معدل الجريمة وخطورة العقوبات، يمكن أن يكون تفسير هذه العلاقة غامضاً، فلا شيء يشير إلى أنها لا تحصل من علاقة سببية تذهب من الجريمة إلى العقوبة كما من العقوبة إلى الجريمة، من الممكن فعلياً أن يؤدي مستوى مرتفع للجريمة ضمن اختصاص قضائي معين، إلى حال اختناق في المحاكم والسجون ويحث الجهاز الجزائي على إصدار عقوبات أخف. ومن الممكن كذلك أن يولد تكرار بعض الجرائم، شرط ألا تتجاوز هذه الجرائم درجة معينة من الخطورة، وضعاً غامضاً يتسم بالتسامح الكبير. أما بالنسبة للجرائم الأخطر، يمكن أن يكون الأثر معاكساً: إن تكرار أكبر لهذه الجرائم يمكن أن يستتبع قساوة أكبر. إن الدراسات الطولية على طريقة بانيل تسمح في كل حال بتدقيق التفسيرات السريعة جداً التي قدمت كصلة متبادلة يمكن ملاحظتها على مستوى الجمع بين معدل الجريمة وخطورة العقوبات (و/ أو احتمال التوقيف). وقد أثبتت دراسة أجريت على جماعة من المختلسين الأمريكيين من 1964 إلى 1970 ومع استعمال نموذج بانيل (الذي يسمح بدراسة تأثير معدلات التوقيف على الجريمة، علماً أن معدلات التوقيف تم تحديدها بواسطة العلاقة بين القضايا التي تؤدي إلى التوقيف والعدد الإجمالي للقضايا المعروفة من الشرطة بالنسبة لنوع معين من الجرائم وخلال سنة معينة) أثبتت هذه الدراسة تأثيراً غير مهم لمعدلات التوقيف على معدلات الجريمة. لا ينجم عن مثل هذه الدراسة أن الأثر الردعي غير موجود (من الممكن أن يترافق تزايد معدلات التوقيف بانخفاض في قساوة العقوبات الصادرة). ولكنها تبرهن على:

1- تعقد العلاقة بين الجريمة والعقاب الناجم عن الطابع المتبادل للسببية.

2- أن (الأكلاف المسبقة) للجريمة ليست سوى أحد العناصر الثابتة للتصرف الجرمي. يقتضي أن نضيف إلى ذلك أن تأثير الكلفة مثلها مثل تأثير المؤسسات الجزائية والبنى الاجتماعية بصورة أعم، ترتبط بنوع الجريمة، إن الجريمة العاطفية وجريمة راسكولينكوف ربما كانت كيانات إحصائية متشابهة، ولكنها بالتأكيد كيانات جرائمية مميزة، فكما في حالة الانتحار، لا يمكن اعتبار الظواهر الجرمية وكأنها تتعلق بعلم الاجتماع وحده، على عكس ما كان يعتقد دوركهايم. 

متعلقات

جريمة(1)

 الجريمة هي كل انحراف عن المعايير الجمعية التي تتصف بقدر هائل من الجبرية و النوعية والكلية, و معني هذا أنه لا يمكن أن تكون جريمة إلا إذا توافرت فيها الأركان الأتية :

القيمة التي تقدرها الجماعة و تحترمها

انعزال حضاري أو ثقافي داخل طائفة من طوائف تلك الجماعة, فلا تعود تقدر تلك القيمة ولا تصبح مهمة لهم

اتجاه عدائى و الضغط من جانب أولئك الذين يقدرون تلك القيمة الجمعية, ضد الذين لا يقدرونها.

 نظريات الجريمة

يوجد العديد من النظريات التي تفسر أسياب حدوث الجرائم ومن هذه النظريات

نظرية المدرسة الجغرافية

وهذه النظرية تفسر أسياب الجريمة بأنها أسياب جغرافية وبيئية لأن المناخ والفصول والحرارة يؤثر على الأفراد

نظرية المدرسة الاقتصادية

تفسر هذه النظرية الجريمة على أنها وليدة الظروف الاقتصادية مثل الفقر والبطالة, وقد أستند أنصار هذه الجريمة علىالاحصائيات التي تبين كثرة الجرائم أثناء الأزمات الاقتصادية

النظرية البيولوجية

أحدثت هذه النظرية دويا كبيرا في عالم الدراسات الإجرامية, فهذه النظرية وضعها العالم الإيطالي لومبلاوزو lombroso في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبين فيها الطراز الجسمي اللميز لمرتكبي الجرائم, كما بين أثر الورائة في انتقال الإجرام, وقال أن هناك بعض الخصائص التي تميز المجرمين عن غيرهم وأهمها, عدم تماثل نصفي الجمجمة, وضخامة الفك السقلي, وفطس الأنف, وقلة شعر الذقن, وقلة الحساسية للألم.

نظرة الإسلام للجريمة

الجريمة في الإسلام هي بفعل شيء نهى الإسلام عنه عنه كالقتل والزنا والقذف والسرقة والحرابة وشرب الخمر, وتنقسم الجريمة في الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام:

جريمة معاقب عليها بالقصاص. وهي التي حصل الاعتداء بها عمدًا على شخص بالقتل أو بالجرح. وهذا القسم عند بعض العلماء يسمى جناية وللمجني عليه أو وارثه حق العفو لأن المغلّب فيه حق الآدمي, والقصاص يعني أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني. فمن قتل نفسًا يقُتل، ومن قطع عضوًا أو طرفًا لآخر يقطع عضو أو طرف الجاني، وهكذا

جريمة معاقب عليها بالحدود. وهي التي يكون الاعتداء بها على حق إنسان وحق المجتمع بجانب الاعتداء على حق الله تعالى كالزنا والسرقة والحرابة وشرب الخمر. وهذا القسم لا يقبل فيه العفو بعد الوصول إلى الحاكم لأن المغلَّب فيه حق الأمة كلها

جريمة معاقب عليها بالتعزير. وهي الجرائم التي لا حد فيها ولا قصاص. وذلك كالاستمتاع فيما دون الوطء والقذف بغير الزنا وسرقة ما دون النصاب أو من غير حرز وكذا ما كان من صفع ووكز وشهادة زور وأخذ رشوة وغير ذلك مما لا حد فيه ولا قصاص

 الجريمة والوسط الاجتماعي

للحالة الاجتماعية أهمية كبرى في إحداث الجريمة بدليل أن السلوك الإجرامي يتزايد عند المطلقين والعزاب منه عند المتزوجين, كما أنه يكثر في المدن الصناعية عنه في الأرياف

 الجريمة عند الرجال والنساء

لوحظ أن الغالبية العظمى من الجرائم هي للرجال, لان الظروف الاجتماعية التي تحيظ بالرجل كثيرا ما تدفعو إلى أتخاذ مسلك عدواني

تقسيم الجريمة

حاول الباحثون أن يقسموا الجرائم حسب نوع الباعث إليها فقسموها إلى أربع أنواع :

جرائم اقتصادية

جرائم جنسية

جرائم سياسية

جرائم الانتقام

وهناك تقسيم أخر للجرائم يلجأ اليه عادة في الإحصائيات الرسمية للجرائم وهو تقسيمها إلى :

جرائم ضد الأشخاص

جرائم ضد الملكية

جرائم ضد الاداب

ولكن وجد الباحثون أنه من الأفضل تقسيم المجرمين أنفسهم بدلا من تقسيم الجرائم, لأن كل طائفة من المجرمين لها طريقتها في تنفيذ الجرائم و تم تقسيم المجرمين حسب درجة أحترافهم للجريمة إلى أربعة أقسام وهي

مجرمون محترفون

مجرمون عرضيون

مجرمون عصابيون

مجرمون ذهانيون

الوقاية من الجريمة

أهتم كثير من الباحثين ببرامج الوقاية وتنوعت إساليبهم وبرامجهم ومن أشهر هذه الطرق

نظرية بتنام bentham: أهتم بتنهام بالعمل على الحد من سيل الإغراء والاهتمام بالتربية ورفع مستوي الأخلاق وتحسين الظروف الاحتماعية

طريقة التعقيم: حاولت بعض الدول تعقيم العناصر غير المرغوب فيها مثل المجرمين حتى لا تنجب أجيالا مثلها منحرفة

طريقة تشديد العقوبة :أقترح بعض الباحثين تشديد العقوبة على المجرمين لأنها تؤدي إلى ارتداع الكثيرين, بينما التسامح في العقوبة تسبب ازدياد حوادث الإجرام.

 

رؤية نفسية في نظريات الوقاية من الجريمة قبل وقوعها(2)

ملخص البحث

عنوان الدراسة "رؤية نفسية في نظريات الوقاية من الجريمة قبل وقوعها" ومشكلة الدراسة تلخص في أن الجريمة تحدث ويقع لها ضحايا وتكون لها أثار نفسية واجتماعية واقتصادية على الضحية وأسرة الجاني، وكذلك على رجال الأمن وميزانية الدولة. الجريمة تحدث رغم استخدام أسلوب الردع (العقوبة – السجن– الغرامة)، كون غالبية الجهود المبذولة من خلال تطبيق أسلوب الردع تقوم على مكافحة الجريمة بعد وقوعها (قبض – تحقيق- محاكمة- ثم عقوبة)، ولم يتعامل معها بأسلوب علمي يركز على الوقاية منها قبل وقوعها، وهذا يجعل لهذه الدراسة أهمية. ولذا كان هدف الدراسة والذي يفهم من خلال تساؤلاتها الأساسية أولا:ً ما المقصود بمفهوم الوقاية من الجريمة من وجهة نظر علمية؟ ثانيا:َكيف نشأ وتطور مفهوم الوقاية من الجريمة؟ثالثاَ:ما أهم العناصر المؤدية للسلوك الإجرامي؟ رابعا تأثير سلوك الردع المألوف على نفسية الجاني و المجني علية؟خامساً:ما أهم السلوكيات الممكن تطبيقها في المجتمع كإجراء وقائي يحد من وقوع الجريمة ؟.الدراسة اهتمت وناقشت الموضوع  من وجهة نظر نفسيه واجتماعية وشرعية وأمنية. و قد توصل الباحث لنتائج منها أن هناك مفهوماً حديث للوقاية من الجريمة وله تصنيفات ثلاثة – وقاية أولية وثانية وثالثة، وتوصل الباحث أيضا إلى أن أسلوب الردع غير كاف لخفض معدل الجريمة وحده، وقد تكون لـه آثار نفسية على الجاني والمجني عليه.  واهتم الباحث بالجانب الوقائي الأولي الذي يركز على تضييق الفرص وتصعيب الأهداف الإجرامية السهلة. توجد عدة سلوكيات وأساليب وطرق حديثه للوقاية من وقوع الجريمة توفر الجهد والمال، وتقلل الآثار النفسية على الضحية وأسرة الجاني معا.ً وتمت مناقشة 6 نظريات بمفهوم نفسي هي:1- تغيير أسلوب الحياة.2- متابعة ومراقبة بل وتغيير النشاط المعتاد والمألوف للفرد.3-الاختيار المنطقي للجريمة لمعرفة كيفية البدء في بناء القرار وكيفية اتخاذه المباشر للإقدام الفوري على الجريمة، وهذا ما يسمى الاختيار المنطقي للجريمة( وجود دافع ثم إقدام أو إحجام). 4-الوقاية الموقفية من الجريمة بتصعيب الهدف، وزيادة الجهد من الجاني، وزيادة الأخطار حول الهدف، واحتمال القبض على الجاني، كذلك تقليص الفائدة والمنفعة (الهدف الحصول على المال )، بعد ذلك تم عرض تصنيف الوقاية الأولية لمنع الجريمة للعالم كلارك الذي كان له الأثر في الوقاية من الجريمة. 5-تطوير العمل الشرطي للتعامل الأعمق والكثيف والدقيق مع الجرائم والتي تركز على معرفة الأسباب التي أدت إلى حدوث الجريمة مثل (المضاربة) بدل التعامل السطحي معها في فض المضاربة كان الأفضل معرفة أسبابها.أيضا معرفة أسباب وجود مجموعة من الأحداث في مكان ما، وفي وقت محدد (تعامل دقيق وعميق أفضل من مجرد تفريقهم (تعامل سطحي).6-تصميم المباني والعمران عبر وحدات أمنيه تعطى نصائح وإرشادات أمنية قبل البناء.وخلص الباحث إلى أن الوقاية الأولية من وقوع الجريمة لها آثار نفسية إيجابية على الفرد، سواء الجاني والذي يرتدع قبل أن يقدم على الجريمة وكذلك على الفرد العادي والذي يشعر بالأمن النفسي والمادي في مجتمعه. ووجد أن أسلوب الردع نفسياً يؤثر على الإنسان الذي ليست لديه نزعة إجرامية، ولكن في المقابل نجد أن أسلوب الردع لا يجدي بشكل فعال وبنجاح تام لمنع الفرد الذي لديه نزعة إجرامية، لذا فأسلوب الوقاية يؤثر نفسيا في تثبيط دافع الجريمة لدى المجرم. أخيرا عرض الباحث لأهم النتائج والوصيات ثم المراجع. 

جغرافية الجريمة الحضرية(3) 

تأليف ديفيد هربرت

نقلته إلى العربية

د. ليلى بنت صالح محمد زعزوع

عرض الكتاب:

نتعرف في هذا الكتاب علي الإسهام الجغرافي ودوره في علم الإجرام أحد الأبعاد التي أهمل تناولها رغم أهميتها في مجتمعاتنا، ورغم أننا لا ندعي أننا سنجد حلولا لمشكلة الجريمة من المنظور الجغرافي ، إلا أننا سنقدم بعدًا أو دورًا نتفاعل فيه مع ظاهرة الجريمة في المجتمع .

ترتبط الاتجاهات الجغرافية الحديثة بالإطار العلمي الرئيس أو المحوري لعلم الجغرافية وفق منهجيته المؤطرة التي تتواءم فيها الموضوعات ضمن الوحدة المنهجية للعلم ، وموضوع كتابنا هذا عن جغرافية الجريمة الحضرية هو أحد هذه النماذج ،الذي يعطي الباحثين دفعة قوية للاعتراف الأكاديمي بتشعب فروع العلم مع الحفاظ على الصلة الوثيقة بمحوره الجغرافي

وفي هذا السياق فإن الظاهرة المدروسة في جغرافية الجريمة تعطي للدارس الموضوعي تميزه النعتي ، لأن المناهج والأفكار المدروسة مرتكزة في الأساس على العلم الرئيس وهو الجغرافية ، ويبرز الإسهام الجغرافي عند تناولنا للمشكلات الاجتماعية ومنها دراسة جغرافية الجريمة لكي يبين لنا قدرات و إمكانيات الجغرافيين علي تطوير مناهج ذات قابلية للتطبيق في موضوع حيوي كالجريمة .

إن الجريمة ظاهرة ملموسة في أي مجتمع بشرى ، لكن الأمر يتفاوت عند التصنيف فأي نظام تصنيفي للجريمة والمجرمين لن يحظى بالإجماع، ولكن الهدف هو استيفاء مبادئ رئيسة للعدالة في المجتمع.

ومع ازدياد الجرائم وانتشارها يتدنى الشعور بالأمان والرفاه الاجتماعي في المجتمع الحضري، ولذا فإن الجريمة تشكل للجغرافي حقول دراسية موضوعية جديرة بالبحث والاهتمام فيما يخص العدالة والشرطة والانحراف والمجرمين وضحاياهم وغير ذلك . لأنها تطرح لنا أراء أكاديمية في سياق الدراسات التطبيقية للمشكلات الاجتماعية، التي نهدف من تطبيق نتائجها إبرازها للسكان في المدن التي تمثل الجريمة فيها مصدر خوف وقلق على حياتهم اليومية وطالما أن للبحث الجغرافي قيمته وفعاليته في هذا المجال الحيوي.

يقع الكتاب في عدد من الفصول تتناول :

الفصل الأول : نطلع القارئ فيه عن قواعد البيانات والأنماط الإقليمية ، وفيه نلقي الضوء على مصادر معلومات الجريمة ، والتحريف الذي يحدث عند تمثيل بيانات الجريمة ، والاتجاهات الزمنية ثم الأنماط الإقليمية.

الفصل الثاني: ونتناول فيه تطور نظريات علم الإجرام ، و التطورات المنهجية في الجغرافية البشرية ثم الإطار الفكري العام لجغرافية الجريمة. 

الفصل الثالث: ويناقش الاتجاهات والإيكولوجية والمكانية في دراسات الجريمة ، مناطق الجريمة والانحراف.

الفصل الرابع : يطرح للقارئ البيئات المهيأة للجريمة.

الفصل الخامس : ونتعرف من خلاله على سكن مرتكبي الجرائم: أي مناطق المشكلات.

الفصل السادس: نلخص فيه نتائج الاتجاهات البحثية للجريمة ودلالاتها ، ورسم السياسات المكانية ، مكافحة الجريمة والوقاية منها.

علم الإجرام

علم الإجرام (بالإنجليزية: Criminology) هو العلم المختص بالدراسة العلمية للجريمة كظاهرة فردية واجتماعية.

مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب

من أصدق المؤشرات على درجة الوعي الفكري واتجاه التغير الاجتماعي(4)

الجريمة هي أي فعل يؤدي إلى انتهاك القانون ويعاقب صاحبه من قبل الدولة .

ورغم ما يشاهد من انسجام لهذا التعريف مع مختلف القوانين، إلا أنه لا يخلو من العيوب، شأنه شأن جميع التعاريف في مجال العلوم الإنسانية، وأهم هذه العيوب:

1 ان بعض المجتمعات لا توجد لديها قوانين مكتوبة حتى اليوم.

2 ان المشرعين لا يستطيعون الإحاطة بكل الأفعال الإجرامية أو الضارة بالمجتمع فيخلو التشريع من ذكرها بالتحديد.

3 ان القانون قد يكون مفروضا من سلطة محتلة أو أخرى ظالمة، وفي هذه الحالة لا يعبر سوى عن رغبة السلطة التي سنته، مما يجعل الامتثال له قليلا، لأنه لا يستند على إرداة الأمة واقتناعها به.

4 لا يمكن اعتبار كل مخالفة للقانون جريمة، ولا كل مخالف للقانون مجرما، فالقانون يحظر أفعالا غير إجرامية كثيرة، وقد يقوم بها أشخاص لا يوجد لديهم أي دافع أو تكوين إجرامي.

ثانيا: تعريف الجريمة في علم الاجتماع:

اختلفت مدارس علم الاجتماع وكذلك علماؤه في تعريف الجريمة، وقد أدى هذا الاختلاف إلى ظهور عدد من التعاريف ذات الاتجاه الاجتماعي، ومن أشهرها تعريف (سالن Sallin) حيث يقول : الجريمة هي انتهاك للمعايير الاجتماعية , وتأتي شهرة هذا التعريف من كونه جمع كثيرا من الاعتبارات الاجتماعية في عبارة قصيرة، فالعادات والتقاليد والأعراف والقانون كلها معايير اجتماعية, ومن أهم الانتقادات الموجهة إلى هذا التعريف ان المعايير الاجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر، ولعل ذلك هو ما دفع العالم (Rafaele Garofalo) إلى تصنيف الجرائم إلى جرائم طبيعية وجرائم مصطنعة، الأمر الذي أظهر تعريف (Sallin) وكأنه تعريف يخص مجتمعا واحدا، فقد قسم جاروفالو الجريمة إلى نوعين: جريمة طبيعية، وجريمة مصطنعة.

فالجريمة الطبيعية هي ذلك الفعل الذي لا يختلف شعور الناس تجاهه بأنه جريمة مهما اختلفت المجتمعات والأزمنة، كالاعتداء المادي أو المعنوي على الأفراد، والاعتداء على الأموال والممتلكات، أما الجريمة المصطنعة فهي الأفعال المنتهكة لمكونات ثقافية مصطنعة، أو ما يسمى بالعواطف غير الثابتة كالديانات والعادات والتقاليد, ولعل نظرية جاروفالو هذه من أكثر النظريات انسجاما مع الواقع الثقافي المعاصر، ذلك أنه لا يمكن بحكم هذا الواقع، أن يتم الحصول على تعريف اجتماعي واحد يكون مقبولا تماما في كل المجتمعات، أوعلى الأقل عند كل علماء الاجتماع، وعلى هذا الأساس فإن النقد الموجه لهذه النظرية من زاوية عدم تشابه عاطفتي الشفقة والأمانة لدى كل المجتمعات، وهو نقد جاء به العالم (Durkheim) نقد ضعيف لأنه لم يأخذ في الاعتبار أن الشعوب والثقافات قد لا تتفق على تعريف آخر أكثر من اتفاقها على هذا التعريف في هذا العصر بالذات، ثم انه يؤخذ على هذا النقد أن العواطف تتشابه لدى كل المجتعات لكنها لا تتطابق تماما، والأخذ بمسألة واحدة تتشابه عواطف كل الشعوب تجاهها، خير من تركها حتى يتحقق التطابق العاطفي التام.

ثالثا: التعريف الاجتماعي القانوني للجريمة:

يأخذ التعريف الاجتماعي القانوني للجريمة بمسألة الخروج على المعايير الاجتماعية وانتهاك القانون في آن واحد، ومن هذا المنطلق عرفت الجريمة بأنها: كل سلوك مؤذ وضار اجتماعيا، ويتعرض صاحبه للعقاب من الدولة .

وهي أيضا : كل فعل انتهك القيم الاجتماعية التي حددتها الغالبية العظمى من الهيئة التي وضعت القانون الذي يجسد هذه القيم .

رابعا: التعريف النفسي للجريمة:

شهد هذا الجانب، مثله مثل الجوانب السابقة، اختلافات أخرى، غير أن الاختلافات في مجال علم النفس تبدو أقل بسبب أنه ركز على جانبين في تعريفه للجريمة:

الأول :ان الجريمة غريزية.

الثاني: ان الجريمة فعل لا إرادي ناتج عن صراعات نفسية تحدثها مكبوتات اللاشعور.

ففي الجانب الأول عرفت الجريمة بأنها:

فعل يهدف إلى إشباع غريزة إنسانية ,, وصادف هذا الإشباع خلل كمي أو شذوذ كيفي في هذه الغريزة انهارت معه الغرائز السامية والخشية من القانون .

وفي الجانب الثاني عرفت الجريمة بأنها:انعكاس لما تحتويه شخصية الفرد من مرض نفسي,, يعبر عن صراعات انفعالية لا شعورية ولا يعرف الفرد صلتها بالأعراض التي يعاني منها .

بعض تعاريف علم النفس تمزج بين المفهوم النفسي والقانوني والاجتماعي للجريمة ومن قبيل ذلك تعريف يقول :الجريمة فعل إنساني يسأل عنه الفرد ويتحمل عواقبه إذا توافرت الإرادة والحرية والاختيار , ومما يلاحظ على التعاريف النفسية للجريمة أنها تركز على الحالة الصحية للنفس والعقل لدى الشخص وقت ارتكابه للفعل، وهي أمور تتطلب فحصا علميا متخصصا في الطب والعلاج النفسي، والطب العقلي، لإثبات اعتلال الصحة النفسية من عدمه قبل المحاكمة، وهناك من السلطات القضائية بل الدينية بشكل عام في بعض المجتمعات من لا تزال تنظر إلى علم النفس على أنه ضرب من الكفر.

إن علم الجريمة والعقاب علم واسع ومعقد، ويدخل في تراكيب وتفاعلات مفاهيمه كل مكونات المعرفة الإنسانية,, وما أوردناه من تعاريف ليس إلا اختصارا لعدد كبير وموسع من التعاريف التي احتوتها معظم الدراسات العربية والأجنبية في مجال علم الجريمة والعقاب، وهي في صياغتها ومواضعها الأساسية، وفي صورها المختصرة هذه تدل بوضوح على أنه قد أصبح لدى العلماء والباحثين والمفكرين اقتناع بوجود عوامل موضوعية وراء الإجرام، تشرك المجتمع ومؤسساته في المسؤولية عن السلوك الإجرامي، أو تخفف من العقاب على الجاني، أو تدرأ العقوبة بإخراج الجاني من نطاق المسؤولية الأخلاقية عن فعله، وهي العوامل نفسها التي دعت المشرعين إلى تصنيف الجرائم حسب شدتها إلى :جناية جنحة مخالفة, ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى ثلاثة محاور، كل محور يحتوي على عدد من التفريعات على النحو الآتي:

المحور الأول البيئة الأساسية للمجتمع وتشمل:

البيئة الجغرافية البيئة الثقافية البيئة الدينية القيمية البيئة العائلية البيئة السياسية البيئة الاقتصادية البيئة التعليمية البيئة السكانية التغير الاجتماعي.

المحور الثاني المعايير الأخلاقية والمثالية السائدة وتشمل:

الضوابط الاجتماعية التقليدية والرسمية نظام التدرج الاجتماعي الدخل والثروة المنافسة والصراع .

المحور الثالث العوامل الشخصية وتشمل:

الوراثة التكوين النفسي التكوين العضوي.

من المؤكد أن هذا التحول لم يكن سريعا أوسهلا، فقد بدأت بوادر التفكير في الأسباب الموضوعية للسلوك الإجرامي منذ عام 1586م على يد العالم (ديلابورطا Della Borta) حين تحدث عن وجود علاقة بين الجريمة والعيوب الجسمية الظاهرة على الفرد، إلا أن بعض الموروثات الثقافية السيئة عن العصور القديمة والوسطى استمرت تتناقلها الأجيال كحجر لم يتبدل حتى العصر الحديث في بعض المجتمعات، من ذلك أن عقوبة الخرق على الخازوق ظلت تطبق في أوروبا حتى عام 1786م، كما أن الاتجاه الكنسي بالتخلي عن فكرة أن المجرم شيطان يجب استئصاله من المجتمع لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر, وعلى الرغم من البطء الشديد للتغير الاجتماعي بعامة ووجود عوائق تلقائية وأخرى مصطنعة اعترضت سبيل هذا التغير فإن من الواضح أن التطورات الفكرية في مجال تفسير السلوك الإجرامي كانت سببا في تطور أهداف العقاب وتحولها من الرغبة في الانتقام من الجناة إلى الرغبة في إصلاحهم وإعادة تأهيلهم، والتحول من العقوبات الاستئصالية والبدنية إلى العقوبات السالبة للحرية ومنها السجن، ولكون المجتمعات الغربية حديثة عهد بعقوبات القرون القديمة والوسطى، فقد ظهرت عقوبة السجن على أنها اتجاه إنساني, ويبدو أيضا، أنه بازدياد التطور الفكري، بدأ النقد يطال هذه العقوبة، وازدادت القناعة بضرورة الإصلاح من نظم السجون، وتحويلها من مؤسسات عقابية بحتة، إلى مؤسسات إصلاحية، إلى جانب كونها تنضوي على إجراء عقابي كما هو الحال عندما بدأ إصلاح نظم السجون في أمريكا بعد الحرب الأهلية، ثم تحول هذا الاتجاه إلى برنامج رسمي في الولايات المتحدة الأميركية لتحسين أساليب التعامل مع المذنبين، وتطبيق بدائل الإجراءات الجنائية والعقابية وبرامج الخدمة الاجتماعية في جميع مراحل الدعوى الجنائية، وذلك في عام 1968م.

ويمكننا في نهاية هذا الموضوع أن نخلص إلى مجموعة حقائق واستنتاجات من أهمها:

1 ان التغير الفكري سمة لازمت الإنسان منذ الأزل القديم لكن هناك عوائق مادية ومعنوية ، طبيعية ومصطنعة، اعترضت طريقه مما أدى إلى ركوده أوتقهقره أو الإبطاء من سرعته.

2 ان تطور العقاب مرتبط ارتباطا تاما بالتطور في مجال تفسير السلوك الإجرامي وتابع له.

3 ان المؤسسات التشريعية في المجتمعات الغربية نظرت إلى عقوبة السجن كاتجاه إنساني في معاملة المذنبين، قياسا على العقوبات الوحشية التي كانت تطبق في المجتمعات الغربية خلال العصور القديمة والوسطى.

4 ان نتائج البحوث العلمية والفكرية لا تحدث التحول المطلوب في المجتمع بشكل سريع وفعال، ما لم يكن هناك سعي حقيقي من السلطة نحو الأفضل، بحيث تقبل تلك النتائج وترعاها.

5 إن العقوبة في معظم مجتمعات العصر الحديث، وبخاصة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لم تعد غاية في حد ذاتها، وإنما أصبحت وسيلة تهدف إلى العلاج والوقاية.

6 ان هناك ستة اتجاهات في تعريف الجريمة هي:

الاتجاه الإسلامي الاتجاه الاجتماعي الاتجاه القانوني الاتجاه الاجتماعي القانوني الاتجاه النفسي الاتجاه النفسي القانوني الاجتماعي.

7 انه لا يوجد تعريف للجريمة متفق عليه بين مختلف الثقافات والتخصصات العلمية، فالوقت لم يحن بعد.

8 ان تقسيم جاروفالو للجريمة إلى طبيعية ومصطنعة يمكن أن يكون مدخلاً لإيجاد تعريف متفق عليه للجريمة الطبيعية على أساس أن الشفقة والأمانة تتشابه لدى كل المجتمعات، وليس من المنتظر أن تتطابق في المستقبل القريب، وما لا يدرك كله لا يترك جله، أما الجريمة المصطنعة فسوف يبقى الاختلاف على تعريفها قائما طالما أن هناك اختلافات ثقافية كبيرة بين المجتمعات، وسوف تتقلص هذه الاختلافات كلما زاد عدد المجتمعات الموجودة على مقدمة مذنَّب الحضارة بسبب انتقال مجتمعات إلى هذا الموقع بعد أن وصلت من الرقي الحضاري إلى مستوى يؤهلها لهذا الانتقال، وهنا يكون التجانس الحضاري قادرا على إيجاد تعريف موحد للجريمة لا يشذ عنه إلا مجتمع ما زال على ذيل المذنَّب الحضاري.

9 ان المشرعين قد أحسنوا صنعا عندما قسموا الجرائم إلى : جناية جنحة مخالفة وكم سيكون مفيدا لو أن المشرعين تخلصوا من عيب دقيق في هذا التقسيم يتمثل في أنه تم في إطار لفظ الجريمة ومفهومها العام، فالمشرعون عندما قالوا : (تقسيم الجرائم) أبقوا المخالفة والجنحة جريمة، فجُرد هذا التقسيم من هدفه، ولجعل هذا التقسيم يحقق هذفه نقترح تعديل عبارة (تنقسم الجرائم) إلى عبارة (تقسيم الأفعال المعاقب عليها) ثم يتم إحلال لفظة (جريمة) محل لفظة (جناية) ليصبح التقسيم على النحو الآتي:

(تنقسم الأفعال المعاقب عليها إلى : جريمة جنحة مخالفة ) وهذا التقسيم المقترح سيسهل، ايضا، وصف من يرتكب فعلاً يعاقب عليه فيصبح: (مجرما، جانحا، مخالفا) (مجرمة، جانحة، مخالفة).

أثر العوامل الاجتماعية في الدافع إلى إرتكاب الجريمة(5)

 ((دراسة ميدانية من واقع سجني دمشق للذكور ودوما للإناث))

رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في علم الاجتماع

بإشراف الدكتور: عدنان أحمد مسلم

إعداد: هناء محمد شريف البرقاوي 1995 جامعة دمشق

 تحاول هذه الأطروحة دراسة ظاهرة الجريمة وهي ظاهرة اجتماعية موغلة في القدم وجدت بوجود الإنسان وسيبقى - حسب رأي البعض- إلى أن يزول الإنسان من على ظهر هذه الأرض.

ظاهرة الجريمة ظاهرة متشابكة الأطراف لا يمكن لأي باحث ان يخوض غمار البحث الشامل لها في بحث واحد بل عليه اختبار جانب صغير من جوانبها المتشابكة ليتسنى له التعرف بوضوح على الجانب قيد الدراسة.

وتتصدى الأطروحة لدراسة أثر العوامل الاجتماعية في الدافع إلى ارتكاب الجريمة في سجنين من سجون سورية ضمن منظور يعتمد في منطلقاته علىالتراث الفكري الاجتماعي.

لم تعتمد الدراسة على المنطلقات النظرية فحسب بل دخلت غمار الواقع لسبره والتعرف على مكوناته التي كان لها الأثر في وجود هذه الظاهرة جاءت الأطروحة في تسع فصول ويتقدم الفصول مدخل تمهيدي يوضح موقع ظاهرة الجريمة ضمن فروع علم الاجتماع إذ قدمت الدراسة تبيناً أن لعلم الاجتماع فروعاً تعنى بدراسة هذه الظاهرة وعواملها وهذا الميدان هو علم الاجتماع الجنائي يتناول هذا الميدان دراسة الجريمة كظاهرة اجتماعية ينبغي التعرف عليها بشكل شامل ليصار إلى الخلاص منها.

ويتناول الفصل الأول الإطار التاريخي لدراسة الجريمة حاولنا من خلال هذا الفصل أن نوضح تاريخ الجريمة كيف كانت وكيف أصبحت اليوم كما حاولنا عرض وجهة النطر الدينية لهذه الظاهرة ويبحث الفصل الثاني الأصول النظرية والأطر التحليلية لدراسة الجريمة في المجتمع بهدف الربط بين التراث العلمي والاجتماعي والواقع الراهن لننطلق بعد ذلك إلى رؤية مستقبلية لهذه الظاهرة وشمل الفصل الثاني سرداً للدراسات العربية والأجنبية التي تناولت ظاهرة الجريمة بالبحث والتحليل وقد ساعدت هذه الدراسة في الوصول إلى الإطار التحليلي المستند أساساً إلى إشكالية الدراسة التي قدمت المبرر النظري لهذا البحث ويعرض االفصل الثالث البعد المعرفي لدراسة الجريمة من خلال التعرف على مختلف التعريفات التي تناولت هذه الظاهرة من وجهات نظر متعددة بالإضافة إلى عرض لأهم التصنيفات المعتمدة لدراسة الجريمة والمجرم.

ويتناول الفصل الرابع عرضاً وتحليلاً لجملة العوامل التي تقف وراء حدوث الفعل الجرمي وتم تصنيف جملة العوامل المختلفة تحت زمرتين رئيسيتين هما:

العوامل الذاتية: تشمل الوراثة والجنس والتكوين العقلي

العوامل الخارجية: تشمل العوامل الطبيعية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية حاولت الدراسة من خلال هذا العرض تقديم وجهات النظر المختلفة بخصوص العوامل الكامنة وراء الجريمة مؤكدين على أهمية العوامل الاجتماعية كونها تشكل الأساس الذي انطلقت منه الدراسة في امتحان الواقع المدروس، وأفرد الفصل الخامس من هذه الأطروحة لدراسة الجريمة في سورية دراسة إحصائية حاولت من خلال الدراسة تحقيق الهدف السابق وشمل الفصل السادس استعراض الخطوات المنهجية الفنية للدراسة الميدانية التي كانت صلة الوصل بين الأطار النظري والواقع الميداني وتضمنت هذه الخطوات تحديد موضوع الدراسة الميدانية وتحديد أهدافها ومجالاتها الزمانية والمكانية وتحديد وحدة التحليل والمفاهيم التي استخدمت بالدراسة وقد تم عرض نتائج البحث الميداني لأثر العوامل الاجتماعية في الدافع لارتكاب الجريمة من الفصلين السابع والثامن تنتهي الدراسة بالفصل التاسع أتى بخاتمة ونتيجة تجسد الأهداف الأساسية التي يسعى البحث في الوصول إليها وهو تحديد أثر العوامل الاجتماعية في الدافع إلىالجريمة.

حاولت الباحثة في هذه الدراسة الوصول إلى الهدف من الدراسة التي قدمتها من خلال دراسة ميدانية لواقع هذه الظاهرة حيث كانت هناك دراسة إحصائية لواقع الجريمة في المجتمع السوري خلال العشرين سنة الماضية حيث مكنت هذه الدراسة من التعرف على أكثر الجرائم المنتشرة في المجتمع والمدن الرئيسية التي تتركز فيها الجريمة كما بينت الدراسة ضآلة حجم جرائم النساء بالمقارنة مع جرائم الذكور وكذلك تتعلق أهمية هذه الدراسة بأنها جاءت لتسد ثغرات كبيرة في مجال الدراسات الاجتماعية في نطاق الجريمة لا سيما أن هذا الموضوع من الموضوعات المغيبة عن ساحة الدراسة والاهتمام.

فالجريمة على ضآلتها تمثل خطراً يهدد المجتمع لذلك فهي بحاجة إلى الدراسة والتمحيص خاصة أنها ترتبط بالتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع

مفهوم الضحية بين نظرية علم الاجتماع والنظرية العامة للتجريم(6) 

ملخص الدراسة

علم الضحية علم وليد وموضوعاته لها جاذبية، ورغم وجود الضحايا منذ بدء البشرية إلا أن هذا العلم لم تبدأ دراسته العلمية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد بدأ بدراسة ضحايا الجرائم والمدعى عليهم، ومن ثم فهو يُعد تكملة ضرورية لعلم الجريمة، وقد ظهر هذا العلم لسد فراغ نظرى، ومن ثم لم يأخذ وقتاً طويلاً حتى أصبح جزءً مكملاً لعلم الجريمة، له أهميته وطبيعته التي جعلته مجالاً خصباً للبحث.

إن الدراسات التي أجريت على ضحايا الجرائم كان لها دور بارز في إعادة تشكيل نظام علم الجريمة بأكمله ورغم ذلك لم يأخذ مساره فى التطور والتقدم فى كل منطقة من مناطق العالم، إذ قد نراه متقدماً في بعض الدول ومتجاهلاً في دول أخرى، رغم وجود تشابه في الوسائل المنهجية (الكيفية والكمية) ومن ثم اعترته تحولات جذرية.

إن المداخل النظرية التي اتصف بها علم الضحية منذ بدايته قد تراجعت الآن وظهرت إنجازات تطبيقية كثيرة. وقد أسهمت المداخل النظرية فى المراحل الأولى لنشأة علم الضحية في دفع عمليات جمع البيانات، ومحاولة صياغة النظرية، إضافة إلى التشريعات الجديدة التى تتعلق بالضحية، والجهود المساعدة لتحسين وضع الضحايا والتخفيف عنهم مما يقعون فيه، ومن ثم انبثقت من المداخل النظرية، نماذج مختلفة في محاولات لشرح الاختلافات الحادة في أية مخاطرات تواجه الضحايا.

والبحث الراهن يُعد محاولة متواضعة لتتبع تاريخ علم الضحية وذلك من خلال تناول نشأته وتطوره المتمثل في ظهور علم الضحية العام الذى يركز على ضحايا الجرائم والعقوبات القانونية سواء على المجرم أم على الضحية، ثم ظهور علم الضحية التفاعلى الذى يدرس العلاقة التفاعلية القائمة بين المجرم والضحية قبل وأثناء وبعد حدوث الجريمة، ثم يتناول علم الضحية الموجه للمساعدات والذى يركز على تقديم المساعدات للضحايا عموماً والتخفيف من حدة معاناتهم، وكذلك يتناول البحث مظاهر الاهتمام العالمى بعلم الضحية وظهور الجمعية العالمية لعلم الضحية، إضافة إلى المنتديات العالمية لهذا العلم، وأخيراً يتناول البحث التحولات الحديثة فى علم الضحية مثل تحول الاهتمام من دراسة الوحدات الصغرى إلى دراسة الكبرى، وكيفية تحول علم الضحية النظري إلى علم الضحية التطبيقي.

الجهود الأممية لمنع الجرائم في المدن الكبرى

تحسين البيئة والتنمية وسائل تحد من الجنوح الأخلاقي(7)

تميز أساتذة علم الاجتماع في كلية الاداب بجامعة بغداد بأهتمامهم المبكر بموضوع (الجرائم في المدن) وتحليل اسبابها وطرق مكافحتها وكان المرحوم الدكتور عبد الجليل الطاهر سباقا بهذا الاهتام في كتابه (التفسير الاجتماعي للجريمة) المطبوع في بغداد سنة 1954، ثم اعتني المرحوم الدكتور علي الوردي ببحث الوضع الاجتماعي في المدن العراقية في كتابه (طبيعة المجتمع العراقي) المطبوع في بغداد سنة 1965.

وبعد ان تأسس اواخر سنة 1969 المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ضمن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تصاعد الاهتمام فيه بالدراسات التي تناولت جرائم المخدرات والمسكرات والبغاء وجناح الاحداث واصلاح السجون ورعاية السجناء، وتميزت الدكتورة فوزية العطية ببحث المشاكل الاجتماعية في الاحياء الشعبية الفقيرة وفيها مشكلة الجريمة. (مجلة البحوث الاجتماعية والجنائية_ المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية_وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في جمهورية العراق_ العدد 1/السنة الاولي/اذار/1972) واتسع هذا الاهتمام بجرائم المدن بعد تأسيس (الجمعية العراقية للعلوم الاجتماعية) سنة 1972 ووصل الي أعلي مستوياته بعد تأسيس (قسم الدراسات الاجتماعية) في (بيت الحكمة) سنة 1998، والذي تميز بأتساع نطاق اهتماماته ببحث المشكلات الاجتماعية بأطار التكامل بين المنظور الوطني والمنظورين القومي والعالمي. وكان الاجرام والانحراف الاجتماعي في الريف والمدن محل اهتمام واسع في دراساته وندواته وحلقاته ومؤتمراته العلمية. وكانت موضوعات (السلوك المنحرف واليات الرد المجتمعي) و (الابعاد الاجتماعية للتخطيط العمراني) و (والعوامل والاثار الاجتماعية لتلوث البيئة) و (المحلة العربية التقليدية بين الاصالة والمعاصرة) و (الامن الاجتماعي) من بواكير نشاطاته العلمية واصداراته الدورية، كما نالت (استراتيجيات مكافحة الجريمة في الوطن العربي) و (الجريمة الحضرية بين الامن المتحقق والوقاية المطلوبة) اهتماما خاصا. (مجلة دراسات اجتماعية- بيت الحكمة- بغداد- العدد الاول- السنة الاولي- 1419هـ- نيسان1999م).

ومنذ ان باشرت المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة نشاطاتها بأطار جامعة الدول العربية في سنة 1966 بادرت تنظيم مؤتمرات سنوية لبحث مختلف موضوعات الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة علي نطاق الوطن العربي.. كما بادرت بتنظيم مؤتمرات سنوية لقادة الشرطة والامن العرب منذ اواخر عام 1972، ومؤتمرات اوسع واهم لوزراء الداخلية العرب منذ عام 1977، ومشكلات الاجرام في المدن العربية تحظي بأهتمام متميز وبخاصة الجرائم الاقتصادية، جرائم المخدرات، جرائم العنف، التهريب عبر الحدود، الاعتداء ضد المؤسسات المالية، جرائم الاسلحة، جرائم تزوير جوازات السفر، الجرائم الاخلاقية، جرائم الشباب، جرائم التخريب، جرائم سرقة وتهريب الاثار، جرائم الارهاب، جرائم الاعتداء علي امن البيئة، جرائم الاغتصاب، جرائم الحاسب الالي، العنف الاسري...الخ.

وتصاعدت العناية بواقع حركة الاجرام في البلاد العربية وتوطيد التعاون العربي في مختلف مجالات مكافحة الجريمة بعد تأسيس مجلس وزراء الداخلية العرب سنة 1983 وتعاون الامانة العامة للمجلس المذكور مع جامعة نايف العربية للعلوم الامنية في الرياض بصفتها المرجع العلمي لمجلس وزار الداخلية العرب. (جامعة الدول العربية- مجلس وزراء الداخلية العرب- الامانة العامة (تونس)-جداول واعمال وتوصيات مؤتمرات قادة الشرطة والامن العرب-1972-1996) وفي عام 1967 تأسست منظمة المدن العربية التي اتخذت من دولة الكويت مقرأ لها لكي تعمل من اجل رعاية التعاون بين ادرات المدن العربية ورفع مستوي الخدمات البلدية فيها دون التدخل بالأمور السياسية... ولكي تعمل منظمة المدن العربية علي السيطرة علي المشكلات الاجتماعية التي تواجه المدن العربية ودرء الاخطار النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تنشأ عنها... وفي منتصف اذار من كل عام تقرر فيها الاحتفال في جميع البلاد العربية ب(يوم المدينة العربية) ومنذ عام 1978.

ومن توابع منظمة المدن العربية(المعهد العربي لانماء المدن) ومقره في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وهو جهاز متخصص في المنظمة يحمل اعباء الجوانب الفنية والعلمية في مجالات خدمات المدن ورفع مستوي اداء المعلمين فيها، وتحديث طرق العمل واساليب الاداء والتنظيم واجراء البحوث والدراسات وتقديم الاستشارات فيما تطلبه المدن في البلاد العربية. وتصدر عن الامانة العامة لمنظمة المدن العربية(مجلة المدينة العربية) وهي مجلة دورية متخصصة تصدرها المنظمة كل شهرين بدءا من عام 1987، والمجلة المذكورة مهتمة بالدراسات والبحوث العلمية ذات الصلة بشؤون المدن والبيئة لتأمين اطلاع رؤوساء البلديات العربية ومساعديهم علي الجوانب المختلفة لادارة المدن، وتعريفهم بأفضل السبل للارتقاء بواقع مدنهم علي وفق امكانياتهم وظروفهم. وخلال المدة من 5-9/ ديسمبر- كانون اول- 1981 قامت منظمة المدن العربية بتنظيم ندوة علمية عن (دور البلديات في حماية البيئة بالمدن العربية) عقدت في دولة الكويت شارك فيها ممثلو 184 مدينة عربية، واتفقوا علي ان المدن العربية تعاني من مشكلات بلدية تقلق راحة ساكنيها. ومن اهم تلك المشكلات:-

- نقص المساحات الطبيعية المكشوفة.

- اختناق حركة النقل والمرور.

- تلوث الماء والهواء.

- عدم كفاية الخدمات الصحية والوقائية والعلاجية.

- اوضاع اجتماعية متدهورة في كثير من الاحياء الشعبية.

- نمو مناطق سكنية عشوائية خلافا لضوابط التصاميم الرسمية للمدن.

والمفهوم الشامل للامن العام يقوم علي الصلة التكاملية بين الواقع الامني والجنائي وبين الواقع الخدمي والبلدي. فكل تحسن في الاوضاع الخدمية التي تتصل بتأمين الخدمات الخاصة بالنقل والمرور، والماء والكهرباء وتصريف مجاري المياه الثقيلة، وتحسين الخدمات الترويحية كالمتنزهات والحدائق العامة ومدن الالعاب، وكذلك تطوير الخدمات الصحية في المستشفيات ودوائر الاسعاف الفوري، والخدمات التعليمية بتوفير رياض الاطفال والمدارس، انما ينعكس ايجابياً لصالح توطيد النظام العام وتخفيض معدلات الاجرام... وبذات الوقت فان الانضباط الامني وسيادة القانون من العوامل المساعدة والضرورية لتأمين وازدهار الخدمات العامة في المدن والارياف.

ولم يعد هناك خلاف بين علماء التخطيط الحضري والاقليمي من ان الجريمة في المدن، اوسع واخطر، كماً ونوعاً، من الجريمة في الريف. وان العلامة بين ظاهرة التحضر والجريمة قوية ومتشعبة. وهذه الحقيقة هي التي ساعدت علي ظهور فرع جديد من فروع علم الاجتماع باسم (علم الاجتماع الحضري)، بل اصبح معروفاً ومتداولاً في دراسات اساتذة التخطيط الحضري والاقليمي مصطلح (الجريمة الحضرية). (للمزيد من التفاصيل انظر مؤلف الاستاذ الدكتور حيدر عبد الرزاق كمونة- العلاقة بين ظاهرة التحضر والجريمة- الموسوعة الصغيرة- تسلسل 405- اصدار دار الشؤون الثقافية العامة- وزارة الثقافة والاعلام- بغداد- 1997 + الاستاذ الدكتور خالص حسني الاشعب- الجريمة الحضرية بين الامن المتحقق والوقاية المطلوبة- مجلة دراسات اجتماعية- بيت الحكمة- بغداد- العدد الاول/ 1999- صفحة 46- 63).

وعلي المستوي العالمي انشغل الفكر الانساني بنتائج الدراسات الاممية التي توصلت الي انه (من سنة 1970 حتي سنة 2025 ستتضاعف تقريباً نسبة قاطني المدن الكبري وذلك نظراً للنمو الذي سوف تحققه هذه المدن في البلاد النامية. وفي سنة 2025 سيعيش قرابة 30% من سكان الحضر في تلك البلاد في مدن يربو عدد سكانها علي اربعة ملايين نسمة. ويثير النمو السريع لسكان الحضر اكثر مما يتجلي في نشوء التجمعات السكنية العشوائية علي جوانب كل مدينة من مدن العالم النامي. وتشكل هذه التجمعات عموماً اقل احياء المدينة حظاً من الخدمات الصحية وفي وسائل الانتقال، فأهلها يفتقرون الي الخدمات الاساسية بقدر ما يفتقرون الي الشعور بالامن والاستقرار في الحيز الذي يحتلونه. كما ان كثير من المدن الكبري بلغت ازمة المساكن فيها حداً مروعاً. فحسب تقدير البنك الدولي سنة 1975، لا يجد ربع السكان الاشد فقراً بمعظم المدن الافريقية والاسيوية مسكناً يأوون اليه. وتشير الدراسات الاممية الي تدني الاحوال الصحية لفقراء المدن. وان مشكلة التعليم هي اخطر مشكلات المناطق الحضرية. وان الفقر وسوء التغذية يعاني منه سكان المدن اشد من معاناة سكان الريف. (رافائيل م. سالاس- مدن بلاد حدود- مجلة رسالة اليونسكو- العدد 308/ كانون الثاني/ 1987 الصفحات 10- 17).

وقد ثبت لدي هيئة الامم المتحدة ان ما يزيد علي الف مليون نسمة- اي ربع سكان الارض تقريباً- بلا مأوي بمعني الكلمة او يعيشون في مساكن سيئة غاية السوء، وفي بيئات غير صحية. وهناك ما يقرب من مائة مليون انسان ليس لهم مأوي علي الاطلاق، فهم ينامون في الشوارع وتحت الجسور وفي الاراضي الخراب والازقة ومداخل المباني. كذلك اعلنت الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1987 سنة دولية لايواء المشردين. (مجلة رسالة اليونسكو- ملايين المشردين في العالم- العدد 308/ كانون الثاني/ 1987- الصفحات 18- 19).

لذلك بذلت هيئة الامم المتحدة خلال الربع الاخير من القرن الماضي استعداداً لمواجهة المشاكل المتوقعة الناجمة عن ظاهرة النمو الحضري المذهل، وتوقعاتها بأن القرن الحادي والعشرين سيشهد في بداياته مشكلات حادة تعلق بالاسكان والنقل والغذاء وامدادات المياة والتعليم والمرافق الصحية والامن. (مجلة رسالة اليونسكو- العدد 286/ اذار/ 1985- افتتاحية العدد بقلم رئيس التحرير ادوار جليسيان- صفحة 3).

وتضافرت جهود العديد من المنظمات الدولية التابعة لهيئة الامم المتحدة ومنظمات اخري حكومية وغير حكومية متعاونة مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الهيئة المذكورة لمعالجة عدد من مشكلات المدن في العالم من نواحي التنمية البشرية وتحسين البيئة والارتقاء بوسائل التربية والتعليم، ونشر الثقافة، وتشجيع السياحة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، والارتقاء بضمانات حقوق الشعوب في حريتها باختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والاستثمار الحر لثرواتها الوطنية، وبضمانات حقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومازالت الجهود الاممية لمعالجة مشكلات التحضر في المدن مستعصية وتحتاج الي جهود اكبر (فقد وصل التمايز بين المدن المعاصرة والانظمة الحضارية الي حد دفع الممارسين وعلماء الاجتماع الي ابتكار وتطوير مفاهيم واساليب نظرية جديدة....

فمع ما تشهده المدن من تغييرات هائلة، يؤدي التحضر السريع الي نمو مدن ضخمة والي اختلالها الوظيفي المعروف، والذي يؤدي الي تراجع الجانب الانساني، ويشي بالتناقضات الاجتماعية- الاقتصادية، تلك الهوة التي تزداد اتساعاً بين الطبقة الوسطي والعليا في المجتمع.. وبين طبقات الفقراء والمهمشين من السكان. وتلك المدن التي تخسر في السباق الاقتصادي الكوكبي يتم تهميشها ايضاً، ويتزايد احساس مواطنيها بعدم الرضا عن النظام الديمقراطي الذي يبدو انه لم يستطع ان يحقق احلامهم). (المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية- العدد 172/ حزيران/ 2002- اليونسكو- مركز مطبوعات اليونسكو- القاهرة- كلمة التحرير- صفحة 11).

ونالت مشكلة الجريمة عناية متقدمة علي غيرها من المشاكل الاجتماعية العالمية، لان فقدان الامن يعرقل المساعي التقدمية لتحسين الاحوال العامة، سواء اكانت متصلة بالجوانب السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية او الثقافية. لذلك اعتنت (عصبة الامم) بعد الحرب العالمية الاولي (1914- 1918) و(هيئة الامم المتحدة) بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) بوضع دعائم قوية للتعاون الدولي في مكافحة الاجرام، تأطرت بمعاهدات دولية، جرت عليها تعديلات وتبديلات علي وفق تطور مشكلة الاجرام في العالم.

ومن اهم الاتفاقيات الدولية النافذة حالياً ذات الصلة بالتعاون الدولي لمكافحة الاجرام:

- الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية حقوق المؤلف ابتداءً من اتفاقية برن بشأن حماية المصنفات الادبية والفنية المعقودة عام 1886 وامتداداً الي اتفاقية بروكسل بشأن توزيع الاشارات الحاملة للبرامج المرسلة عبر التوابع الصناعية المعقودة سنة 1974.

- الاتفاقية الدولية لمراقبة المتاجرة بالاسلحة والاعتدة والادوات الحربية المؤرخة 17/ حزيران/ 1925.

- الاتفاقية الدولية لمنع تزييف العملات المؤرخة 20/ نيسان/ 1929.

- اتفاقية الامم المتحدة لحظر الاتجار بالاشخاص واستغلال دعارة الغير المؤرخة 2/ كانون الاول/ 1949.

- اتفاقية منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المتعلقة بوسائل تحريم ومنع استيراد الممتلكات الثقافية وتصديرها ونقل التي وضعها المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص بشأن استرجاع الممتلكات الثقافية المسروقة او المصدرة بطرق غير مشروعة المؤرخة 24/ حزيران/ 1995.

- اتفاقية الحماية المادية للمواد النووية المؤرخة 3/ اذار/ 1980 لمنع استعمالها للاضرار بالجمهور.

- اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية المؤرخة 19/ كانون الاول/ 1988.

- اتفاقية الامم المتحدة لابطال الرق وتجارة الرقيق والممارسات الشبيهة بالرق المؤرخة 6/ أيلول/ 1956.

- اتفاقية الامم المتحدة للقضاء علي جميع اشكال التمييز العنصري المؤرخة 21/ 11/ 1965، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها المؤرخة 30/ 10/ 1973، واتفاقية القضاء علي جميع اشكال التمييز ضد المرأة المؤرخة 18/ 12/ 1979 (انظر الوقائع العراقية 3387 في 6 كانون الثاني/ 1992).

- الاتفاقية الدولية الخاصة بالمعاقبة علي التجارة الدولية بالمطبوعات المفسدة الصادرة عام 1923.

- اتفاقية الامم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية او اللاانسانية او المهنية لعام 1984

الجريمة... بين النظريات التقليدية والتفسيرات الحديثة(8)

 يمكن القول بأن أول تفسير لظاهرة الجريمة كان غيبياً,انطلاقاً من أن المحاولات الأولى لتفسير الظواهر المحيرة للأنسان,قبل ظهور العلم,كانت تعزى الى قوى خارجية غير مرئية.وعليه كان ينظر الى المجرم,في ذلك الزمان البعيد,على انه شخص تملكته روح شريرة,وهو تفسير ما يزال موجوداً في المجتمعات التي ينتشر فيها السحر،أعني المجتمعات المتخلفة,التي تعزو الأنحراف والجريمة الى إغراءات شيطانية أو استحواذ جني أو عفريت على عقل الأنسان وروحه.والخطير في هذا التفسيرالغيبي أنه لا يعد الفرد المجرم مسؤولاً عن جريمته,الامر الذي أدى الى ظهور تفسيرات جديدة أطلق عليها((التفسيرات الطبيعيةNaturalistic Explanation)),وقفت بالضد من التفسيرات الغيبية,وسخرت من أن يكون للأرواح الشريرة والشياطين أي دور في دفع الفرد نحو ارتكاب الجريمة,وقالت بأن الأفكار والأحداث الموضوعية والعلاقات القائمة في الواقع الذي يعيشه الفرد,هي المسؤولة عن ذلك.

وبظهور (علم الجريمة الكلاسيكي) Classical Criminology جرى تحول بشأن فهم الطبيعة البشرية,بتوكيده على أنها تمتاز بصفتين هما:العقلانية و الذكاء,تمكنان الفرد من اتخاذ قراراته وما يقوم به من أفعال,وانه يعمل وفقاً لمصالحه وليس اسيراً لقوى غيبية أو طبيعية.وعليه صار الإطار المرجعي يعزو الجريمة والأنحراف الى الأنسان نفسه وليس الى غيره،فكان أن ظهر القانون الجنائي.

وبينما أسس علم الجريمة الكلاسيكي فكره على الأرادة الحرة والعقلانية الانسانية,وأصرّ على العقوبة بهدف منع الجريمة والوقاية منها,ظهر علم (الجريمة الوضعي)Positive Criminology بوجهة نظر مناقضة تماماً تقوم على فكرة أن الأنسان غير حر في سلوكه,بسبب عوامل بيولوجية وحضارية تدفعه للقيام بأفعال خارج ارادته,بضمنها الانحراف والجريمة.فكان أن انضوى تحت هذا المنظور نوعان من الحتمية؛الأولى:الحتمية البيولوجية التي تنظر الى الصفات السلوكية بوصفها انعكاس لما يحمله الفرد من إرث وراثي,والثانية:الحتمية الثقافية التي ترى أن سلوك الأنسان ماهو الا انعكاس للخصائص الثقافية والاجتماعية والحضارية.

ثم ظهر في الستينات من القرن الماضي ما أطلق عليه (الفكر النقدي)Critical Thinking في السياسة والأقتصاد والتربية والأجتماع والقانون,تجنب أصحابه اشكالية ما اذا كان سلوك الانسان حراً أم حتمياً,وركزوا في أهمية مساهمة الفرد في صنع عالمه الأجتماعي,ونظروا الى الجريمة على أنها مجرد بناء اجتماعي,وان المجتمع وضع تعريفاً لها,وعلى وفق هذا التعريف يختار مجموعة من الأفعال والأفراد يجعلها موضوعاً لتعريفاته.وهو موقف ذاتي –على ما يرون– فالجرائم وصفات المجرمين تتحدد قانونياً وليس بناءً على وجهات وخلفيات المجرمين.ورأى بعضهم أن مفاهيم الجريمة والمجرمين ماهي الا وصمات او مسمياتLabels تضفى على أفعال محددة وأفراد محددين.وكانت فضيلة هذا المنهج النقدي أنه استطاع أن يحول التفكير بأتجاه دراسة معنى الجماعة وآثارها السلبية في الفرد والمجتمع،وإنه وجّه علم الجريمة النقدي الى دراسة مجموعة العمليات التي يمارسها المجتمع تجاه مجموعة من الناس والأفعال،والكيفية التي يصبح من خلالها هؤلاء مجرمين والأفعال جرائم.ومثال على ذلك أن معظم نزلاء السجون من الفقراء,لا بسبب فقرهم,انما القانون يطبق عليهم بصرامة,فيما لا يطبق بنفس الأجراء على مرتكبي جرائم الفساد المالي والأداري,لأنهم يكونون في العادة من الاغنياء ذوي الجاه والسلطان.

تفسيرات نفسية حديثة

طرح (جليسر)Glaser(1978) نظرية ضمّنها كتابه الموسوم(الجريمة في مجتمعنا المتغير))حملت عنوان((التوقع المخالف))Differential Anticipation،أشار فيها الى أن التوقعات الأنسانية تعتمد على ثلاثة مصادر أساسية هي :

1- الروابط المؤيدة والمعارضة للسلوك المنحرف.

2- التعلم المخالف.

3- الفرص المدركة.

ويرى (جليسر)أن الأنسان يعيش في بيئة اجتماعية,ويرتبط بصداقات مختلفة,ويتعرض لقيم ثقافية مختلفة.وأن الفرد يعرف من خلال ملاحظاته وخبراته المعاشة ما هو السلوك المثاب والمعاقب.وأنه يختار الجريمة بناءاً على عملية وجود الفرص,ويقوم بتقويم الربح والخسارة,وفي ضوء ذلك فأنه يختار الجريمة عندما يكون الربح فيها يفوق العقوبة والخسارة,وان كل ذلك يكون متعلماً ومتوقعاً من البيئة التي يعيش فيها الفرد.

وتطورات نظرية علم الأجتماع

بدأت هذه التطورات بمقالة في العام 1979 بعنوان((التغير الاجتماعي واتجاهات معدلات الجرائم:مدخل النشاط الرتيب The Routine Activity Approach)).يقوم هذا المدخل على ثلاث أجزاء رئيسة هي:

1- المجرم ذو الرغبة.

2- الهدف المناسب.

3- غياب الرقابة القادرة.

ويعني ذلك أن مدخل ((الانشطة الرتيبة)) يجمع بين الجاني والمجني عليه في الزمان والمكان،حيث يوجد مجرم لديه رغبة في ارتكاب جريمة بحق مجني عليه,بتوافر شرطين آخرين هما الهدف المناسب وغياب الرقابة.فإذا ما إجتمعت هذه المكونات الثلاثة إزدادت إحتمالية حدوث الجريمة.

منظور الإختيار العقلاني

تعود جذور هذا المدخل الواسع الأنتشار الى ((كورنش وكلارك))عام(1987). وعلى عكس نظريات علم الجريمة الوضعي التي رأت أن المجرم شخص غير طبيعي ومريض وعديم الأحساس,ويختلف عن الشخص السوي,فقد إنطلق هذا المدخل من مجموعة إفتراضات من بينها:

* إن الناس يمارسون الارادة الحرة بشكل جزئي,وإن السلوك محدد جزئياً ايضاً.

* الظرف الحياتية هي المحددات الرئيسة للتفاعل والنشاط الأجتماعي بين الافراد.

* التغيرات الاجتماعية تدفع بأتجاه تغير الانماط الحياتية وأساليب المعيشة.

وتبعاً لذلك تتغير خطورة تعرض الأشخاص للجريمة,أو أن يقوموا بالجريمة. ويركزهذا المدخل على الحدث,أي الجريمة نفسها, وعلى العوامل الموقفية في أثناء حدوث الجريمة ,بدلاً من التركيز في صفات المجرم وخصائصه النفسية والأجتماعية.

نظريات ما بعد الحداثة Postmodern Theories

في تسعينيات القرن الماضي ظهرت نظريات((مابعد الحداثة))،وبعضها مزيج من فروع المعرفة الأجتماعية،كاللغة(علم الدلالة تحديداً)،والانثروبولوجيا,وعلم النفس التحليلي،والايكولوجيا وغيرها.ومن بين هذه النظريات ((نظرية الفوضى))أو ((نظرية التعقيد)).والفكرة الرئيسية التي تقوم عليها:أن المجتمعات الحديثة ذات أنظمة عالية وبالغة التعقيد.وان هنالك ملايين المتغيرات التي يصعب تحليلها أو ضبطها.وعليه يجب أن تكون هنالك نماذج متعددة في تخصصات متعددة ,تناسب طبيعة الجريمة وصفات المجرم والموقف.

وفي العام 1998،حاول(ويليامز)التركيز في الواقع البنيوي من أجل فهم الجريمة والمجرم.وبما ان الواقع مسألة معقدة,فالجريمة والمجرم أيضاً من المفاهيم المعقدة.ونظر هذا الباحث الى السلوك بوصفه نتيجة لتفاعل عوامل متعددة من بينها:البيئة الاجتماعية،والثقافات الفرعية،والأتجاهات النفسية،والبيئة المادية،والجينات....تشكل مجتمعة الخلفية الاجتماعية للفرد فضلاًعن الأحداث الآنية التي يمكن أن تزيد أو تنقص من هذه العوامل.

سيزار لومبروزو(9)

سيزار لومبروزو (بالانجليزية وبالإيطالية: Cesare Lombroso) طبيب ايطالي شهير وعالم جريمة ولد في 6 نوفمبر 1835 وتوفي في 19 أكتوبر 1909. يرجع له الفضل في نشأة المدارس التكوينية وأطلق البعض عليها اسم (المدرسة الوضعية) في نظريات تفسير السلوك الإجرامي ..

الأهتمام بالمجرمين

ظهر اهتمام لومبروزو بالمجرمين عام 1864 ما اثار اهتمامه هو الوشم المجود على أجسام بعض الجنود و مدى الفحش الذي يمثله بعض هذه الوشوم وحاول الربط بين الجنود المجرمين او الغير صادقين والوشم على أجسادهم. ادرك لومبروزو ان الوشم وحده لا يكفي لفهم الطبيعه الاجراميه، وانه لابد من تحديد سمات الشخص غير الطبيعي و المجرم و المجنون باستخدام طرق تجريبيه مبنية على العلم الوضعي.وفي 1866 عين محاضرا زائرا في جامعة بافيا . وفي 10ابريل 1870 تزوج من نينا دي بنيديتي وأنجب منها خمسة اطفال، بما فيهم جينا المولودة الثانية التي كتبت السيرة الذاتية لوالدها. في عام 1871، اصبح مديرالمركز لجوء بيسارو، وكانت تجربه مهمه لصقل مهارته وقدرته العملية، خلال تلك الفترة وضع لومبروزر الاقتراح الذي عرضه على السلطات الوزاريه وهو انشاء مركز لجوء للأفراد المختلين عقليا الذين ارتكبوا جرائم خطيرة والافراد المختلين عقليا الخطريين على المجتمع. وفي السنة التالية عاد إلى مدينة بافيا وبدأت دراسات من شأنها ان تؤدي إلى نظرية الرجل المجرم .

في نوفمبر 1872 أجرى لومبروزو عملية التشريح لجثة شخص يدعى جيوسيبي فيلليللا سبعون عاما من مقاطعة كالابريا وكان فيلليللا مجرما وقاطع طريق وكان قد تم فحصة قبل ذلك بعام في السجن. نتائج تشريح لومبروزو التي اجريت على جمجمه فيلليللا كشفت شذوذا ومقاس مختلف عن الطبيعي في تكوينه الجمجمي ولاحظ لومبروزو تقعر في في بنية الجسمية ايضا. هذا الاختلاف في حجم جمجمة فيلليللا أقنع لومبروزو أن الاختلاف ليس حاضرا في الأشخاص الطبيعين، ولكن فقط في جماجم المجانين والمجرمين وهو "اثبات" ان المجرم يولدون مجرمون. المجانين ، والمجرمين والأشخاص البريين, والمخلوقات المنقرضة, والسلوك الأجرامي والسلوك النفسي المنحرف كله له مسبب واحد. هذا المسبب كان محور ومحل تركيز دراسات لومبروزو وقد ظهرت دراسات لومبروزو عن اسباب الجريمة ونظرية الأنسان الرجعي أو البدئي في مجلدة (كتاب) بعنوان الرجل المجرم والذي نشرت لاول مرة في عام 1876. وهي ذات السنه التي أنقل فيها إلى مدينة تورينو الواقعة شمال غرب إيطاليا ليتولي رئاسة الطب الشرعي في جامعة تورينو. ثم قام بانشاء مختبر الذي اصبح مكان تركيز جهوده في ابحاث الطب الشرعي والطب الجنائي وعلم الإنسان(الانثروبولوجيا) وخلالها قام بتعديلات وأبحاث مستفيضه على نظريته الأصلية الرجل المجرم.

النسخة الثانية من النظرية

في عام 1878 ظهرت النسخة الثانية من نظرية الرجل المجرم وقد أثير العديد من الاعتراضات على نظريته، التي حسب بعض النقاد تهمل عوامل تأثير البيئة والجانب النفسي في تطور السلوك الأجرامي. الطبعه الجديدة من نظرية الرجل المجرم مع دراسات حول معنى الوشم على الجسم والتي سبق أن تناولها في دراسته على الجنود والسجناء، وفيها لاحظ لومبروزو أن السجناء على أجسادهم وشوم ذات دلالات غير اخلاقية بشكل كبير جدا عن بقية السكان. ايضا في هذه الطبعة من النظرية درس لومبروزو ايضا لهجة المجرمين والانتحار والدعاره بينهم. وفيها حلل ظاهرة الجريمة على اساس العمر والجنس والمناخ والغذاء والفقر.

النسخة الثالثة من النظرية

في عام 1884 ظهرت النسخة الثالثة من نظرية الرجل المجرم وفيها عاد لم لومبروزو إلى الجنون الأخلاقي الذي كان قد طرحه في وقت سابق في مؤلفاته أن المجرم الرجعي (الهمجي, البدائي) مصاب بالجنون الأخلاقي والذي يعود به إلى أصله البدائي مجردا المجرم من الشعور الأخلاقي.

 النسخة الرابعة من النظرية

بعد ذلك تعرض لومبروزو إلى عديد من الانتقدات الواسعة التي تلقها من جهات مختلفة كالسياسيين وعلماء الاجتماع، اخرج لومبروزو الطبعه الرابعة من نظرية الرجل المجرم عام 1889، وفيها اضاف المجرم السياسي لنظريته ادرك لومبروزو صعوبة ادراج المجرم السياسي على انه شخص جسمانيا مختلف عن الشخص الطبيعي وهو ما يدفعه لأرتكاب السلوك الاجرامي. فسر لومبروزو ان المجرم السياسي هو مجرم من الناحية القانونية فقط وايس من الناحية الأخلاقية والأجتماعية وهو شخص شهد التطور الأنساني ولكنه قي نفس الوقت يمارس العصيان وهي ظاهرة جديرة بالدراسة.

النسخة الخامسة من النظرية

عام 1897 ، نشرت الطبعه الخامسة من نظرية الرجل المجرم في اربعة مجلدات واحدة منها تتضمن الكثير الايضاحات. وفيها يدرس السمات الأجرامية بالتفصيل ويقصب صفات انواع مختلفه من المجرمين مبنية على حسب اختلاف خصائصهم عن الشخص الطبيعي ووفقا للطبقة التي ينتمون اليها. صنف لومبروزو المجانين اخلاقيا والمجانين عقليا والمجرمين المولودين في نفس الفئة .وفي هذه المرحلة من الدراسات اقر لومبروزو ان اسباب الجريمة ليست حصرا البيولوجية وانما تشمل تأثير المناخ والطقس ، والمنطقة الجغرافية والتلوث . وفيما يتعلق بالجريمة النساءيه والبغاء اسنتج انه لا توجد دلالات جسمانية فارقة على النساء لهذه الجريمية والتفسير الوحيد لهذه الظاهرة انها سلوك منحرف تقوم به بعضهن. وأخيرا بالنسبة للجريمة السياسية استبعدها من قائمة الجرائم الناجمة عن العيوب المتاصله ، وقد صنفها بأنها "جريمه عاطفيه".

 تلخيص لعمل واستنتاجات لومبروزو

أجرى (لومبروزو) مجموعة من الفحوص والدراسات على بعض المجرمين الأحياء والأموات بهدف الوصول إلى نتائج وأدلة تسمح له بين المجرم والأنسان السوي وقدأجريت أبحاثه على 383 جمجمة لمجرمين موتى وحوالي 600 مجرم على قيد الحياة ومان المنهج المستخدما لتجاربه المنهج التجريبي. استنتج لومبروزو ان المجرم انسان بدائي يتميز بملامح خاصة توفرت فيه عن طريق الوراثة، وأنه مطبوع على الإجرام ومما أكد فكرة (الإنسان المجرم) عند لومبروزو أنه عندما قام بتشريح جثث المجرمين وجد فراغا في مؤخرة الجبهة يشبه الذي يوجد عند القردة، مما حدا به إلي القول بأن المجرم انسان بدائي والعديد من النقاد يعتبرون ذلك تأثرا واضحا بنظرية التطور التي وضعها داروين. مما اقنع لومبروزو بافكاره هو ملاحظاته في أثناء عمله في الجيش الإيطالي أن الجنود المشاكسين ينفردون بخصائص غير موجودة في غيرهم من الجنود الطبيعين الهادئين، فقد كان هؤلاء المشاكسون يعتادون وشم أجزاء من أجسامهم بصور مخله للادب ، وكتابات ماجنة، وعند تشريح جثث بعض المتوفين منهم لاحظ وجود عيوب في التكوين الجسماني لهم .

وومما أشار إليه (لومبروزو) أيضاً أن السبب الأساسي للسلوك الإجرامي إنما يرجع إلى ما أسماه (بالاندفاع الخلقي) الذي يكون متأصلاً في تكوني المجرمين فيولدون به، وبالتالي يصعب على الظروف البيئية مهما كانت أن تغير من هذا القدر الذي لاخلاص منه. .

قد وجد لومبروزو مجموعة من الصفات تشبه صفات الحيوانات البدائية والتي تعود للأنسان غير المتطور، وقال بأن توفر خمس صفات أو أكثر من هذه السمات الجسدية يجعل الفرد خاصعا للنمط الإجرامي التام، وإذا توفر لديه ثلاث صفات يكون من النمط الإجرامي الناقص، وإذا قلت هذه الصفات عن ثلاث فليس من الضروري اعتباره مجرما. وهذه الصفات لاتكون سببا في الجريمة بقدر ماتعني ارتداد صاحبها إلي النمط المتوحش البدائي، هذه الصفات عددها (21) صفه هي: 

أمثلة على فسيلوجيا المجرمين بواسطة لومبروزو

 1. طول أو قصر غير اعتيادي.

2. رأس صغير ووجه كبير.

3. جبهة صغيرة ومنحدرة.

4. خط شعر متراجع.

5. بثور في الجبهة والوجه.

6. وجه وعر أو عميق التجاويف.

7. آذان كبيرة ناتئة.

8. ضربات على الرأس، وبالاخص في المنطقة المهلكة الواقعة فوق الاذن اليسرى.

9. ضربات في مؤخرة الرأس وحول الاذن.

10. عظام جبهة عالية.

11. حواجب غزيرة تميل للالتقاء فوق الانف.

12. محاجر واسعة وعيون غائرة.

13. انف شبيه بالمنقار، أو انف مسطح.

14. خط فك حاد.

15. شفاه ممتلئة، مع كون الشفة العليا أنحف.

16. اسنان قواطع كبيرة، واسنان غير اعتيادية.

17. ذقن صغير او نحيف.

18-اكتاف منحدرة مع صدر واسع.

19. اذرع طويلة.

20. اصابع مستدقة أو فطسة.

21. وشم على الجسد.

وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين. فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولا. بالأضافه لتأثر الكبير بداروين و نظرية التطور يبدو لومبروزو انه قد تأثر بالمدرسة الوضعية الفرنسية والمادية الألمانية وطبيب النفس الفرنسي بفيدكت موريلو عالم التشريح المقارن بارتولوميوبانيزا، والباثولوجي السويسري كارل بوكيتانسكي]. 

في أخر ابحاثه قام لومبروزو لتحديد انواع المجرمين وقسمهم إلى فئات مختلفه وذلك للأنتقدات الشديده التي تعرض لها في كيفية تحديد المجرم. هذه التقسيمات هي:

1 ـ المجرم المطبوع أو المجرم بالفطرة.

2 ـ المجرم المجنون والصرعى.

3 ـ المجرم السياسي.

4 ـ المجرم السيكوباتي.

5 ـ المجرم بالصدقة.

6 ـ المجرم المعتاد.

7 ـ المجرم العاطفي.

الأنتقادات لنظرية الرجل المجرم

تعرضت أفكار ونظريات سيزار لومبروزو إلى الكثير من الأنتقادات للعديد من الاسباب لعل أهمها

1- إن الحالات التي ركز لومبروزو جهوده عليها في تجاربه لم يكن اصحابها من الكثرة بحيث يمكن استخلاص قانون عام يمكن تعميمه وتطبيقه على جميع الحالات الاجرامية، وهذا من الأخطاء التي وقع فيها لومبروزو في صياغة نظريته.

2- تركيزه على الجانب العضوي والمبالغة فيه كعامل للسلوك الاجرامي، واهماله بل انكاره تأثير العوامل الأخرى مادية, ثقافية ،بيئية، واجتماعية، في فهم سلوك المجرم.

3- اعتبار بعض المظاهر التي يحدثها أي إنسان فضلاً عن الإنسان المجرم علامة على كون محدثها مجرماً، وذلك من قبيل إحداث الوشم وتحمل الألم لأجله، فهذا دليل - حسب قول لومبروزو - على عدم الإحساس بالألم، وبالتالي فإن عدم الإحساس بالألم من صفات المجرمين. وأيضا استخدام اليد اليسرى علامة على السلوك الإجرامي.

بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو يظل هو المؤسس الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية أو الإنسان المجرم كعلم مستقل تجاه العلوم الاجتماعية. أما نظريته البيولوجية في عوامل تكوين الظاهرة الاجرامية فهي أول دراسة استخدمت المنهج العلمي في تفسير الظاهرة الاجرامية .

الإجرام (علم -)(10) 

    هناك من يعرّف علم الإجرام criminology بأنه العلم الذي يدرس الجريمة من الوجهة الواقعية، بوصفها ظاهرة فردية اجتماعية، دراسة علمية، للكشف عن العوامل التي تسبب تلك الظاهرة. ويتناول هذا العلم بالتالي دراسة شخصية المجرم لبيان الأسباب التي دفعته إلى الإجرام، ويهتم ببيان خصائص المجرمين والتوصل من وراء ذلك إلى تصنيفهم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتناول علم الإجرام أيضاً دراسة أفراد آخرين يكونون في حالة خطرة تنذر بوقوعهم في الجريمة مستقبلاً. وفي تعريف آخر، إن علم الإجرام هو علم دراسة الانحراف بحثاً عن أسبابه وأصله ووسائله ونتائجه. ويضيف بعض المحدثين إلى التعريف السابق القول إن علم الإجرام لا يهتم بالجرائم فقط بل يهتم كذلك بضحايا الجرائم والاعتداءات.

    نشأة علم الإجرام وتطوره

    ولد هذا العلم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على يد أساطين المدرسة الوضعية الإيطالية وهم، لومبروزو Lombroso وفيري E. Ferri وغاروفالو R. Garofalo ويعدّ لومبروزو صاحب الجناح النفسي الفيزيولوجي في هذه المدرسة، لأنه عزا الجريمة إلى أسباب داخلية في بنية المجرم. ولومبروزو هو صاحب نظرية المجرم بالولادة، أو الإنسان المجرم، التي لا تزال حتى الآن موضع جدل بين المهتمين بمكافحة الجريمة ومعاملة المجرمين. أما فيرّي فيُعدّ صاحب الجناح الاجتماعي في هذه المدرسة، لأنه عزا الجريمة إلى أسباب اجتماعية خارجية تقع في المحيط الذي يعيش فيه المجرم.

    وأما غاروفالو، الذي كان قاضياً مشبعاً بالشدة والنقمة على المجرمين، والذي يذكر عنه أنه مؤسس علم الإجرام لأنه أول من استخدم هذا الاصطلاح، ووضعه عنواناً لكتابه الذي أصدره عام 1885، فقد عرّف الجريمة وجعلها في صنفين: جريمة طبيعية وجريمة اصطناعية، وصنف المجرمين كذلك وبيّن العوامل في إجرامهم وذكر أنها نفسية وعضوية. وقد استطاعت دراسات رواد المدرسة الوضعية الإيطالية وأعمالهم أن تحلّ المجرم محل الجريمة، فأصبح قطب الرحى، واحتل مركز الصدارة بالاهتمام بعد أن كانت الجريمة هي الشغل الشاغل للمدارس الجزائية السابقة مثل المدرسة التقليدية والمدرسة التقليدية الجديدة أو الحديثة.

    وقد تطور علم الإجرام وصار له فرع جديد هو علم الإجرام السريري أو الاكلينيكي clinical criminology.

    استقلال علم الإجرام والتداخل بينه وبين علوم أخرى

    هناك من ينكر على علم الإجرام استقلاله ويعدّه ثمرة تجميع اصطناعي لمعلومات وآراء متنوعة. وقد اختلف الفقهاء في العلوم التي تدخل في تأليفه أو ترفده بنتاج أبحاثها. فهناك من يقول: «إنه وعلم الإجرام السريري يعتمدان على علوم أساسية مختلفة هي: علم الحياة الجنائي، وعلم النفس الجنائي، وعلم الاجتماع الجنائي، وعلم العقاب، وإن لهما علاقة وطيدة بعلوم أخرى مثل الطب الشرعي وعلم النفس القضائي والشرطة العلمية». ويذكر الفقيه الإيطالي فيليبو غريسبيني Filippo Grispigni أن علم الإجرام يتكون من علم الإنسان الجنائي، وعلم النفس الجنائي مع علم الاجتماع الجنائي، وهدفه دراسة المجرم والجريمة وتحديد سبل قمع الجريمة والوقاية منها.

    ويرى آخرون أن علم الإجرام هو نتيجة لتجمع علوم مختلفة أولها علم الإنسان الجنائي، وعلم الاجتماع الجنائي مضافاً إليهما علم النفس الجنائي المعتمد على علم الأمراض النفسية والعقلية والمتعلقة جميعها بالإنسان مرتكب الأفعال التي تعدّ جرائم استناداً لنص القانون.

    والخلاصة أن هذه العلوم الجنائية المساعدة قد تكون مستقلة إذا ما نظر إليها وحدها، ولكنها على هذا النحو لا تكفي دائماً لشرح ظاهرة الجريمة والإجرام إلا إذا تعاونت مع غيرها في سبيل الوصول إلى غاية واحدة هي هدفها الذي تصبو إليه. لذلك فمن الممكن القول إن التعاون بين هذه العلوم المساعدة لعلم الإجرام من أجل تفسير ظاهرة الجريمة وبيان عواملها وظروفها ووضع قواعد تفسر هذه الظاهرة بوجه دقيق اعتماداً على الملاحظة والتجربة والبحث والاستنتاج العلمي لا ينفي - أي هذا التعاون - الإقرار باستقلال علم الإجرام وأنه علم قائم بذاته معتمد على نتاج دراسات بقية العلوم الجنائية الأخرى التي تساعده في نموه وتقدمه واستمراره.

    علاقة علم الإجرام بالعلوم الجنائية الأخرى

    هناك علاقة وطيدة بين علم الإجرام والعلوم الجنائية الأخرى الأصلية والمساعدة إذ يرفدها بنتائج دراساته ويستفيد مما توصلت إليه من نتائج أيضاً. وهذه العلوم هي:

    ـ علم الحقوق الجزائية العامة والخاصة وعلم أصول المحاكمات الجزائية وعلم السياسة الجزائية (أو الجنائية كما تسمى في مصر وبعض الدول العربية) وعلم السياسة العقابية وعلم العقاب أو علم تنفيذ العقاب وعلم الانثروبولوجية الجنائي (علم الإنسان الجنائي) وعلم الاجتماع الجنائي وعلم الإحصاء الجنائي وعلم الإحصاء العقابي وعلم النفس الجنائي وعلم النفس القضائي وعلم الحياة (أو البيولوجية) الجنائي وعلم الأمراض العقلية والعصبية الجنائي وعلم الطب الشرعي وعلم كشف الجرائم والمجرمين.

 موضوع علم الإجرام

    استأثر المجرم والجريمة والضحية باهتمام علم الإجرام، وإن كانت هناك دراسات وجهود  حديثة في العالم تسعى إلى استحداث علم خاص يهتم بالضحية victim اسمه علم (الضحية) victimology.

    وفيما يلي بيان مختصر يوضح كيف يؤلف المجرم والجريمة والضحية جميعاً موضوع علم الإجرام ومجالاته الأصلية.

    ففي إطار اهتمام علم الإجرام بالمجرم: يُرى أن علم الإجرام يهتم بصورة عامة بالإنسان السوي وكذلك بالإنسان غير السوي الذي يعاني من الاضطرابات النفسية العامة او العقلية أو العصبية وقد انعكس اهتمامه هذا على التصانيف المختلفة للفاعل المجرم الواردة في بعض قوانين العقوبات في العالم.

    وفي إطار اهتمام علم الإجرام بالجريمة يُلاحظ أن علم الإجرام قد اهتم بأسباب الجريمة وعواملها وبالنزعات والمذاهب الأساسية المختلفة في تفسيرها. وهذه النزعات هي: النزعة البيولوجية (الحيوية) والنزعة الاجتماعية والنزعة المختلطة أو البيولوجية الاجتماعية (التكاملية) والنزعة التكوينية الاستعدادية.

    وفي إطار اهتمام علم الإجرام بالضحية، يُرى أن علم الإجرام قد اهتم بالضحية لأنه أحد أركانه الأساسية التي لا تنفصل عن المجرم فللضحية أحياناً أثر كبير في الجريمة التي وقعت، وقد يكون جنس المعتدى عليه أو لونه أو لغته أو دينه أو سنه أو وضعه الوظيفي أو الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك، هو السبب الرئيس فيما وقع عليه من جرائم.

    أهمية علم الإجرام

    يحتل علم الإجرام مكانة عالية من الأهمية لما يقدمه من فوائد وخدمات في مجالات الدراسات المتصلة بالجريمة. وتبرز هذه الفوائد واضحة في الوصول إلى فهم للمجرم والجريمة والضحية، أو المجني عليه. كما تبرز في تسويغ العقوبة ومعرفة ارتباطها بحالات الإجرام أو أشكاله.

    يضاف إلى ذلك أن علم الإجرام يقدم وقائع لازمة إلى أجهزة القضاء والعدالة الجزائية (أو الجنائية) والعدالة العقابية والسياسة التي تنطلق منها العدالتان. والوقائع التي يقدمها علم الإجرام ضرورية للمشرع الجزائي، والقاضي الجزائي، وممثل النيابة العامة، ولجميع أطراف الدعوى الجزائية (الجنائية) وفيهم المحامي. وهي مفيدة كذلك لرجل الشرطة والأمن ومن يضطلع بتنفيذ الأحكام الجزائية المختلفة من عقوبات وتدابير احترازية أو تدابير إصلاحية [ر].

عولمة الجريمة والإرهاب(11)

لويز شيلي، أستاذة في كلية الخدمات الدولية في الجامعة الأميركية، ومؤسسة ومديرة لمركز الجريمة والفساد عبر الدول في الجامعة الأميركية في واشنطن، العاصمة، خبيرة رئيسية في الجريمة والإرهاب، ومؤلفة كتاب "ضبط المجتمع السوفياتي" (Policing Soviet Society)، وكتاب "الجريمة والتحديث" (Crime and Modernization)، بالإضافة إلى كتابتها مقالات عديدة وفصولا في كتب حول كافة أوجه الجريمة التي تتخطى الحدود القومية.

في نهاية القرن العشرين، برزت ظاهرة جديدة تمثلت في قيام العولمة المتزامنة مع الجريمة، والإرهاب، والفساد، ذلك "الثالوث غير المقدس" الذي أصبح يظهر في كافة أنحاء العالم. فيمكن إيجاده في أفقر بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا، وكذلك في قلب أوروبا المزدهرة. تعمل مجموعات الجريمة والإرهاب بالترافق وتسهل عملها ظاهرة الفساد، منطلقة من منطقة الحدود الثلاثية في أميركا اللاتينية (البرازيل-الأرجنتين-الباراغوي) إلى مناطق النزاعات الإقليمية في غرب أفريقيا والاتحاد السوفياتي السابق، والى سجون أوروبا الغربية. تتقاطع الجريمة والإرهاب أيضاً في استراليا، وآسيا، وأميركا الشمالية كما تدل على ذلك القضايا الإجرامية التي توثّق هذا المزيج الواسع من نشاطاتهما.

لكن هذا الثالوث غير المقدس أكثر تعقيداً من مجرد توجّه الإرهابيين نحو الجريمة لدعم نشاطاتهم، أو من مجرد الزيادة الدولية لتدفق السلع الممنوعة. فهو بالأحرى ظاهرة مميزة بذاتها تعمل فيها شبكات الجريمة المعولمة مع الإرهابيين، ويتمكن كلاهما من تنفيذ نشاطاتهما بنجاح يساعدهما في ذلك الفساد المستوطن.

يستند التمييز المصطنع بين الجريمة والإرهاب إلى فكرة ذهنية بالية. فالقول الذائع إن المجرمين يمارسون الجريمة لمجرد الربح المادي، وأن الإرهابيين يعملون بصورة حصرية لتحقيق أهداف سياسية، يكذبه الواقع المعاصر لهاتين المجموعتين. فالمجرمون لا ينتمون اليوم إلى منظمات تخضع لسلطة هرمية لا تُشكّل تهديداً للدولة بالذات، كما كان ذلك صحيحاً بالنسبة للمافيا الصقلية أو الياكوزا اليابانية. والإرهابيون، كثيراً ما أصبحوا يتنقلون بدعم من الجريمة، ما بين هويتي الإجرام والإرهاب. تسمح هيكليات شبكات كليهما بالارتباط، عن وعي أو بدونه، بهوية احدهما الآخر. فقد تعمل المجموعتان مباشرة سوية أو قد تتصلان من خلال مسهلين بينهما. ففي لوس انجلوس، على سبيل المثال، منحت كلية تعليم اللغة نفسها إلى بعض الخاطفين المتورطين في أحداث 9/11 تأشيرات دخول وزودت كذلك تأشيرات دخول أيضاً إلى مومسات تابعات لعصبة رئيسية لتهريب البشر. وبدورها، انخرطت هذه الحلقة في تجارة بطاقات الهوية المسروقة التي يمكنها تسهيل نشاطات الإرهابيين.

بعكس الرأي القائل ان كل ذلك نتج عن العولمة، فإن الجريمة المنظمة والإرهاب كان لهما نشاط تاريخياً عابراً لحدود الدول. في الثلاثينات من القرن الماضي، كان أعضاء عصابات المافيا الإيطالية في الولايات المتحدة يسافرون إلى كوبيه في اليابان والى شنغهاي في الصين للحصول على المخدرات، وكان يلجأ أعضاء من مختلف عصابات الإجرام الأميركية إلى الصين لتجنّب وصول السلطات الأميركية المختصة بفرض تطبيق القانون إليهم. كما وجد أعضاء منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي ملجأ آمناً في كنف الجاليات الأيرلندية في الخارج التي وفرت كذلك الدعم المالي لهذه المنظمة في أيرلندا.

إلاّ أن الجديد اليوم، هو سرعة وتكرار تفاعلاتهم المتبادلة، وكثافة التعاون بين هذين الشكلين من الجريمة العابرة للحدود القومية.

طور كل من المجرمين والإرهابيين شبكات تتخطى الحدود القومية، فوزعوا نشاطاتهم، وخططهم، ولوجستياتهم عبر عدة قارات، مربكين بذلك الأنظمة القانونية للدول التي تُستخدم كأداة لمكافحة أنماط الجريمة العابرة للحدود القومية في كافة تبدلاتها المتعددة. يُعتبر المجرمون الذين يتخطون الحدود القومية من المستفيدين الرئيسيين من العولمة. فالإرهابيون والمجرمون ينقلون الناس، والأموال، والسلع عبر عالم أمسى التدفق المتزايد للناس، والأموال، والسلع فيه يوفر غطاءاً ممتازاً لنشاطاتهما. اعتمد الإرهابيون ومجموعات الجريمة العابرة للحدود القومية على نظام العولمة للوصول إلى أسواقهم ولتدويم أفعالهم وللتهرب من الاكتشاف.

صلة العولمة

عولمت الجريمة المنظمة الدولية نشاطاتها لنفس الأسباب الذي تدفع شركات مشروعة متعددة الجنسيات إلى عولمة أعمالها. وتماماً كما تُنتج شركات متعددة الجنسيات فروعاً لها حول العالم للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة أو من أسواق المواد الأولية، كذلك تفعل مؤسسات الأعمال غير المشروعة. أبعد من ذلك، تُنشئ أيضاً مؤسسات الأعمال، المشروعة منها وغير المشروعة، مراكز لها عبر العالم لتلبية حاجات الإنتاج، والتسويق، والتوزيع. تستطيع مؤسسات الأعمال غير المشروعة أن تتوسع جغرافيا للاستفادة من هذه الظروف الاقتصادية الجديدة بفضل الثورة في الاتصالات والنقل الدولي. وكذلك يُعولم الإرهابيون نشاطاتهم للاستفادة من القدرة على تجنيد الناس دولياً، وللبقاء بالقرب من جاليات المهاجرين المشتتين التي تستطيع دعمهم لوجستياً ومالياً، كما ليتمكنوا من اختراق المجتمعات الأكثر ثراءً.

كان لانتهاء الحرب الباردة تأثير هائل على بروز الجريمة العابرة للحدود القومية. فمع نهاية المواجهة بين القوتين العظميين، تقلص احتمال نشوب نزاع واسع النطاق. ولكن، منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، حدث ارتفاع هائل في عدد النزاعات الإقليمية. لسوء الحظ، كثيراً ما تم ربط السلاح والقوى البشرية التي تنفذ هذه النزاعات بالنشاط الإجرامي العابر للحدود من خلال التجارة بالممنوعات: المخدرات، الألماس، والناس. ولّدت هذه النزاعات بدورها عدداً لا سابق له من اللاجئين وألحقت الأضرار بالاقتصادات المشروعة في مناطق هذه النزاعات التي أمست لاحقاً أراضٍ خصبة لتجنيد الإرهابيين، أو ملاجئ آمنة لتخطيط العمليات الإرهابية وتدريب الإرهابيين.

التقدم التكنولوجي العظيم الذي تحقق خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ساعد بدرجة هائلة نمو النشاطات الممنوعة العابرة للحدود القومية. فنشوء حركة السفر الجوي التجاري، والتحسينات في أنظمة الاتصالات (بضمنها الهاتف، والفاكس، والاتصالات السريعة عبر الإنترنت)، ونمو التجارة الدولية سهلت جميعها الحركة الفعلية للسلع والبشر. يستغل المجرمون والإرهابيون سرية غرف الدردشة عبر الإنترنت لتخطيط وتنفيذ نشاطاتهم. استخدم إرهابيو 9/11 أجهزة كمبيوتر عامة لإيصال رسائلهم ولشراء تذاكر السفر الجوي مباشرة. بصورة مماثلة، استخدم مهربو المخدرات في كولومبيا اتصالات لاسلكية مرمزة لتخطيط وتنفيذ عملياتهم.

تقترن مع العولمة إيديولوجية الأسواق الحرة والتجارة الحرة وانحسار تدخل الدول في الشأن الاقتصادي. استناداً إلى دُعاة العولمة، سوف يؤدي هذا التقليل من القوانين والحواجز الدولية المقيدة لحرية التجارة والاستثمار، إلى زيادة التوسع التجاري والإنمائي. لكن هذه الظروف بالذات والتي تُعزز البيئة المعولمة، تكون حاسمة أيضاً لتوسع الجريمة. استغلت كل من عصابات الإجرام والإرهاب هذا التقليل الهائل في الأنظمة والتخفيف من وسائل مراقبة عبور الحدود، والحرية الأكبر الناتجة عن ذلك، لتوسيع نشاطاتهم عبر الحدود وللوصول إلى مناطق جديدة من العالم. وقد ازداد اليوم تكرار هذه الاتصالات وتسارعت ممارستها. ففي حين يخضع نمو التجارة المشروعة للتنظيم عبر الانصياع لسياسات مراقبة الحدود التي يرصدها موظفو الجمارك والأنظمة البيروقراطية، تستغل بحرية مجموعات الجريمة التي تتخطى الحدود القومية، منافذ التهرب المتوفرة في الأنظمة القانونية للدول، للتوسع في بسط نفوذها. يسافر المجرمون إلى مناطق لا يمكن فيها تسليمهم إلى حكوماتهم، وينشئون قواعد لعملياتهم في البلدان التي تكون أجهزة فرض تطبيق القانون فيها غير فاعلة أو مرتشية، ويبيّضون أموالهم في دول تتبع نظام سرية المصارف أو لا تُطبّق سوى عدد قليل من قوانين المراقبة الفعالة. ومن خلال تجزئة عملياتهم يحصد المجرمون والإرهابيون فوائد العولمة، وفي نفس الوقت يقللون من مخاطر عملياتهم.

ازداد حجم التجارة العالمية بشكل هائل خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كما ترافق مع التدفق المتعاظم للسلع المشروعة زيادة مرور السلع الممنوعة. يُشكّل إيجاد السلع الممنوعة من بين تدفقات السلع المشروعة تحدياً حقيقياً. فهناك نسبة صغيرة جداً من سفن الحاويات فقط تخضع لتفتيش شحناتها، الأمر الذي يُسهل نقل المخدرات، والسلاح، والسلع المهربة. وهكذا، يمكن نقل المخدرات على سفن سمك التونا لتجنّب اكتشافها بسهولة، كما يمكن استغلال تجارة العسل لنقل الأموال وتوليد الأرباح لمنظمة القاعدة في نفس الوقت.

شهدت العقود الأخيرة تصاعداً في أشكال عديدة من الجريمة المعولمة. كانت تجارة المخدرات أول قطاع للممنوعات يحقق أقصى الأرباح في عالم معولم. حقق المجرمون أرباحاً هائلة من المتاجرة بالمخدرات، واستخدمت مجموعات إرهابية عديدة تهريب المخدرات كمصدر هام لتمويل عملياتها. لكن، بعد ان ازدادت المنافسة في سوق المخدرات، وتعززت أساليب فرض تطبيق القانون الدولي لمكافحتها، انخفضت الأرباح بسبب المنافسة والمخاطر المتزايدة، وكانت النتيجة ان استغل العديد من المجرمين والإرهابيين أشكالاً أخرى من الجريمة سهّل تنفيذها الاقتصاد المعولم. استفاد المجرمون والإرهابيون بالتالي مالياً من ازدياد التجارة بالأسلحة وعمليات تهريب البشر. كما حصلت زيادة هائلة في التجارة غير الشرعية بأجناس الحيوانات المعرضة للخطر، بالنفايات الخطرة، بالأعمال الفنية والآثار المسروقة، بالسلع المزيفة، وبالجريمة المعولمة المتصلة ببطاقات الائتمان. تستغل كل من الجريمة المنظمة والإرهابيين كافة هذه النشاطات، وفي بعض الأحيان حتى بصورة مترادفة لكليهما.

كذلك، تطورت صناعة من الخدمات الرئيسية لتوفير خدمة لكافة فئات المجرمين الذين يتخطون الحدود القومية. تشتمل هذه الخدمات على مزودي الوثائق المزورة، ومبيضي الأموال، وحتى مهنيين من المستوى العالي يقدمون خدمات قانونية، ومالية، ومحاسبية إلى كلا المجموعتين. يتبيّن هذا الاتجاه من الحقيقة الظاهرة في محاكمة بنك ريغز في واشنطن العاصمة، الذي شملت لائحة زبائنه القانونيين رؤساء أميركيين والعديدين من أفراد المجتمع الدبلوماسي في العالم، والذي تمّت مقاضاته لقيامة بتبييض الأموال لديكتاتور غينيا الاستوائية ولتسهيله لعمليات تحويل الأموال إلى إرهابيين، فحُكم عليه بدفع غرامة مقدارها 25 مليون دولار. تُبيّن هذه القضية ان نشاطات المجرمين والإرهابيين لا تبقى دائماً ضمن نطاق اقتصاد الظل، بل تتقاطع في أحيان كثيرة مع النظام الاقتصادي المشروع.

ماذا يمكن عمله؟

ينبغي إحداث تبديل أساسي في المثال المتبع لطريقة مقاربتنا للأمن الدولي. فالاستمرار في اعتماد التوصيفات المصطنعة والمتهالكة التي تقول إن المجرمين لا يحفزهم إلاّ الربح، وإن الإرهابيين لا تحفزهم سوى الدوافع السياسية أو الدينية، هو ما يؤدي إلى فشل صانعي السياسة وهيئات فرض تطبيق القانون وواضعي الخطط الاستراتيجية العسكرية، بوجه عام، في التعامل بشكل فعال مع الظاهرة الجديدة لشبكات الجريمة المتخطية للحدود القومية.

يجب ان تبتعد الدول والمؤسسات المتعددة الأطراف عن المثال الأمني الذي ساد خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، والذي يعتبر النزاعات بين الدول القومية بمثابة التهديد الرئيسي للأمن الدولي، ويفترض، بناءً على ذلك، ان الدول قادرة على التحكّم بالأمن الدولي. فعلى سبيل المثال، قد تكون استراتيجية التحكم بانتشار أسلحة الدمار الشامل من خلال احتجاز المواد اللازمة لصنعها مصممة بصورة رائعة لكن يشوبها خطأٌ مُهلك، لأنه بدون معالجة التهديدات الإضافية التي يطرحها الانتشار المستشري للفساد، ولعمليات الشبكات الإجرامية والإرهابية فقد تولّد الدول شعوراً زائفاً بالأمن.

تتطلب معالجة مسألة تقاطع كل من الجريمة والإرهاب والفساد ضمن البيئة العالمية، معالجة البيئة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تولد وتساند هذه الظاهرة. ترتبط كل من تلك الشرور الثلاثة بالمشاكل العميقة العائدة لاختلال التوازنات الاقتصادية بين البلدان، وللحكومات المستبدة، ولغياب فرص العمل في العديد من مناطق العالم. إن على الحل القابل للحياة أن يدرك ويتعامل مع الشعور بالحرمان من الحقوق الذي يدفع إلى القيام بالكثير من الأعمال الإرهابية، بالأخص بين السكان المسلمين. إن توفر فرص العمل ووسائل تأمين سبل العيش أمران حاسمان بالنسبة للعديد من الناس في العالم النامي، ولكي لا يبقى، على سبيل المثال، المزارعون في أفغانستان وأميركا اللاتينية معتمدين على زراعة المخدرات لإعالة عائلاتهم.

كثيراً ما تعتبر الجريمة كمسألة هامشية للإرهاب. فمنذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، تحولت موارد عديدة في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان عن عمليات مكافحة الجريمة العابرة للحدود القومية إلى عمليات مكافحة الإرهاب. قد يكون هذا التصرف خاطئا بالنسبة للقوات المسلحة ولمجتمعات الاستخبارات، ولغيرها. فالحاجة لمحاربة الجريمة ليست مسألة هامشية بل أنها قضية مركزية بالمطلق للحرب ضد الإرهاب. ربما كان بالإمكان إفشال عمل الإرهابيين الذين فجروا قطارات الركاب في مدريد في 11 آذار/مارس 2004 لو كانت سلطات السجون مدركة لما يجري التخطيط لتنفيذه في داخل مرافقها.

هناك مثال عن الاستراتيجية الناجحة المتبعة ضمن دائرة الشرطة في لوس انجلوس، التي تدمج جهود قوات الشرطة المحلية مع جهود قوات تطبيق القانون الفدرالية. فمن خلال توحيد التحليل الخبير مع عمل الشرطة التقليدي، والمتابعة الوثيقة للنشاط الإجرامي داخل مجتمعاتها، حققت دائرة الشرطة في لوس انجلوس نجاحاً باهراً في تمزيق النشاط الإرهابي المحتمل، كما التنظيمات التي تمول وتسهل الإرهاب. من خلال العمل التقارني والتخفيف من الحواجز البيروقراطية، تمكن رجال الشرطة في لوس انجلوس من مكافحة الإرهاب دون استعمال أي أدوات قانونية خاصة، ودون ارتكاب أي انتهاكات للحقوق القانونية للناس.

إذا استمر صعود التهديد الصادر عن فاعلين من خارج الدول، كالمجرمين والإرهابيين الذين يتخطون الحدود القومية خلال العقود القادمة، فسوف نحتاج في المستقبل إلى قيام تعاون دولي اعظم، والى قوانين اكثر انسجاماً، والى تشاطر أكبر للمعلومات الاستخبارية. وعند تطبيق سياسة مضادة للجريمة والإرهاب العابرين للحدود القومية، يتوجب علينا، بالترافق مع ذلك، احترام حقوق الإنسان وتجنب إجراءات تؤدي إلى تعزيز الراديكالية وتغذية الإرهاب. سوف تحدد طريقة إدارتنا لهذه الإزاحة للنموذج القائم بحيث نرى ونعامل المجرمين، والإرهابيين، والفاسدين على أنهم متصلون ببعضهم البعض، مدى نجاحنا في إنقاذ فوائد العولمة من سوء الاستخدام الخطر لها في حلبة الأمن الدولي.

محاربة الجريمة الدولية(12)

المهربون الدوليون للمخدرات، والجريمة المنظمة التي تتخطى الحدود القومية، والمجموعات الإرهابية، وغياب الحكم المؤسساتي للقانون جميعها تهدد الأميركيين في عقر دارهم، كما تهدد المصالح الأميركية في الخارج، ومصالح حلفائنا في كل منطقة من العالم. ليست هناك أية دولة أو أي مجتمع في العالم يمكنه أن يبقى محصناً ضد هذه التهديدات. وهكذا، أصبحت محاربة هذه التهديدات مكوناً أساسياً للأهداف المشتركة ذات الأهمية المماثلة، كالأمن، والصحة العامة، والإنماء الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص، نمو الديمقراطية الشرعية واحترام حقوق الإنسان.

من خلال التمويل الذي يزوده الكونغرس الأميركي إلى مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون في وزارة الخارجية، نضطلع بتنفيذ برامج تقدر قيمتها بأكثر من بليوني دولار، وإدارة مجموعة متنوعة من البرامج في أكثر من 100 دولة، والمشاركة في المبادرات الإقليمية والعالمية الهادفة إلى محاربة الزراعة غير الشرعية للنباتات المخدرة، وتهريب وإساءة استعمال المخدرات، وبوجه خاص، من خلال تقديم المساعدة إلى المؤسسات في الدول المضيفة. تتركز برامج مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون كذلك على تعزيز القدرات المؤسساتية للمسؤولين عن فرض تطبيق القانون وأنظمة القضاء الجنائية في الديمقراطيات الناشئة حول العالم، وإنشاء نظام من الشركاء في الحرب ضد الجريمة المنظمة الدولية.

يُشكِّل برنامجان أساسيان أهم المساعدات الأجنبية التي يتولى الإشراف عليها مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون، أي مبادرة الأنديز لمكافحة المخدرات(ACI) ، والسياسات والبرامج التي ننفذها مع شركائنا الدوليين للتصدي للتجارة غير القانونية بالمخدرات في أفغانستان، وإرساء سيادة حكم القانون في أفغانستان والعراق. إن قضية السيطرة على المواد الكيميائية الأولية والمنبهات من نوع الامفيتامين هي المجال الثالث الأكثر أهمية الذي يعالجه مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون، وذلك استجابة للنمو السريع على مستوى العالم لمشكلة إساءة استخدام الأمفيتامين. كما يوجه المكتب اهتماماته نحو مسألة خفض الطلب على مثل هذه المواد، نظراً لكونها مشكلة متعددة الأوجه.

مبادرة الأنديز لمكافحة المخدرات

جميع كميات الكوكايين تقريباً، كما معظم كميات الهيرويين التي تدخل بصورة غير قانونية إلى الولايات المتحدة، تأتي من منطقة جبال الانديز في أميركا اللاتينية. ومبادة الانديز لمكافحة المخدرات هي حملة على مستوى المنطقة بأكملها لخفض إنتاج وتهريب هذه المخدرات، ويتركز اهتمامها على كولومبيا، والبيرو، وبوليفيا، والإكوادور، والبرازيل، وباناما، وفنزويلا. والأمر الذي يُعقد عملية محاربة هذه المخدرات هو العلاقة التكافلية بين مهربي المخدرات والمنظمات الإرهابية الدولية التي نجحت في السيطرة على مناطق داخل أراضي دول ذات سيادة ما فتئت تكافح من اجل توسيع نطاق سيادة القانون لديها. وقد ظهر تقدم بارز في هذا السياق رغم هذه المشاكل الخطيرة.

ومن أجل تأمين النجاح، علينا أن نحقق توازناً دقيقاً بين التثقيف المضاد للمخدرات، والقضاء على محاصيل المخدرات غير المشروعة، والحظر وفرض تطبيق القانون، والوقاية والمعالجة، علاوة على سبل عيش بديلة لمزارعي نبتة الكوكا. تشير التجربة إلى أن برامج تطوير سبل العيش البديلة تنجح بشكل أفضل عند دمجها مع جهود الاستئصال القاسية، والتي تُطبق إمّا قسرياً أو اختيارياً. زودت الولايات المتحدة، في السنوات القليلة الماضية، حوالي 280 مليون دولار كمساعدات إنمائية بديلة إلى كولومبيا بمفردها، التي تنتج نسبة 90 بالمئة من كميات الكوكايين التي تدخل الولايات المتحدة. في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كانت كولومبيا على وشك الانهيار الاقتصادي نتيجة حملة عنف شنتها كارتلات المخدرات، ومجموعات إرهابية بعضها شارك أيضاً في تهريب المخدرات. وعلى امتداد السنوات القليلة الماضية، استقر إنتاج الكوكايين عند المعدل الذي كان قد بلغه وتقلصت عمليات العنف السياسي، وتحسنت ظروف الأمن العام، ونهض الاقتصاد الكولومبي من عثرته، ووصل إلى نقطة وصفها البنك الدولي بمناخ جذاب للاستثمار، وهذا ما شكّل انقلاباً رئيسياً.

لكن الحرب لا زالت بعيدة عن وضع أوزارها. فرغم تقديرات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن كولومبيا، والبيرو، وبوليفيا خفضت زراعة نبتة الكوكا لديها على امتداد السنوات الخمس الماضية، يبقى على دول منطقة الانديز أن تعمل بجهد أكبر لتحقيق تخفيضات دائمة في إنتاج المحاصيل غير مشروعة في المنطقة. تشير الاتجاهات الأخيرة، بالأخص في بوليفيا، إلى أنه من المحتمل أن يتعرض النجاح الذي تم تحقيقه لخطر التراجع. فالولايات المتحدة تعارض جهود إدارة الرئيس موراليس لإيجاد ما يسمى باستعمالات تجارية للكوكا غير المشروعة، الأمر الذي يتعارض مع التزامات بوليفيا بموجب المعاهدات الأساسية للأمم المتحدة حول المخدرات. هاجسنا يقوم على أن زراعة مساحات أكبر من نبتة الكوكا سوف يعني، بدون أدنى شك، أن كميات أكبر سوف تنتج من الكوكايين.

مواجهة نبتة الأفيون/إنتاج الهيروين في أفغانستان

أفغانستان هي الدولة المنتجة الرئيسية في العالم للمواد الافيونية غير المشروعة، وتُنسب إليها نسبة تصل إلى 92 بالمئة من الإنتاج العالمي لهذا النوع من المخدرات التي قُدرت قيمتها التصديرية في العام 2006 بحوالي 3.1 مليار دولار، أو حوالي 50 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي لأفغانستان. القيمة السوقية للهيروين والأفيون في الشارع هي بالتأكيد أعلى من ذلك بأضعاف. تمثل مشكلة الأفيون الأفغاني اكثر بكثير من مجرد مشكلة مخدرات لنا وللمنطقة. وكما هو حاصل في كولومبيا، تشكل زراعة وإنتاج وتهريب المواد الافيونية تأثيراً يزعزع استقرار البلد، كما أنه يُشكِّل خطورة بنوع خاص على ديمقراطية ناشئة كأفغانستان التي تكافح لتأمين الاستقرار. إن استمرار الدعم لجهود مكافحة المخدرات في أفغانستان أصبح مكوناً أساسياً للسياسة الإجمالية الأميركية والدولية في أفغانستان، والمرتبطة مباشرة بنجاح التنمية الاقتصادية للبلاد، وإرساء حكم القانون، والإجراءات الديمقراطية، وقطع الطريق بوجه استعادة حركة الطالبان لنشاطها مما قد يثير عدم الاستقرار الإقليمي.

في كانون الأول/ديسمبر، 2005، وضعت الحكومة الأفغانية أساساًَ قانونياً لمحاربة المخدرات غير المشروعة، من خلال إصدار قانون شامل ضد المخدرات.

يجرّم هذا القانون كافة أشكال تهريب المخدرات، بالإضافة إلى العديد من الجرائم المتعلقة بالمخدرات، كتبييض الأموال، والفساد، وجرائم العنف. كما يوفّر هذا القانون إطار عمل لاتباع إجراءات حديثة في التحقيق والمقاضاة اللازمة لمكافحة تهريب المخدرات في أفغانستان. يتطلب تطبيق هذا القانون تعاوناً لم يسبق له مثيل لشركائنا الدوليين والحكومة الأفغانية لتطبيق وشحذ استراتيجية من خمس دعائم لمحاربة المخدرات. وهذه الدعائم تشمل: 1) نشر المعلومات الفعالة لدى عامة الناس؛ 2) سبل عيش بديلة لخلق بدائل اقتصادية عن زراعة نبتة الأفيون؛ 3) فرض تطبيق القانون وإصلاح النظام القضائي لدعم الجهود الأفغانية في إلقاء القبض على، ومقاضاة، ومعاقبة المهربين المدانين، والمسؤولين الذين تثبت عليهم تهمة الفساد؛ 4) الحظر والمصادرة؛ و5) استئصال زراعة نبتة الأفيون بضمنها عدم تشجيع زراعتها في أول المطاف. تدعو خطورة مشكلة زراعة نبتة الأفيون غير المشروعة إلى قيام التزام طويل الأمد من جانب المجتمع الدولي.

إرساء حكم القانون في العراق

يقدم برنامجنا لدعم توطيد العدالة الجنائية في العراق التطوير المستمر لمؤسسات الشرطة، والمقاضاة، والقضاء، والسجون الإصلاحية لمساندة حكم القانون ونظام الحكم الديمقراطي في العراق. في خريف العام 2003، أنشأ مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون مرفق تدريب لرجال الشرطة بالقرب من عمان، بالأردن حمل اسم مركز التدريب الدولي الأردني لرجال الشرطة(JIPTC) ، حيث عمل فيه ما يقرب من 60 مدرباً من 16 دولة مختلفة. ومنذ ذلك الوقت، خدم هذا المرفق كوسيلة رئيسية لتدريب ما يزيد عن 15,600 شرطي عراقي جديد. لعب المدربون، الذين يمولهم مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون، أيضاً دوراً رئيسياً في توسيع نطاق التدريب ليشمل مرفقاً جديداً أعادت وزارة الدفاع تجهيزه في بغداد، علاوة على 12 مرفقا إقليميا لمكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون قاموا بتدريب أكثر من 14 ألف رجل من رجال الشرطة. وبالإضافة إلى تدريب مجندين جدد، فقد زود مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون أيضاً تدريباً حول المرحلة الانتقالية وإعادة الإندماج لما يقرب من 34 ألف رجل شرطة حاليين كانت مهارات العديد منهم قد مرَّ عليها الزمن أو كانوا لا يملكون أية مهارات في الواقع. وتلقى عدد إضافي من رجال الشرطة، بلغ 12 ألفا، تدريباً متقدماً ومتخصصاً. وكجزء من التدريب الميداني المتواصل المطلوب، وضع مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون 500 مستشار في مراكز الشرطة ومعلمين مختصين في العراق، لكن قدرتهم في العمل الميداني بقيت مقيدة بسبب الوضع الأمني. في قطاع القضاء، اضطلع مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون بتدريب 175 قاضياً وساعد في إعادة فتح المحكمة الجنائية المركزية في العراق، التي تنظر الآن في قضايا تتعلق بالإرهاب. وأخيراً، زوّد المستشارون الأميركيون تدريباً أكاديمياً أساسياً لأكثر من ألفي ضابط سجن وهم يقدمون حالياً تدريبات أثناء العمل لموظفي السجون عبر البلاد.

السيطرة على المخدرات الكيميائية

تؤكد تقارير الأمم المتحدة ومصادر أخرى يُعوّل عليها أن إساءة استعمال مواد الميتامفيتامين ومواد سامة مماثلة، مثل "أكستاسي"، تحولت إلى مشكلة متنامية عبر العالم بضمنها الولايات المتحدة. هذا الإدراك دفع مكتب البيت الأبيض للسياسة القومية للسيطرة على المخدرات (ONDCP) إلى إطلاق، استراتيجية السيطرة على المخدرات الاصطناعية لأول مرة. وفي آذار/مارس من العام 2006، عمل مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون مع لجنة الأمم المتحدة للعقاقير المخدرة بحيث تبنت هذه اللجنة قراراً مصمماً لتحسين الرصد الدولي للمواد الكيميائية الأولية المستعملة في إنتاج المخدرات الاصطناعية والمساعدة في منع تحويلها للاستعمال غير المشروع. في نفس ذلك الشهر، أصدر الكونغرس قانون مكافحة وباء إدمان الميتامفيتامين الذي يعزز الرقابة الأميركية على تدفقه الدولي، وشمل ذلك المصدّرين والمستوردين الرئيسيين للمواد الكيميائية الأولية.

السهولة النسبية لإنتاج الميتامفيتامين، سوية مع هوامش الربح العالية التي تولدها هذه المواد الكيميائية، تجعل من هذا المخدر المُسبب للوهن الشديد، جذاباً بدرجة خاصة للمجموعات الإجرامية. يتعاون مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون مع دول عديدة لمساعدتها في مراقبة المواد الكيميائية الأولية اللازمة لصنع هذه المخدرات السامة. ونعمل جيداً بوجه خاص، مع جارتينا القريبتين، كندا والمكسيك، في هذا المجال الهام

خفض الطلب

وفي حين تنصّب معظم جهود الوزارة على قطع إمداد المخدرات، يعمل مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون أيضاً مع حكومات ومنظمات خاصة أجنبية لمساعدتها في معالجة مشكلة إساءة الاستخدام المحلي للمخدرات، والتي نمت بسرعة في دول كانت تعتقد في السابق على أنها حصينة ضد إغراءات المخدرات. تُركّز هذه البرامج على مشاطرة أفضل الممارسات، وهذه تُنقل عبر شبكات رسمية وغير رسمية واسعة جداً تربط الحكومات والمنظمات الأهلية، وتتضمن عدة مئات من المنظمات الإسلامية المضطلعة بتثقيف الناس حول أضرار المخدرات، ووقايتهم منها، ومعالجة المدمنين عليها.

مسؤولية مشتركة

كانت مسألة المخدرات صعبة المعالجة، لكن المجتمع الدولي أوجد فرقاً في هذا السياق. على سبيل المثال، نُشير إلى أن تايلند، وباكستان، ولاوس أصبحت من الدول الخالية تقريباً من زراعة نبات الأفيون، كما نشير إلى تنفيذ خطوات واسعة مهمة ضد زراعة النباتات المحرمة في منطقة الأنديز؛ وإلى ارتفاع عدد عمليات إلقاء القبض، والتوقيف، والإدانة ضد العديد من المهربين الكبار؛ وإلى أنه أصبح لدى الشباب عبر العالم فهماً أفضل لمخاطر استعمال المخدرات غير الشرعية وهم يتصرفون على ضوء هذا الفهم. مبادرة الانديز لمكافحة المخدرات، مثلها مثل السيطرة على المخدرات في أفغانستان، وجهودنا المشتركة في محاربة المخدرات من نوع الميتامفيتامين والمواد الكيميائية المرتبطة بها، تذكرنا بأننا حققنا إجماعاً دولياً قوياً يؤكد على أن تجارة المخدرات تهدد كافة الدول، وأن محاربة زراعة النباتات المخدرة، وتهريب المخدرات، وإساءة استعمالها تقع ضمن مسئوليتنا المشتركة. عمل مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون مع الكونغرس لرعاية سفر خبراء في السيطرة على المخدرات الكولومبية إلى كابول لمقابلة نظرائهم الأفغانيين بغية مشاطرة خبراتهم في هذا المجال. هذه المشاركة في المعلومات لمساعدة الدول في إطلاق مبادرات سريعة لمواجهة مشاكل مماثلة لتلك الموجودة في غير مكان من العالم، تعتبر جزءاً فائق الأهمية في جهدنا الإجمالى.

وكما دعا إليه تقرير الأمم المتحدة السنوي لعام 2006 حول المخدرات، علينا أن نواصل تعاوننا الدولي لخفض التهديد الذي يطرحه الإنتاج الدولي للمخدرات، وتهريبها، وإساءة استعمالها. وفي هذا السياق، يلعب مكتب شؤون المخدرات الدولية وتطبيق القانون في وزارة الخارجية الأميركية دوراً أساسياً. كما اننا، ضمن نطاق محاربة الجريمة الدولية المنظمة، نقود الطريق عبر تنفيذ سياسات وبرامج تجعل من السهل على مسؤولي فرض تطبيق القانون التعاون فيما بينهم، ومشاطرة المعلومات، وإعاقة عمل الشبكات الدولية. كما اننا، من خلال تدريب ضباط شرطة وخبراء في القضاء الجنائي في أفغانستان والعراق، نوفّر فرصة إرساء حكم القانون والديمقراطية فيهما.

...................................................................

المصادر/

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 2- إعدادالدكتور/  تركي محمد العطيان/ كلية الملك فهد الامنية

 3- موقع الدكتورة ليلى زعزوع

 4- مضواح بن محمد آل مضواح  / جريدة الجزيرة السعودية

 5- موقع اهل البيت

 6- الدكتور/ ناجى بدر بدر إبراهيم/ كلية الملك فهد الامنية

 7- عبد الوهاب عبد الرزاق التحافي/ جريدة (الزمان)

 8- منتديات الحصن النفسي

 9- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 10- الموسوعة العربية

 11- لويز شيلي / إي جورنال يو إس آي  

 12- آن دبليو باترسون/ إي جورنال يو إس آي

13- المعجم النقدي لعلم الاجتماع/ بودون بوريكو

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 31 تموز/2007 -16/رجب/1428