مصطلحات نفسية: الغريزة

الغريزة: Instinct

شبكة النبأ: اندفاع داخلي، قاسر، متوجّه نحو هدف نوعي مشخّص، يحدّد تعاقباً غير منقطع من الحركات المعقّدة، المتناسقة جيداً، الخاصة بكل أعضاء نوع واحد، وتختلف اختلافاً قليلاً من فرد إلى آخر.

الغريزة مهارة وراثية تظهر بالتأثير المتضافر لعناصر داخلية المنشأ (وسط داخلي، نضج) وعناصر خارجية المنشأ (منبهات مثيرة أو "منبهات إطلاق"). فالعش – وليس البيض – يكوّن المنبه الرئيس، بالنسبة للنورس، منبهاً يثير عمل الحَضْن. وتجربة نيكولاس تانبرجن (مولود عام 1907) مبينة بهذا الصدد: يسحب تانبرجن، خلال غياب الحيوان، بيض العش ويضعه جانباً، واضحاً كل الوضوح. وعندما يعود النورس، يستقر في العش ليحضن البيض دون أن يهتم بالبيض. وإذا كان السلوك الغريزي تنقصه المرونة، فإنه غير ثابت. فمن المعروف أن الزنبور البنّاء يبني على شكل عنقود حجيرات من الصلصال يبيض في كل منها بيضة ويضع الغذاء. فإذا ثقبنا حجيرة منها، فإن الحشرة تباشر واجب إصلاحها بكريات من الصلصال (ج.ب. بيراندز، 1941). وكلما ارتفعنا في السلم الحيواني، تبدو الارتكاسات الغريزية قابلة للتأثر بالتعلّم. وهكذا تتخلى القنادس، التي يلاحقها الصيادون، عن بناء أكواخها لتتوارى في الجحور. ويبدو أن هذا الهامش الضئيل، هامش التعلّم، يكّون مرحلة انتقال إلى الذكاء. ويمكننا النظر إلى الغريزة أنها "ضرب من منطق الأعضاء الحيوية (المنطق ناجم، على وجه عام، من تناسق الأعمال والعمليات)، استمد منه في درجة عليا منطق التصرفات الحسية الحركية المكتسبة، ومن هنا الذكاء الحسي الحركي" (جان بياجه، 1965، ص 435). ارتكاسات فطرية (منعكس المص لدى الوليد، على سبيل المثال). فكل السلوكات على وجه التقريب يتعلمها الإنسان، وحتى الميول الطبيعية، كغريزة الأمومة، وهي تتلقى تأثير التنشئة الاجتماعية.

متعلقات

ما الغريزة ؟(1)

كلمة الغريزة تستخدم من قبل دعاة نظرية التطور لتفسير قابلية الحيوان القيام بسلوك معين منذ الولادة. وكانت هناك تساؤلات عديدة تدور حول كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغريزة وعن كيفية ظهور أول سلوك غريزي لدى الحيوانات وكذلك عن كيفية انتقال هذه الغريزة كابرا عن كابر. كل هذه التساؤلات باقية بدون رد أو جواب.

هناك أخصائي في علم الجينات وأحد دعاة نظرية التطور ويدعى Gordon Taylor rottary

فقد ذكر في كتابه "The great evolution Myster"أو "سر التطور العظيم " اعترافا بعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة كما يلي :

لو تسائلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة (4)

"وهناك آخرون على شاكلة "Gordon Taylor" يؤمنون بنظرية التطور لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة وبدلا من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة ولا تحمل أية معاني حقيقية. وبالنسبة لرأي هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستنادا إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية و بمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزيا وفق الشكل المعروف.

وفي هذه الحالة يطرح الإنسان العاقل المفكر سؤاله المنطقي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟ إذ لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولابد من مبرمج .

ودعاة نظرية التطور لم يجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوبا آخر للمناورة حيث يؤكدون على اكتساب الكائنات الحية لهذه الغريزة عن طريق الطبيعة الأم وكما نعلم فإن الطبيعة الأم تتألف من الحجر و التراب و الأشجار والنباتات ..الخ . ومن من هذه العناصر لها القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟ أيّ جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك ؟كل ما نراه في الطبيعة مخلوق و لا يمكن له أن يكون خالقا، ولا يمكن للإنسان العاقل أن يقول وهو يرى لوحة زيتية جميلة ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة بلا شك يكون هذا الكلام غير منطقي. إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقا للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي. وهنا تظهر لنا حقيقة واضحة وهي عدم اكتساب هذه الكائنات الحية غير العاقلة لهذه الميزات السلوكية المنطقية من تلقاء نفسها, فهذه الميزات مكتسبة بالولادة إذن فإن هناك من خلقها بهذه الكيفية ويتميز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهيين الذين نراهما في الطبيعة.

و بلا شك فإن صاحب هذا العلم والعقل هو الله سبحانه وتعالى. وذكر الله سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم نحل العسل كمثال على إلهامه الكائنات الحية لاتباع سلوك معين، أي أن الغريزة التي يرددها دعاة نظرية التطور أو كما يقولون: " إن الحيوانات مبرمجة على آداء سلوك معين" ما هي إلا إلهام إلاهي لهذه الكائنات الحية, وهذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم:" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون" سورة النحل الآية 68-69 "

ودعاة نظرية التطور يغمضون أعينهم أمام هذه الحقيقة لإنكار الوجود الإلهي، وهم بالتأكيد قد رأوا ومازالوا يرون الأنماط السلوكية للحيوانات ومازالوا يبحثون عن تفسير لها ويعلمون يقينا عدم قدرة نظرية التطور على تفسير هذه السلوكيات تفسيرا منطقيا. وكثيرا ما نجد عبارات وجملا مألوفة عند قراءتنا لمؤلفين من دعاة هذه النظرية ومن هذه العبارات:"..لإنجاز هذا العمل لابد من وجود عقل ذو مستوى عال ولكون الحيوانات لاتملك مثل هذا العقل فإن العلم يعجز عن الإجابة عن هذا السؤال ". ونورد المثال الآتي المتعلق بسلوك دودة القز على لسان أحد دعاة نظرية التطور المعروفين و يدعى Haimar Von Dithfurth هيرمان فون ديثفورت حيث يقول : إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة, ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولابد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية …كل هذه الظواهر لابد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة ولابد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علما أن لدودة القز جهازا عصبيا بسيطا للغاية فضلا عن بدائية سلوكها الحياتي, وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابليّة تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف.

ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها وهي بهذا الضعف من التكوين ؟ .وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيرا إلاّ بـالمعجزة أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة أي آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إليّ هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيرا خاليا من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محددة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل.

ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك ؟" (5).

هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز, هذا السلوك العقلاني والمدروس، ولا يمكن أن نجد في مثل هذه الكتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلاّ إلى طريق مسدود. حتى صاحب النظرية تشارلس دروين نفسه قد اعترف بهذه الحقيقة فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديدا واضحا لصحّة نظريته وذكر ذلك في كتابه "أصل الأنواع" عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها : "أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس" (6).

أما نجل تشالس داروين المدعو فرانسيس داروين فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتاب أسماه "الحياة ورسائل تشارلس داروين" "the life and letters of darwin" وذكر مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلا :في الكتاب (يعني أصل الأنواع ) وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها ..والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب "أصل الأنواع" (7).

الغرائز لا يمكن أن تتطور

إنّ دعاة نظرية التطور يجادلون بكون أغلب سلوك الحيوانات نتيجة للغريزة، ولكن كما أسلفنا القول في الصفحات السابقة لا يستطيعون إيراد تفسير مقبول عن كيفية نشوء الغرائز و لا عن كيفية ظهور الغريزة لأول مرة و لا عن كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالي: "تكتسب الحيوانات أنماطا سلوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي. وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة".

وهناك أخطاء منطقية ولا يمكن أن يقبلها العقل في هذا الإدعاء، ودعونانتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:

1-الأخطاء الكامنة في المقولة : اختيار السلوكيات المفيدة عبر الانتخاب الطبيعي:

إنّ الانتخاب الطبيعي يعتبر الحجر الأساس لنظرية "تشارلس دروين" الخاصة بـالتطور. والانتخاب الطبيعي يعني اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكليا أو سلوكيا ) واختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة .

وهناك نقطة مهمة في هذا الإدعاء يجب أن لا نغفل عنها وهي: كون الطبيعة حسب ادعاء داروين تعتبر المحك لتمييز المفيد من الضار وهي القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود ولكن لا يوجد في الطبيعة ما يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ما يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبيعة وما تحتويه وخلق كل شيء يملك العقل والمنطق والقدرة على تمييز الضار من المفيد.

في الحقيقة داروين يعترف بنفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود و يدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه بالرغم من كونها هرطقة وغير منطقية حيث يقول: في النهاية يمكن اعتبار الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقّاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير و التغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقيا ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي (8).

ويعترف داعية آخر لنظرية التطور وهذه المرة في تركيا وهو البروفيسور جمال يلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي ويقول بهذا الصدد :

"هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقد إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي ؟ وبلا شك فشل علماء الأحياء ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير عاقلة و بما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث أن الطبيعة و قانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية، والحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل وجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية و تدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطا سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك ؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذلك التفكير بهذه الطريقة؟

2-الأخطاء الخاصة بتوارث السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي:

الخطوة الثانية لمؤيدي داروين هي ادعاؤهم بأن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال وهذا الإدعاء ضعيف وهش للغاية من مختلف الوجوه. قبل كلّ شيء فإن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقا .

ويقول Gordon R.Taylor مبديا رأيه المناهض لرأي أولئك الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة بما يلي :" يدعي علماء الأحياء بأن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة مثلا العالم :Dobzhansky يدعي بأن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلاّ نتاج التوارث النّاتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولا بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح بالمرة ويعتبر أمرا محزنا أن يكون هذا رأي عالم له مكانته مثل Dobzhansky . ويمكن القول أن هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن لا يمكن تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية" .

والحقيقة الظاهرة للعيان عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي والمعروف أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتمّ بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي (بصورة عامة) وعلى سبيل المثال أن يكون الحيوان نشيطا أو بالعكس خاملا أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطه بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف0

ولو كان الأمر كذلك فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث ؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).

وكما أفاد به Gordon R.Taylor فإن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علميا، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل و هذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال وهناك مثل آخر يفرض نفسه بشدة وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل .

فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يقتضي منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولكن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد كونها قاصرات ولا يمكن لها التكاثر لذا فلا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة، ومادام الأمر كذلك ينبغي توجيه السؤال الآتي لدعاة نظرية التطور : كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر ؟ وما تزال هذه العاملات سواء كانت نملا أو نحلا أو أي حيوان آخر تعمل منذ ملايين السنين بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل و الانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة .

ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهدا في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة. ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم و جميع سلوكها مكتسب بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية ؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحه داروين قبل 150سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، و هناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلا :

"إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأننا كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع" (11).

فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج, أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة وتورث إلى جيل لاحق وهكذا, لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد و هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة, و لهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي (12).

ويعبر جمال يلدرم أحد المؤمنين بنظرية التطور عن التناقض الذي وقع فيه المتبنّون لهذه النظرية: ولنأخذ على سبيل المثال الحشرات التي تعيش على شكل مجتمعات مثل النمل أو النحل, فهذه الحشرات عقيمة وليست لديها أية إمكانية لتوريث أية صفات حيوية جديدة تنقلها إلى أجيال لاحقة إلا أنها تبدي تكيفا مدهشا مع ظروف المحيط الذي توجد فيه وعلى أعلى المستويات. (13)

ويتضح مما تقدم من اعترافات العلماء و أقوالهم استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور لأن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي ولا يمكن توريثها إلى أجيال لاحقة.

3-سقوط فكرة تطور الغرائز بتطور الأحياء

تدعي نظرية التطور بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقا لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك والطيور من الزواحف... ولكن يجب أن لا ننسى أن النوع الواحد يختلف تماما من حيث السلوك حيث تختلف السمكة عن الزواحف من حيث السلوك اختلافا كليا. ويدور السؤال التالي: هل تعرض سلوك الكائن الحي إلى تطور كما تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي الى تطور؟

وهذا التساؤل يعتبر أحد التناقضات والمآزق الفكرية التي وقع فيها دعاة نظرية التطور وقد وضع داروين إصبعه على هذا التناقض وتوصل الى استحالة اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتغيرها بالتطور حيث تساءل قائلا: هل من الممكن اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتطويرها وتغييرها فيما بعد ؟ ماذا يمكننا القول أمام بناء نحل العسل لخليته بهذا الشكل الهندسي الذي سبق أخصّائيّي الرياضيات بزمن سحيق ماذا يمكننا القول أمام هذه الغريزة (14). وهذا التناقض يمكن إيراد الأمثلة المختلفة عليه من كافة أنواع الحيوانات كالأسماك والزواحف والطيور. فالأسماك لها صفات خاصة بها من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس فضلا عن إنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة في حالة تلائم تماما الوسط المائي الذي تعيش فيه. وهناك بعض الأنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر وبعد لصقها لبيضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح أكبر كمية من الأكسيجين اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البيض.أمّا الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص تبنيها لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية محددة لازمة لفقس البيض .

أما التماسيح والتي تعتبر حيوانات برية فتملك سلوكا معاكسا تماما فتقوم بدفن بيضها تحت الرمال مدة شهرين كاملين لازمة لفقسها، وهناك بعض الأسماك تقوم بوضع بيضها داخل الأحجار الموجودة في قاع البحر ومن جانب آخر هناك بعض الحيوانات البرية تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطيور فتنشأ أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البرية أما اللبان التي يدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حيث التكاثر اختلافا كليّا عن باقي الكائنات الحية . فبينما تكون باقي الحيوانات تتكاثر بالبيض تتكاثر اللبان بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهرا عديدة وبعد أن تضع جنينها تقوم بتغذيته باللبن الذي يفرزه جسمها.

وهناك أسلوب للصيد مختلف لكلّ نوع من أنواع الأحياء, فبينما يبقى بعضها كامنا للصيد فترة طويلة يكون البعض منها متخفيا بلون المكان الموجود فيه والبعض الآخر يعتمد على السرعة والمباغتة. وكما يتضح هناك اختلاف كبير وشاسع بين الحيوانات البرية والحيوانات المائية وكلّ نوع يتميز باختلاف واضح حسب الوسط الذي يعيش فيه.

من هذا العرض نستنتج أن التغيير في الغرائز ينبغي أن يكون مصاحبا للتطور الحاصل في الأحياء. على سبيل المثال أن تصبح السمكة التي تضع بيضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعاية لها حيوانا بريّا تقوده غريزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار و يرقد على البيض مدة معينة لأجل تفقيسها. وهذا الأمر محال طبعا، والاستحالة الأخرى في هذا الموضوع يمكن توضيحها بفرض عدم استطاعة الكائن الحي العيش نتيجة عدم ملاءمة سلوكه غير المتطور لبنيته المتطورة نتيجة تغير الوسط الذي يعيش فيه حيث لا تستطيع السمكة التي تتقن التّخفي في البحر العيش إلا بعد إيجادها وسيلة جديدة للدفاع, بالإضافة إلى ضيق الوقت لتحقيق ذلك لأنه يجب أن تقوم بتغيير سلوكها وطريقة حياتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلاّ فإنها معرضة للهلاك وانقراض نسلها.

ومن الواضح أنه لا يوجد حيوان غير عاقل يمتلك القابلية لاتخاذ مثل هذا القرار السريع والإستراتيجي الّذي يتطلب قوى عقلية . إذا فكيف يتم تفسير سلوك الحيوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذي تعيش فيه ؟ وأدلى داروين بدلوه في هذا الخصوص في معرض رده على النـقد الموجه لكتابه "أصل الأنواع " قائلا : كان هناك اعتراض على فكرة أصل الأنواع مفاده أنه ينبغي أن يكون التغيير الحاصل في بناء الكائن الحي متزامنا مع التغيير في غرائزه فضلا عن كونهما متلائمين مع بعضهما لأن أي تباين يحدث بينهما يعني الموت المحتم "(15).

يتضح مما تقدم أنه لا يمكن تفسير سلوك الحيوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالصدفة أو بتأثير الطبيعة الأم. إذن فكيف اكتسبت الكائنات الحية تلك الصفات والخصائص التي تتيح لها مواصلة حياتها؟ والجواب على السؤال في غاية الدقة والوضوح . فالإنسان المطلع على طريقة معيشة الأحياء يستطيع أن يرى استحالة تشكل هذه الأنماط السلوكية من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوكية لا يوجد في أجسامها ولا في المحيط الذي تعيش فيه. إذن فهناك عقل وقوة لا يمكن رؤيتهما بالعين المجردة يقومان بإدارة سلوك هذه الكائنات الحية. ولا شك أن صاحب هذا العقل وهذه القوة هو الله سبحانه وتعالى والذي وسعت رحمته كل شيء.

والنتيجة: أنّ كل الكائنات الحية تتحرك بواسطة إلهام إلهي.

كما ذكرنا في الصفحات السابقة واجه دعاة نظرية التطور إشكاليات كبيرة تتعلق بتفسير سلوك الحيوانات في حين أنّ الحقيقة واضحة جلية وهي عدم استطاعة الكائن الحي غير العاقل أن يقوم بتمييز الفروق الواضحة أو أن يقوم بالربط بين الوقائع أو اتخاذ قرار صحيح, فضلا عن عدم قدرته على التخطيط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشياء أخرى تتطلب عقلا وتفكيرا و إدراكا. ويقول دعاة التطور إنّ هذه الكائنات الحية مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من هو الذي وضع هذا البرنامج ؟ و ما هي القوة التي تجعل نحل العسل يفرز الشمع الخاص لبناء الخلية ؟ والجواب واضح ودقيق، والإنسان الذي لديه علم بطريقة معيشة الأحياء ولوعلم بسيط يستطيع أن يتوصل إلى عدم إمكانية تولد هذه الأنماط السلوكية من تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل الواضح أن هناك قوة تحكم هذه الطبيعة وتديرها ولها تأثير مباشر على سلوك الكائنات الحية. وصاحب هذه القوة بلا شك هو الله الخلاق العليم. و نظرية تعجز أن تفسر كيفية خلق الكائن الحي لابد لها أن تقف عاجزة أمام تفسير سلوك ذلك الكائن الحي ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حول سلوك الكائنات الحية له أهمية قصوى بلا شك لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا يوجد كائن حيّ يعيش جزافا أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يقوم بخلق الكائن الحي من العدم ويدبر أموره ويراقبه في كل حين وينظم له سلوكه بقدرته, ربّ السماوات والأرض وما بينهما، وهذه الحقيقة وردت في القرآن الحكيم . يقول الله تعالى في كتابه الكريم:" إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم ". سورة هود الآية 56.

روح التضحية لدى الكائنات الحية تفنّد ادعاء داروين بأن البقاء للأقوى

مثلما أسلفنا القول في الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروين يعتمد على قانون الانتخاب الطبيعي, أي أنّ الكائنات الحية التي تستطيع أن تتكيف مع شروط الوسط الذي تعيش فيه تستطيع مواصلة حياتها والحفاظ على نسلها, و أمّا الكائنات الضعيفة التي لا تستطيع التكيف مع تلك الشروط فهي معرضة للهلاك والفناء، و بناء على هذا يكون التعريف المنطقي للطبيعة وفقا لقانون الانتخاب الطبيعي لـداروين هو المكان الذي تقوم فيه الكائنات الحية بكفاح مرير فيما بينها من أجل البقاء فيبقى القوي و يفنى الضعيف.

واستنادا إلى هذا التعريف ينبغي على كل كائن حي أن يكون قويا ومتميزا بالقوة عن الآخرين في سبيل الكفاح والبقاء. و في وسط مثل هذا لا يمكن الحديث عن بعض الميزات مثل الإيثار والتضحية والتكافل, فهذه الميزات قد تصبح ذات آثار سلبية على الكائن الحي نفسه. ويتميز الكائن الحي وفقا لهذا المنطق بمنتهى الأنانية ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البيت الذي يؤويه وأن يحمي نفسه من خطر الأعداء.

و لكن هل صحيح أن الطبيعة هي المكان الذي يضمّ كائنات حية تخوض فما بينها صراعا مريرا للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشية والأنانية ؟. إن الأبحاث الجارية بهذا الشأن حتى يومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبيعة ليست كما زعم هؤلاء من أنها تمثل ساحة للحرب بين الأحياء، إنّ الطبيعة على خلاف ذلك تحوي بين جيناتها أمثلة حية للتضحية بالنفس في سبيل الآخرين. وهناك أمثلة لا يمكن حصرها تكشف صورا غاية في التضحية من أجل الغير تملأ أركان الطبيعة ويذكر جمال يلدرم في كتابه "التطرف وقانون التطور ".

إن الأسباب التي جعلت داروين وغيره من رجالات العلم في عصره يصورون الطبيعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بين الأحياء يمكن إجمالها في النقاط التالية: كان رجال العلم في القرن التاسع عشر يقبعون في مختبراتهم أو أماكن عملهم لمدة طويلة ولا يدرسون الطبيعة ميدانيا و لهذا ذهب خيالهم ببساطة إلى الاستسلام لفكرة كون الكائنات الحية في حالة حرب صامتة فيما بينها، وعالم فذ مثل هالي Haley لم يستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).

أما العالم بتر كروبوتكين Peter Kropotkin الذي يؤمن أيضا بنظرية التطور فيذكر في كتابه Mutual Aid:A Factor in Evolution أو " الهدف المشترك : العامل المؤثر في التطور " الخطأ الذي وقع فيه داروين و مؤيدوه قائلا : داروين و مؤيدوه عرّفوا الطبيعة على أنها مكان تخوض فيه الكائنات الحية حروبا مستمرة بين بعضها البعض. و يصور هاكسلي Haxley عالم الحيوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فيه الحيوانات بصراع مرير فيما بينها و تكون الغلبة من بينها للذكي والسريع وهو الذي يستطيع العيش ليبدأ في اليوم التالي صراعا جديدا وهكذا. و يتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة ليست علمية ….(17).

وهذا الوضع يعتبر شاهدا على عدم استناد نظرية التطور إلى ملاحظات علمية، ويغلب على العلماء من دعاة هذه النظرية التزمت الفكري في دعمهم للنظرية التي يؤمنون بها من خلال تحليل بعض الظواهر الموجودة في الطبيعة وفقا لهواهم. والحقيقة أن الحرب التي يدعي داروين أنّها تنتشر في أرجاء الطبيعة تبين أنها خطأ كبير لأننا لا نجد في الطبيعة الأحياء التي تكافح من أجل البقاء فقط بل نجد أيضا كائنات حية تبذل تعاونا ملحوظا نحو الكائنات الحية الأخرى, والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحيانا على نفسها. ولهذا السبب يعجز دعاة التطور عن تفسير ظواهر الإيثار لدى بعض الكائنات الحية. و ورد في مقال صادرة في إحدى المجلات العلمية النص التالي الذي يصور عجز هؤلاء: " المشكلة تكمن في السبب الذي من أجله تتعاون الكائنات الحية، وبالنسبة إلى نظرية داروين فهي تقول إنه ينبغي على كل كائن حي أن يكافح من أجل البقاء والتكاثر، ومعاونة باقي الكائنات الحية يقلل من فرص نجاح ذلك الكائن الحي في البقاء وعلى هذا الأساس ينبغي أن يزال هذا النمط السلوكي عبر التطور، ولكن الملاحظ أن الإيثار لا يزال موجودا في سلوك الكائنات الحية (18).

وأبسط مثال على الإيثار هو سلوك عاملات النحل فإنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها وهي تعلم يقينا أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه و نظرا لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية للحشرة فإنها تسحب معها هذه الأعضاء خارجا متسببة في موت النحلة. ويتضح من ذلك أنّ النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية .

أمّا ذكر البطريق و أنثاه فيقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئا من الغذاء أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء و هي تجمعه في بلعومها وتأتي به إلى فرخها ويبديان تفانيا ملحوظا من أجل فرخهما .

و يعرف عن التمساح كنه من الحيوانات المتوحشة إلا أنّ الرعاية التي يوليها لأبنائه تثير الحيرة الشديدة, فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعكف على رعايتها وتحملها في فمها أو على ظهرها حتى تكبر و يشتد عودها و تصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها و هو الملجأ الأمين بالنسبة أليها. إن هذا السلوك يثير الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأكل أبناءها و تلتهمهم لا أن ترعاهم و تحميهم..

وهناك بعض الأمهات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها, فتتخلف الأم مع ولدها و تضل ترضعه حتى يشبع عن معرّضة حياتها لخطر جسيم. والمعروف عن الحيوانات أنها تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثا أو الذين خرجوا من البيض لمدد طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أوحتّى بضع سنين فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء و تقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين. وأغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4-20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد, أماّ إناث اللبان فأمرها مختلف إذ يتحتم عليها أن تتغذى جيدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي, وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزنا بينما تفقد الأم من وزنها بشكل ملحوظ.

أما الطبيعي و المتوقع في هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحيوانات غير العاقلة صغارها و تتركها و شأنها لأن هذه الحيوانات غير العاقلة لا تفهم معنى الأمومة أو العطف و لكنها بالعكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها و الدفاع عنها بشكل عجيب.

و لا تقوم الأحياء باتخاذ مثل هذا السلوك مع صغارها فقط وإنما قد تبدي العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحيوانات الأخرى أو الأفراد الأخرى التي تعيش معها في المجموعات نفسها، و يمكن ملاحظة ذلك عندما تشح مصادر الغذاء, فالمتوقع في مثل هذه الحالات العصيبة أن ينطلق القوي منها ليبيد الضعيف ويستحوذ على ما يوجد من الغذاء، غير أنّ الذي يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة التطور. و يورد كروبوتكين و هو معروف بتأييده لهذه النظرية أمثلة عديدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلا: يبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشحّ مصادر الغذاء بينما تبدأ الطيور بالهجرة بشكل جماعي إلى مكان آخر, كما تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والكبيرة في السن إلى جنوب الأنهار حيث تعيش هناك مزدحمة (19).

والذي يفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بين الحيوانات من أجل الغذاء بل بالعكس يمكن مشاهدة أمثلة عديدة للتعاون والتضحية بين الحيوانات حتى في أقسى الظروف. و هي تعمل في أحيان كثيرة على التخفيف من وطأة الظروف و قسوتها. و مع هذا فهناك مسألة يجب أخذها بعين الإعتبار وهي أن أيّا من هذه الحيوانات لا تملك عقلا أو فكرا يجعلها تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام. إذن فكيف يمكن تفسير تجمع هذه الحيوانات في مجموعات ذات هدف واحد وتعمل مجتمعة لتحقيق هذا الهدف المشترك؟.

بلا شك إن الذي خلق هذه الأحياء وألهمها اتباع ما ينفعها والذي يحافظ عليها هو الله رب العالمين جلّت قرته . و يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن كيفية رعايته الإلهية للكائنات "و ما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كلّ في كتاب مبين ". سورة هود الآية 6

أمام هذه الحقائق في الطبيعة تسقط ادعاءات دعاة التطور عن كون الطبيعة مسرحا للحرب لا ينتصر فيها إلا من كان أنانيا و من لا يرى سوى مصالحه فقط ويوجهJohn Maynard Smith أحد دعاة التطور المشهورين سؤالا لأقرانه في الفكر يتعلق بهذا النوع من السلوك لدى الحيوانات: إذا كان الانتخاب الطبيعي يعني اختيار الصفات الصالحة للكائن الحي والتي تضمن له بقاءه وتكاثره فكيف يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية لدى بعض الحيوانات ؟ (20)

غريزة جنسية(2)

الغريزة الجنسية: هي شعور الرجل بحاجته إلى المرأة كجسد وكعاطفة وحاجة المرأة إلى

الرجل كجسد وكعاطفة، وممكن إشباع هذه الغريزة بطرق عدة منها شرعية ومنها غير شرعية: الشرعية: عن طريق الـ زواج وهذا هو الطريق الصحيح وحث عليه الإسلام والهدف من هذه الغريزة: تكثير النسل، الطمأنينة والراحة, والغير الشرعية: عن طريق الـ الزنا وهو مانهى عنه الإسلام. 

فرويد ونيتشه(3) 

أن التقارب بين فيلسوف ارادة الاقتدار ومكتشف التحليل النفسي هو موضوع مهم للبحث ، فنيتشه هو الفيلسوف الثاني بعد شوبنهور الذي تأثر به فرويد . والكثيرين من دارسي نيتشه قد أقروا ، بشكل أو بأخر ، بنوع من الالتقاء بينهما في أكثر من مجال . كما أن نيتشه يعتبر نفسه أول عالم نفس " هكذا يحدد نفسه في كتابه " أصل الاخلاق وفصلها " ، الذي يقول عنه في هو ذا الانسان " "Ecce homo"

" لقد فهمت ثلاثة أعمال تحضيرية مهمة لعالم النفس ، بهدف قلب لكل القيم ، ويحتوي هذا الكتاب علي أول نفسانية للنفس ". أن طريقة نيتشه في عمله أعادة تقييم القيم رغم أفادتها من الفيلولوجيا والبعد التاريخي تبقي طريقة نفسانية تعتبر السبر النفساني لفهم الظاهرات التي يدرسها . كما أن هيدجر يحدد أنه عندما يتكلم نيتشه عن العلم فأنه يقصد علم النفس ، وكذلك غرانييه يري ان نيتشه يستعمل أدوات علم النفس في مجال البحث الانطولوجي . وهذا مما يشجع علي البحث في العلاقة بين نيتشه وفرويد ، وبشكل أكثر منهجية من خلال تخصيص كتاب لهذه المقاربة بين الفيلسوف ومكتشف التحليل النفسي .(1)

تتنوع المقاربة بين نيتشه وفرويد من أقاصيص حول أهتمام فرويد وجمعية التحليل النفسي بنيتشه كفيلسوف وكحالة مرضية عرضت في جمعية التحليل النفسي بمناسبتين ، بالاضافة الي زيارة كل من جونس وساش الي اليزبيت نيتشه وحديثها معها عن التقارب بين التحليل النفسي وفلسفة نيتشه ، الا أن اللقاء كان باردا ، كون شقيقية نيتشه ضد اليهود بينما التحليل النفسي هو علم يهودي ، كما يذكر الكاتب . يبقي أن نيتشه هو الفيلسوف المعاصر الوحيد لحركة التحليل النفسي الذي أظهرت الحركة تعاطفا معه . من هذه النقاط التفصيلية قول فرويد أنه لم يستطع أبدأً أن ينهي من أي كتاب لنيتشه أكثر من نصف صفحة كلما عمد الي قراءته . وأظهار تاثر بعض المحللين المحيطين بفرويد مثل أدلر ويونغ بنيتشه حيث ظهر قبل الحرب تيار فرويدي _نيتشوي . وذكر ( لو أندريا سالومي ) علي أنها الوسيط الطبيعي بين نيتشه وفرويد ، وقد عرفت الاثنين معا . وقبل أن ينطلق المؤلف الي دراسة سيسامية لنقاط الالتقاء بين فرويد ونيتشه يحدد المواقع التي يظهر فيها نيتشه في مؤلفات فرويد ، مقارنا في الفصل العاشر من " النفسية الجماعية وتحليل الانا " بين الاب الاول في القبيلة البدائية والانسان الاعلي عند نيتشه ، هذا الانسان الذي ينتظره نيتشه في المستقبل(2) مبينا عوامل التشابه بين الاثنين من خلال النمو الواسع للانا .

في القسم الثاني يعمد المؤلف الي مواجهة نيتشه بفرويد من خلال المواضيع : المنهج والاشكالات . ولابد من ملاحظة ان المؤلف باتباعه تقسيم مواده وموضوعاته في مقاربة متتابعة لكافة النقاط ، فانه يمنع امكانية تلخيص الاشكالية التي يعرض لها . اذ تتعدد التقسيمات ، محددا طريقته بانها ذهاب من الواحد الي الاخر وبالعكس لكي يستحضر مساحة مشتركة بينهما ، مساحة لا تشكل معطي بل نتيجة تأزمية ، حيث يعمد الي خلق حوار بينهما علي نفس المساحة التي تتحدد فيها الاشكالات بطريقة متساتلة أو متباينة ، وغالبا ما يبدو فرويد ونيتشه في وضعية من يقول الشئ عينه ، ولكن ليس بالنسبة للشئ عينه . مبينا أن كل من فلسفة نيتشه والتحليل النفساني لفرويد ترفضان السستمة بشدة . وبهذا الاسلوب يعمد المؤلف الي دراسة الاسس ثم المواضيع ومن ثم الرهانات .

.يعالج في القسم الاول مفهوم الغريزة ، التي تشكل دورا اساسيا ونقطة التقاء بين مشروع نيتشه ومشروع فرويد ، مع أن هذه الكلمة لا تحظي بالمعني عينه في المشروعين . وموضوع الغريزة هوالذي سيسم عمل كل منهما حيث يسمي نيتشه مشروعه وموضوعه بعلم النفس ويسمي نفسه أول عالم نفس ويعتبر فرويد من جهته أن التحليل النفسي هو علم للغرائز يتبعها بوصف نظامها النظري فيما وراء علم النفس ويتم في المشروعين طرح السؤال التالي : كيف يتم تصور العلاقة بين الغريزة والنفس وبينما يعتبر نيتشه أن الغريزة هي الشئ في ذاته يري فرويد علي انها التمثلات النفسانية لاثارات تنطلق من داخل الجسد وتتوصل الى النفسانية .انها الواقع النفسى الذى يكون على علاقة مع واقع اخر من طبيعة جسدية . ويعمد المؤلف بعد ذلك الى مقارنة ارادة الاقتدار والليبيدو حيث تساتلا بين المفهومين.

بعد ان درس مقارنا الاساس فى مشروع كلا من فرويد ونيتشه يعمد المؤلف الى تحديد المفاهيم الاخرى التى قام عليها التحليل النفسى وهى الجنسانية واللا وعى وتأويل الاحلام وفى هذه المواضيع الثلاثة نجد ان نيتشه كان سباقا على فرويد .

يتفق كلا من نيتشه وفرويد على عدم جعل الجنسانية محصورة فى الوظيفة الفيسيولوجية ، بل يتم تناولها من خلال الامور الرمزية . والى رؤية علاقتها مع غريزة المعرفة التى تبدو عند نيتشه على انها انقلاب للغريزة ضد منبعها فى الوقت عينة الذى تعبر فيه عن مقدرة هذه الغريزة . اما فى كتاب"العلم الجذل" فتبدو المعرفة على انها علاقة ما بين الغرائز وبعضها البعض يقول فى حكمة من "ارادة الاقتدار " ان ما يقال له غريزة المعرفة يجب إرجاعه الى غريزة التغلب والسيطرة. اما فرويد فانه يرى ان غريزة المعرفة لا تخضع فقط للغرائز الجنسية مع انها مهمة جدا ، اذا ان غريزة المعرفة تعمل على لذة الرؤية . وغريزة المعرفة اللا محدودة تتشيد على وظيفة تنوب عن الاشباع الجنسى . ويذهب بذلك التسائل بين التحليل النتشوى والتحليل الفرويدى انطلاقا من مبدئين مختلفين .

ويتابع المؤلف الحوار بين نيتشه وفرويد من خلال مفهوم اللا وعى والوعى، ونظرية الأحلام . حيث حيث توازي الغريزة ، اللاوعي ، الموجود في كل مكان عند نيتشه ، أذ يترك ( الديونيدسي) المجال حرا لكل قوي اللاوعي ، بينما يفرض ( الابولوني ) الشكل حيث يتمظهر الوعي . وينخرط نيتشه في صراع ضد الوعي الذي يعتبره كتطور متأخر للجهاز النفسي ، الوعي تابع للاوعي والتوتر بين الميدانين هو مشكل للمرضي . كما انه يمكن العيش من دون الوعي، الذي يشكل فقط وسيلة للترقي .. بينما يشكل مضمون اللاوعي عند فرويد تمثلا للنزوة ، والكبت ليس الا مضمون سستام ( نسق ) الاوعي . الذي يظهر عمله في عودة الكبوت . واللاوعي قابل عند فرويد الي الاستقصاء النفسي العيادي . والطريق اليه هو الحلم . وبهذا ينتقل المؤلف الي دراسة الحلم ودوره وطبيعته عند كل من الفيلسوف والمحلل النفساني . فنقاط الالتقاء بينهما متعددة فيما يخص الحلم ، نكوصية الحلم ، تحقيقه للرغبة ، انعكاسه للاوعي مع تحديده لدور الحلم كمنبع للميتافيزيقا عند نيتشه حيث أن الميت يبقي حيا كونه يظهر في الحلم .

وبعد أن ينتهي المؤلف من عرض الاسس والمواضيع عند كل من نيتشه وفرويد ، وينتقل الي دراسة الرهانات الاساسية في تشخيص الواقع الانساني الذي يوسعه علم النفس المرضي للاعصبة عند فرويد ، ونظيره" المرض الاخلاقي " عند نيتشه ، كما نجد تشخيصا للحضارة عند كل منهما . والمرض الاسمي عند نيتشه للاخلاق كلما زاد التشبيه المرضي ، واعلان زرادشت الحرب علي " المرض " يشكل أقصي مدي لنموه . هذا مع لفت النظر الي نسبية مفهوم الصحة والمرض عند نيتشه كما عند فرويد ولكن بطريقة مخالفة للاول . وفي كتاب " أصل الاخلاق وفصلها(3) " يعمد نيتشه الي معالجة المرض الاخلاقي " الحقد ، والشعور بالذنب والضمير المتعب ومثال التقشف " أما التشخيص فيتم بناء علي مفهوم نفساني أن ردة الفعل الحقيقية اي الفعل لم تتم ، وهذا ما يؤدي الي قلبها الي " انتقام خيالي " يأخذ شكل الاخلاق . بينما يتم تعريف الصحة عند نيتشه علي انها الثقة الكاملة في وظيفة الغرائز المنظمة اللاوعية . ويجد المؤلف أن ما يقوله نيتشه عن الحقد ليس الا ما يقول به فرويد حول العصاب . في الدور الذي يعطي لاثر الحادث أو الذكري علي المريض . ويبدو أن ما يحلله فرويد تحت أسم " مصير الغرائز " الي جانب الكبت والتسامي فانهما ينخرطان في آلية حميمة للحقد والشعور بالذنب . في تحليل نيتشه نلقي أن الاعصاب كلها تتذكر في حين لا يعترف نيتشه الا بالذاكرة العاطفية أي النزوية . الا أنه اذا كان نيتشه يرجع الشعور بالذنب الي مفهوم الدين الذي يحدد العلاقة بين الاجيال ، والذي وفاه الاله المسيحي بنفسه ، هذا الذي كان علي البشرية أن تفيه ، فان فرويد يرجع الشعور بالذنب الي الجنسانية ، جاعلا عقدة أوديب واحدة من أهم مشاعرالشعور بالذنب الذي يرجع الي الصراع بين الانا الاعلي والانا بخصوص نزوات اللهو وهذا يعني أن نقطة أرتكاز " العقد الاجتماعي " هو الشعور بالذنب المشتق من العقدة الابوية (فرويد) كما يتضح ذلك من كتاب " قلق في الحضارة "فرويد . ويلتقي بالتالي نقد الاخلاق عند نيتشه وتشخيص العصاب عند فرويد حول فئة الدين.

وفي نقطة أخري يتساءل المؤلف اذا لم تكن غريزة التملك عند فرويد مماثلة لارادة الاقتدار النيتشويه . ويري في غريزة التملك مصدرا للنشاط . الا ان فرويد لا يوحد حول هذه الغريزة مجمل النفسية فتبدو هذه الغريزة أقل بكثير من أرادة الاقتدار . واذا كان نيتشه قد جعل من قيمة الاخلاق مسألة اساسية في فلسفته فان فرويد يرفض ان يجعل منها اشكالا . فهي أمر بديهي بالنسبة له . وهي تشكل مع الدين المجموعة الدفاعية والمتسامية التي تملكها الانسانية في مواجهة غرائزها وتفرض العقل عليها . ولكننا نجد في عمل نيتشه حول الاخلاق أوليات مشابهة للاوليات التي يتبعها فرويد في المنطق النزوي الذي يكشفه له العصاب . اذ ان هذا الاخير يترجم الازمة الاساسية من المحرم . أما اشكال الحضارة فانه يبدو بالنسبة لفرويد ونتبشه علي أنه الاشكال الرئيسي وهو أشكال الغريزة وأشباعها حيث يطرح نيتشه أصالة الحضارة بالنسبة الي قوة الغريزة التي تعبر عنها بالتناقص مع الانحطاط الحديث الذي يعبر عن انحطاط الغريزة . ويشكل التنازع الثنائي بين الابولوني والديونيذوسي دين الحضارة اليونانية ، بينما يمثل سقراط بداية للانحطاط وذلك لسيطرة الحس التاريخي ولضعف الغرائز . أما مراحل الثقافة الكبري عند نيتشه فهي : الثقافة اليونانية القديمة ، وعصر النهضة الايطالية ، أي مرحلة التسامي الفني للغرائز الاشد بأسا .

غير أنه يلاحظ أن فرويد يتصدي لاشكال العلائق بين الغريزة / الحضارة من خلال وجهة تختلف عن طريقة نيتشه ويؤدي الي تغيير مصطلحات الاشكال وينطلق فبه من وجهة نظر ما تكلفه الحضارة للفرد . حيث تشيد كل حضارة علي الإكراه وعلي التخلي عن الغرائز . الا ان فرويد يقول في مكان أخر أن طبيعة الجنسانية نفسها انها لا توصل أبدأ الي الإشباع الكافي بانتظار شئ ما لا يأتي اطلاقا . ويعتمد نجاح الحضارة عند فرويد علي فاعلية سيرورة كبري هي تسامي الغرائز وتحويل هدفها الجنسي الاصلي الي هدف أخر غير جنسي ، وهذا ما نلقاه عند نيتشه أيضا مع فارق أساسي بين الاثنين ، اذا يتغير موضوع الغريزة ، عند فرويد ، بينما الدافع نفسه معطيا نفسه قناع غيري عند نيتشه . وكذلك يختلف موقفهما من العمل ، أذ يري فيه نيتشه أفضل شرطه تبقي علي كل فرد ملجوما ، وتمنع نمو العقل والرغبات ، ويري فيه تبخيثا لقيمة الفرد ، بينما يطرح فرويد أساس الحضارة من خلال ضرورة العمل " والابتعاد التدريجي عن الغرائز ، عند فرويد ونيتشه ، الا أن المحلل النفساني يري في ذلك أيجابية ، بينما هو دليل مرض عند نيتشه .

وانطلاقا من البحث في الحضارة يعمد المؤلف الي البحث في تمظهراتها الثلاث المهمة ، وهي الدين والفن والعلم ، مقارنا بين موقف كل من نيتشه وفرويد في هذه المسائل . وفيما يري الفيلسوف في الدين وارادة اقتدار موضوعة في خدمة المرض ، يشبه المحلل النفساني الدين بالعصاب الهجاسي ، مع فرق أن الغرائز المكبوتة في الوضع الديني هي غرائز الانانية بينما تكبت في العصاب الغرائز الجنسية .

في الفن يبرز الاختلاف بين نيتشه وفرويد ، يبدو عند الاول في قلب الغريزة والحياة ، وهو اشارة الي صحة الحضارة بينما النشاط العقلي المتزايد هو دليل انحطاط . كما انه مضاد لمرض الاخلاق وبديل عن العلم . أما فرويد فانه لا يعتبر القابلية علي الابداع مسألة تخص التحليل النفسي ، أذ ان مضمون العمل الفني ليس الا انطباعات طفولية للفنان . يبدو فرويد بالتالي معارضا للخلق الفني ، ذلك أن الواجهة الاخري للنشاط الفني ليس الا العصاب ، واللذة الفنية عند فرويد هي هوام يجعل الدفع المؤقت للكبت ممكنا . أنها لذة مسروقة من الرقابة . أذ يبدو الفن كحل للتعارض بين مبدأ اللذة والواقع .

أما العلم فأن نيتشه يجعل منه بحثا عن الحقيقة ، ويخشي أن يغزو العلم والانسان . ويكتب في " اصل الاخلاق وفصلها " أن العلم الحديث هو الشكل الاشد تجديدا لمثال التقشف . بينما يري فرويد أن العلم هو حل للتناقضات بين الدين والفلسفة وحتي الفن لانه يتأقلم مع الواقع . أما مستقبل الحضارة فأن الفيلسوف يضعه في اتباعنا طريق الفن ، بينما يراه فرويد يتم بالعودة الي العلم الذي يشكل الجزء الاقل وهما عند الانسان .

وبعد أن يعرض المؤلف لاعراض مرض كل من الفرد والحضارة ، يطرح السؤال حول العلاج لهذا المرض . كيف يعالج المرض وكيف يصاغ المرض ؟ يري نيتشه العلاج في السيطرة علي الذات بواسطة ستة طرق يبدو فيها الفرد عند نيتشه هو الذي يعالج نفسه . أما عند فرويد فأن العصابي لا يستطيع معالجة نفسه ويحتاج الي طرف ثالث : المحلل ، حيث المعالجة عند المحلل النفساني هي في اعادة تعلم السيطرة علي المقاومات الداخلية . أذت يبرز تربية تعلم السيطرة علي المقاومات الداخلية . اذا يبرز المحلل كوسيط بين الرغبة والثقافة . حيث لا لذة خارج الحضارة ، التي لا تعطي أشباعا كاملا للذة . الحل عند نيتشه يكون في الانسان الاعلي ذي النمط الامومي (عودة الطفولة ) بينما عند فرويد هناك ثمثل للقانون ، للاب . وبالتالي فأن نظامه أبوي . وأذا كان العلاج عند نيتشه يتم يتجاوز الانسان والقانون فأنه عند فرويد هو في تجاوز الفارق بين رغبة المريض والقانون .

وفي الخلاصة يري الؤلف أن كلا من نيتشه وفرويد قد وجدا نفسيهما في وضع تأكيد فعل لم يكن له مكان ، حيث أبتكر كل منهما ميدانه.

.ويري فرويد أن نيتشه قد بقي أخلاقيا ولا يستطيع أن يتحرر من اللاهوتي ، ونري هنا أثر ( لو اندريا سالومي ) ، بينما يوكد فرويد علي العلم . يبقي أن ضياع الاصل هو ما يسميه نيتشه " عدمية " وفريد " عصاب " ويعرض المؤلف بعد ذلك أثر كل من الفيلسوف والمحلل النفسي علي التفكير المادي الذي أظهر ماركس جدليته التاريخية . من خلال هذا الكتاب يبدو لنا أن بعدا من فلسفة نيتشه حاضرا في التحليل النفسي . ويمكن بالتالي القول ان المنهج النفساني ربما كان من افضل الطرق للدخول الى فلسفة نيتشه .

توضيح لبحث واقع الإنسان (4)

أولاً العقل : هو الذي بواسطته يتم معرفة الأشياء فيجب أن نعرف العقل حتى نعرف مجالاته ودوره .

تعريف العقل / أو التفكير :

هو العملية الذهنية التي تقوم بنقل الواقع بالحواس إلى الدماغ الصالح للربط مع وجود معلومات سابقة تفسر هذا الواقع

-فعقول البشر تتفاوت في التفكير والإدراك لهذا وجدت عدة أنواع للتفكير فيجب علينا معرفتها

أنواع التفكير :

أ-تفكير سطحي : وهو الحكم على ظاهر الأشياء دون التعمق فيها والتحقق في الأشياء فهذا تفكير لا يؤدي حل

ب-تفكير عميق : هو النظرة إلى السطح مع معرفة وفهم واقع الأشياء المحيطة بها وهذا أرقى من التفكير السطحي .

ج- تفكير مستنير : وهذا التفكير أرقى الأنواع وهو الوصول إلى الحل الصحيح ويضم التفكيرين السابقين وهذا تفكير أولي الألباب وكذلك ربط الشيء بما قبله أي خالقه وما بعده .

وحتى تتم عملية العقل (التفكير) لا بد من توافر أربعة أركان لهذه العملية حتى تصبح عملية عقلية متوفرة الأركان .

أركان الطريقة العقلية :

1-الواقع

2-المعلومات السابقة عن الواقع .

3-الإحساس (الحواس) بالواقع

4-دماغ صالح للربط .

ثانياً الحاجات العضوية :

وهي حاجات موجودة في جسم الإنسان ولا بد من إشباعها فإشباعها حتمي وإذا لم تشبع يموت الإنسان (مثل الأكل للمعدة – التنفس للجهاز التنفسي – الشرب ... الخ ) ويجب أن نشبع هذه الحاجات أشباع صحيح كي لا يؤدي بالإنسان إلى الخلل أو السير به إلى الهاوية لأن الخالق سبحانه ميزه بعقل على سائر المخلوقات وكرمه بنظام حتى يشبع هذه الحاجات وفق ما أراد الله لأن الخالق يعرف ما يصلح هذا الإنسان وما يفسده وقد يكون الإشباع أما صحيح أو خاطئ مثلاً اللحم يشبع المعدة ولكن لحم الخنزير حرام ولحم البقر حلال وكذلك الشراب العصير والماء يروي وكذلك الخمر ولكن العصير حلال والخمر حرام والتنفس تنفس الهواء حلال وتنفس الهروين حرام وإشباع الجنس إما بالزواج الحلال أو بالزنا الحرام وكلها تشبع .

ثالثاً الغرائز :

هي طاقات حيوية داخل الإنسان تدفعه إلى القيام بأعمال من أجل إشباعها وإذا لم تشبع إشباع صحيح تؤدي إلى القلق والضيق والغرائز عند البشر موحدة ولكن يختلف إشباعها عند الإنسان حسب المفاهيم التي يحملها ولكن الغرائز تختلف عن الحاجات العضوية السالفة الذكر وتختلف فيما يلي :

المثير الإشباع موضع الحاجة

الغريزة خارجي غير حتمي لا يؤدي إلى الموت لا يوجد مكان للغريزة أو جهاز يعرف به (مثل حب التملك)

الحاجات داخلي حتمي يؤدي إلى الموت هي الأجهزة الموجودة في الانسان كالمعدة ... الخ وهي موجودة ويمكن إحساسها.

أنواع الغرائز :

1-غريزة البقاء : وهي طاقات تدفع الإنسان إلى حب البقاء والراحة والمحافظة على نفسه ولها مظاهر عدة من أهمها (حب السيادة – حب التملك – حب السيطرة – الخوف – الشجاعة .... وغيرها )

2-غريزة النوع : وهي طاقات تدفع الإنسان إلى الحفاظ على الإنسان كإنسان بصفته أي المحافظة على النوع البشري بكل أشكاله وألوانه بعيداً عن عرقه ودينه ولونه ولها مظاهر عدة من أهمها ( حب المراءة أماً وأختاً أو زوجة – إنقاذ الملهوف – إنقاذ الغريق أو الحريق – مساعدة المحتاجين )

3-غريزة التدين : وهي طاقات تدفع الإنسان إلى التقديس أو التعظيم لكل ما هو قوي في هذا الكون وهذا ناتج عن إحساسه بالعجز والنقص والاحتياج إلى القوة التي تنظم حياته في هذا الكون الفسيح ولها مظاهر عدة نذكر أهمها (حب القوي – حب الله والانقياد له – حب الزعيم واحترامه .

هذه هي أنواع الغرائز وبعض مظاهرها ولا يمكن لأي فرد أن يزيل هذه الغرائز أو يستبدلها ولكن يستطيع إزالة المظهر وإبداله بمظهر آخر وقد شبه العلماء أن الغريزة كجذع شجرة وأن الأغصان هي المظاهر فيمكن إزالة الغصن واستبداله بآخر ولكن لا يمكن إزالة الجذع واستبداله .

مثلاً : في غريزة التدين قد يوجد مثلاً مظهر حب الزعيم والانقياد له لا يمكن إزالة غريزة التدين واستبدالها ولكن يمكن إزالة المظهر واستبداله بآخر ( حب الزعيم والانقياد له ) يرجح (حب الله والانقياد له ) إذاً هذه هي مكونات الإنسان ويجب على أي فكر من الأفكار أو مبدأ من المبادئ حتى يكون نظامه صحيح .

1-أن يقنع العقل .

2-أن يوافق الفطرة (الخلقة)

فلا بد لنا من معرفة هذه المبادئ وكيف ينظر كل مبدأ من هذه المبادئ لمكونات الإنسان وهي العقل و الفطرة (الحاجات العضوية – الغرائز) وكذلك في حل العقدة الكبرى لدى الانسان (الكون – الإنسان – الحياة) وما قبلهما وما بعدهما.

أولاً المبدأ الرأسمالي : -

1-نظرته للعقل : أنه لم يستعمل العقل في حل العقدة الكبرى عند الإنسان (الكون – الإنسان- الحياة وما قبلهما وما بعدهما ) وذلك أن المبدأ لم يبحث في كون الخالق موجود أو غير موجود ولكنه بحث للخروج بحل من أجل فض النزاع القائم بين المفكرين والفلاسفة من جهة ورجال الدين و الملوك من جهة أخرى فقد أصر كل منهم أنه على حق فقد ادعى رجال الدين و الملوك على أن لهم الحق وأنهم وكلاء الله في أرضه وكان المفكرون والفلاسفة يرون أن كل ذلك كذب وافتراء واستمر هذا الصراع إلى أن جاءت فرقة ثالثة وجاءت بفكرة الحل الوسط الاعتراف بالإله ضمناً أي أن الإله ليس له دخل في سن القوانين وتنظيم الحياة وبهذا الحل توصلوا إلى عقيدة وسطية وهي فصل الدين عن الحياة وبهذه العقيدة لم يستطيعوا أن يقنعوا العقل وبهذا تكون العقيدة للمبدأ الرأسمالي فاسدة وباطلة لأنها لم تحل العقدة الكبرى عند الإنسان .

2-نظرته للحاجات العضوية : الحاجات العضوية يتم إشباعها بشكل أو بآخر حسب عقيدته ومفاهيمه عن الحياة فأما أن تكون عقيدة باطلة وفاسدة يكون الإشباع فاسد وخاطئ وبما أنه خاطئ فيكون الإشباع حسب الهوى ومصلحة الفرد نفسه .

3-نظرية للغرائز : لقد اخطاءوا أصحاب هذا المبدأ في معرفة عدد الغرائز وذلك لعدم تفريقهم بين الغريزة والمظهر ولهذا جعلوا الغرائز كالحاجات العضوية من ناحية الإشباع من هذه ا[لأخطاء نتج ما يلي :

في غريزة البقاء : التي من أهم مظاهرها (حب التملك ) فقد اهتموا بملكية الفرد وأهملوا ملكية الجماعة وعرف باسم الخصخصة وبهذه اكبتوا غريزة عند الإنسان وهي البقاء ولم يعرفوا أن هناك ثلاث ملكيات حددها الله سبحانه وتعالى ( الملكية الفردية – ملكية الجماعة – ملكية الدولة )

غريزة النوع : عندما أخطاءوا في معرفة مثير لغريزة والإشباع فقد قالوا أن مثير الغريزة داخلي بينما هو خارجي .

أما من حيث الإشباع فقد قالوا أن إشباع الغريزة كالحاجات العضوية حيث قالوا بمجرد أن الإنسان يشبع معدته يكتفي ولكن الغريزة لا يمكن إشباعها مطلقاً إذا وجد المثير كمظهر التملك مثلا . وينتج من هذا الخطأ الاختلاط الذي نتج عنه الامراض والايدز وسوء الاخلاق ... وغيرها وتفشي الرذيلة في المجتمع.

غريزة التدين : من عقيدتهم نعرف أنهم اعترفوا بالاله ضمناً فجعل بعضهم يعبد ما يشاء وبعضهم يقدس الرهبان والقسسين وبعضهم يقدس الزعماء وغيرها وبذلك فصلوا الدين عن الدولة .

المبدأ الاشتراكي :

1-نظرته العقل : انكر الاشتراكيون الخالق وبذلك يتعارض مع خلقه الإنسان وعقليته وتساؤلاته عن الكون والانسان والحياة وما قبلها وما بعدهما ففشل في اقناع العقل وحل العقدة الكبرى عند الإنسان وبهذا تكون فكرتهم غير مبنية على العقل وليست مقنعة للعقل ، وجاءت هذه النظرية نتيجة لفساد رجال الدين والأباطرة مما أدى إلى إنكار الخالق وهذه النظرية هي ( لا إله والحياة مادة ) وبذلك يدلل الاشتراكيون على أن المادة في تطور مستمر وإن الإنسان نتج عن هذا التطور .

2-الحاجات العضوية :

أما الحاجات العضوية فكان اشباعها اشباع خاطئ حيث يتعارض مع خلقة الإنسان فقاموا بتحديد كمية المأكولات للناس مع أن قدرات الناس تتفاوت وكذلك أذواقهم للأشياء تختلف من شخص لآخر .

3-الغرائز :

أ-غريزة التدين : فقد أنكر الاشتراكيون وجود الاله وبذلك اكبتوا أهم غريزة عند الإنسان التي أن أشبعت إشباع صحيح أشبعت بقية الغرائز إشباع صحيح .

ب-غريزة البقاء : من أهم مظاهرها التملك فقد كبت الاشتراكيون هذه الغريزة بإعطاء ملكية الأفراد للجماعة وجعلت الفرد لا يملك ونتج من هذه ما يسمى بالتأميم وبذلك يكونوا قد خالفوا فطرة الإنسان التي فطره الله عليها .

ج-غريزة النوع : وعندما انكر الاشتراكيون الإله كان من البديهي أن يضع الإنسان قوانين بما تناسب مصالحه ومصالح الأفراد وتتفاوت من شخص لآخر فقد كان إشباع هذه الغريزة إشباع بهائمي وأصبح المحافظة على النوع البشري حفاظ مؤقت للمصلحة وكانت السعادة عندهم تعني اعطاء الإنسان القدر الكافي من المتع الجسدية .

المبدأ الاسلامي :

1-نظرته للعقل : لقد توصل الإنسان المسلم لمعرفة الخالق بالعقل وذلك عن طريق التفكر في مخلوقاته وبهذا التفكير المستنير الذي توصل به إلى معرفة الخالق لهذا الكون والإنسان والحياة وما قبلهما وما بعدهما فقد حل العقدة الكبرى عنده وحل جميع تساؤلاته وبهذا أصبحت عقيدته ( لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) مبنية على العقل بناءً صحيح وبذلك أصبح على المسلم الإيمان بالله تعالى وبكل ما جاء به عن طريق رسله عليهم السلام من نظام يسير به أمور هذه الحياة .

وقد دعانا القرآن في كثير من الآيات التي تدعونا إلى استعمال العقل والتفكر في مخلوقات الله قال تعالى : ( افلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت ) سورة الغاشية 16-20 .

وأن الإسلام علمنا كيف نستخدم العقل في العقائد وهو التفكير والإدراك أما الأحكام الشرعية التسليم . وبهذا كله فقد توصل العقل إلى حل العقدة الكبرى عند الإنسان وبهذا فقد اقتنع العقل

2-نظرته للحاجات العضوية : يشبع الإنسان حاجاته على حسب عقيدته فعقيدة المسلم تحرم عليه أشياء وتحلل عليه أشياء فيجب على المسلم الالتزام بكل ما جاء في الشرع فلا يأكل حرام ولا يشرب حرام ولا يلبس حرام .

3-نظرته للغرائز : بما أن الله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح العبد فقد جعل لكل غريزة في هذه الغريزة ما يكفي لإشباعها حتى لا يصاب بالضيق والقلق ويشعر بالسعادة في الدنيا والآخرة .

أ- فغريزة البقاء : من مظهرها التملك فقد جعل الإسلام أمور عدة يمتلك فيها الفرد وأن الإسلام حدد له كيف يملك ولم يحدد له كم يملك فجعل له أسباب التملك ( العمل – الإرث – الهبة – الأعطية – المال من أجل الحياة ولقد نظم الإسلام الاقتصاد للإنسان وقسم الملكيات إلى ثلاث أقسام ملكية الفرد – ملكية الجماعة – ملكية الدولة ولم يكبت أي نوع من التملك ولاكن جعل له مصادر وطريقه لتوزيعه والانتفاع به بطريقة شرعية .

ب-غريزة التدين : لما اقتنع المسلم بالخالق وأمن به وجب عليه الطاعة له والانقياد لأوامره والابتعاد عما نها عنه وكذلك جعل إشباع هذه الغريزة بالعبادات والطاعات وكذلك طاعته وانقياده وحبه للأمير امتثال لأمر الله الذي أمره بذلك قال تعالى : ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )

ج-غريزة النوع : فقد جعل الإسلام المحافظة على النوع البشري من أهم الأشياء في هذا الكون فقد حرم الإسلام قتل النفس إلا بالحق وقال صلى الله عليه وسلم ( لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقت دم امرءٍ مسلم ) .

كذلك جعل الله لإشباع هذه الغريزة بالزواج والتكاثر وإعمار الأرض والمحافظة على بقاء هذا النوع بغض النظر عن الدين والعرق واللون فجعل انقاذ الغريق وانقاذ الملهوف ومساعدة المحتاجين فجعل الزكاة وجعل الصدقة . وقد كرم هذا الإنسان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم( لا فرق بين عربي ولا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح )

وبهذا توصلنا إلى أن المبدأ الإسلامي هو المبدأ الوحيد الذي اقنع العقل ووافق الفطرة وبذلك يصبح الإسلام هو العلاج للإنسان والمنظم لحياته .

المشاكل السلوكية التي تجابه أبناءنا(5)

أولاً : المشاكل السلوكية الفطرية :

ثانياً : الغرائز أو الدوافع وأنواعها ،وأثرها في السلوك :

ثالثاً : سبل تهذيب الغرائز ، والسمو بها :

*********

أولاً ـ المشاكل السلوكية الفطرية :

ونقصد بهذا النوع من المشاكل تلك التي تنشأ ، أو تظهر لدى أبنائنا وبناتنا نتيجة لدوافع فطرية يطلق عليها عادة  [ الغرائز ] ولابد لنا قبل البحث في هذا النوع من المشاكل أن نستعرض تلك الغرائز البشرية لكي نقف على ما يمكن أن يسببه التعامل معها لأبنائنا من مشاكل سلوكية ، بغية معالجتها . ذلك أن الغرائز البشرية هذه لا يمكن كبتها ، أومحوها ،أو تجاهلها على الإطلاق ، ولكن يمكننا السمو بها وجعلها مصدر خير لأبنائنا ومجتمعنا ، وبذلك نكون قد حققنا هدفنا في تنشئة أبنائنا  نشأةً صالحة وجنبناهم الكثير من الشرور ، ذلك أن الغرائز يمكن أن تكون مصدر شر وأذى إذا ما تركت وشأنها ، ويمكن أن تكون مصدر خير إذا ما سمونا بها وسيطرنا عليها بشكل علمي وعقلاني دون اللجوء إلى القسر والقمع الذّين يمثلان نقيضاً للطبيعة البشرية التي لا يمكن قهرها . 

أما أنواع الغرائز [ الدوافع ] فهي : (6)

1 ـ غريزة الخلاص .

2 ـ غريزة المقاتلة .

3 ـ غريزة حب الاستطلاع .

4 ـ غريزة الأبوة والأمومة .

5 ـ غريزة البحث عن الطعام .

6 ـ غريزة النفور

7 ـ غريزة الاستغاثة .

8 ـ غريزة السيطرة .

9 ـ غريزة الخضوع .

10 ـ غريزة حب التملك .

11 ـ غريزة حب الاجتماع .

12 ـ غريزة الهدم والبناء

13 ـ غريزة الجنس .

14 ـ غريزة الضحك .

ولابد لنا أن نشير ولو بشكل موجز إلى كل واحدة من هذه الغرائز ، وما يمكن أن تسببه من سلوك إيجابي أو سلبي ، وكيف يمكن السمو بها وتوجيهها لما فيه خير أبنائنا وبناتنا .

1ـ غريزة الخلاص :

وتستثار هذه الغريزة عادة عند شعور الأطفال بخطر ما  يجعلهم يلجئون إلى الهرب شعوراً منهم بالخوف . فلو فرضنا أن حريقاً شب في صف من الصفوف ، فإننا نجد الأطفال يتراكضون وقد تملكهم الرعب والفزع ، لينجوا بأنفسهم من الحريق والموت ، وهنا تظهر أيضاً انفعالات لغريزة أخرى هي غريزة [الاستغاثة ]فيعمد الأطفال إلى الصراخ وطلب النجدة ، شعوراً منهم بالخطر .وقد يتحول الخوف إلى نوع من الهلع الحاد وينتاب الطفل مشاعر غريبة وفريدة إلى حد كبير .

ما هو موقفنا من هذه الغريزة ؟

إن من الطبيعي أن يكون موقفنا منها ذا شقين :

 الشق الأول : تبيان مخاطر النار لأطفالنا ، وما تسببه الحرائق من خسائر في الأرواح والممتلكات ، كي نبعدهم عن اللعب والعبث بالنار ، أو الاقتراب منها أو إشعالها ، وأن نوضح لهم أن الحرائق تبدأ عادة بعود ثقاب ، أو بشرارة نارية أو كهربائية ، لكنها سرعان ما تشتد وتتسع بحيث يصعب السيطرة عليها بسهولة ، وبدون خسائر مادية وبشرية كبيرة .

الشق الثاني :  ينبغي لنا أن لا ندع الخوف والهلع يسيطر على أبنائنا فيسبب ما سبق أن ذكرنا من مضار ومخاطر ، ذلك أن الخوف والهلع في المواقف هذه يفقد القدرة على التفكير والتصرف الصائب وينبغي علينا أن نستثير فيهم روح الشجاعة والأقدام والاتزان ، وعدم الارتباك  والتصرف الهادئ في مثل هذه المواقف .

2 ـ غريزة المقاتلة :

 إن موقفنا من هذه الغريزة يجب أن يتصف بالحكمة والدقة . فلو أن أحد الأبناء تخاصم مع أحد زملائه لأنه وقف حائلاً أمام رغبته في تحقيق أمر ما ، فعلينا أولاً وقبل كل شيء أن نتفهم السبب الحقيقي للنزاع ، لكي نتعرف على ما إذا كان الموقف يستحق المقاتلة والخصام أم لا ؟ وينبغي أن نفهمه أن اللجوء إلى المقاتلة قبل استنفاذ الوسائل السلمية  أمر غير مقبول ، وأن الواجب يقتضي منه مراجعة إدارة المدرسة إن كان متواجداً فيها  ومراجعة ذويه إن كان خارج المدرسة ، إذ أن التسرع واللجوء إلى العنف يعرض النظام العام للانهيار فلا تستطيع المدرسة أن تؤدي عملها ، و لذلك فعليه الاستعانة بإدارة المدرسة قبل اللجوء إلى استعمال القوة ، وعلى إدارة المدرسة أن تأخذ المسألة بشكل جدي وتجري التحقيق اللازم في الأمر بشكل دقيق ومعالجة المشكلة بشكل يجعل التلميذ يؤمن بأن مراجعته إدارة المدرسة يؤمن له حقه ، إن كان على حق طبعاً ، فلا يلجأ للقتال .

ولا شك أن الأطفال والمراهقين ذوي الاضطرابات الأخلاقية يمارسون أحياناً سلوكيات تتسم بالعدوان ، والاندفاع ، والتدمير ، على الرغم من الجهود المضنية التي تبذل من قبل المربين لتعديل سلوكهم وهم يمارسون عملية انتهاك حقوق الآخرين باستمرار ، ولا يلتزمون بالمعايير الاجتماعية بما يتناسب مع عمرهم الزمني ، و يستمرون بممارسة هذا السلوك على الرغم من تعرضهم مراراً وتكراراً للعقاب ، ويصرون على ممارسة [السلوك العدواني والمواجهة البدنية] مع الآخرين ،كما يتسمون [بالعناد وعدم الخضوع ]، [والإخفاق في الأداء ]سواء في المنزل او المدرسة ، وإلى [استعمال المواد المخدرة ]، و[تكرار الإهمال ]، و[التهرب من البيت أو المدرسة ]، و[تخريب الممتلكات العامة والخاصة ]، و[الانحراف الجنسي ]و[السرقة ]وغيرها من الآفات الاجتماعية الأخرى التي قد تتضمن مواجهة جسدية عدوانية [ السرقة بالإكراه ] ، أو الاعتداء الجنسي العنيف  [الاغتصاب ] وقد تمتد هذه السلوكيات إلى العراك مع الأقران ،والاعتداء على الآخرين والهجوم عليهم ،والاغتصاب والقتل .(7)

إن معالجة هذا النوع من السلوك المنحرف تتطلب جهوداً كبيرةً وأساليب معقدة ،وصبراً وأناةً طويلين ، ومتابعةً مستمرةً من قبل البيت والمدرسة معاً ، وقد يتطلب ذلك علاجاً نفسياً وصحياً .

أن هناك البعض ممن يقف من المقاتلة موقفاً سلبياً بشكل مطلق فيسبب موقفهم هذا ببث روح المذلة والخنوع والانهزامية في نفوس الناشئة ، فهناك مواقف ينبغي أن تتميز بالشجاعة والإقدام دفاعاً عن الحقوق المغتصبة ، فالجندي الذي نطلب منه أن يدافع عن وطنه وشعبه ضد المعتدين لا يستطيع القيام بواجبه على الوجه الأكمل إذا قتلنا فيه روح الشجاعة والإقدام في المراحل الأولى من حياته.

ينبغي أن يكون موقفنا من هذه الغريزة موقفاً إيجابياً قائماً على أساس سيادة القانون والنظام أولاً ، والدفاع عن الحقوق والكرامة ثانياً ، فلا

اعتداء على الأخوان والأصدقاء والزملاء والجيران ، ولا خنوع وخضوع وجبن أمام المعتدين.

3 ـ غريزة الأبوة والأمومة :

تستثار هذه الغريزة في المراحل الأولى من حياة أبنائنا وبناتنا عند تعرض الآخرين لحادث ما ، فيلجأؤن إلى مساعدتهم . وطبيعي أن هذه الغريزة تحمل جانباً خيراً بشكل عام ، فعندما يسقط أحدهم ويصاب بجرح أو كسر في يده أو رجله نجد زملائه يسارعون إلى إليه بحنو وعاطفة ليقدموا له المساعدة وقد بدت عليهم علامات الحزن والأسى . إن هذه الغريزة لها أهمية قصوى في تربية أبنائنا على روح المحبة والتعاون ، حيث أن المحبة والتعاون ركنان أساسيان من الأركان التي يبنى على أساسها المجتمع ، وهي السبيل لتقدمه ورقيه وتطوره ، ورفاهه .

أما في مرحلة النضوج فمعروف أن هذه الغريزة هي الأساس في بقاء وتطور المجتمعات حيث يطمح الأبناء والبنات البالغون في تكوين الأسرة ، وإنجاب الأطفال وتربيتم في جو من الحنان والحب يصل إلى درجة التضحية بالنفس في سبيلهم ، فنراهم يكدون ويتعبون طوال النهار من أجل تأمين الحياة السعيدة والعيش الهانئ لأبنائهم ، ولولا هذه الغريزة لما تحملت الأم ، ولا تحمل الأب تبعات  المصاعب والمشاق التي يصادفونها في تربيتهم ومساعدتهم في بناء مستقبل يليق بهم .

4 ـ غريزة حب الاستطلاع :

تستثار هذه الغريزة لدى أبنائنا عندما يكون الأبناء أمام أمرٍ يهمهم معرفته، وقد يكون لهم معرفة  بجزء منه ، وهذه الغريزة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للناشئة لأن استثارتها تدفعهم إلى اكتشاف الحقائق بأنفسهم ، والحصول على الخبرات التي يحتاجونها في حياتهم  ، كما تدفعهم إلى الدراسة والتتبع باستمرار ، حتى في الكبر ، بغية الوقوف على كل ما يجري من تطور وتغير في فيما يحيط بهم .

وهناك نقطة هامة ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا هي أن هذه الغريزة يمكن أن يكون لها تأثير سلبي ضار في بعض الحالات وينبغي أن ننبه أبنائنا بأخطارها وسأورد هنا مثالاً على ذلك :

في أحد دروس العلوم شرح المعلم لتلاميذه كيف يمكن ممغطنة قطعة من الحديد ، وذلك عن طريق لفها بسلك وربطها بتيار كهربائي .وعندما عاد التلاميذ من المدرسة حاول أحدهم أن يقوم بالتجربة بنفسه ، فأخذ قطعة الحديد ولفها بسلك ووصلها بالتيار الكهربائي بشكل غير صحيح فكانت النتيجة أن صعقه التيار الكهربائي وسبب له الوفاة ، لقد كان الواجب على المعلم أن يجري التجربة أمام التلاميذ بشكل يؤمن السلامة ، و يحذرهم من خطورة الكهرباء إذا ما تمت التجربة بشكل خاطئ.

5 ـ غريزة البحث عن الطعام :

وهي من الغرائز الهامة لبقاء الحياة واستمرارها ، وتظهر بعد الولادة مباشرة ، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الطعام ، وغالباً ما تستثار هذه الغريزة عند ما نشم رائحة الطعام الشهي أو تقع أبصارنا على الحلويات وغيرها ، ويشعر الإنسان ، عن طريق حاسة الذوق ، بلذة كبيرة وهو يتناول ما يشتهيه من تلك الأطعمة والحلويات . إن هذه الغريزة تفعل فعلها لدى الكبار والصغار على حد سواء . ورغم أن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام لكي يبقى على قيد الحياة ، فأن تناول الطعام بغير اعتدال يعطي نتائج سلبية على صحة الإنسان ، حيث يسبب السمنة والتي بدورها تسبب العديد من الأمراض الخطيرة كالسكري وأمراض القلب ، وتسوس الأسنان، وغيرها من الأمراض الأخرى ، مما يتطلب منا تعويد أبنائنا على العادات الغذائية الصحيحة.

كما أن هذه الغريزة تدفع بالكثير من الصبيان الذين لا يجدون لديهم النقود لشراء الحلويات إلى السرقة من المحلات لإشباع هذه الغريزة ، ولذلك يجب على الآباء والأمهات إشباع هذه الرغبة لدى الأبناء وعدم التقتير عليهم لكي لا يتجهوا نحو السرقة التي يمكن أن تتأصل لديهم إذا ما استمروا عليها لفترة من الزمن .

6 ـ غريزة النفور :

هذه الغريزة نجدها لدى الصغار والكبار على حد سواء حيث أن الإنسان بطبيعته يتحسس الروائح أو المشاهد المختلفة ، فنراهم ينفرون وتتقزز نفوسهم من الروائح الكريهة ، أو من المشاهد المؤلمة ، وعلى العكس نجدهم يتمتعون برؤية المشاهد الجميلة والمسرة ، ويستمتعون بشم الروائح العطرة ولذلك نجد الأبناء ، وخاصة المراهقين منهم يسعون إلى الاهتمام بمظهرهم ورائحتهم من أجل لفت انتباه الآخرين وخاصة من الجنس الآخر .

وهناك جانب آخر من النفور نجده لدى البعض تجاه البعض الآخر، وخاصة في صفوف المراهقين  بسبب لون البشرة ، أو القومية ، أو الدين أو غيرها من المبررات ، وهو يمثل جانباً خطيراً يهدد سلامة المجتمع ويعمل على تمزيقه ، وخلق استقطاب وتنافر وصراع يصعب معالجته إذا ما استمر وتوسع ، دون أن يواجه على المستويين الرسمي والشعبي .

 ولاشك أننا نشهد اليوم تصاعد موجة معاداة الأجانب من قبل العديد من المراهقين في مختلف البلدان الأوربية ، بسبب لون بشرتهم أو جنسهم ، ووقوع الاعتداءات البدنية الشديدة التي وصلت في بعض الأحيان إلى القتل ، مما يستدعي الواجب من الحكومات والمجتمع  أن يعطيا هذه المشكلة أهمية كبيرة ، حيث يقيم في المجتمعات الغربية أعداد كبيرة من المهاجرين ، والعمل على استنفاذ كل الوسائل والسبل لخلق روح من الألفة والمحبة والتسامح والتعاون بين أبناء هذه المجتمعات والمهاجرين ، ومحاولة ربط جسور من الروابط التي تجعل التعايش فيما بينهم أمرٌ طبيعي بكل ما تعنيه الكلمة .

ولاشك أن المسألة تتوقف علينا جميعاً ،كباراً وصغار، سواء كنا مواطنين أو مهاجرين ، مسؤولين وغير مسؤولين ، أن نبذل أقصى ما يمكن من الجهود لمعالجة الوضع ،  فإذا ما تكاتفت الجهود الصادقة أمكننا تحقيق الهدف المنشود في خلق مجتمع تسوده المحبة والمودة والسلام.

7ـ غريزة السيطرة :

ونجد هذه الغريزة ظاهرة لدى كل من يشعر أنه في مركز قوي ، وكلما ازداد شعوره بالتفوق بالقوة تتجلى لديه هذه الغريزة بشكل واضح .أن هذه الغريزة تحتاج منا أن نعيرها اهتماماً بالغاً، فلا ندعها تسيطر على سلوك أبنائنا وتدفعهم إلى العنف والاعتداء على إخوانهم وزملائهم بغية فرض سيطرتهم عليهم بوسائل العنف .

ولابد أن أشير إلى أن هذه الغريزة لا تقتصر على الأفراد فحسب ، بل تتعداها إلى الجماعات في المجتمعات القبلية ، وكذلك الحكومات والدول ، وما الحروب التي شهدناها ونشاهدها اليوم إلا وكانت بدافع السيطرة  على الشعوب واستغلالها، ونهب ثرواتها . ولابد لي أن أشير إلى أن السمو بهذه الغريزة يمكن أن يدفع الإنسان إلى تحويل سيطرته على أخيه الإنسان ،إلى السيطرة على الطبيعة وكشف أسرارها ، والتنعم بخيراتها ، وفي ذلك تنتفي الحاجة للحروب ، وتسود المحبة والتعاون والتعاطف كافة شعوب الأرض .

8 ـ غريزة الخضوع :

إن هذه الغريزة هي على النقيض من غريزة السيطرة ، ونجدها لدى الإنسان الذي يشعر أنه في موقف خطير وصعب وضعيف ، لكي يحمي نفسه من بطش الآخرين . ونستطيع أن نستدل على خضوعه وخنوعه من موقف الأبناء تجاه آبائهم أو معلميهم الأشداء في تعاملهم . ولا تقتصر هذه المواقف على الصغار بل تتعداها إلى الكبار في ظل المجتمعات التي تُحكم بأسلوب دكتاتوري يستخدم العنف وأساليب البطش والإرهاب ضد أبناء الشعب ، كما هو الحال في الكثير من بلدان وخاصة بلدان العالم الثالث التي تقودها حكومات ديكتاتورية ، حيث تحكم شعوبها بالحديد والنار وأقسى أساليب الإرهاب وكم الأفواه .

إن هذه الغريزة يمكن أن تكون مصدر ضرر كبير لأبنائنا ،حيث تخلق لديهم روح التخاذل والانهزام والجبن ، والشعور بالنقص ، وضعف الشخصية .

 وعليه فالواجب يتطلب منا ،كمربين ،أن لا ندع العلاقة بيننا وبين أبنائنا قائمة على أساس الخوف والرهبة ،والطاعة العمياء التي تحطم شخصيتهم ، بل ينبغي أن يكون التعامل قائماً على أساس الاحترام والمحبة والعطف لكي لا ندع هذه الغريزة تؤثر على نشأت أبنائنا فتضعف شخصيتهم وتفقدهم الثقة بالنفس .

 9 ـ غريزة حب التملك :

وتبدأ هذه الغريزة بالظهور لدى الأطفال في سن مبكر جداً ، حيث يمر الطفل بمرحلة تدعى [ الأنا] وفي هذه المرحلة يشعر الطفل أن كل ما حوله من الأشياء يعود إليه، ويحاول الاستحواذ عليها ، ويبدأ بالبكاء والصراخ إذا ما حاولنا نزعها منه بالقوة .وكثيراً ما تخاصم الأطفال بسبب ذلك وقد يلجأ إلى الضرب أو العض دون إدراك منه . وعندما يكبر الطفل تبدأ هذه الغريزة بالتطور  ، فنراه  يسعى إلى الحصول على الأشياء كالألعاب وغيرها بالطلب من أبويه تلبية مطالبه ويحاول التمرد والعصيان إذا لم تلبى تلك المطالب ، وخاصة عندما يرى لدى البعض من زملائه تلك الأشياء ولا يمتلكها هو أسوة بهم .

إن على الآباء والأمهات أن يلبوا تلك الحاجات لدى أبنائهم قدر الإمكان ،على أن لا تتجاوز حدود المعقول وحدود إمكانياتهم المادية ، فلا تقتير ، ولا تلبية كل ما يُطلب منهم ، لأن كلتا الحالتين تسببان لأبنائهم الضرر البليغ ، وعلى الآباء والأمهات أن يكافئوا أبنائهم إذا تفوقوا في دروسهم ،وإذا ما كانوا حسني السلوك والتعامل مع إخوانهم وأخواتهم وزملائهم .

إن غريزة حب التملك تستمر لدى الإنسان طوال حياته حيث يطمح كل فرد في أن يمتلك على سبيل المثال مسكناً وأثاثاً فاخراً وسيارة ، وأن يلبس الملابس الأنيقة ، وأن يكون لديه من المال ما يمكنه من إشباع كافة حاجاته المادية ، وقد يلجأ البعض إلى الأساليب النظيفة والشريفة لتأمين تلك الحاجات ، وقد يلجأ البعض الآخر إلى مختلف أساليب الغش والاحتيال والسرقة والاغتصاب للحصول على ما يبتغيه ، وقد يسعى للإثراء غير المشروع سالكاً كل الطرق ،ومستخدماً كل الوسائل في سبيل ذلك . وهكذا تبدو لنا هذه الغريزة كسيف ذو حدين ، ولذلك فأن علينا أن نربي أبنائنا منذ الصغر على الأمانة والعفة ، وعدم التجاوز على حقوق الغير أو ممتلكاتهم ، وبسلوك الطريق الصحيح في الحصول على الأشياء ، وعلينا أن ننمي الجانب الإيجابي في هذه الغريزة ونكبح جماح جانبها السلبي قدر المستطاع .

ولابد أن أشير هنا إلى أن هذه الغريزة تفعل فعلها بشكل صارخ وعدواني على مستوى الدول والحكومات ، والكثير من الرأسماليين الذين يستخدمون كافة الوسائل والسبل للاستحواذ على ثروات الشعوب الضعيفة ونهب خيراتها وتركها تئن تحت وطأة الجوع والعري والمرض والتخلف فلقد شهد النصف الأول من القرن العشرين هجمة استعمارية من قبل العديد من الدول الأوربية ، واليابان والولايات المتحدة كان ضحيتها الشعوب الضعيفة ،من أجل أن يملأ المستعمرون جيوبهم بمليارات الدولارات على حساب بؤس وتعاسة تلك الشعوب ،التي رزحت لعشرات السنين تحت نير الاستعمار ، ودفعت ثمناً غالياً من دماء أبنائها ،من أجل استعادة حريتها واستقلالها وثرواتها .

10ـ غريزة حب الاجتماع :

لا يستطيع أي إنسان ، طفلاً كان أم بالغاً ، كبيراً أم صغيراً ، ذكراً أم أنثي أن يحيا حياة منعزلة عن الآخرين . أنها غريزة حب الاجتماع التي تظهر لدى الإنسان منذ طفولته المبكرة فنراه إذا ترك لوحده يبدأ بالبكاء والصراخ ، ولا يشعر بالأمان ، وتتصاعد رغبة الطفل كلما نما وكبر ،فنراه ميالاً إلى لقاء غيره من الأطفال واللعب معهم ، وقد يقضي معهم الساعات الطوال دون أن يحس بالوقت، ولا يمكن لنا أن نحجزه بين أربعة جدران لوحده ، وحتى لو كنا معه في البيت فإنه يبقى بحاجة إلى الخروج واللعب مع أقرانه الأطفال .

إن هذه الغريزة تحمل الجانب الإيجابي أكثر من الجانب السلبي ، حيث يُكّون الطفل علاقات اجتماعية تخلق روح المحبة والتعاون لديه . لكن على الآباء والأمهات أن يحرصوا على حماية أبنائهم من رفاق السوء لئلا يصيبونهم بالعدوى ويصبحون مثلهم شاءوا  أم أبوا ، ينبغي أن نحرص على جعل أبنائنا يختارون الأصدقاء الذين يتصفون بالأخلاق الفاضلة ،والصفات الحميدة ، وعلينا كمربين أن نراقب علاقاتهم بالأصدقاء ، ونتعرف باستمرار على أوضاعهم  وسلوكهم وتصرفاتهم للحيلولة دون صدور أي تصرف منهم يسيء إليهم وإلى المجتمع ، وعدم تركهم وشأنهم ، فينحرفون ويجرفون معهم غيرهم إلى طريق السوء .

ولا شك أن الإكثار من النشاطات اللاصفية في المدرسة ، وبإشراف معلميهم ، من رياضة وتمثيل وخطابة ورسم ونحت وغيرها من النشاطات المفيدة تمكننا من السمو بهذه الغريزة ، وتعزز العلاقات الاجتماعية بين التلاميذ ، وتخلق فيهم روح المحبة والاخوة والتعاون ، إضافة إلى تنمية مواهبهم وقدراتهم في مختلف المجالات الفنية والأدبية والاجتماعية .

 11 ـ غريزة الحل والتركيب  :

أن هذه الغريزة ذات أثر بالغ في تربية أبنائنا إذا ما وجهناها التوجيه الصحيح ، أنها تنمي فيهم روح المتابعة والاستطلاع والابتكار ،وتنشط ذكائهم وقابليتهم ،وينبغي لنا أن نقدم لهم كل دعم ومساندة ، والإجابة على كل استفساراتهم ،ومساعدتهم على تخطي كل الصعاب.

غير أننا ينبغي أن لا ندع الأطفال يعبثون بأشياء أو أمور ذات خطورة لا طاقة لهم بها ولا معرفة ، فيسببون لهم المخاطر والأذى إضافة إلى التخريب والضرر .

وبالإمكان شراء بعض أنواع الألعاب التي تعتمد على الحل والتركيب والتي لا يسبب لهم استعمالها أي ضرر بدني .

 12 ـ الغريزة الجنسية  :

وتعتبر هذه الغريزة من أقوى الغرائز البشرية وأخطرها في الوقت نفسه ، أنها غريزة البقاء للجنس البشري ، والتي تتشابك مع غريزة الأبوة والأمومة لتكونا معاً اتحاداً مقدساً يجمع بين الذكر والأنثى لكي تنشأ الخلية الصغيرة في مجتمعنا أي [ الأسرة ] حيث يكّون مجموع الأسر المجتمعات البشرية .

تبدأ هذه الغريزة بالظهور منذ مراحل الطفولة الأولى بشكل بسيط وبدائي في بادئ الأمر ، لكنها سرعان ما تتطور في بداية مرحلة المراهقة وتشتد عنفواناً ، حيث نجد الأبناء  يميلون كل إلى الجنس الآخر [الذكر والأنثى ] ويأخذ الجنس بالسيطرة على تفكيرهم باستمرار ، ولذلك فأن مرحلة المراهقة تعتبر اخطر مراحل النمو ، وأكثرها حاجة لإشراف الأباء والأمهات والمربين وتقديم النصائح والإرشادات للمراهقين غير مكتملي النضوج والذين يمكن أن يتعرضوا لأخطار كثيرة إذا أهملنا واجبنا كمربين وتركناهم يتخبطون في سلوكهم وتصرفاتهم .

 ينبغي أن نعطي اهتماماً كبيراً للتربية الجنسية ، سواء في البيت أو المدرسة ،وعدم التهيب من إعطاء أبنائنا وبناتنا المعلومات الكافية عن الحياة الجنسية ، وينبغي لنا أن ندرك أن الاضطراب العصبي الذي نجده لدى المراهقين عائد في الواقع لتهديدهم من الاقتراب من المسألة الجنسية .

إن سياسة السكوت وحجب الحقائق الجنسية عن الأبناء تؤثران تأثيراً سلبياً بالغاً عليهم ،إضافة إلى أنهم  سيدركون أن ذويهم يكذبون عليهم ، وهم سوف يجدون الحقيقة عاجلاً أم آجلاً ، و عندما يكتشفونها فإنهم سوف لن يستمروا بمتابعة طرح الأسئلة على ذويهم ، وسوف يستعيضون عن ذلك بالحصول على كل المعلومات المتعلقة بالحياة الجنسية من زملائهم الآخرين .

 إن الكذب على الأبناء عملُ غير صحيح وغير مرغوب فيه ، وإن المعلومات عن المواضيع الجنسية ينبغي أن تعطى لهم تماماً بنفس اللهجة ، ونفس الشيء من المعلومات عن المواضيع الأخرى ، وأن تعطى بنفس الحديث المباشر . (8)

وإذا كان الوالدان غير قادرين على التحدث مع أطفالهم بشكل طبيعي في المواضيع المتعلقة بالجنس فسيدعونهم يستمعون إلى الآخرين الذين هم أقل تمسكاً بالتقاليد وقيم العائلة ، وليس هناك أية صعوبة ، قبل البلوغ ، في جعل الطفل يبقى طبيعياً بالنسبة للجنس ، تماما كما في المواضيع الأخرى وحتى بعد البلوغ سوف تكون أقل بكثير عندما ينعمون بصحة سليمة أكثر مما عندما تكون عقولهم قد امتلأت بالرعب والحرمان غير المعقول . (9)

إن التضحية بالذكاء في سبيل الفضيلة عن طريق جعل الأولاد مشغولين ومتعبين جسدياً ، كي لا تكون لديهم فرصة أو ميل للجنس يسبب لهم الأضرار التالية : (10)

 1 ـ يغرس رعباً وهمياً في عقول الأولاد .

 2 ـ يسبب نسبة كبيرة من الخداع  .

 3 ـ يجعل الفكر والشعور في المواضيع الجنسية مشيناً ووهمياً .

 4 ـ يسبب تشوقاً فكرياً يظهر مخطئاً ومدمراً ، أو يصبح مؤذياً قذراً يفقد الراحة ،ويعيق الإدراك. 

إن من المهم في جميع تصرفاتنا مع الأطفال أن لا نشعرهم أن الحصول على فكرة عن الجنس هو شيء قذر وسري ، إن الجنس موضوع هام جداً، ومن الطبيعي للمخلوقات البشرية أن تفكر به ،وتتكلم عنه وخير لنا أن لا ندع أبنائنا يتعلمون عنه من الجهلة أو المراهقين المنحرفين فينزلقون وينحرفون ، وخاصة ما نراه اليوم من انتشار الأمراض الفتاكة الناجمة عن فقدان الوعي الجنسي والصحي لدى المراهقين بصورة خاصة ، والمنتشرة بشكل خطير في أنحاء العالم كمرض [ فقدان المناعة ] الذي بات يهدد حياة مئات الملايين بالموت المحقق ، وحيث لم يتوصل العلم لحد الآن إلى علاج شافٍ له ، أو الوقاية منه ، والذي يمكن أن يُنقله المصابون للآخرين الذين لا يملكون المعرفة والخبرة الكافية لتجنب هذا الوباء الوبيل .

13 ـ غريزة الضحك :

الضحك سلوك غريزي نجده بشكل واضح لدى الأطفال منذ المراحل الأولى ، فهم يضحكون لأتفه الأسباب ، وقد ينطلق الطفل بالضحك بصورة لاإرادية  ، ولاشك أن الضحك يؤثر تأثيراً إيجابياً على الصحة النفسية للأطفال وللكبار على حد سواء ، وينفس عن الضيق والضجر الذي يشعر به المرء في حياته ، وعليه فأن قمع هذه الغريزة لدى أبنائنا يعود بالضرر البليغ على حالتهم النفسية  .

إن علينا أن ندعهم ينفسون عن ما في أنفسهم بالضحك والمرح حتى داخل الصف في المدرسة لكي لا نجعل الدروس عبئاً ثقيلاً عليهم ، إن بضع دقائق من الضحك والمرح تخلق روح التجديد والنشاط لدى التلاميذ ، وتجعلهم يقبلون على الدرس برغبة واشتياق ، شرط أن يكون بحدود معقولة لا تدع العبث يطغي على الدرس .ولاشك أن المعلم العبوس ، الذي يرفض أن يمنح تلامذته الابتسامة ، ويستكثر عليهم الانبساط ولو لبضعة دقائق ،يصبح درسه عبئاً ثقيلاً عليهم وبالتالي يكرهونه.

الخلاصة :

نستخلص من كل ما سبق أن الحقيقة التي ينبغي أن نضعها أمام أنظارنا هي أن الوقوف بوجه الغرائز ومحاولة استئصالها ، أو قمعها ، أو بترها أمرٌ ضار جداً ، ومخالف للطبيعة البشرية ، لأن الغرائز لا يمكن قهرها أو إلغائها ، بل يمكن السمو بها وتوجيهها وجهة الخير لكي تعود على أبنائنا بالفائدة التي من أجلها ولدت معنا هذه الغرائز ، فمن المعلوم أن كل شيئ في الوجود يحوي على النواحي الإيجابية والنواحي السلبية ، ولاشك أن دورنا كبير ، وأساسي في التركيز على الجوانب الإيجابية لهذه الغرائز ، وحثّ أبنائنا على التمسك بها ، والتقليل من تأثير الجوانب السلبية ، وبهذا نستطيع خلق الظروف الصحية لنمو أبنائنا أخلاقياً ونفسياً وجسمانياً ، ولاشك أن هذا العمل ليس بالأمر الهين ، وهو يتطلب منا عملاً مثابراً ، ومتواصلاً حتى نستطيع أن نوصل أبناءنا إلى شاطئ السلامة والأمان .

ضبط غريزة حب التملك عند الأطفال(6)

لقد أحل الله لخلقه كثيراً من الطيبات، وزينها في نفوسهم حتى يرغبون فيها ويسعدون بتناولها والتمتع بها، فقال سبحانه مبيناً ذلك:" زُيّنَ للناس حبُّ الشهواتِ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاعُ الحياةِ الدنيَا والله ُعنده ُحسنُ المئابِ" مما يدل على أن حب هذه الشهوات والملذات زين في النفوس وركّبَ فيها، ولا مجال لانتزاعه منها، وتلعب البيئة وأساليب التربية دوراً كبيراً في تقوية حب التملك وتنميته أو تضعيفه وتخفيف حدته.

وهذا الميل الفطري في نفس الإنسان إن لم يهذّب ويحد بحدود واضحة أصبح مؤذناً بالخطر والانحراف، فربما تمنى الإنسان ملك كل شيء، وانطلق في ذلك يبتلع من كل صوب حقاً وباطلاً دون ما عقل أو روية، ولهذا المعنى يشير النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من الاسترسال وراء هذه الرغبة النفسية الجامحة.

ومدار التهذيب لهذه الغريزة الفطرية يقوم على التربية الأسرية الناجحة القائمة على القدوة الحسنة والتلقين الجيد نظرياً وعملياً، فالولد الصغير في بداية نشأته، خاصة دون السادسة لا يميز بين ما هو له وما هو لغيره، فتراه يندفع يطلب كل ما ترغب فيه نفسه، فيأخذ لعبة هذا، و يطالب بثوب أخيه زاعماً أنه ثوبه، وربما وجد قطعة نقدية على الأرض فأخذها ونسبها لنفسه، فلا يستطيع الطفل بدون التربية والتوجيه أن يضبط رغباته الجامحة نحو امتلاك الأشياء.

وبرأيي أن غرس الصورة الصحيحة للملكية، مثلها مثل أي قيمة طيبة يعتمد على توفر القدوة الحسنة الثابتة على المبدأ الذي تدعو إليه، أمام ناظري الطفل حتى يعيها عقله و تتشربها نفسه، ومن ثمّ يتخلّق بها ويثبت عليها طوال حياته.

تبدأ هذه الغريزة بالظهور لدى الأطفال في سن مبكر جداً ، حيث يمر الطفل بمرحلة تدعى [ الأنا] وفي هذه المرحلة يشعر الطفل أن كل ما حوله من الأشياء يعود إليه، ويحاول الاستحواذ عليها ، ويبدأ بالبكاء والصراخ إذا ما حاولنا نزعها منه بالقوة .وكثيراً ما تخاصم الأطفال بسبب ذلك وقد يلجأ إلى الضرب أو العض دون إدراك منه . وعندما يكبر الطفل تبدأ هذه الغريزة بالتطور ، فنراه يسعى إلى الحصول على الأشياء كالألعاب وغيرها بالطلب من أبويه تلبية مطالبه ويحاول التمرد والعصيان إذا لم تلبى تلك المطالب ، وخاصة عندما يرى لدى البعض من زملائه تلك الأشياء ولا يمتلكها هو أسوة بهم .

إن على الآباء والأمهات أن يلبوا تلك الحاجات لدى أبنائهم قدر الإمكان ،على أن لا تتجاوز حدود المعقول وحدود إمكانياتهم المادية ، فلا تقتير ، ولا تلبية كل ما يُطلب منهم ، لأن كلتا الحالتين تسببان لأبنائهم الضرر البليغ ، وعلى الآباء والأمهات أن يكافئوا أبنائهم إذا تفوقوا في دروسهم ،وإذا ما كانوا حسني السلوك والتعامل مع إخوانهم وأخواتهم وزملائهم . إن غريزة حب التملك تستمر لدى الإنسان طوال حياته حيث يطمح كل فرد في أن يمتلك على سبيل المثال مسكناً وأثاثاً فاخراً وسيارة ، وأن يلبس الملابس الأنيقة ، وأن يكون لديه من المال ما يمكنه من إشباع كافة حاجاته المادية ، وقد يلجأ البعض إلى الأساليب النظيفة والشريفة لتأمين تلك الحاجات ، وقد يلجأ البعض الآخر إلى مختلف أساليب الغش والاحتيال والسرقة والاغتصاب للحصول على ما يبتغيه ، وقد يسعى للإثراء غير المشروع سالكاً كل الطرق ،ومستخدماً كل الوسائل في سبيل ذلك . وهكذا تبدو لنا هذه الغريزة كسيف ذو حدين ، ولذلك فأن علينا أن نربي أبنائنا منذ الصغر على الأمانة والعفة ، وعدم التجاوز على حقوق الغير أو ممتلكاتهم ، وبسلوك الطريق الصحيح في الحصول على الأشياء ، وعلينا أن ننمي الجانب الإيجابي في هذه الغريزة ونكبح جماح جانبها السلبي قدر المستطاع .

ولابد أن أشير هنا إلى أن هذه الغريزة تفعل فعلها بشكل صارخ وعدواني على مستوى الدول والحكومات ، والكثير من الجشعين الذين يستخدمون كافة الوسائل والسبل للاستحواذ على ثروات الشعوب الضعيفة ونهب خيراتها وتركها تئن تحت وطأة الجوع والعري والمرض والتخلف فلقد شهد النصف الأول من القرن العشرين هجمة استعمارية من قبل العديد من الدول الأوربية ، واليابان والولايات المتحدة كان ضحيتها الشعوب الضعيفة ،من أجل أن يملأ المستعمرون جيوبهم بمليارات الدولارات على حساب بؤس وتعاسة تلك الشعوب ،التي رزحت لعشرات السنين تحت نير الاستعمار ، ودفعت ثمناً غالياً من دماء أبنائها ،من أجل استعادة حريتها واستقلالها وثرواتها .

الغرائـــز والحاجات العضويـــة(7)

الغرائز

الغرائز خاصيات في الإنسان تدفعه لأن يميل إلى أشياء وأعمال، أو لأن يحجم عن أشياء وأعمال وذلك من أجل أن يشبع أمراً داخله.

وقد اختلف الباحثون والعلماء في عدد هذه الغرائز، ويرجع سبب هذا الاختلاف إلى عدم وقوع الحواس على واقع هذه الغرائز، وإلى عدم إدراك العقل هذا الواقع مباشرة، وقد اعتبروا مظاهر الغرائز غرائز، فنتج عندهم غرائز عديدة، كغريزة الخوف وغريزة الميل الجنسي وغريزة العطف، وغريزة التملك، وغريزة التقديس، وغريزة حب الاستطلاع , و ... و... و... .

وبعد استقراء هذه المظاهر التي اعتبروها غرائز، وجد أن هذه المظاهر تنتظم في ثلاث مجموعات، وأن كل مجموعة تنتمي إلى غريزة.

النوع الأول من هذه المجموعات الثلاث، وهي مظاهر الخوف وحب التملك وحب الاستطلاع، وحب الوطن، وحب القوم، وحب السيادة، وحب السيطرة وغيرها، ترجع كلها إلى غريزة البقاء لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء الإنسان كفرد.

والنوع الثاني من هذه المظاهر، كالميل الجنسي، والأمومة، والأبوة، وحب الأبناء والعطف على الإنسان والميل لمساعدة المحتاجين، وغيرها، ترجع إلى غريزة النوع، لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء النوع الإنساني كنوع وليس كفرد.

والنوع الثالث من هذه المظاهر كالميل لاحترام الأبطال والميل لعبادة الله، والشعور بالنقص والعجز والاحتياج وغيرها، ترجع إلى غريزة التدين، لأن هذه المظاهر تدفع الإنسان إلى البحث عن خالق قادر كامل، لا يستند في وجوده إلى شيء، وتستند المخلوقات في وجودها إليه.

فالغريزة خاصية فطرية موجودة في الإنسان من أجل المحافظة على بقاءه، ومن أجل المحافظة على نوعه، ومن أجل أن يهتدي بها إلى وجود الخالق، وهذه الغريزة لا يقع الحس عليها مباشرة، وإنما يدرك العقل وجودها بإدراكه مظاهرها.

لقد خلق الله الخاصيات، وألهم الإنسان أو الحيوان استعمالها، قال تعالى على لسان موسى في رده على فرعون : (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي وضع في كل شيء خاصياته وهداه بواسطة هذه الخاصيات إلى القيام بأعمال يشبع بها جوعاته من غرائز وحاجات عضوية، وقد فسر بعضهم هذه الآية : إن الله خلق لكل حيوان ذكر حيواناً أنثى من جنسه وألهمه كيفية النكاح، ففسروا كلمة (خلقه) أي مثله في الخلق. والمعنى الأول أعم، وتحتمله ألفاظ النص، فهو أصح لأن الآية مصدرة بلفظ كل شيء، وكل شيء لفظ عام يشمل كل مخلوق. قال تعالى : (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً) ، أي أعطاها خاصية تمكنها من بناء خلاياها في الجبال.

وقد أشار الله إلى بعض مظاهر هذه الغرائز، قال تعالى : (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون) فخلق الله للإنسان أشياء، ومنها الأنعام من أجل أن يتملكها ليشبع حب التملك الذي هو مظهر من مظاهر غريزة البقاء.

وقال تعالى مخاطباً إبراهيم عليه السلام : (قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) فحب إبراهيم لذريته وهو مظهر من مظاهر غريزة النوع، جعله يسأل الله سبحانه الإمامة لذريته، وذلك ليشبع غريزة النوع التي فطر عليها، فرد عليه رب العالمين : (لا ينال عهدي الظالمين) مبيناً أن الإمامة ستكون لذريته الصالحين، ولن يشمل هذا العهد الظالمين منهم.

وقال تعالى في سورة يوسف : (ولقد همَّت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه) فالميل الجنسي وهو مظهر من مظاهر غريزة النوع موجود عند زوجة العزيز، فهمَّت بيوسف بدافع من هذا الميل لتشبع غريزة النوع، وهذا المظهر موجود أيضاً عند يوسف ولكنه لم يتصرف تصرفها لأن الله سبحانه وتعالى أراه ما منعه من هذا الهمّ، فكلمة (لولا) أداة امتناع لوجود، فقد امتنع يوسف عن الهمّ بها بسبب رؤيته برهان ربه، فيكون معنى الآية، لولا أن رأى يوسف برهان ربه لهمَّ بزوجة العزيز نتيجة ميله الجنسي إليها، ولكنه لم يهمَّ بها لأنه رأى من الله ما منعه من الهمّ بها .

وقال تعالى : (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) وقال : (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) فالإنابة إلى الله، والخوف من عذابه من مظاهر غريزة التدين.

والغرائز الثلاث موجودة في الإنسان، ولا يمكن القضاء عليها، ولا أن يسلبها الإنسان من الإنسان، ولكن بعض مظاهر الغريزة الواحدة يمكن كبتها أو محوها وإحلال أحدها محل الآخر، فيمكن أن يحل حب الزوجة محل حب الأم، وحب السيادة محل حب التملك وتقديس البشر والأصنام محل عبادة الله، ولكن لا يمكن محو الغريزة كلها واستئصالها من الإنسان، لأن الغريزة جزء من ماهية الإنسان، بينما المظهر الغريزي ليس جزءاً من ماهية الإنسان.

أما كيف يدرك الإنسان انتماء مظهر من المظاهر إلى غريزة من الغرائز، فإنه يدرس واقع المظهر، فإن كان المظهر ميلاً أو إحجاماً ينتج عنه عمل يخدم بقاء الإنسان ذاته، فإن هذا المظهر ينتمي لغريزة البقاء، كالخوف والشجاعة، والبخل وغيرها، وإن كان المظهر ينتج عنه عمل يخدم بقاء النوع الإنساني كان هذا المظهر ينتمي لغريزة النوع كالحنان والعطف والميل الجنسي وغيرها.

وإن كان ينتج عن المظهر عمل يخدم شعور الإنسان بالعجز وبحاجته إلى الخالق، كان هذا المظهر ينتمي لغريزة التدين، كالخوف من اليوم الآخر، وكالميل لاحترام الأقوياء، وكالإعجاب بنظام الكون وغيرها.

فالمظهر غير العمل، فالميل للتملك غير التملك، لأن الميل للتملك شعور في نفس الإنسان تجاه الأشياء لضمها إليه وحيازتها، بينما التملك هو القيام بالعمل. كشراء سيارة أو سرقة مال، فالمظهر لا يشبع الغريزة، وإنما العمل الذي يدفع إليه المظهر هو الذي يشبع الغريزة أو يحقق جزءاً من الإشباع ... فالميل لإرضاء الله غير العبادة، لأن العبادة تشبع غريزة التدين، بينما مجرد الميل لا إشباع منه ... والميل الجنسي لا يشبع غريزة النوع، بينما جماع الرجل المرأة يشبع بعض هذه الغريزة، وإن تكرر هذا الجماع بينهما دون إنجاب أطفال، أصبح هذا العمل غير مشبع للغريزة من جهة هذا المظهر، لأن الأصل في العمل الناتج عن المظهر أن يخدم الغريزة التي ينتمي إليها هذا المظهر... فالجماع دون إنجاب لا يتحقق فيه الإشباع الكامل، لأنه لا يؤدي إلى استمرار بقاء النوع الإنساني، فلا يخدم غريزة النوع.

والمظاهر قنوات جاذبة لما يشبع الإنسان من خارج الإنسان، فغريزة البقاء مثلاً، موجودة للمحافظة على بقاء الإنسان بفرديته، وهي تتطلب إشباعاً من خارج الإنسان عبر هذه القنوات المتمثلة في مظاهر غريزة البقاء (كالميل للتملك، والسيادة والسيطرة والشجاعة وغيرها) من أجل جذب الأشياء اللازمة لإشباع هذه الغريزة.

هذه الغرائز، وما يتفرع عنها من مظاهر تتفاوت قوة وضعفاً بين إنسان وآخر، وتتفاوت قوة وضعفاً في الفرد نفسه، وتتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لنوعية المثيرات الخارجية لها، وتبعاً للعمر الذي وصل إليه الإنسان.

فنجد إنساناً ممتلئاً حيوية يريد أن يشبع غرائزه الثلاث القوية عنده بنهم، ونجد إنساناً آخر في سنه كسولاً ضعيفاً يكتفي بالقليل القليل لإشباع هذه الغرائز الضعيفة عنده، ومن جهة أخرى نجد إنساناً منصرفاً ليشبع غريزة البقاء القوية لديه أو غريزة النوع، وغير مهتم لإشباع غريزة التدين ... أو نلاحظ أن حنان الأم والتعلق بها يصرف شخصاً عن الميل الجنسي وحبه لزوجته أو بالعكس ... ونلاحظ أن الميل الجنسي غالباً ما يكون قوياً في سن الشباب، ثم يبدأ بالضعف في سن الشيخوخة .. وأن الانصراف إلى العبادة والخوف من الآخرة غالباً ما يكون أشد في سن الشيخوخة منه في سن الشباب.

هذا التفاوت في الغرائز بين الناس، جعل بعضهم يقدم على القيام بأعمال لا يقدم عليها بعضهم الآخر، إما بسبب القوة والضعف في الغرائز وإما بسبب التفاوت بين المثيرات .. مما جعل أحكام الناس على الأفعال والأشياء التي لها علاقة بإشباع غرائزهم تختلف وتتفاوت وتتناقض وتتأثر بالبيئة أي بالمثيرات الخارجية ... وقد أدى ذلك إلى تنوع في الإشباعات، منها الإشباع الصحيح وهو قيام الشخص بعمل لإشباع غريزة بشيء هو محل لإشباعها، وبالطريقة التي حددها النظام الصحيح لهذا الإشباع، فإتيان المرأة بعقد صحيح يكون إشباعاً للميل الجنسي وهو إشباع صحيح لغريزة النوع، لأن المرأة وهي المثير الخارجي للميل الجنسي، هي المحل الذي خلقه الله ليشبع الرجل هذا الميل فيه، ونظم العمل لإشباع هذا الميل بالزواج.

وأما إن أتى الرجل امرأة لا تحل له، أو أتاها بدون زواج، كان إشباعه للميل الجنسي خاطئاً، لأنه إشباع مخالف للنظام الصحيح وإن كان في محل الإشباع. وإن أتى الرجل بهيمة أو ذكراً مثله، كان إشباع الميل الجنسي شاذاً لأنه إشباع للغريزة في غير محل إشباعها، وفي نفس الوقت إشباع مخالف للنظام الصحيح للإشباع.

وإشباع غريزة التدين بأمر الله للإنسان بعمل معين كالصلاة مثلاً هو إشباع صحيح، وأما عبادة الله بما لم يأمر به كدوران الإنسان حول نفسه فهو إشباع خاطئ، وإن كان قصد العابد إرضاء الله .

وأما عبادة الأصنام باعتبارها آلهة فإنه إشباع شاذ، لأنها ليست محلاً لإشباع غريزة التدين، لأنها لا تشبع الشعور بالنقص والعجز الموجود عند الإنسان، ولأنها – أي الأصنام – أكثر عجزاً من الإنسان.

وإشباع غريزة البقاء بما أمر الله به من أعمال كالتملك بالشراء، إشباع صحيح، وإشباعها بالسرقة لأموال الآخرين إشباع خاطئ لأن السرقة حرمها الشرع، وأما إشباع غريزة البقاء من قبل المسلم عن طريق التجارة مثلاً ليتملك خمراً أو خنزيراً فهو إشباع شاذ لأن هذه الأشياء المحرمة لا قيمة لها في الإسلام، ولا يجوز امتلاكها. فهي ليست محلاً للإشباع.

الحاجات العضوية

الإنسان مادة، وفي الإنسان طاقة حيوية تتمثل في الغرائز والحاجات العضوية والتفكير، وتظل هذه الخاصيات في الإنسان ما دام على قيد الحياة، وتزول بموته.

تحدثنا عن الغرائز الثلاث ومظاهرها، وأما الحاجات العضوية، فالحديث عنها بحاجة للحديث عن الجسد البشري، أي عن المادة التي يتكون منها جسم الإنسان.

يتكون الجسد البشري المحسوس الملموس من خلايا متعددة الأشكال والألوان والوظائف، ويبلغ عددها أكثر من 200 ألف مليون خلية، وكل خلية تتكون من غشاء أو جدار يضم داخله مادة هلامية هي السيتوبلازم الذي تتوسطه النواة المكونة من كروموسومات (صبغيات) عددها 46 كروموسوم فقط، لا تنقص ولا تزيد إلا في الحيوان المنوي للرجل والبويضة للمرأة.

وتركيب جسم الإنسان لا يختلف فيه فرد عن فرد من ناحية تركيبه العضوي والوظيفي مهما اختلف لونه أو حجمه أو مظهره، فالكل له رأس وقلب ومعدة وأطراف وبقية الأعضاء، وأعضاؤه تتكون من نفس الخلايا الموصوفة سابقاً، والكل يتناول الطعام ويتنفس الهواء، والكل ينام ويتحرك ويتخلص من الفضلات بنفس الطريقة.

وخاصية احتياج جسم الإنسان لأمور معينة، وطلب الإنسان لهذه الأمور، هي خاصية أودعها الله في الإنسان، وهي ما يسمى بالحاجات العضوية، وهذه الحاجات تتطلب إشباعاً، ومن أجل إشباعها يحتاج الإنسان إلى أوضاع وأشياء وأعمال معينة. فمن هذه الأوضاع التي يحتاجها جسم الإنسان النوم والراحة، ودرجة الحرارة المناسبة، والضغط الجوي المناسب. من هذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان الطعام والشراب والهواء ومن الأفعال التنفس والأكل والتغوط.

هذه الحاجات العضوية إن لم يتوفر أي منها للجسم الإنساني الحي تعرض للهلاك.

وهذه الأوضاع وهذه الأشياء تتطلبها أعضاء الجسم من أجل أن تقوم بوظائفها، فبمجرد نقص الماء اللازم في الجسم، ترسل الأعضاء إحساسها بهذا النقص، فيندفع الإنسان للبحث عن حاجته إلى الماء، لسد هذا النقص، فإن لم يجد الماء قاوم الإنسان هذه الحاجة بما لديه من ماء، فإن نفد ما لديه من ماء احتياطي في بقية أعضائه تعرض الجسم للهلاك حتماً.

وهكذا بقية الحاجات من طعام وهواء ونوم .

وقد تكون الحاجة تخلص الجسم من الفضلات الضارة به، كالعرق والغائط، وثاني أكسيد الكربون.

ورغم أن وجود هذه الحاجات العضوية مدرك للإنسان، فقد أشار إليها تعالى في القرآن الكريم، قال تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار) ، وقال في بيان أن الرسول واحد من البشر : (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون) .

وقد أباح الله للإنسان أن يأكل مما حرمه عليه من الأطعمة من أجل إشباع الحاجة العضوية حين يتعرض للهلاك، قال تعالى : (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ، ولم يقطع عمر بن الخطاب يد السارق في عام الرمادة لأنه سرق من حاجة ومن أجل أن يشبع حاجته العضوية.

الغرائز والحاجات العضوية

أوجه الشبه والاختلاف والعلاقة بينهما

الغرائز والحاجات العضوية تتشابه في أنها خاصيات فطرية في الإنسان، كخاصية السيولة في الماء، والاحتراق في النار، لا يستطيع أحد أن يسلبها إلا رب العالمين.

وتختلف الغرائز والحاجات العضوية من وجهين:

الوجه الأول : إن إشباع الحاجات العضوية حتمي، فإن لم تشبع تعرض الإنسان للهلاك، فإن لم يأكل أو لم ينم، أو لم يتنفس، أو لم ... كان مصيره الهلاك.

وأما الغرائز فإن إشباعها غير حتمي، وإن عدم إشباعها لا يؤدي إلى الهلاك، وإنما يؤدي فقط إلى الاضطراب والقلق والشقاء، فإن لم يشبع الإنسان غريزة التدين أو غريزة البقاء أو غريزة النوع لا يهلك ولكنه يشعر بالقلق والضيق والاضطراب، وهذا الشعور جلي وواضح عند الزوجين اللذين لا ينجبان أطفالاً بسبب عقم أحدهما أو كليهما.

والوجه الثاني : إن الحاجات العضوية تثار من الداخل، فالإنسان يحس بأنه بحاجة إلى الأكل أو الشرب إذا جاع أو عطش بسبب حاجة أعضائه للمواد المتحللة من الطعام والماء، ويحس بأنه بحاجة للنوم أو للراحة إن سهر أو تعب كثيراً، ولا تستطيع أعضاؤه أن تقوم بوظائفها إن لم ينم أو لم يسترح، فأي نقص في الحاجات العضوية من أوضاع وأشياء يحس به الإنسان من داخل الجسم وإن لم تقع حواسه على الأشياء التي تشبع هذه الحاجات.

أما كيف يحس الإنسان بحاجة أعضائه إلى الأوضاع والأشياء، فإن النقص في هذه الحاجات العضوية يبدأ بتأثر بعض الخلايا المنتشرة في كافة أنحاء الجسم، ومن ثم ينتقل هذا التأثير بواسطة الأعصاب إلى مراكز معينة في الدماغ، حيث يقوم الدماغ بربطها بالمعلومات السابقة عن هذه الإحساسات وعن الحاجات التي تشبعها، فيندفع الإنسان للتصرف من أجل إشباعها.

وأما الغرائز فإنها تثار من خارج جسم الإنسان، فإن رأى مالاً كثيراً، ثار لديه حب التملك الصادر عن غريزة البقاء، وإن رأى ميتاً ثار عنده التفكير في عجزه وهو من مظاهر غريزة التدين، وإن رأى امرأة جميلة ثار لديه الميل الجنسي وهو مظهر من مظاهر غريزة النوع، وقد تثار الغرائز عن طريق التفكير في الأشياء المثيرة عادة للغرائز، فتصور هذه الأشياء المثيرة واستحضارها في الذهن يثير الغرائز، لأن الإنسان أحسها سابقاً فأثارت غرائزه.

وهناك علاقة بين الحاجات العضوية وغريزة البقاء باعتبار أن الأشياء التي تسد الحاجات العضوية عند الإنسان تخدم بقاءه على قيد الحياة، فالطعام والشراب، والتنفس والنوم والتغوط والتعرق تحافظ على بقاء الإنسان، فهي حاجات تلزم للجسم ليقوم بوظائفه الطبيعية، ولكنها أيضاً لازمة له ليبقى على قيد الحياة. فالميل إلى تملك الطعام، أو الميل لأكله مظهر من مظاهر غريزة البقاء، لأن هذا الميل قد يوجد لدى الإنسان مع أن أعضاءه ليست بحاجة إلى الطعام، وإنما لوجود معلومات سابقة عن لذة هذا الطعام وعن إشباعه للحاجة العضوية. فإن كانت الإثارة آتية من خارج الإنسان فقط دون أن تكون أعضاء الجسم بحاجة للطعام كانت الاستجابة غريزية، وكان الميل للطعام مظهراً غريزياً. وإن كانت الإثارة آتية من داخل الجسم لكون الأعضاء بحاجة لهذا الطعام، كانت الاستجابة عضوية، فالفعل وهو الأكل يكون لإشباع الحاجة العضوية للطعام إن كان الإنسان جائعاً. ويكون الأكل أيضاً لإشباع غريزة البقاء، إن كان أكل الإنسان ناتجاً عن حبه لهذا الطعام فقط، ولم يكن جائعاً، ولم يكن جسمه بحاجة إلى المواد المتحللة منه.

والحاجات العضوية، كما هي موجودة عند الإنسان موجودة أيضاً عند الحيوان، وإن كانت بعض الأوضاع والأشياء التي تشبع الحاجات العضوية عند الإنسان غير الأوضاع والأشياء التي تشبع الحاجات العضوية عند الحيوان، فالطعام الذي يشبع الإنسان غير الطعام الذي يشبع جوعة المعدة عند أغلب الحيوانات. والظروف والأوضاع التي تعيش فيها بعض الحيوانات كالأسماك والطيور غير الظروف والأوضاع التي يعيش فيها الإنسان، وذلك بسبب الاختلاف في تركيب جسم كل من النوعين.

والغرائز موجودة عند الحيوان كما هي موجودة أيضاً عند الإنسان، كغريزة النوع وما يصدر عنها من مظاهر كالميل الجنسي، وكغريزة البقاء وما ينتج عنها من مظاهر كالخوف من الأخطار، إلا أن بعض المظاهر الغريزية لغريزة النوع ولغريزة البقاء غير موجودة عند الحيوان كحب الاستطلاع، وكالميل لإنقاذ المشرف على الهلاك، أو تختلف عند الإنسان عنها عند الحيوان، كحب التملك.

أما غريزة التدين، فإن الإنسان ينفرد بمظاهرها دون الحيوان، فلا يظهر على الحيوان أي مظهر من مظاهر التدين، لأن الإنسان لا يدرك كيف يشبع الحيوان هذه الغريزة ، رغم علم الإنسان بوجود هذه الغريزة عند الحيوان، وذلك عن طريق الدليل النقلي المقطوع بصحته، وهو القرآن الكريم، الذي أخبرنا بتسبيح وصلاة الكائنات الحية وغيرها، قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) و قال تعالى: (كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) فالتسبيح والصلاة أعمال ناتجة عن ميل الإنسان لتقديس الخالق، وهي مظهر من مظاهر غريزة التدين التي أخبرنا الله بوجودها عند جميع الكائنات دون أن ندرك ماهيتها (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) .

علماء يؤكدون مصداقية غرائز الانسان(8)

 اكدت دراسة جديدة ان الاشخاص الذين يثقون في غرائزهم ويتبعونها هم الاكثر قابلية لاتخاذ قرارات صائبة مِن مَن يميلون الى التفكير الشاق.

وقد وجدت الدراسة التي اجرتها جامعة لندن انه يمكن الاعتماد اكثر على قرارات يمليها العقل الباطن في جزء من الثانية في بعض المواقف من التوقف والتفكير بشكل عقلاني.

اتضح لدى اعطاء المشتركين في الدراسة اختباراً سريعاً على الكمبيوتر انهم يؤدون بشكل افضل عند تقليل الوقت المطلوب لاتخاذ القرار وحل الاختبار.

ويمكن مشاهدة البحث في العدد الحالي من مجلة كرنت بايولوجي الطبية.

في الاختبار تم عرض شاشة كمبيوتر على 10 متطوعين كل على حدة تظهر 650 شكل كلهم متطابقين عدا شكل واحد هو نفس الشكل في وضعية مقلوبة.

وقد سأل المتطوعون عن موضع الشكل المقلوب على الشاشة وكانت 95% من الاجابات صحيحة عند اعطائهم جزء من الثانية للنظر الى الشاشة والاجابة.

الا ان نسبة صحة الاجابة انخفضت الى 70% عند اعطاء المتطوعين وقتاً اكبر للتركيز في الشاشة واستخراج الشكل المقلوب.

يقول الدكتور لي زهاوبينج من قسم علم النفس في جامعة لندن: "هذه النتائج مضادة للبديهة فمن المفترض ان تكون الاجابات اكثر دقة عند اعطاء الشخص فرصة كافية للتدقيق في الاشكال".

ويعلل الباحثون هذه النتائج الى ان العقل الباطن ينجح في استخراج الشكل المقلوب من بين الاشكال الاخري المتشابهة الا ان العقل المدرك لم يستطع تمييز الشكل لذا فان الاجابة الغريزية تكون اجابة العقل الباطن الصحيحة.

ويمضي زهاوبينج قائلاً: "عندما نشاط العقل المدرك او الوظيفة الاساسية للمخ فانه يعترض على القرار الذي اتخذه العقل الباطن حتى لو كان صحيحاً مما يجعل الشخص غير راضٍ عن غرائزه".

"الاعتماد على الغرائز هو في الحقيقة اكثر فعالية من استخدام الوظائف الادراكية".

يقول العالم النفسي كيم ستيفنسون والذي يعمل على بحث بعض اوجه اتخاذ القرار المختلفة ان عمليات العقل الباطن قد تعود بالفائدة على صاحبها في بعض الاحيان.

ووفقا لستيفنسون فان عقل الانسان والحيوان مصمم للتعرف والتركيز على اي شئ خارج عن المألوف لان الحيوانات بامكانها التعرف على الحيوانات المفترسة والهروب منها دون ان تراها بالضرورة مما يعني ان لديها ميزات معينة في نشئتها.

"يعتبر العقل الباطن اكثر نفعاً في مواقف معينة خاصةً عند ضرورة اتخاذ قرار سريع دون توفر وقت للتركيز. الا ان ذلك لا يعني اتخاذ القرار في جزء من الثانية في كل مرة تضطر الى اتخاذ قرار – سيكون ذلك سخيفاً".

وهنا يلخص زهاوبينج الاكتشاف قائلاً: "من الضروري ان يعرف الشخص متى يستخدم غرائزه. لان الوثوق في الغرائز له مواضعه فقط".

...................................................

1- موسوعة اعجاز القران والسنة

2- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

3- سعاد حرب/ منتديات ميدوزا

4- منتديات ندوم العربية

5- منتديات مـ-ـش مـ-ـش

6- منتديات مـ-ـش مـ-ـش

7- منتديات كيف

8- ماشي دوت كوم

9- المعجم الموسوعي في علم النفس/نوربير سيلامي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 17 تموز/2007 -2/رجب/1428