
الكتاب: أفواه الزمن- نصوص
الكاتب: إدواردو غاليانو
ترجمة: صالح علماني
الناشر: دار المدى للثقافة والنشر
الطبعة الاولى/ 2007
شبكة النبأ: مثل طائر يهبط الى الارض
بسرعة ليلتقط شيئا لانراه، كذلك يفعل ادواردو غاليانو في كل كتاباته
يلتقط صورا نادرة من حياتنا اليومية، ويعيد تلوينها باقلامه الساحرة،
في صور مدهشة وغريبة كانها من عالم اخر..
وفي هذا الكتاب ثمة نصوص لا يمكن المجازفة بتصنيفها ضمن إطار أدبي
محدد، فهي لا تنتمي إلى الأجناس الأدبية التقليدية المعروفة كالرواية
أو القصة القصيرة أو القصيدة، بل هي كتابات حرة تلتقط بذكاء ما يدور
حولنا من أحداث ووقائع وتفاصيل يومية مملة، وتعيد تلوينها بصياغات
تنطوي على الحكمة والتأمل...وهو ما يفعله إدواردو غاليانو في كتابه
"أفواه الزمن" الصادر أخيرا بترجمة صالح علماني عن دار المدى (دمشق ـ
2007).
في هذه النصوص يسعى غاليانو إلى التحرر من القيود والضوابط
والمعايير التي تفرضها الأجناس الأدبية، فهذه النصوص غير المصنفة ـ إذا
جاز التعبير ـ تحلق في فضاء الكتابة دونما ضوابط، غير أن هذا التمرد
على المعايير الأدبية لا يفقد النصوص حيويتها، وظرافتها، وطزاجتها..
إن هذه النصوص، المتحررة من القيود، هي أشبه ببوح للأسرار الكامنة
في أعماق النفس، واحتفاء بالأفكار والآراء التي استخلصها الكاتب خلال
تجربته في الحياة المنسوجة مما قرأ وسمع وشاهد، ورغم أن النصوص لا تمتك
سوية فنية واحدة غير أنها تشترك في القدرة على إثارة الدهشة والإعجاب
لدى القارئ. يحوي الكتاب عشرات النصوص الصغيرة الحجم، المكونة من عدة
اسطر تعبر بصورة ذكية ولماحة وخاطفة عن قضايا ومسائل مهمة ومعقدة
بتبسيط وسلاسة وفق فهمه الخاص لها.
يحاول غاليانو أن يستخلص عبرة أو أمثولة من النصوص التي يدرجها في
كتابه، وهو يضفي على حكاياته القصيرة بعدا ذاتيا وجدانيا، متجنبا
الطريقة المدرسية الفجة في التلقين والإملاء، فهو يسرد ما يجول في ذهنه
عبر حكاية صغيرة أو حدث ويدون مشاهداته إزاء قضايا مختلفة يختارها
بعناية ليترك للقارئ مهمة استنتاج الهدف المطلوب واستخلاص العبرة
المتوخاة من النص، وهو يتناول قضايا إشكالية تتباين وجهات النظر بشأنها
لكنه لا يدخل سجالا بل يكتفي بطرح موضوعه من وجهة نظر ذاتية مفعمة
بالتعاطف الإنساني وبالإحساس العميق بمعاناة الضعفاء والبسطاء في هذا
العالم، يكتب، على سبيل المثال، تحت عنوان (إعلام العولمة): "بعد شهور
من سقوط البرجين، قصفت إسرائيل جنين. مخيم اللاجئين الفلسطينيين هذا
تحول إلى حفرة هائلة، ممتلئة بموتى تحت الأنقاض. حفرة جنين لها حجم
حفرة برجي نيويورك نفسه. ولكن، كم من الناس رأوها، غير أولئك المتبقين
على قيد الحياة الذين يقلبون الأنقاض بحثا عن ذويهم؟".
ومن فلسطين إلى العراق نرى غاليانو يتعاطف مع الشعب العراقي الذي
خرج من سجن الديكتاتورية ليدخل سجن الإرهاب والتكفير، فنقرأ له تحت
عنوان (الإعلام الموضوعي): "العراق كان خطرا على الإنسانية. بسبب صدام
حسين سقط البرجان، ويمكن لهذا الطاغية أن يلقي، في أي لحظة، قنبلة ذرية
عند زاوية بيتك. هذا ما قالوه. وبعد ذلك عُرف الأمر. تبين أن أسلحة
التدمير الشامل الوحيدة هي الخطابات التي اخترعت وجودها. كذبت هذه
الخطابات، وكذب التلفزيون، وكذبت الصحف والإذاعات. ولم تكذب، بالمقابل،
القنابل الذكية التي بدت بالغة الغباء. لقد مزقت مدنيين عزلا، تطايروا
أشلاء في الحقول وفي شوارع البلد المغزو، وقالت القنابل الذاكية
الحقيقة عن هذه الحرب".
يتحدث غاليانو عن مفهوم الفن والإرهاب والبيروقراطية، وينتقد
الأنظمة السياسية المستبدة، ويكتب عن الزمن، والذكريات، والحرية
والصداقة والحنين والإعلام، والموسيقى، والمباريات الرياضية، والأوطان
والمدن والأمكنة واللاهوت والخوف والنسيان والاستلاب والصمت والمنفى
وكل ما يشكل تفاصيل الحياة ماديا وروحيا، كما انه يبرز مقتطفات
ومفارقات من حياة الشعراء والكتاب والمسرحيين والفنانين المعروفين
عالميا، ويمكن اعتبار بعض نصوص الكتاب شهادة على ملامح وأبعاد المشهد
الثقافي والسياسي والاجتماعي في أمريكا اللاتينية بصورة خاصة وفي
العالم عموما. يكتب تحت عنوان (البحر) : "كان رافائيل ألبرتي قد أمضى
قرابة القرن في العالم، ولكنه كان يتأمل خليج قادش كما لو انه يراه أول
مرة. من الشرفة، وهو مستلق تحت الشمس، كان يتابع دون تعجل النوارس
والمراكب الشراعية، والنسيم الأزرق، وذهاب الزبد ومجيئه في الماء
والهواء. والتفت إلى ماركوس آنا، الصامت بجانبه، وقال له وهو يشد على
ذراعه، كما لو انه لم يعرف ذلك قط، كما لو انه يعلم الأمر للتو: كم هي
قصيرة الحياة. |