ليس للعرب تأريخا ديمقراطيا مميزا يفتخرون به أو يتكلمون عنه، ولا
حاضرا ديمقراطيا يتواكب مع مسيرة الإنسانية والمدنية والحضارة. وكل
ماتتسم به طبيعة الحكم السياسي لديهم هو التسلط ونظام القهر
والدكتاتورية والشمولية، وذلك منذ أن نشأت هذه الدول والى يومنا هذا!.
وبقيت الديمقراطية كلمة جميلة فارغة المعنى تتعلمها الأجيال في كتب
المدرسة وتقرأ عنها في الكتب والصحف اليومية وتسمع بها أثناء إصغائها
للمذياع أو مشاهدتها للتلفاز، ولكن أكثرنا لا يدري ما المقصود بها
وماذا تعني في حقيقة الأمر وقلب الواقع !. بقينا هكذا غافلين عن حركة
الزمن ومسيرة الحضارة وكأننا نعيش في كوكب تائه غير كوكب الأرض!.
وبين الفينة والأخرى تحصل هزة أرضية غير طبيعية في مكان ما من
بلداننا العربية ولكن ليست على مقياس ريختر وإنما على مقياس الهيجان
البركاني النفسي الذي يثور بين الحين والأخر في نفوس وضمائر العرب ثم
سرعان ما يخمد ويزول و(ترجع حليمة الى عادتها القديمة) وكما يقول المثل
العراقي الشائع !.
ولكي لا نبتعد في أغوار التاريخ وبطونه بإعطاء الأمثلة والذكريات
عن ذلك، فلننظر الى تأريخنا المعاصر ونقف على المحاولات الجادة التي
جرت من أجل إرساء دعائم الديمقراطية في بلداننا العربية ونتوقف على
نتائجها. فلبنان كان البلد الأول في نظام الديمقراطية بين البلدان
العربية، حيث تحصل فيه إنتخابات ويتم إختيار رئيس جمهورية ورئيس وزراء
ومجلس نواب وبطريقة ديمقراطية نسبية وإن كانت عن طريق المحاصصة.
ولكن ما الذي حصل وماذا يحصل بين الفينة والأخرى !؟. الجميع يتذكر
الحرب الأهلية اللبنانية التي إنطلقت شرارتها في 13 نيسان 1975م، والتي
بالرغم من إنتهائها رسميّا فإن الأمور في هذا البلد لم تستقر وبقيت
الأمور متأزمة ومتشنجة وغير واضحة الى حد هذه الساعة !.
كما أن الحركة التصحيحية في السودان والتي قادها السيد سوار الذهب
كانت محاولة حقيقية وجادة في إرساء أسس الديمقراطية ودعائمها. ولكن لم
تلبث هذه التجربة الاّ قليلا ثم سرعان ما عادت الدكتاتورية الى الساحة
بعد أن وصلت البلاد الى أعتاب الحرب الأهلية في ضفاف تلك الديمقراطية
!.
وتجربة ديمقراطية أخرى قد حصلت في بلد عربي آخر الا وهو الجزائر
إبان حكم الشاذلي بن جديد الذي أراد أن ينهي فترة حكمه بدخول التأريخ
المعاصر حينما سعى جادا بإقامة إنتخابات حقيقية وحرة في هذا البلد.
وقبيل أن تولد الديمقراطية تم إجهاضها بالقوة وحصلت حرب أهلية راح
ضحيتها الكثير من المدنيين الأبرياء على يد عصابات سياسية إرهابية.
وهكذا قد أجهضت العملية الديمقراطية قبل ولاداتها في هذين البلدين
المتجاوريين، وسرعان ما رجعت الدكتاتوية.
لقد تولد من خلال هذه التجارب الخاصة في الديمقراطية خيبة أمل وحبوط
في نفوس رعاة الديمقراطية وروادها. وقال المتفائلون بأن فشل هذه
التجارب هو فشل مؤقت وبسبب ظروف خاصة. ونظر عشاق الديمقراطية الى
الأمام بعيون التفاؤل والأمل بأن طريق الديمقراطية آت لا محال ومهما
أشتدت الصعوبات وكبرت الهوة !. وانتظر الجميع تجارب ديمقراطية أخرى
تطرق أبواب بلداننا المتراجعة بهذا الشأن الإنساني المحض. وسرعان ما
تكررت التجربة الديمقراطية مرة أخرى، حيث دقت أبواب فلسطين والعراق.
وسرعان ما عادت خيبة الأمل وعاد كابوس الحرب الأهلية !.
فالعراق طامس من رأسه حتى قدمه في نزاعات وصراعات مدمرة. وفي
فلطسين تتربص فيها الأحزاب بعضها لبعض، وصلصلة السلاح ورائحة البارود
ليستا بعيدتين عن المسرح السياسي الهش. حيث يرى المراقب وكأن الموقف
المتأزم على شفى حفرة الإنزلاق الى الهاوية، فبين الحرب والسلم خيط
أوهى من خيط العنكبوت !. وهنا يقف عشاق الديمقرطية ومحبوها حيارى
مستغربين وعلى وجوههم ألف علامة إستفهام وتعجب !. إذ ان تجارب العرب في
الديمقراطية إما فاشلة أو على حافة الفشل !. وكل ما يستنتجه المرء من
خلال هذه التجارب هو أن هناك أسباب رئيسية تجعل مجتمعاتنا العربية غير
قادرة على هضم الديمقراطية وأساليب ممارستها. وربما الأمور التالية لها
القدح المعلىّ في ميكانيكية هذه الحقيقة:
1- ظاهرة الحرمان في المجتمعات العربية: أن الحرمان المادي والثقافي
والأجتماعي والسياسي الذي تعاني منه غالبية المجتمعات العربية يلعب
دورا هاما وأساسيا في عملية تكوين الشخصية العربية وسلوكياتها. أن هذا
الحرمان هو حرمان مزمن (قديم ومتأصل) يعشعش في هذه المجتمعات منذ أزمان
وأجيال متتالية. والحرمان المزمن يترك علامات وآثار تتأصل في نفسية
الفرد وذاته. وهذه العلامات تتجلى في صور ميل الأنسان العربي الى
التطرف والمبالغة في التصرفات والخيارات والأفكار والرؤى. وهذا المظهر
النفسي المتفاعل للشخصية العربية هو عبارة عن ردة فعل واضحة لمكامن
الحرمان المتأصلة في نفسيتها وكيانها.
ان من نتائج هذا التطرف الفكري هو شعور المواطن العربي بعدم الثقة
في واقعه الحالي، إذ يؤدي هذا بالتالي الى فقدان الثقة بكافة القوى
السياسية المعتدلة والمعروفة في الساحة السياسية. وهذا ما يجعل المواطن
يميل في خياره الى الأفكار المتطرفة سواء كانت الدينية (بالدرجة
الأولى) أو القومية وبطريقة لا شعورية أو إرتجالية. وهذا مايفسر صعود
التيار الديني في كل إنتخابات حقيقية حصلت في مجتمعاتنا.
أن نجاح التطرف وتنحي الوسطية في العملية الديمقراطية الوليدة يجعل
عملية التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا تمر في مسار ومخاض عسير وصعب. إذ
أن السياسة المتطرفة في كل العهود والأزمان لم يكتب لها النجاح والتطور،
ولم تصل الى الأهداف المرجوة من قبل الشعوب والأمم.
2- ضعف الحالة الثقافية: رغم التراث التليد الذي يملكه العرب
وحضاراتهم العتيدة، إلاّ أنه - ومع الأسف - يشكو المواطن العربي اليوم
من إنتكاسة ثقافية وعلمية واضحة، تؤثر على سلوكياته ومفاهيمه وتطلعاته.
وهذا التخلف الثقافي المشهود يعتبر حجر عثرة أمام المجتمعات في السير
المضطرد مع حركة الزمن ومع التطور الحضاري والثقافي والفكري العالمي.
الديمقراطية دون شك هي ظاهرة حضارية وعلامة دالة لإمارات التمدن
والتطور الإنساني. ومن أجل فهمها وحسن ممارستها يجب أن تتوفر في
المجتمعات التي تتبناها شروط التحضر والمدنية والتي بها وفيها سوف تنمو
الديمقراطية وتنشأ وتتطور.
الثقافة العامة وثقافة الديمقراطية أمران وعنصران هامان وحيويان في
إنجاح عملية التحول الديمقراطي في المجتمعات. الديمقراطية هي سلطة
الشعب فإن كان الشعب جاهلا في أمور الديمقراطية ومستلزماتها كانت سلطته
جاهلة أيضا بهذا المضمار. والسلطة الجاهلة لا تسمو الى إدارة شؤون بلد
متعب وهو في الطريق الى النهوض والى النور. وقد تنقلب الديمقراطية
وباءا على المجتمعات التي لم تحضر تحضيرا علميا وثقافيا حقيقيا لعملية
التحول الديمقراطي هذه.
3- الظروف الاستثنائية والخاصة: من الملاحظ أن الديمقراطية عند
العرب قد جربت في بلدان تمر بظروف إستثنائية وخاصة مما تجعل الحالة
العامة للمجتمع قلقة وغير مستقرة. ففي فلسطين والعراق مثلا، ولجت
الديمقراطية اليهما وهما يرزحان تحت نير الإحتلال العسكري الخارجي.
وحالة الإحتلال لا توحي بحالة إستقرار نفسي وسياسي وإجتماعي في أي
مجتمع من المجتمعات. ومن دون شك أن الوضع النفسي الخاص المتأتي من جراء
الإحتلال وإفرازاته كفيل بأن يجعل المواطن العربي يتطرف في خياره
وكنتيجة تفاعلية غريبة لوضع إستثنائي غريب. إن حالة رد الفعل هذه هي
حالة فسلجية نفسية لوضع غير عادي أو غير سليم.
ومن العوامل الإستثنائية والخاصة التي لعبت دورا في فشل تطبيق
عملية الديمقراطية أو تهديد مساراتها هو التركيبة المعقدة للمجتمعات
التي مارست الديمقراطية. فالعراق مثلا مركب من قوميات وأديان وطوائف
وأعراق متباينة. والتباين في أمر واحد من هذه الأمور كفيل بأن يؤدي الى
تفتيت الدولة وتقسيمها حتى في البلدان المتطورة والمتقدمة في كافة
الشؤون.وينطبق الحال تماما على باقي البلدان ذات التجربة الديمقراطية.
4- تدخلات المحيط الخارجي والدول الإستعمارية: لم تمارس العملية
الديمقراطية بمعزل عن التأثيرات الخارجية في أي من البلدان التي طبقت
فيها الديمقراطية. وهذا التدخل الخارجي في الشأن الداخلي المحض لدولة
ما أو مجتمع سوف يؤثر سلبا على مسار العملية الديمقراطية ومستقبلها. أن
تدخل الأطراف الخارجية في الشأن الداخلي سيضعف روح الديمقراطية وأسسها
المبنية على مبادىء النزاهة والحرية الشخصية وذاتية الخيار. وستنبعث
أطر ومسارات ثانوية تغير من الإتجاه الصحيح للمسيرة الديمقراطية
الخالصة. وهذا التدخل المباشر وغير المباشر بالشأن الداخلي قد يفضي الى
إنحراف المسار الديمقراطي وإفشاله جملة وتفصيلا وإغراق المجتمع في
صراعات داخلية بين الفرقاء قد تصل الى درجة الحرب الأهلية.
5- غياب المرحلة الإنتقالية في عملية التحول الديمقراطي: إعلان
عملية التحول الديمقراطي في مجتمع ما يجب أن تتم بطريقة مدروسة ومنتظمة
وليس بطريقة عشوائية وإرتجالية. المجتمعات المحرومة من الحرية السياسية
والتي يؤلمها العوز المادي وتنقصها الثقافة الاجتماعية تكون من أصعب
وأعقد المجتمعات في تطبيق الديمقراطية. إذ يجب أن يتحلى مسار التحول
الديمقراطي بالتدريجية والتأني في تطبيق مراحل التغيير الديمقراطي في
هذه المجتمعات، وأن لا تدخل الديمقراطية دخلة واحدة فيختلط "الحابل
بالنابل" !.
إن المرحلة الإنتقالية بين مرحلة الدكتاتورية والديمقراطية يجب
الاّ تكون مغيبة، وإنما يجب أن تكون حاضرة وطويلة ومركزة في مجتمعاتنا
المحرومة. حيث تملأ هذه المرحلة ببرامج التثقيف الديمقراطي من أجل
تأهيل المجتمع الى ممارسة هذه العملية الحضارية بالطريقة الصحيحة
والسليمة. كما وستكون هذه المرحلة الحاجز الأمين ضد أعداء الديمقراطية
والمتربصين فيها والذين يبحثون عن مواقع الخلل من أجل الإجهاض على هذه
العملية وتخريبها.
دون شك هناك الكثير من الملاحظات والأسباب الأخرى والتي لا يتسع
المجال لذكرها والتي من شأنها تعكير صفو الديمقراطية وتغيير مسارها،
إلاّ أن الأسباب المذكورة أعلاه ربما تكون الأسباب الرئيسية والتي من
شأنها أن تجهض العملية الديمقراطية في بلداننا أو تهدد وجودها
ومستقبلها. وعلى عشاق الديمقراطية ومحبيها ألاّ ييأسوا من إخفاق
مجتمعاتنا فيها، بل عليهم أن يشخصوا مواقع الخلل ومكامن الفشل ويحاولوا
علاجها قبل أن تتورط مجتمعاتهم في ممارسة خبرة جديدة في طريق
الديمقراطية غير المعبد والذي قد يؤدي الى إجهاضها في منتصف الطريق
وإجهاض مجتمعاتنا الحبلى بحرمانها ومعاناتها ومآسيها معها !. |