المُوَاطِنُ الصَالِحُ و بنَاءُ الوَطَنِ

 محمّد جواد سنبه

 إنّ الرقي والتقدم في أيّة بقعة من بقاع العالم، وفي أي مجال من مجالات الحياة الانسانيّة، ماضياً وحاضراً، لا يكون بناؤهما إلاّ على يد نخبة من المخلصين يؤمنون بضرورة تقديم كلّ ما بوسعهم، وباقصى جهدهم، وباعظم طاقتهم، كلّ حسب اختصاصه، وكلّ من موقعه، مستحثين جهودهم البناءة، لخدمة الآخرين واسعادهم، ومن أجل بناء أوطانهم وتعميرها.

 إنّ الله تعالى يترجم انجازات هؤلاء المخلصين، ويصفها بأنّها تراكمات لمنجزات الخير والعطاء، ويصنفها سبحانه على أنّها ذخائر طيبة للفترة التي عمل بها أولئك المتميزون. (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)(الكهف/30).

وبالوقت نفسه فالتاريخ يمجّد بفخر، أولئك الأخيار صنّاع الحياة، ويهمل باحتقار متجاهلاً كل الاعمال المشينة التي يقوم بها الأشرار، صنّاع الموت والدمار، التي بها يلحقون الأذى بالاخرين. وإذا أراد التاريخ أنْ يتحدث للاجيال اللاحقة عن الاشرار، فانّه يصفهم بابشع الصور المقرفة، التي تولد في أذهان المتلقين صوراً غاية في البشاعة والاشمئزاز، بالرغم من وجود فاصلة زمنية، قد تصل إلى أزمان سحيقة، تفصل بين وقائع أولئك الاشرار، وبين قرّاء التاريخ في وقت لاحق.

فالله تعالى يبين لنا في كتابه العزيز سنن التاريخ، فيقول جلّ اسمه في الذكر الحكيم  :( وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الأَْرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ)(سورة الأعراف/74). (وتبوأت منزلا : أي نزلته، وبوأت للرجل منزلا وبوأته منزلا بمعنى، أي هيأته ومكنت له فيه واستباءه، أي اتخذه مباءة. وهو ببيئة)(الصحاح للجواهري ج1ص37)(انتهى).

الخالق سبحانه يريدنا أن نقرأ التاريخ، ونتذكر كيف جعلنا الله تعالى أجيالا لاحقة لقوم عاد، مانحاً لنا مصادر الطبيعة، وواضعاً ايّاها تحت تصرفنا، نفعل بها ما نشاء بمحض اختيارنا وإرادتنا، ويذكّرنا تعالى بتلك النعم الفريدة، محذراً إيّانا من الفساد في الأرض، لأنّه السبب المباشر لدمار الانسان والبيئة معاً. 

إنّ مصدر هاتين الصورتين من الجمال (العمل الصالح) والقبح (العمل الفاسد)، هو الانسان ذاته، فهو الذي يصنع الأحداث بعلمه وعمله ونشاطه، على ضوء تصوراته المعتقدية، أو مبتنياته الفكريّة، أو خلفياته الثقافيّة، أو مكتسباته التربويّة، وحتى متقبلاته العرفيّة في الزمن الذي عاش فيه، والبيئة التي ترعرع فيها وانطلق منها للعمل. إنّها معادلة مركبة صعبة التفكيك لا يفهمها إلا صاحبها، لأنّه أدرى بما تستبطن نفسه من دخائل وتخفي من نوايا. إن سرّ تقدم الشعوب ورقي الأمم هو دأب (الانسان الصالح) على تقديم وتبني ماينفع المجتمع من أعمال صالحة وبناءة، ونبذ كلّ ما يفسد حياته من أعمال بذيئة وقبيحة.

لقد نبّه الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) لهذه الحقيقة بوصيته (ع) لعامله مالك الأشتر (رحمه الله) حين ولاّه لرآسة دولة مصر (كما يعبر عنه اليوم) بقوله : (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فأملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)(انتهى).

 بالحقيقة أن هذا المقطع من كلام الامام (ع) يعطينا برنامج عمل واقعي، من الممكن ان يكون بلسماً لجراحاتنا النازفة منذ أمد بعيد، وقد ازداد غور تلك الجراحات في سنين احتلال العراق عام 2003.  

إن الفكر الاسلامي سواءاً كان على الصعيد التربوي أو السلوكي أو السياسي، زاخر باعطاء الدروس، وثرّ بتقديم النماذج، لكن المشكلة تكمن في التطبيق. فنحن معاشر المسلمين لم نوفق جدياً النهل من معين الاسلام، بسبب الغربة التي تحول بيننا وبينه. هذه الغربه لها بواعثها واسبابها التي يمكن اجمالها بنقطتين ؛ الأولى ذاتيّة وتتمحور في ابتعاد المسلم عن تعاليم الاسلام، وعزوفه عن الاطلاع والتبصّر في قيم الاسلام السامية.

والنقطة الثانية خارجية وتتبلور في الدور المشبوه، للسياسات التي حكمت البلاد وارتباطها بالمشروعات الخارجية لاعداء الاسلام، الرامية لتدمير القناعات الشخصية، بامكانيات الفكر الاسلامي وتصويره على أنّه مجرد تراث عاجز ميّت، عفى عليه الزمن فيجب اهماله. إنّ تلازميّة هاتين النقطتين افرزت القناعات عند الكثير من المسلمين، بمجافات تعاليم الاسلام واخلاقياته، ويكون الأمر أكثر جسامة ووخامة، عندما تضاف لهذه الأمور السلوكيات الشخصيّة أو الجماعيّة، التي يحسب سلوكها على أنّه منبعث من صميم الاسلام بنسبة مئة في المئة، وهي بالحقيقة لا تمتّ الى الاسلام بصلة، بقدر ما تعبر عن دوافع أو رغبات شخصيّة، تأخذ من الإسلام برقعاً جميلاً، يغطي الاعمال البشعة والشنيعة، لهذه الشريحة المدمّرة للجسد الإسلامي، والتي عملها يشبه عمل حشرة الأرضة في أسّ البناء.

إنّ الذي يساعدنا في التخفيف من معاناتنا اليومية، متكررة المآسي وشديدة الألم، هو الالتفات قليلاً إلى قيم الاسلام، والتأمل ملياً باعمالنا، والعودة إلى انسانيتنا، وهذه الالتفاتات وتلك الـتأملات، يجب أنْ تكون نابعة من ايماننا بضرورة تصحيح الاخطاء، فمستقبل الإنسان مرهون باعماله. هذا التصور ليس حصرياً بالإسلاميين بل يشاركهم فيه حتى الوثنيون والادينيون، لأن العمل الصالح قاعدةً، تسـتأنس به الطبيعة البشرية السليمة،  والعمل الطالح استثناءاً، تنفر منه طبيعة البشر السويّة.

إن من يريد أن يسجل منجزاته العمليّة على صفحات التاريخ، لتكون بمثابة انواط شرف تسجلها له الأيام، عليه أن يعي أنّ الهدف من عمله هو خدمة الآخرين، خدمة المجتمع ككلّ، خدمة الإنسان، قبل أن يكون من هذا الدين، أو ذاك المـذهب.

هذه النظرة تكون أكثر وضوحاً عند من يتبوأ مقاعد المسؤولية، فالمجتمع قد فوضه العمل نيابة عنه، مقابل امتيازات ماديّة ومعنويّة، فمن يقصّر في أداء واجباته، فأبسط ما يقال عنه أنّه خان الأمانة وحنث بالعهد.

 إن الاشخاص الذين دخلوا ذاكرة التاريخ، هم الذين تعدت خدماتهم حدود ذواتهم الشخصيّة لتعمّ المجتمع، أي بمعنى ان يكون لأعمالهم بعداً مستقبلياً وليس آنياً فحسب، لكي يدخل عملهم حيّز التاريخ. فمثلاً لو أنّ شخصاً ما، حفر بئراً وشرب من مائه ثم ردمه على الفور، فان التاريخ لا يذكره، أو بمعنى لا يدخل عمله في سنن التاريخ العاملة في الكون، لأنّه موضوع ليس ذا أهمية، ليس له امتداد مستقبلي، إنّه حدث وحصل وانتهى أثره.

لكن الموضوع سيختلف تماماً لو أن هذا الشخص أبقى البئر قائماً ليستفيد منه الشارد والوارد، فقد انتقل حدث الاستفادة من البئر، إلى زمن المستقبل فإنّ هذا الحدث سيدخل مباحث التاريخ وسننه، والتاريخ سيخلّد هذا الشخص حتى وإن اندثر البئر بعد حين. لقد نظّر لهذا الموضوع فيلسوف الإسلام الإمام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر(قدس سره) بقوله: (بل يوجد بُعد ثالث لآبدّ أن يتوفّر لهذا العمل لكي يكون عملاً تاريخياً، أي عملاً تحكمه سنن التاريخ. البُعد الأول كان هو الفاعل(السبب)والبعد الثاني كان هو الغاية (الهدف). لابدّ من بُعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلاً في نطاق سنن التاريخ، هذا البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل ارضيّة تتجاوز ذات العمل، أن تكون أرضيّة العمل عبارة عن المجتمع.)(المدرسة القرآنية ص81).

عندما يغرس الإسلام في روح الإنسان حبّ الخير والصلاح وأعمال البرّ، إنّما يقصد خلق نموذج إنساني تتجسد فيه كلّ مقومات الصلاح والنبل والجمال. فمتى صار الإنسان صالحاً، فإنّه سيكون فيضاً من العطاء الخيّر، ليس لنفسه فحسب، وإنّما للعالم أجمع.

إذن المواطنة الصالحة ما هي إلاّ نتيجة متفرعة من أعمال الإنسان الصالح. والإنسان الصالح هو نتيجة لعمليّة متفرعة من مشروع تربوي ناضج متكامل الخطّة، وموحدّ الأهداف، تبدأ أركانه من حصن التربية الأوّل وهو البيت والأسرة، ومن ثمّ يمتد إلى الدورة التربويّة الجماعيّة التي تبدأ من رياض الأطفال، والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانويّة، وبالتالي يأتي دور المجتمع في ترسيخ وتأصيل مفاهيم التربية الصالحة، في نفوس الناشئة من خلال عمل المساجد والمؤسسات الثقافيّة والنشاطات المدنيّة الداعمة لهذا الإتّجاه، ومنها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئيّة، ونشاطات وزارتي الثقافة والشباب، وفعاليات الأحزاب السياسيّة التي يجب عليها إنضاج الوعيّ الجماهيري بهذا الاتجاه.  

أنا أعتقد أننا سنرى قريباً، تجليات صورة المواطن الصالح، إذا ما تظافرت الجهود الخيّرة الصادقة لانتاجها، خصوصاً أنّ هناك توجهاً في هذا الشأن، يرعاه بعض المخلصين من رجال الدولة، وخير مثال على ذلك زيارات السيد رئيس الوزراء لبعض المحافظات، ونأمل منه تكثيف هذه الزيارات وتوسيع اطارها، لأنّها تصبّ في بناء الثقة بين المسؤول المخلص والمواطنين النجباء، الذين يتوقون بفارغ الصبر رؤية المواطن الصالح، يعيش في الوطن الصالح ويرعاهما المسؤول الصالح. ففي زيارته مؤخراً لمحافظتي الكوت والديوانية، خاطب الجماهير بقوله : (.... فليس عيبا ان تغير الشعوب حكوماتها وفق الاليات الديمقراطية، لكن العار سيكون نصيب من يتحالف مع مخابرات دول اجنبية ويكون اسيرا لارادتها. ).

سنرى قريباً إن شاء الله تعالى، صوراً غاية في الجمال، إذا ما نجحنا من تحصين أنفسنا من عمليات التخريب النفسي والسلوكي، التي ترعاها دول لها مصلحة قصوى في تخريب العراق شعباً ووطناً، فسنرى  : ـــ

 *  روح التسامح والتعاون والمودّة، تسود أبناء المجتمع العراقي، الذي ينبذ العنف ويحترم القانون. 

*   وسنرى صورة المواطن الصالح، الذي يقف بسيارته بأدب ونظام في طابور السيارات التي تتزود بالوقود.

*   وسنرى صورة المواطن النجيب الذي يزيح الأذى عن الطريق.

*   وسنرى سائق السيارة يستخدم الطريق بذوق رفيع، ويستحي من أن يستمر ضاغطاً على زر منبه السيارة بدون داع.

*   وسنرى سيارات مواكب زفاف العرائس لا تقطع طريق المرور العام.

*   وسنرى صورة المواطن الصالح، الذي لا يرضى أن يربط هو أوغيره سلك الكهرباء على الشبكة العامّة للتجاوز عليها. 

*   وسنرى المحدودية الدنيا لوجود المنتفعين من الأزمات، إبتداءاً من التجار وانتهاءاً بمستغلي الأزمات. 

إنّ كلّ هذه الصور المطروحة، وغيرها الكثير جداً غير المطروح، سوف نشاهدها في العراق الجديد، إذا ما أخذت حلقات المنظومة الحضاريّة التربويّة (البيت، المدرسة، المسجد، الصحافة والإعلام، مؤسسات ومنظمات معنيّة أخرى)، دورها الفاعل في تغيير نمط تفكير وسلوك و أخلاق الفرد العراقي، وتنطلق بمهامها بحماس، معتبرة هذا العمل هو جهاد الإصلاح، هو جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 15 حزيران/2007 -27/جمادي الأول/1428