مصطلحات نسوية: نزعة المسالمة.. نبذ مبدأ الحرب

 نزعة المسالمة: Pacifism

شبكة النبأ: هناك ارتباط قديم بين النسوية ونزعة المسالمة، فالتيار النسوي الذي يؤمن بجوهرية الاختلاف يرى أن عدم العنف هو خصلة غريزية عند المرأة، كما تقول ماري ديلي في "الإيكولوجيا النسائية" في عبارتها المأثورة "إن وضع النظام الأبوي يشبه حالة الحرب" وإن الإيكولوجيا النسائية (أي عناصر الانسجام بين المرأة والبيئة التي تعيش فيها) تنطوي على استعادة الطاقة النسائية المحبة للحياة. أما النسوية الاشتراكية بدءاً من الموجة الثانية فصاعداً فتدعو إلى قضايا المسالمة، ففي "المرأة والعمل" (1911) تنبأت أوليف شراينر" بأن اليوم الذي تتخذ فيه المرأة مكانها إلى جانب الرجل في الحكم وتنظيم الشؤون الخارجية لجنسها سيكون هو اليوم الذي يؤذن بالقضاء على الحرب كأداة لتسوية الخلافات بين الناس" كما كرست البريطانية النسوية فيرا بريتن نفسها للدعوة لمناهضة الحرب في أعقاب تجربتها كممرضة في الحرب العالمية الأولى، وقد واصلت بعض الجماعات إحياء هذا التقليد مثل مخيم السلام في جرينام كومون. وغالباً ما تقوم النسوية المناهضة للحرب على استحضار الدور البيولوجي للمرأة كحاملة للأطفال ومربية لهم، ومن ثم تساوي بين الدعوة إلى السلام وحرص الأم على رعاية الصغير، وهو ما تطلق عليه سارة روديك "التفكير الأموي".

ولكن في مقابل هذا الاتجاه نجد الحملات التي تشنها بعض المنظمات النسوية مثل المنظمة الوطنية النسائية للدعوة إلى المساواة في المعاملة بين المرأة والرجل في المؤسسة العسكرية ورفض الدور السلبي في الحرب، وترفض هذه الأفكار المفهوم القائل بأن المرأة محبة للسلام بطبعها وتؤكد على ضرورة مشاركتها في كل جوانب الحياة بالمجتمع.

متعلقات

 

لاعنف(1)

 يمكن لللاعنف أن يكون استراتيجية سياسية أو فلسفة أخلاقية تنبذ استخدام العنف في سبيل أهداف اجتماعية أو من أجل تحقيق تغيير سياسي. وينظر إليه على أنه بديل لموقفين آخرين هما الرضوخ والانصياع السلبي من جهة، أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى. لذلك فإن اللاعنف يدعو إلى وسائل أخرى للكفاح الشعبي منها العصيان المدني أو المقاومة اللاعنفية أو عدم الطاعة وعدم التعاون. وقد استخدم المصطلح بشكل متكرر كمرادف للمسالمة لكنه ومنذ منتصف القرن العشرين أخذ يعكس الكثير من التكتيكات التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي بدون استخدام القوة. إن اللاعنف يختلف عن المسالمة لأنه يواجه القمع والطغاة بشكل مباشر.

  تكتيكات اللاعنف

ينظر إلى اللاعنف إلى أنه النهج السياسي للناس العاديين، وهذه النظرة تعكس الاستخدام التاريخي لللاعنف اعتماداً على قوة الجماهير وكثرتها. من أشهر الصراعات التي اعتمدت اللاعنف في التاريخ: حملة عدم التعاون التي قادها المهاتما غاندي لاستقلال الهند، الكفاح من أجل الحصول على الحقوق المدنية للأفروأمريكيين بقيادة مارتن لوثر كينغ. يمكن العثور على نماذج من العمل اللاعنفي في كثير من البلدان والثقافات خلال التاريخ. وتظهر الأفكار الأساسية لمنهج اللاعنف بجلاء في كل من الأديان الإبراهيمية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وكذلك في تقاليد الأديان الكبرى الأخرى (الهندوسية والبوذية والسيخية)، وكذلك في العديد من الأديان الوثنية الأخرى. إن الحركات اللاعنفية والقادة اللاعنفيون والمدافعين عن اللاعنف في مختلف الأزمان والأماكن استقوا واستفادوا من الكثير من تلك المبادئ الدينية لدعم عملهم اللاعنفي في كفاحهم من أجل التغيير.

وعلى نفس الشاكلة، استفادت الحركات العلمانية السياسية من اللاعنف، سواء كأداة تكتيكية أو كبرنامج استراتيجي وبأسلوب براغماتي نفعي يهتم بفعالية اللاعنف السياسية دون النظر إلى أي بعد ديني أو أخلاقي.

تستخدم أساليب العمل اللاعنفي من قبل طيف واسع من الناس يأتون من خلفيات متنوعة. ففلاح لا يملك أرضاً يزرعها في البرازيل قد يحتل بدون عنف قطعة أرض لأهداف عملية بحتة. فإذا لم يقم بذلك فما من شك أن عائلته ستجوع. الراهب البوذي في تايلاند يمنح الأشجار في الغابة منزلة كاهن اتباعاً للتقاليد البوذية في محاولة لمنع تدمير الغابة. عامل في إنجلترة قد يشارك في إضراب وفق التقاليد الاجتماعية والسياسية والنقابية في ثقافته. كل هؤلاء يستخدمون أساليب العمل اللاعنفي من زوايا مختلفة.

 كيف يعمل اللاعنف

"سأقدم لكم سلاحاً فريداً لا تقدر الشرطة ولا الجيش على الوقوف ضده. إنه سلاح النبي، لكن لا علم لكم به. هذا السلاح هو الصبر والاستقامة. ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده".

إن الدخول إلى الصراع الاجتماعي والسياسي وفق منطق اللاعنف يمثل انفصالاً جوهرياً عن النظرة التقليدية للسلطة والصراع، وعلى الرغم من ذلك فهو ينطبق على العديد من النماذج

والأفكار التي تتناسب مع مختلف الثقافات.

في جوهر أي مذهب استراتيجي لاعنفي هناك فكرة مشتركة وهي أن سلطة الحاكم تعتمد على موافقة الرعية. فالحاكم يصبح عاجزاً بدون النظام الإداري للدولة وبدون الجيش أو الشرطة، وبدون انصياع قطاعات مفتاحية من الشعب. السلطة إذن تعتمد بمعظمها على تعاون الآخرين. اللاعنف يسعى للتقليل من سلطة الحاكم من خلال الانسحاب المتعمد من هذا التعاون وذلك الانصياع.

يجدر بنا أن ننوه إلى أن الوسائل العادلة في الغالب هي التي تحقق نتائج عادلة. عندما قال غاندي: "الوسائل للنتائج، كالبذرة للشجرة" فإنه أشار إلى الجوهر الفلسفي لما يسميه البعض السياسة المجازية. الداعمون للعمل اللاعنفي يحاجون بأن الأعمال التي تعتمد لتحقيق التغيير، تؤثر على المجتمع بشكل حتمي فتصبغه وتقولبه في شكلها وأسلوبها. ويجادل أنصار هذا الأسلوب بأن من غير المنطقي أساساً أن يستخدم العنف لتحقيق مجتمع مسالم. بعض المدافعين عن اللاعنف يدعون إلى احترام أو إلى محبة أعدائهم. وهذا النوع هو الأكثر قرباً من البعد الروحي أو الديني في فهم اللاعنف، وهذا ملاحظ في موعظة الجبل التي ألقاها المسيح: "أحبوا أعداءكم"، أو محبة الخير لكل المخلوقات، أو اللاعنف تجاه أي كائن، في البوذية. إن لمحبة الأعداء أو احترامهم تبريره العملي البراغماتي، فالفصل بين الفعل وبين الفاعل يترك الباب مشرعاً أمام الفاعل ليغير سلوكه ويتراجع عن أفعاله أو قناعاته. وقد قال مارتن لوثر كينغ: "اللاعنف لا يعني تجنب العنف المادي مع الآخرين، بل أيضاً العنف الروحي الداخلي. إنك لا ترفض إطلاق الرصاص على شخص آخر فقط، بل ترفض أن تكرهه أيضاً". إن الدعوة المسيحية لللاعنف والغفران تظهر أيضاً في القرآن من خلال قصة إبني آدم. كثيراً ما تعتمد الاتجاهات اللاعنفية في الإسلام على هذه القصة للدعوة إلى العمل اللاعنفي. كما تلتقي معها ممارسات الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) في كفاحه اللاعنفي الناجح ضد القرشيين طوال 13 عاماً من دعوته، لم يمارس خلالها أي شكل من أشكال العنف، حتى تمكن من إجراء تعديل ثقافي وفكري كاف لإنتاج سلطة برضى اجتماعي في المدينة المنورة.

بالنسبة للمنهج اللاعنفي عند غاندي تبدو كلمة ساتيا، أو الحقيقة أمراً مركزياً. فغاندي يعتبر الحقيقة بأنها متعددة الأوجه لا يمكن لشخص واحد أن يفهمها بشكل متكامل. الجميع إذن يملكون أجزاء من الحقيقة حسب اعتقاده، وكلهم يحتاجون إلى الأجزاء التي يملكها الآخرون وبتالي السعي نحو الحقيقة الأكبر. وهذا ما دعاه إلى الإكبار من شأن الحوار مع الأعداء والمخالفين في الرأي، من أجل فهم الدوافع. ومن أجل أن يستمع إليك الآخرون، يجب أن تتحلى بالقدرة على الإصغاء.

 لماذا اللاعنف؟

يقتبس معظم المدافعين عن اللاعنف مبادئهم من معتقدات دينية أو أخلاقية أو سياسية. وبذلك تنقسم خلفية العمل اللاعنفي إلى فرعين، اللاعنف المبدئي أو الأخلاقي، واللاعنف الاستراتيجي أو النفعي (البراغمتاتي). ومن الشائع أن يتواجد الفرعان في فكر مؤسسة ما أو لدى حركة لاعنفية عامة أو حتى مجموعة من الأفراد.

في الغرب تم استخدام الكفاح اللاعنفي بكثرة من أجل حقوق العمال، والسلام، والبيئة، وحركات حقوق المرأة وهي القطاعات التي لا تدعمها سلطة سياسية رئيسية. وقد لا يعلم البعض لكن الكفاح اللاعنفي لعب دوراً ومازال في تقليل سلطة الأنظمة السياسية في العالم الثالث وفي بلدان الكتلة الشرقية السابقة. ويقول والتر وينك: "في عام 1989، شهد ما يزيد على مليار ونصف المليار من البشر ثورات لاعنفية حققت نجاحات تفوق التصور... وإذا ما جمعنا كل الدول التي تأثرت بأحداث وحركات لاعنفية إلى بعضها البعض خلال القرن الحالي"، منها (الفلبين، جنوب أفريقيا، إيران... حركة التحرر في الهند)، "فإن الرقم سيزيد عن ثلاثة مليارات، وتزيد نسبة هؤلاء عن خمسين بالمئة من البشر، مما يدحض المقولات المتكررة التي تزعم بأن اللاعنف لا يحقق شيئاً في واقع الحياة".

ويقترح الباحث جين شارب في كتابه سياسة العمل اللاعنفي بأن السبب وراء الغياب الملفت للبحوث والدراسات المتعلقة باللاعنف عن الساحة الثقافية إلى أن النخب لن تحقق أي منافع من انتشار أساليب النضال اللاعنفي التي تعتمد على القوة الجمعية للمواطنين لا على الثروة والأسلحة.

 أساليب

يتألف العمل اللاعنفي من ثلاثة أصناف. أولها هو التظاهر والإقناع، وهو يشمل تسيير المظاهرات والتجمعات العامة، وله أدوات مثل اللافتات، الشموع، الزهور. الصنف الثاني هو العصيان، أو الامتناع عن التعاون أو عدم الطاعة، وهو سلوك استراتيجي متعمد يرفض التعاون مع الظلم، الصنف الثالث هو التدخل اللاعنفي وهو سلوك لاعنفي متعمد يستخدم غالباً التدخل المادي لمواجهة موقف أو حدث ظالم. مثل الاعتصام، احتلال المواقع، المرابطة حول الأشجار.

الإضراب عن الطعام، الإضرابات، والتجمعات والعرائض والتواقيع، الامتناع عن دفع الضرائب، العرقلة، الحصار، الامتناع عن الخدمة العسكرية، والمظاهرات العامة هي بعض الوسائل التي تم اعتمادها في الحركات اللاعنفية.

يجب أن يتم اختيار تكتيكات العمل بانتباه، وأن يؤخذ في الحسبان اختلاف الظروف السياسية والثقافية، والنظر إلى الأمر وفق خطة أو إستراتيجية أوسع. ويمكن أن تكون قائمة جين شارب مصدراً هاماً وملهماً لاساليب العمل اللاعنفي، وهي تضم 198 فكرة للعمل اللاعنفي.

يذكر الباحث والناشط جورج ليكي بأن هناك 3 استخدامات أو تطبيقات للعمل اللاعنفي:

الدفاع (مثل الدفاع عن الأحياء أو البلد من محتل خارجي).

التغيير (وهو أشهر أنواع العمل اللاعنفي ويهدف إلى إجراء إصلاحات أو ثورة للتغيير).

التدخل لحماية طرف آخر.

التطبيق الثالث المذكور، والذي ينص على التدخل لحماية طرف آخر، عبر الحدود مثلاً لمنع إعلان حرب ومن أجل فرض حلي سلمي للصراعات، واجه فشلاً عند التطبيق (على الأقل من ناحية منع الهجوم) كما كان الحال في غزو العراق، لكن حالات أخرى واجهت مستويات معقولة من النجاح. وتكون الأساليب الرئيسية المتبعة هي التجمع الأعزل والمسالم مع مرافقة أجهزة ووسائل الإعلام والمراقبين من منظمات حقوق الإنسان.

 لاعنفيون

هناك العديد من الشخصيات والقادة والمفكرين الذين بحثوا بعمق في الأبعاد الروحية والعملية للعمل اللاعنفي، منهم: الكاتب والروائي الشهير تولستوي، والرئيس البولندي الأسبق والحائز على جائزة نوبل للسلام ليخ فالينسا، والناشطة الألمانية بترا كيلي التي ساهمت في تأسيس الحزب الألماني للخضر، والراهب الفيتنامي المنفي ثيش نهات هانه، والصحافية الأمريكية دورثي دي، والناشط والثائر الأمريكي أمون هيناسي، والعالم الشهير ألبرت أينشتين، والمناضل الأمريكي مارتن لوثر كينغ، والمناضل الباكستاني عبد الغفار خان، والمفكر الإسلامي جودت سعيد، وكذلك جون هاوارد يودر وستانلي هورواس وديفد مكرينولدز وجون غالتينغ.

 الحياة بلاعنف

إن ظهور السلوك العنيف في غالبية المجتمعات الإنسانية في العالم يدفع البعض إلى التصور بأن العنف جزء موروث من الطبيعة البشرية، لكن آخرين ينظرون إلى الأمر بشكل مختلف، فهناك مثلاً من يقول بأن النهج العنفي في السلوك البشري هو ظاهرة حديثة نسبياً ظهرت قبل أقل من عشرة آلاف سنة على الأكثر، ولم تكن حاضرة في المجتمعات البشرية إلا بعد توطنها وبناءها للمساكن والتجمعات الحضرية. ويقارن المؤرخ توينبي بين العنف والصيد، مشيراً إلى أن الصيد كان أحد أهم وأكثر أساليب الحياة ارتباطاً بالبشر، فهم صيادون واعتمدوا على الصيد طوال ما يزيد على 98% من تاريخهم، إلا أن الصيد تحول خلال القرون القليلة الماضية إلى هواية ضيقة لا يمارسها سوى عدد قليل جداً من البشر ولم يعد بأي شكل مصدراً يمكن الاعتماد عليه للغذاء البشري. ورغم ارتباطه بالبشر طوال آلاف السنين تبين الآن أن الصيد لم يكن سوى مصدر مؤقت للغذاء البشري. كذلك فإن العنف طريقة مؤقتة لمواجهة المشاكل وحلها ولم تعد صالحة، خصوصاً مع التطور الثقافي والعسكري الذي منع الدول الكبرى من التحارب فيما بينها بسبب ترسانتها النووية التي ستؤدي إلى فناء كل الأطراف في حال تم استعمالها.

 اللاعنف والسلام الأخضر

يعتبر اللاعنف مفهوماً مركزياً في فلسفة جماعة السلام الأخضر، وهو مذكور في ميثاق السلام الأخضر العالمي. ويؤمن الخضر بأن على المجتمعات أن تنبذ النماذج الحالية من العنف وأن تعتنق العمل اللاعنفي. تستند فلسفة الخضر كثيراً على أفكار غاندي وتقاليد الكويكرز.

 نقد اللاعنف

من أشهر الناقدين للعمل اللاعنفي السياسي الروسي الماركسي ليون تروتسكي المناضل الفرنسي الأسود فرانز فانون، والكاتب والناشط الأمريكي الأكاديمي وارد تشرتشل والمناضل الأمريكي المسلم مالكوم إكس، هؤلاء كانوا ناقدين شديدين للعمل اللاعنفي على تنوعهم، فاللاعنف هو محاولة لفرض أخلاق الأرستقراطيين على الكادحين، وأن العنف ضروري لتحقيق التغيير الثوري، أو بأن حق الدفاع عن النفس مبدأ أساسي.

وقد علق مالوكم إكس على اللاعنف بقوله: "إن من الإجرام أن تعلم الرجل ألا يدافع عن نفسه، وهو يتعرض لهجوم متوحش ومستمر". ويعتبر جيل جديد من المؤرخين بأن الدفاع المسلح عن النفس الذي مارسه السود، والعنف الأهلي ساهم في الإصلاحات المتعلقة بالحقوق المدنية أكثر مما ساهمت أخلاقيات والمناشدات اللاعنفية.

إبان المظاهرات التي اجتاحت أوروبا ثم أمريكا عام 1999 للاعتراض على اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل، طالب متظاهرون مناهضون للرأسمالية ومشككون في فعالية اللاعنف باستخدام "أساليب متنوعة" من أجل الحصول على مطالبهم. وتقول الكاتبة الأمريكية المدافعة عن حقوق المرأة د. أ. كلارك في مقال لها بعنوان "امرأة تحمل سيفاً": "من أجل أن ينجح اللاعنف في تحقيق الأهداف المرجوة، لابد من أن يمارسه هؤلاء القادرون على اللجوء إلى القوة بسهولة عندما يقررون ذلك". ويحاجج هذا الطرح بأن الأساليب اللاعنفية سوف لن تحقق سوى القليل من أهدافها أذا ما استخدمتها مجموعات يعرف عنها أنها غير قادرة استخدام العنف.

يؤخذ أيضاً على العمل اللاعنفي أنه يعمل بشكل بطيء، وبوسائل متدرجة من أجل تحقيق التغيير السياسي، وبذلك تضعف العلاقة ما بين السبب والنتيجة أو الفعل ورد الفعل علاقة أو تصبح غير واضحة.

يشير المدافعون عن اللاعنف بأن الناقدين له عادة ما يوجهون نقدهم إلى البعد الأخلاقي للاعنف ويهملون الفوائد العملية والسياسية له، ويقولون بأن بعض الناقدين يتناسون النجاحات التي حققها اللاعنف على مدى التاريخ في مواجهة الدكتاتوريات والحكومات المتسلطة. وقد كتب الناشط الأمريكي جورج لاكي رداً مفصلاً بعنوان "العمل اللاعنفي سيف الشفاء" رد فيه على كتاب "مرض المسالمة" الذي ألفه الناشط الأمريكي الأكاديمي وارد تشرتشل.

أما النقد المتعلق بالسلبية التي يتصف بها العمل اللاعنفي، فيرد عليها اللاعنفيون بأن من الضروري أن نلاحظ كيف تمكنت الحملات اللاعنفية الناجحة من حرمان النظم الحاكمة من الدعم المالي (كما في مسيرة الملح في الهند)، في هذا السياق يمكن النظر إلى اللاعنف على أنه وسيلة للهجوم على الهيكل القيادي للحكومة أو النظام، أكثر من هجومها على شخص الحكومة أو شخص الحاكم.

لقد كان غاندي واضحاً في أنه لا يفترض وجود تعاطف أو إحساس بالعدالة من جانب الطرف الآخر، لقد ركزت فلسفته في اللاعنف بشكل كامل تقريباً على التغييرات التي يجب أن تطرأ على سلوك الطرف المعرض للاضطهاد. التغيرات التي قد يقوم بها المستبد تقع خارج نطاق سيطرة المضطهَدين. لذلك فإن أخلاقيات المستبد (سلباً أو إيجاباً) ليست ذات صلة في الأمر. ويؤكد غاندي بأن قيمة اللاعنف لا تقاس فقط بقدرته على تحقيق تغيير سياسي.

 الممتلكات أم الناس؟

الكثير من النقاش يتم بشأن العنف الذي يمارس ضد الممتلكات، والفرق بينه وبين العنف ضد الناس. في عديد من الدراسات اللاعنفية بما فيها دراسات جين شارب يشتمل العمل اللاعنفي على أنواع مختلفة من أعمال التخريب التي تستهدف الممتلكات، في حين يعتبر آخرون بأن أعمال التخريب والتدمير مهما كان نوعها قد تكون أو هي بالفعل أعمال عنيفة.

يشير البعض إلى أن أعمال التخريب غير فعالة من منظور استراتيجي إذا أنها قد تستخدم في تبرير مزيد من الاضطهاد وتعزيز سلطة الدولة. ويقول جورج لاكي بأن أعمال التخريب وحرق السيارات في عصيان باريس عام 1968 كان من شأنها إضعاف دعم الطبقة الوسطى والعاملة المتزايد تجاه العصيان، والحد من فرصه السياسية.

يطرح في النقاشات أيضاً تساؤل مفاده: هل المعتد أم الضحية هو من يقرر ما هو العنف. ويطرح أيضاً الاختلاف النسبي في القوة بين الأطراف، إضافة إلى نوع الأسلحة المستخدمة، وهل يعتبر مثلاً سلوك أطفال الحجارة في فلسطين عملاً عنيفاً أم غير عنيف!!

المسالمة والعدوان.. أسبابه وعلاجه؟(2)

 لعل النشاط الذي يعني به علم النفس الأرضي فيما يتصل بالحاجة إلى (المسالمة) أو الحاجة المضادة لها: (العدوان)، لعل هذا النشاط يستأثر بأهمية لا توازنها أهمية النشاط المتصل بالحاجات أو الدوافع الأخرى، ما دامت غالبية أنماط السلوك تتصل ـ من قريب أو بعيد ـ بهذا (الدافع).

ان الحقد والحسد والغيرة ـ على سبيل المثال ـ تُعدّ (مظاهر) داخلية للحاجة إلى (العدوان). كما أن الحرب والتنافس والكلام الجارح: تعد مظاهر (خارجية) للحاجة المذكورة. يستوي في ذلك أن يكون المظهر (حركياً) أو (لفظياً). حتى انه يمكننا أن نصنّف كل و غالبية أنماط السلوك: بما فيه من (أمزجة) و(سمات) ومفرداتها من: كذب وخيانة وخديعة وشتم.. و.. و.. الخ، يمكننا أن نصنفها ضمن (العدوان). وما يقابلها، ضمن (المسالمة).

من هنا، نجد أن كثيراً من الباحثين يتبعون هذا التصنيف الثنائي للدوافع أو الحاجات، أو ـ على الأقل ـ يدرجون سائر الدوافع أو الحاجات المختلفة، ضمن هذا التصنيف الثنائي العام.

والحق ان مثل هذا (التصنيف) الثنائي للحاجات، يظل على صلة كبيرة بواقع التركيبة الآدمية، وهو أمر يتوفر المشرّع الاسلامي على فرز خطوطه. لكن ضمن صياغة خاصة، متميزة عن التصور الأرضي للتصنيف المذكور.

ان بحوث الأرض حينما تتوفر على دراسة هذا الجانب (المسالمة والعدوان)، تنطلق من تصورات مختلفة فيما يتصل بـ(فطرية) هذا الدافع أو (اكتسابيته)، وبامكان (تعديله). مثلما تتفاوت في تحديد أسبابه وعلاجه.

فثمة اتجاه يرى إلى أن الكائن الآدمي (مسالم) في طبيعة تركيبة كل ما في الأمر أن (البيئة) بما تكتنفها من (ثقافة) منحرفة هي التي تنمي لديه نزعة (العدوان).

ثمة اتجاه ثان: يرى إلى الكائن الآدمي (صفحة بيضاء) من الممكن أن تحولها (التنشئة) إلى (مسالم أو عدواني). ثمة اتجاه ثالث: يرى أن (الإحباط) هو السبب في إنماء النزعة (العدوانية)، فما دامت حاجات الانسان لم (تشبع) بشكل يحقق توازنه الداخلي، فإنه مضطر إلى ن يستجيب للظواهر استجابة (عدوانية) ما دامت تقف حائلاً دون الإشباع.

يواكب هذا الاتجاه، اتجاه لا يقصر الأمر على الإحباط أو عدمه أو درجته وصلة ذلك بالعدوان، بل يجد ـ أساساً ـ أن عجز الانسان عن إشباع حاجاته، وإلى مفروغية (الإحباط). يضطره إلى (العدوان): بصفته استجابة حتمية للإحباط. على أن أشد الاتجاهات (مفارقة) هو: الاتجاه الذاهب إلى أن (العدوان) يمثل حاجة أو دافعاً (فطرياً) يرثه الكائن الآدمي بـ(الفعل).

وفي نطاق هذا الاتجاه، هناك مَن يجعله واحداً من (دوافع) متنوعة تتصل بشتى أنماط السلوك، ومَن يجعله (شطراً) واحداً من دافعين رئيسين يطبعان سلوك الانسان: شطره الأول هو: غريزة الموت، فيما يظل (العدوان) مظهر هذه الغريزة الأخيرة: (غريزة الموت).

وهذا كله فيما يتصل بالتصورات الأرضية لظاهرة (العدوان). أما التصور الاسلامي للظاهرة، فإنه من الوضوح بمكان كبير، ما دمنا قد أوضحنا في حينه، أن الكائن يرث بـ(القوة) مبادئ (الشهوة والعقل) أو (الذات والموضوع) أو (الخير والشر)، وإلى أن عملية (التأجيل) التي يمارسها في بحثه عن اللذة هي التي تترجم (القوة) إلى (فعل) إيجابي هو (المسالمة)، وعدمه

(أي: عدم التأجيل) هو الذي يترجم (القوة) إلى (فعل) سلبي هو: (العدوان).

وقد أوضحنا في حينه أيضاً، أن هذا المبدأ الثابت في تركيبة الانسان من الممكن في ظل ظروف أو شروط خاصة أن يطرأ عليه (التغيير) بحيث تصبح (النزعة العدوانية) ذات طابع (فطري) ترثه الشخصية بـ(الفعل): لأسباب سبق شرحها مفصلاً. ولعل النصوص التي قدمها الإمام الصادق (ع) عن الأفراد أو الرهوط الذين يرثون (أصولاً غادرة) ـ فيما منع الإمام (ع) التزويج منه ـ لعل هذه النصوص التي سبق الوقوف عندها (في حديثنا عن الوراثة والمحيط)، تلقي إنارة كافية على الظاهرة.

بيد أن ذلك كله، يظل (استثناء) للقاعدة، وليس مبدأ عاماً يسم البشر بأجمعهم (كما هو تصور بعض الاتجاهات الأرضية)، انه يمثل ـ كما أوضحنا ـ وراثة (طارئة)، وليس وراثة (ثابتة)، انه يمثل (انفاراً) و (رهوطاً) بأعيانهم: تضافرت جملة من الأسباب على تطبيعهم بالسمة المذكورة.

وخارجاً عن ذلك، فإن القاعدة تظل متسمة بوراثة (نقية) عن أية شائبة من (عدوان).

بيد أن ما نعتزم التشدد عليه في هذا الصدد، هو أن (العدوان) يظل أشد مظاهر (الشهوة) أو (الذات) أو (الشر) بروزاً بالقياس إلى المظاهر الأخرى.

ولعل هذا (البروز) هو الذي دفع أحد الباحثين بأن يجعل (العدوان) أحد شطري السلوك، على نحو لا مناص من صدور البشرية عنه، متمثلاً في سلوك (فردي) هو: مرض الشخصية، وفي سلوك (جمعي) هو: الحرب.. مثلما دفعه إلى أن يصنفه إلى عدوان مباشر باليد أو باللسان أو بأية حركة، وإلى عدوان غير مباشر (مثل: الدعابة، وفلتات اللسان، و.. الخ)، بل دفعه إلى أن يصور (العدوان) متجهاً حيناً نحو (الخارج) وهو العدوان المألوف: وحيناً نحو (داخل الشخصية) نفسها فيما يطلق على ذلك مصطلح (الماسوشية وهي: التلذذ بتعذيب الذات) قبال العدوان نحو الخارج فيما يطلق عليه مصطلح (السادية: وهي: التلذذ بتعذيب الآخرين).

ان ما لا مناقشة فيه، أن يظل (العدوان) أبرز مظاهر السلوك (الشهوي) (الذاتي) (الشرير)، انه يقف وراء غالبية الأنماط أو مفردات السلوك ـ كما سنرى، لكنه لا يمثل ـ (إرثاً) فطرياً من جانب، كما لا يرتبط بالمفاهيم التي ينطلق الباحث الأرضي المذكور منها في تفسيره للسلوك.

وخارجاً عن ذلك، فإنه (أي العدوان) يظل ـ مثلما قلنا ـ أشد أنماط السلوك (الشهوي) بروزاً من جانب، وإلى أنه يقف وراء غالبية أنماط أو مفردات السلوك (الشهوي) من جانب آخر.

وبامكاننا أن نتعرف على الحقيقتين المذكورتين، إذا أدركنا: أولاً ان (إيذاء الآخرين) هو المظهر الأشد بروزاً لكل سلوك (شهوي). فالممارسات الشهوية (الفردية) الصرف مثل: الشراهة في الطعام، أو المال، أو الجنس، أو اللهو.. الخ، إنما تعكس آثارها على (الذات) الشخصية، دون أن تمتد إلى (إيذاء الآخرين). أما الممارسات الشهوية المرتبطة بـ(الآخرين)، فإن انعكاسها عليهم، يظل أمراً من الوضوح بمكان كبير. فالقتل أو التجريح، أو السب، أو الإهانة، بل: الحقد على الآخرين بعامة، والحسد منهم، تظل أنماطاً (عدوانية) أشد بروزاً من الأنماط الأخرى المتصلة بالبحث عن (التفوق) أو (الاستطلاع) أو.. أو.. الخ.

ثانياً: ان غالبية مفردات السلوك، تظل وراء (النزعة العدوانية) بنحو واضح: فالاعتداء باليد أو السلاح، أو باللفظ من نحو: الغيبة والاستماع إليها، والافتراء، والشتم والإهانة والمزاح، وبالحركة مثل: السخرية باليد، والشفاه، والعيون، والمحاكاة بعامة، وبالممارسات الخارجية مثل: الغش والخديعة والهجران والسرقة و.. الخ، كل أولئك يظل مشكلة غالبية السلوك اليومي الذي تمارسه الشخصية الأرضية أو غير الملتزمة: فيما تضؤل أمامها ـ من حيث الكم ـ الممارسات الأخرى غير العدوانية.

ومن هنا يمكننا، أن ندرك سرّ التوصيات الاسلامية الحائمة على هذا المظهر من السلوك: بصفته أشد أشكال الذات بروزاً، وأضخم المفردات رقماً.

بل يمكننا أن ندرك صلة (الشخصية) بالآخرين: فيما يشدد المشرّع الاسلامي عليها من خلال مبدأ (الحب، وقضاء الحوائج) حيث يمثلان الدلالة الوحيدة المشروعة ـ في التصور الاسلامي ـ لصلة الشخصية بالآخرين، وإلا فإن (الآخرين) ـ كما لاحظنا ـ ملغون من حساب الشخصية التي تتعامل مع السماء.

ان مبدأ (حب الآخرين) و(قضاء حوائجهم) يمثلان الطرف المضاد تماماً، لطرف (العدوان) أو (الحقد).. فيما يعني: ان غالبية مفردات السلوك (الاجتماعي) الذي يرسمه المشرع للشخصية في تعاملها مع (الآخرين)، هذه المفردات بأكملها أو بغالبيتها قائمة على التدريب على نبذ (العدوان)، لأن (الحب) يعني بوضوح (المسالمة) بدلاً من (العدوان)، كما ان قضاء حوائج الآخرين يعني بوضوح: ان الشخصية (تحب) الآخرين فتقضي حاجاتهم، أي: إنها (مسالمة) حيالهم، لا إنها (معادية) لهم.

إذن: كل أنماط السلوك الاجتماعي أو غالبيته قائمة على طرفي (المسالمة) أو (العدوان)، فيما نخلص منه إلى أهمية تنظيم الدافع المذكور، ونعني به (الدافع إلى المسالمة) بدلاً من (الدافع إلى العدوان).

ومن هنا، فإن المشرّع الاسلامي، يظل ـ في توصياته ملحاً على مستويات شتى من (التنظيم) للدافع المذكور، متمثلاً في معالجته لكل مفردة من مفردات السلوك: بغية إزاحة (النزعة العدوانية) من الأعماق وإبدالها بالنزعة المسالمة: إشاعة الحب في الآخرين، وإشباع حاجاتهم.

إن الفارق بين التصور الاسلامي لنزعتي (المسالمة) و(العدوان) وبين بعض تصورات الأرض، أن الأخيرة منها (أي: بعض الاتجاهات الأرضية) حينما تجعل (العدوان) وكأنه

(فطري)، إنما تقلل ـ إن لم تمسح ـ فرص التوازن الداخلي والخارجي للانسان.

والغريب أن هذه الاتجاهات تطالب بـ(الحب) وتجعله معياراً للشخصية السوية قبال الشخصية العصابية من نحو مقولة أحدهم في تحديد الشخصية السوية، إنها هي التي (تُحِبّ وتُحَبّ)، لكنه في الآن ذاته يقرر مفروضية العصاب الفردي والجمعي (الأمراض والحروب) ما دام (العدوان) يشكل نزعة فطرية لا مناص من صدور الانسان عنها.

والغريب أيضاً، أن نجد مَن يطالب مثلاً، بالرد على العدوان لأنه يساهم في خفض التوتر من الأعماق؛ في حين يطالب المشرّع الاسلامي بالعفو، والتسامح: لإزاحة البقايا من الأعماق..

وكم هو الفارق بين اتجاه أرضي يوحي بأن الإزاحة العدوانية غير ممكنة، أو على الأقل: يمكن تخفيفها فحسب، أو تحويلها ـ من خلال عمليات التسامي ـ إلى نشاطات مقبولة اجتماعياً، أو ان ممارسته أحياناً يخفض من توترات الفرد، كم هو الفارق بين مثل هذا الاتجاه الذي يساهم في تدمير الانسان وتوتيره، وبين الاتجاه الاسلامي الذي يطالب بالحب، ويجعله أساساً ثابتاً في علاقة الانسان بالآخرين من نحو إشاعته مبادئ عامة في الحب، مثل: المؤمنون إخوة، وإلى أنهم كأعضاء الجسم إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء..، ومثل مطالبته بقضاء حوائج البعض الآخرين، ومثل مطالبته بالتزاور بينهم، والتودد إلى الآخرين، ومداراتهم، والإصلاح بين المتنازعين فيما بينهم، والصفح عن المسيء منهم، و.. و.. الخ.

خلاصة القول: التصور الاسلامي كدافعية (العدوان والمسالمة)، يحسم الموقف حينما يخضعهما لمجرد (ميراث بالقوة) إن (التدريب) على (المسالمة) كفيل بمسح أية شائبة عدوانية تفرضها التنشئة المنحرفة، حتى ليتحول الأمر ـ في نهاية المطاف ـ كما أشار النبي (ص) ـ إلى أن المداومة على فعل (ومنه: التدريب على الحب) يستتبع كراهية الشر (ومنه: النزعة العدوانية) بحيث تصاغ الشخصية مسالمة، محبة تنفر من (العدوان) لا أنها تصدر عنه.

مبدأ اللاعنف في فكر الإمام الشيرازي(3)

تحديد المصطلح والمفهوم

العنف، الإرهاب، العدوان، اللاعنف، العصيان المدني، الدفاع السلبي أو مبدأ المسالمة.

العنف (Violence): تُعرّف موسوعة علم النفس والتحليل النفسي مصطلح العنف بأنه السلوك المشوب بالقسوة والعدوان، والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره.. ويمكن أن يكون العنف فردياً (يصدر عن فرد واحد) كما يمكن أن يكون جماعياً (يصدر عن جماعة، أو هيئة أو مؤسسة تستخدم جماعات وأعدادا كبيرة، على نحو ما يحدث في التظاهرات السلمية التي تتحول إلى عنف وتدمير واعتداء، أو استخدام الشرطة للعنف في فضّ التظاهرات والاضرابات) .

أما الإرهاب (Terrorism) فبالرغم من عدم وضوح تعريف محدد له إلا أنه أخذ النمط البسيط، فعبر به عن العنف أو التهديد الذي يهدف إلى خلق خوف أو تغيير سلوكي.

أما النمط القانوني لتعريف الإرهاب، فهو يعني عنفاً إجرامياً ينتهك القانون ويستلزم عقاب الدولة. ويرجح بعض الباحثين الاجتماعيين نمطاً آخر، هو النمط التحليلي للإرهاب، ويعني عوامل سياسية واجتماعية معينة تقف وراء كل سلوك إرهابي.

ويطرح نمط آخر للإرهاب وهو نمط إرهاب الدولة، ويعني استخدام سلطة الدولة لإرهاب مواطنيها.

ويعرف العدوان Aggression بأنه كل فعل يتسم بالعداء تجاه الموضوع أو الذات ويهدف للهدم والتدمير نقيضاً للحياة في متصل من البسيط إلى المركب. ويكون العدوان مباشراً على فرد أو شيء هو مصدر الإحباط في صورة مختلفة سواء باستخدام القوة الجسمية أو بالتعبير اللغوي أو الحركي.

وعلى النقيض الكامل من مصطلح أو مفهوم العنف نتعرف على مبدأ اللاعنف أو ما يسمى أحياناً بالعصيان المدني، أو أحياناً أخرى الدفاع السلبي أو مبدأ المسالمة.

يعرف الإمام الشيرازي(قده) اللاعنف بقوله: هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بنّاءاً أو هدّاماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج(5).

ويُعرّف اللاعنف في الموسوعة السياسية بأنه سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات وهي المعرفة الصارمة والعميقة للنفس.

ويعرف اللاعنف ( Non Violence) أيضاً بأنه شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف.

أما مفهوم العصيان المدني، والذي يتقارب ببعض أبعاده مع مبدأ اللاعنف، فيعرف بأنه عصيان متعمد للقانون لأسباب دينية أو أخلاقية أو سياسية. والعصيان المدني يقتضي، في أضيق معانيه، أنه لا يحترم قانوناً ظالماً.

ويعرفه (راولز) بأنه فعل سياسي عام، غير عنيف، واع ومضاد للقانون، وهدفه تعديل قانون أو إقرار حكومي.

ويطرح (برتراتد رسل) تبريراً لاستخدام العصيان المدني بقوله أنه للنضال ضد الأسلحة النووية مقدراً أن السيرورات الديمقراطية والانتخابية غير كافية أمام تهديدها للإنسانية. أما المهاتما غاندي فيرى في اللاعنف بأنه سياسة يقف بمقتضاها الشعب ضد المستعمر موقف عدم تعاون وبطريقة سلبية ولا يلجأ بحال إلى العنف.

من العنف إلى اللاعنف.. نزعة أم دافع

يقول الإمام الشيرازي(قده) أن مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) لا أصل له في الإسلام، نعم قاعدة الأهم والمهم قاعدة إسلامية وهي قاعدة عقلانية يستعملها العقلاء، فأنه كلما دار الأمر بين ضررين قدموا الأخف على الأكثر، وذلك بخلاف (الغاية تبرر الوسيلة) فإنها تقدم الغاية مهما كلف الأمر، وهذه أشبه بالانتهازية والمصلحية والنفعية وهي لا مجال لها في الإسلام، وإزاء ذلك فإن العنف كدافع له الغاية التي تبرره، ولما كانت الغاية هي الوصول إلى هدف ما، فلا بد أن يكون سلوكاً مكتسباً لا سيما أن الدوافع ليست كلها متمركزة حول العنف وما يدور حوله؛ فدوافع الأمومة نقيض دوافع العدوان والعنف، ودوافع النشاط والإثارة، هي أيضاً دوافع بقاء الإنسان، ودافع الاكتشاف والتحكم، يقف أيضاً في الصف المضاد التام لدافع العنف. وعندما نستعرض هذه الدوافع بتكوينها ونشأتها نستطيع أن نصل إلى مبدأ اللاعنف في النفس الإنسانية. فدافع الأمومة كما عبر عنه عبد الرحمن عدس ومحي الدين توق، هو أحد دوافع الحفاظ على النوع، ويتمثل في رعاية الأبناء والعناية بهم وتلبية حاجاتهم الأساسية إلى أن يصبحوا قادرين على رعاية أنفسهم. ويستطرد الباحثان في وصف الدوافع ونشأتها، بأنها لا تعمل فقط على القيام بسلوكيات تحافظ على بقائها ونوعها، بل إنها تعمل على اكتشاف البيئة من حولها وتحاول التحكم في مظاهر البيئة من أجل أن تتكيف معها وتستزيد من نشاطها.

فالدوافع إذن مكتسبة، مُتعلمة، يحاول بها الكائن البشري أن يتكيف مع الواقع الذي يعيشه وهي بنفس الوقت تدفع الفرد للفهم والسعي نحو الجديد وتحقيق التقدم من أجل إثراء وإغناء الإمكانات السلوكية، وإزاء ذلك نجد أن أعظم قدرة لهذه الآليات تتمركز في دافع الاكتشاف والتحكم (السيطرة) من خلال الجذور الأولى للرغبة في المعرفة والاستزادة منها، ولولا وجود هذا الدافع لما وسع الإنسان من إطار حدوده ومعرفته الشيء الكثير الذي يزيد عن المعرفة الضرورية للبقاء البيولوجي ويعبر علماء النفس عن قدرة الكائن الإنساني من خلال دافع الاكتشاف والتحكم (السيطرة) في تنمية القيم والمبادئ الأخلاقية، فجذور سلوك الاكتشاف راسخة في الطفولة الباكرة للفرد، وتتزايد النزعة للمعرفة عند الأطفال بشكل سريع للغاية في السنوات الأولى من حياته وبضمنها نشوء المبادئ القيمية العظيمة، مثل مبدأ اللاعنف أو نقيضه بدوافع أخرى مثل دافع العدوان. فمبدأ اللاعنف يقوم على فلسفة آمن بها الكثير من دعاة السلم أو الساسة وخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين..

إن دوافع العنف، هي دوافع نفسية أولاً وأخيراً، ولا يمكن عزلها عن مجرى المتغيرات الحياتية الأخرى سواء في البيئة الاجتماعية للفرد أو الشخصية الإنسانية. ومن تلك المتغيرات التي ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، هي ظاهرة التعصب بكل أنواعه؛ فالتعصب اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً أو جماعة أو موضوعاً معيناً إدراكا إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً، دون أن يكون لهذا الإدراك أو ذاك ما يبرره من المنطق أو الأحداث أو الخبرات الواقعية؛ فالتعصب ظاهرة سلبية، خاصة التعصب الديني أو العرقي أو الطائفي، فهو يمثل مشكلة خطيرة تهدد السلام الاجتماعي داخل المجتمعات القائمة، وازداد التعصب وتبلورت صوره في العنف عند ظهور الجماعات الإرهابية بكل انتماءاتها..

إن مبدأ اللاعنف بكل أشكاله ابتداءً من العصيان المدني أو مبدأ المسالمة أو الدفاع السلبي.. يقوم على فهم واحد هو احترام الإنسان ككائن بشري، لا يمكن فناؤه أو تدميره، رغم أن ظاهرة العنف تستخدم بنفس القوة صورة منهجية مطلقة تعتمد على نوابض اللاشعور لدى الأفراد والجماهير المتأثرة بفكر متعصب أو جماعة تؤمن بالعنف كطريق موصل إلى الأهداف، وإقامة ضرب من نظام الرعب، ولكن من المناسب أن نميز بين العنف بوصفه نظاماً، وبين صوره الفردية الموجودة في كل مجتمع؛ فمن الممكن على وجه تام أن يكون مجتمع من المجتمعات غير عنيف في كلية بنيانه، ولكن سير العنف الكيدي يمكن على نحو تام جداً أن يتم يومياً تقطيره (بلطف) دون أن نكون على وعي بهذا العنف، أنه ليس صنيع المجموعات الاجتماعية الكبرى وهو قديم قدم الوجود الإنساني، وجد منذ بداية التاريخ، ومنذ أول حدث للصراع بين البشر المتمثل في الخلاف بين قابيل وهابيل. ويبرر علماء النفس أخيراً أن العنف ليس بغريزة فطرية ولكنه ظاهرة نفسية اجتماعية، فالإنسان الكائن الاجتماعي الواعي بغرائزه البيولوجية، على عكس الحيوان الذي لا يمتلك الإرادة والوعي بالغريزة – والحيوان قوي بجسده ضعيف بعقله، أما الإنسان فضعيف بجسده قوي بعقله – وهذا تدعيم لما سبق، ويمكننا القول أن الإنسان بوعيه وإدراكه للواقع الاجتماعي يحاول الرد على الأذى الذي أصابه مثل اغتصاب حق من حقوقه أو الدفاع عن شيء من خلال عدة سلوكيات مقبولة، وبضمنها اللاعنف أو مبدأ المسالمة أو العصيان المدني، لا سيما أنه (الإنسان) عاقل يتحقق وجوده في ظل واقع اجتماعي يمارس فيه كل متطلبات وجود البقاء الإنساني.

خلاصة القول أن الإمام الشيرازي(قده) وضع المبدأ الفعّال في سياق حركة الأبعاد الاجتماعية، من خلال رفض العنف والإرهاب، فهو - كما يرى- لا يولد إلا التأخر، ويوجب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين وهو محرم  وقوله أيضاً: إن إراقة الدماء تقود الحكم نحو التحطيم والفناء إن لم يكن في القريب ففي البعيد.

اللاعنف من المبدأ إلى التطبيق

أثبتت الحركة التاريخية للأمم والحضارات أن الأفكار والثقافات تتشكل في إطار زمني طويل، بحيث تنمو ضمن عمر حركي وتاريخي لا يقاس بعمر جيل أو جيلين من عمر البشر، بل هو أبعد من ذلك، مما يصعب تغييره فوراً، وإنما التغيير يتم بجرعات طويلة المدى هادئة.. هذا من جانب ومن الجانب الآخر أن يكون التغيير نحو الأفضل هو المبدأ وهو الأساس، فالإمام الشيرازي(قده) نادى بمبدأ التغيير في كل مجالات الحياة ومواكبة حركة التطور الطبيعي للتاريخ وحركة التغيير الاجتماعي. ومن هذا المنطلق الفكري كان ينادي حتى وفاته باستخدام مبدأ اللاعنف في كل مجالات الحياة. فالإمام الشيرازي(قده) يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارهما من الأساليب التي تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، ويستند في دعوته هذه إلى فكره الإسلامي العميق القائم على ما ورد في القرآن الكريم من آيات صريحة، والسنة النبوية الشريفة وروايات آل بيت الرسول(ع)، فيقول سماحته: (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء) ، وهو يطرح أفكاره ونظرياته التي تساير وتواكب التمدن والتغيير الاجتماعي كمبادئ تحولت إلى ميدان التطبيق الواقعي، وهو بنفس الوقت يرفض جميع أنواع التسلط والتعسف والعنف على الأفراد أو على الشعوب في سياق التعاملات الفردية والجماعية، ويستمد هذه الرؤية من قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ادخلو في السلم كافة) (البقرة: 208) ويستطرد سماحته مؤكداً على مبدأ اللاعنف كحقيقة لا يرقى إليها الشك إطلاقاً في الدين الإسلامي بقوله: (إن الأصل في الإسلام: السلم واللاعنف).

إن الإمام الشيرازي(قده) الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الأديان قامت على مبدأ السلم والمسالمة والأخوة بين البشرية ونبذ اللاعنف بقوله: إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، ان الله يحب المتوكلين) (آل عمران: 159).

يقسم الإمام اللاعنف إلى أقسام بعد أن آمن به كمنهج وطريقة يعالج بها الإنسان الأشياء بكل لين ورفق، فهو يقسم اللاعنف: في اليد، وهو أنه لا يمد الإنسان يده نحو الأعداء، ولو بالنسبة إلى أقوى خصومه، ولو كان المد لرد الاعتداء، ويضيف سماحته أن اللاعنف اليدوي سلاح يجلب إلى الداعية النفوس، ويؤلب على أعدائه الناس.

أما القسم الثاني من اللاعنف، فهو اللاعنف اللساني، وهو أنه يلزم الإنسان لسانه، ويلجم كلامه عن النيل من المعتدي وهو فضيلة كبرى، أما القسم الأخير وهو اللاعنف في القلب، وهو أنه لا يملأ الإنسان الداعية قلبه بالعنف بالنسبة إلى خصومة ومناوئيه ورغم ما ينادي به السيد الإمام الشيرازي(قده) من عمق هذا المبدأ، ودعوته إلى التطبيق العملي له فإنه يرى أن الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل، والحرب هي الاضطرار، وأن الجهاد

والحرب حكم ثانوي اضطراري وأن السلم هو الحكم الأولي.

الخصائص النوعية لمبدأ اللاعنف

عدّ الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، الداعية الإسلامي في عالمنا المعاصر أحد أبرز رجالات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، طرحاً لمفهوم اللاعنف بكل مجالاته الفكرية النظرية والعملية التطبيقية، فهو يؤكد دائماً بأن مبدأ اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابة، ولا تردها، وأن سنحت الفرصة، ويقول أيضاً: (نعم.. ليس من معنى اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية لا عنف؛ والوقاية من اللاعنف)  ويعرض سماحته لخصائص اللاعنف النوعية من خلال تقسيماته التالية:

أولاً: اللاعنف الملكي..

أي تكوين النفس، بحيث تظهر على الجوارح

ثانياً: اللاعنف القسري الخارجي..

أي إن الضعف أوجب ذلك، فإن الضعيف – عادة – يلجأ إلى اللاعنف للوصول إلى هدفه

ثالثاً: اللاعنف القسري العقلاني..

أي أن يرجح اللاعنف على العنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، لا كسابقه، عن ضمير، وإنما يرجحه حيث أنه يراه طريقاً للوصول إلى هدفه.

إن الإمام الشيرازي(قده) عندما يطرح مبدأ اللاعنف كإطار مرجعي فكري، فأنه يقصد بذلك بعداً نفسياً وروحياً واجتماعياً في جميع التعاملات الإنسانية، والدليل على ذلك قوله: (إن قوة الروح غالبة على قوة الجسد، وملكة (قدرة ability) اللاعنف من صفات الروح التي تؤثر في سلوك الإنسان وتصرفاته) ، ويضيف سماحته بتعميم أوسع عن مبدأ اللاعنف بقوله: (على الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف)  ويناقش سماحته السلوك الإنساني في الواقع الاجتماعي من خلال تداعيات النفس الإنسانية في قوتها وضعفها، غيها وارتدادها، لطفها وسماحتها، فالإنسان لا بد أن يخضعها إلى الطريق القويم، حيث قال: (إن الإنسان بطبيعته يغضب ويثور، ويذكر معايب الآخرين، ويدخل مع الناس في صراع وحقد وبغضاء وعداء ومقاطعة، وإن الإنسان مسالم حازم عاقل مفكر مدبر، فإذا لقن نفسه بهذا التلقين ليله ونهاره، وشهره وسنته فأنه يتطبع بطابع السلم)  فالإمام الشيرازي يرى أن النفس البشرية تمتلك الخصائص النوعية لتدعيم السلوك الإنساني من خلال قوة التطبع بطابع السلم والمسالمة؛ فاتجاهات التطبيع الاجتماعي Socialization والنفسي والأساليب الموصوفة تتشابه تشابهاً كبيراً في التربية وفي المجتمع الواحد والتنشئة الاجتماعية، وتتفق آراء الإمام الشيرازي(قده) وقوة طروحاته الفكرية مع آراء علم النفس الاجتماعي بقولهم: صحيح أن هذا الرأي لا تعكسه معطيات البحث التجريبي، لكنه يتطابق مع النمط السائد، وقد تبين أن التدريبات الموصى فيها تتغير تغيراً شديداً من فترة إلى أخرى، ويستطرد علماء النفس الاجتماعي في ذلك تأييداً لطروحات الإمام الشيرازي(قده) بقولهم: (يستند البحث في تأثيرات أساليب التطبيع عامة على بيان العلاقة بين سلوك الأبوين وشخصية الطفل في عدد كبير من الأسر).

إن تدعيم الخصائص النوعية لمبدأ اللاعنف التي أكدها الإمام الشيرازي(قده) قامت في أحد أنماطها الثلاثة على مبدأ اللاعنف القسري العقلاني وفقاً للقاعدة الفقهية التالية، وهي أن يرجح اللاعنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، ولكنه يرفضه.

وبهذه الأفكار النظرية يناقش السيد مرتضى الشيرازي، أحد معتنقي مبدأ اللاعنف بقوله: (إن الإسلام يدعو إلى اللاعنف حتى في اللسان، ويستشهد السيد مرتضى الشيرازي بقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام: 108) وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع): إني أكره لكم أن تكونوا سبابين). ويصل في مناقشته بقوله: (إن من يملك قوة المنطق لا يحتاج إلى منطق القوة).

بعض الآراء الفقهية للإمام الشيرازي في مبدأ اللاعنف

إن مبدأ اللاعنف في فكر السيد الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده) يأخذ منحى التطبيق الواقعي، وهو يعتمد في ذلك على الرؤية الإسلامية الواضحة، حيث يقول: (السلام هو الأصل، والعنف خلاف الأصل، وعلى الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف). بأن يكون قلبهم، وتبعاً له كل جوارحهم يريد السلام ويتجنب العنف، لفظاً ورؤية، وإشارة وعملاً ويضيف سماحته: (لا يجوز الاعتداء وهو ظلم إطلاقاً ودلت عليه الأدلة الأربعة؛ وقال الله سبحانه وتعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 190).

ويطرح الإمام رأياً فقهياً عن العنف والطغيان بقوله: (يحرم الطغيان بلا إشكال)  ويستند في ذلك لقول الله سبحانه وتعالى: (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا أنه بما تعملون بصير) (هود: 112) ويستطرد سماحته في إيضاح هذه القاعدة بقوله: (لا يجوز الاعتداء والطغيان، كذلك لا يجوز التعسف في استعمال الحق، كما لا يجوز الفتوى والقضاء على طبق التعسف إذا كان التعسف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير، وإلا جاز إذ لا نص بالنسبة إلى لفظ التعسف، وإنما الميزان هو ما ذكر في الشريعة من لفظ، لا ضرر ولا ضرار..).

إن الإمام الشيرازي(قده) في دعوته إلى مبدأ اللاعنف لكل البشرية دون استثناء، اعتمد على صياغة مفاهيم الحياة صياغة جديدة وممارسة شؤونها ممارسة فعلية، فقال في اللاعنف: (بل من اللاعنف أن يتجنب كل ما يشين الطرف، ولو بالكتابة والتعريض، أو التلويح، فإن ذلك كله عنف) ، ويناقش سماحته مبدأ اللاعنف مع العنف، وأن العنف يولد العنف، والعنيف يجد من هو أعنف منه، فيقول: (اللاعنف أحد مقومات الدعوة التي ندعو إليها وهي حكومة إسلامية واحدة.. ) ويؤصل سماحته لذلك بقوله: (لقد ورد اللاعنف لفظاً ومعناً في روايتين إحداهما عن رسول الله (ص): من علامات المؤمن اللاعنف، والثانية عن الإمام جعفر الصادق(ع): من علامات المؤمن اللاعنف) .

 اللاعنف في منهج النبي (ص) وآل بيته(ع)

إن الإسلام كدين سماوي قام على أسس المبادئ الرفيعة في التعامل والمعاملات بين الناس، فكان رسول الله محمد (ص) داعية السلام الأول، وكان السلام منهجه؛ فالنبي الأكرم(ص) دعا إلى عبادة الله الخالق بأسلوب السلم واللاعنف استناداً إلى قول الخالق عز شأنه: (ادخلوا في السلم كافة) (البقرة: 208) وقوله سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256) وقوله أيضاً: (وإن تعفوا أقرب للتقوى) (البقرة: 237).

أما النبي الأكرم(ص) فقد آمن إيماناً مطلقاً بمبدأ المسالمة واللاعنف بقوله(ص): (تعافوا تسقط الضغائن بينكم) ، وقوله (ص): (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (العفو تاج المكارم) ويضيف رسول الله (ص) في مبدأ اللاعنف بقوله: (العفو أحق ما عمل به).

إن مبدأ المسالمة واللاعنف هو الطريق الأمثل الذي سار عليه النبي المصطفى (ص) وآل بيته(ع)، فقد قال الإمام جعفر الصادق (ع): (إنا أهل بيت مروتنا العفو عمن ظلمنا)  وقال (ع): (الصفح الجميل أن لا تعاقب على الذنب).

إن آل بيت النبي (ص) آمنوا بمبدأ السلام والمحبة واللاعنف في كل تفاصيل حياتهم حتى أنهم مارسوه في كل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها رغم ما تعرضوا له من قسوة وتنكيل من الساسة والحكام والولاة والخلفاء؛ فالإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول: (صافح عدوك وأن كره، فأنه مما أمر الله عز وجل به عباده، يقول: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقّاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) وما يكافأ عدوك بشيء أشد عليه من أن تطيع الله فيه)  ويحذر الإمام علي (ع) من اللجوء إلى القوة والعنف والتعسف ضد الآخرين، بل يدعو إلى استخدام المسالمة واللاعنف بقوله (ع): (إحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود الجلاء، والحيف يدعو إلى السيف)  ويورد لنا الإمام زين العابدين (ع) أعظم صورة من صور المسالمة واللاعنف بقوله: (حق من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو عنه يضر، انتصرت).

إن مبدأ اللاعنف والسلام والتعامل السلمي كان من أبرز سمات الحضارة الإسلامية عبر

التاريخ، فالدين الإسلامي دين المحبة والأمان، يدعو معتنقيه إلى الدخول في السلم كافة معتمداً في ذلك على ما ورد في كتاب الله العزيز وما جاءت به السنة النبوية الشريفة وآل بيت الرسول(ع)، فما يدعو إليه أحفاد النبوة، هو دعوة صادقة لمنهج راسخ يعايش التطور والتغيرات الكونية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً..

قوة اللاعنف كنشاط سياسي وأسلحته(4)

اللاعنف كنشاط سياسي

اللاعنف أداة قوة، استراتيجية للتحرُّر، ووسيلة للاستنهاض الاقتصادي، لكنه، في المقام الأول، يعني الفعل. فاللاعنف يدفع الناس، في طلبهم للعمل العادل والأخلاقي، إلى الفعل، تحدوهم في ذلك العدالة والأخلاق، بدون اللجوء إلى الإكراه المادي. وهو يشتمل، في آنٍ معًا، على حضٍّ على العمل الأخلاقي، على عدم السكوت على الظلم، وعلى نداء إلى التعبير عن النظرات الشخصية إلى الأخلاق كخطوة نحو مساعدة الآخرين في المجتمع الأوسع. اللاعنف هو الفعل مستندًا إلى المبدأ، معمولاً به على نحو تكتيكي يفعِّل الجانب الأخلاقي على نحو أشد ما يكون فعالية. إذ لا غنى عن اعتماد التكتيك والاستراتيجيا من أجل تقرير ما يجب القيام به وكيفية القيام به. والمفتاح هنا هو العلاقة بين الوسائل والغايات – إذ لا فصل بينهما. وهذا هو لبُّ ممارسة اللاعنف.

للعلاقة بين المبدأ والممارسة في النشاط اللاعنفي تأثير. فقد يحدث، في بعض المناسبات، أن يتسبب النشاط اللاعنفي نفسه في التوصل مباشرة إلى النتيجة المطلوبة، كأن تُقنِع مظاهرةٌ الزعماء السياسيين بتغيير مسار نشاطهم. ومرارًا جدًّا ما يلعب النشاط اللاعنفي الناجح دور المحرِّض على حشد الدعم المعنوي والسياسي لتغيير السياسة الاجتماعية والسياسية. لقد كانت مسيرة غاندي الهادفة، سلاميًّا، إلى احتلال الملاحات في الهند شديدة الفعالية لأن العديد من القوم تحلوا بالشجاعة على مواصلة السير في الرتل حتى المدخل حيث كان الحراس ينهالون عليهم ضربًا بالهراوات. كما حققت حركة الحقوق المدنية الأمريكية كذلك مكتسبات جمة من خلال أفراد تآزروا على القيام بمجازفات مماثلة. ففي برمنغهام، ألاباما، حيث هاجم رجالُ الشرطة السائرين المسالمين، وهم راكعون يغنون الأناشيد، مستخدمين الهراوات ومطلقين كلابهم، استبانتْ ببلاغة حجةُ السائرين للملايين من مشاهدي الحدث على التلفزيون الذين أدركوا عدالة قضية السائرين وظلم السلطات.

مرارًا ما يكون النشاط اللاعنفي الاستراتيجي استفزازيًّا. وهو يحرج المعارضة – وهي غالبًا ما تكون السلطات – من وجهين اثنين: فإذا أجيز النشاط اللاعنفي فإنه يقيم حجَّته وتكتسب الحركة قوة؛ أما إذا قاومت السلطات – ولاسيما حيث تلجأ إلى الوسائل العنيفة – فإن العدالة النسبية لقضية الناشطين، إذ يظهر ظلمُ خصومهم للعيان جسيمًا، تحرز لهم كسبًا سياسيًّا لا يستهان به.

اللاعنف يتطلب شجاعة. لكن الشجاعة ليست هي التهور، والنشاط الذي يكون مدمِّرًا لذات المرء و/أو لمؤيِّديه، عن قصد كان أو عن طيش، نشاط مؤذٍ، وبالتالي، عنيف وظالم في صميمه. فالشجاعة وإرادة العمل ينبغي أن يُوازَنا بالاعتدال. وحتى يلتزم المرء العدل، عليه أن يكون عاقلاً ويتصرف بتعقُّل. والتعقُّل يتضمن عددًا من الخصال، بما فيها أخذ الوقت اللازم لفهم وضعٍ ما وتقييمه فهمًا وتقييمًا متأنِّيين قبل النهوض للفعل، بحيث إن ذلك النشاط يأخذ بالحسبان كافة عناصر الوضع ويكون ملائمًا لها.

أسلحة اللاعنف

اللاعنف، كفنٍّ من فنون القوة، نشاط يقود إلى العدالة والسلام في آنٍ معًا. إنه وسيلة لتعاطي القوة واستراتيجيا مصمَّمة لقتال خصم عنيف وعازم ومدجج جيدًا لممارسة القوة العسكرية. إنه استراتيجيا مصمَّمة للاستعمال ضد خصوم يتعذر دحرهم بالعنف. واللاعنف لا يقلل من عنف الخصم، بل يعطِّل فاعلية عنفه وحسب. فالقامع يحافظ على سلطانه من خلال خنوع المقموع. فحالما يتم التراجع عن هذا الخنوع فإن القامع يفقد سلطانه.

تشتمل أسلحة اللاعنف على مناهج نفسانية واقتصادية وسياسية، ويمكن أن تنقسم إلى خمسة أبواب:

- مناهج الاحتجاج والاستمالة اللاعنفيين التي تتضمن تصريحات رسمية، وبلاغات إلى جمهور أوسع، وأفعال علنية رمزية، وسهرات، ودراما وموسيقى، ومسيرات، وتجمهرات علنية، والانسحاب والزهد.

- مناهج اللاتعاون الاجتماعي التي تتضمن اللاتعاون مع المناسبات الاجتماعية، والأعراف، والمؤسَّسات، والانسحاب من النظام الاجتماعي.

- مناهج اللاتعاون الاقتصادي التي تتضمن المقاطعة لجهة المستهلكين، والعمال والمنتجين، والمالكين والمديرين، وأصحاب الموارد المالية، والحكومات.

- مناهج اللاتعاون السياسي التي تشمل رفض السلطة وعدم تعاون المواطنين مع الدولة.

- مناهج التدخل اللاعنفي التي تتضمن نشاطات مباشرة ذات مكوِّنات نفسانية وجسمانية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وأسلحتها المفضلة عبارة عن الإضراب عن الطعام، والاحتلال والحصار اللاعنفيين، وإقامة مؤسَّسات معتمدة على الذات أو حكومات موازية منافسة.

وللاعنف، شأنه شأن أدوات القوة الأخرى (من نحو الحرب التقليدية أو حرب العصابات)، متطلباتُه الخاصة للفاعلية التي لا بدَّ من اعتناقها من أجل إحداث الوَقْع الأقصى للتقنيات اللاعنفية. ونجاح اللاعنف يتوقف على عدد من العوامل.

فلا بدَّ من وجود استراتيجيا إجمالية ذات أهداف قابلة للتحقيق. ولا بدَّ من وجود حركة متصاعدة من هدف قابل للتحقيق إلى الهدف التالي. ولا بدَّ أن تكون الاستراتيجيا الإجمالية قابلة للتكيف مع التغيير بدون الحياد عن القيم. والتدريب المكثف والاعتماد على النفس والانضباط ضرورية للفرد وللجماعة – إذ لا مجال هنا للارتجال.

للاستراتيجيا اللاعنفية تاريخ طويل بدرجات متفاوتة من النجاح. ولقد أُحرِزَ النجاح أحيانًا عبر تغيير أذهان ومواقف الخصوم – لكن ذلك نادر. والأغلب هو إحراز نجاح جزئي عبر التسوية (كسب المرء جزءًا من أهدافه وتخليه عن جزء آخر). ولقد أظهرت الاستراتيجيا اللاعنفية قدرتها على إحداث إكراه لاعنفي للخصم (بحيث لا يبقى له من بديل سوى الاستسلام). وفي بعض الحالات قد يحدث حتى أن يتفكك نظام الخصم في وجه النبذ واللاتعاون الحاشد الشال، كما في حالة سقوط نظام ماركوس في الفيليبين في الثمانينات. كما شُنَّتْ الاستراتيجيا اللاعنفية في السنوات الأخيرة في أصقاع عديدة من العالم، بما فيها تشيلي، جنوب أفريقيا، بولونيا، المجر، بورما، وفلسطين نفسها إبان مستهل الانتفاضة الأولى. كذلك استُعمِل اللاعنف لإنهاء نظام ميلوشيفتش في صربيا. وقد مارست الاستراتيجيا اللاعنفية تاريخيًّا قوة لا يستهان بها في النزاعات عندما طُبِّقتْ ببراعة، وكثيرًا ما جابهها الخصوم بقمع جديٍّ. وردَّة الفعل تلك تكشف عن قوة اللاعنف. وفي الواقع فإن قسوة القمع ضد المقاومين اللاعنفيين تطلق عملية "جيوجيتسو*** سياسي" تزيد من المقاومة وتبذر المشكلات في معسكر الخصوم نفسه وتستنفر جهات ثالثة مناصَرةً للمقاومين اللاعنفيين.

اللاعنف طـــاقـــة إنســـانيــة للتغــيير(5)

ينتشر استعمال العنف أكثر فاكثر في العالم . عنف في الأعمال والعلاقات والبنيات والقوانين والأوضاع القائمة . عنف فردي وعنف جماعي عنف السلطة وعنف الفتن والثورات ...

ردات الفعل على العنف كثيرة ، يمكن إرجاعها إلى أربع :

- السلبية .

- العنف .

- اللاعنف غير المنظم، الأخلاقي وحسب .

- اللاعنف المنظم، الأخلاقي الفاعل .

اللاعنف المنظم: المبني على النظرة للإنسان كقيمة مُطلقة يَعتبر كل ظاهرة سلبية أو عنفية غير مقبولة لأن كليهما ضد قيمة الإنسان . قد يُمتدح ويُمجد العنف عادة أكثر من السلبية لأنه قادر أن ينتج فضائل كالشجاعة والتضحية بالذات . . . ولكن ذلك لا يجعله أكثر قبولاً.

اللاعنف المنظم يتضمن اللاعنف الأخلاقي غير المنظم كجزء لا يتجزأ ضروري ولكن غير كاف لتأمين الإحترام الكامل لهذه القيمة، لذلك يسعى لتغيير كل ظاهرة عنف أو ظلم.

وهو يشتمل مع النظرة اللاعنفية والأخلاقيات اللاعنفية على "البراكسي" اللاعنفية أو الممارسة اللاعنفية، وهذه الأبعاد الثلاثة متلازمة متداخلة.

اللاعنف ليس السلبية:

قبل الشروع بتفصيل هذه الأبعاد الثلاثة للاعنف من المهم جداً التأكيد مسبقاً في هذه المقدمة المختصرة أن اللاعنف ليس السلبية ، كما قد يتبادر إلى ذهن الذين يسمعون به لأول مرة أو الذين لم يتفهموا أبعاده على حقيقتها وهذه السلبية تأخذ أشكالاً متنوعة منها:

- الهرب والتهرب: من قبل الذي يحاول ان يتجنب وطأة العنف .

- الجبن : من قبل الذي يخاف أن يواجه من هم سبب العنف .

- الضعف : المتخذ كشعار وكموقف تكتيكي للقوة ، أي لمن يعتبر قوته في ضعفه .

- التواطؤ والمساومة: من قبل الذي يقيم تسويات مع الإنسان العنفي أو يستعمل ضده أساليب "دبلوماسية ".

- التخاذل والاستسلام: من قبل الذي يقبل أن ينكسر أمام العنف .

- الانتظارية والتسويف: من قبل الذي يأمل من الوقت أن  ينتهي بإزالة العنف ، دون أي اسهام شخصي منه.

- التصبر والتجالد: من قبل الذي يقبل بالعنف دون مواجهة أو مقاومة والذي قد يقوم في ذلك بجهد بطولي.

- الحياد اللامبالي: من قبل الذي لا يأخذ موقفاً تجاه العنف والعنفيين.

العنف المنظم لا يمت بصلة لأي شكل من أشكال السلبية هذه.

ليس اللاعنف فضيلة  "دون عنف":

واللاعنف المنظم ليس فضيلة من الفضائل التي تكتفي بأن لا تتضمن أي عمل عنفي، مثلاً:

- التسامح: من قبل الذي يقبل بتعددية الآراء أو المواقف أو المسلكيات ، وذلك بسبب انفتاحه - السلمية: من قبل الذي  يقاوم العنف بوسائل سلمية ولكن غير منظمة .

- الاستشهاد ذاته: من قبل الذي يقبل أن يكون ضحية العنف لهدف وطني أو ديني مهما كان سامياً.

هذه "مشاكل" جميلة ولكنها ليست اللاعنف المنظم الذي ستتكلم عنه هذه الوثيقة.

ليس اللاعنف موقفاً ساذجاً:

- واللاعنف المنظم، من جهةاخرى، ليس مبنياً على تصور وهمي تفاؤلي ساذج للعالم والمجتمع والانسان، تصوّر لا يرى مختلف ظاهرات العنف التي تتفجر فيه, بل بالعكس هو واضح الروءية يسعى لتحليل هذه الظاهرات مع اسبابها.

اعتماد لفظة " النافية ":

قد تزعج البعض الصيغة النافية للفظة "لا عنف" وبالرغم من ذلك فقد ابقي عليها بدلا من اعتماد صيغة بدون نفي لانها اكتسبت بسبب فكر وممارسة كبار اللاعنفيين ( مثل تولستوى , وغاندي ومارتن لوثركنغ ) معاني لا تحملها معاً اية لفظة أُخرى.

"واللاعنف" غير لفظة "دون عنف" التي تعني فقط السلمية وغياب العنف.

مـدخـل للاعـنـف:

هذا النص هو حصيلة عمل جماعي, حصيلة لعدة كراسات ظهرت حول اللاعنف المنظم, وقد كتب بصيغة مبسطة ومختصرة ليكون مدخلا للاعنف , نظرية واخلاقيات وممارسة. وهو مُوجه خاصة للذين يسعون للالتزام في تغيير الواقع بطريقة لا عنفية اياً كانت انتماءاتهم الدينية والعقائدية والأيديولوجية.

يحتوي على ثلاثة أجزاء:

1-  نظـريـة اللاعـنـف :

النظرية هي التصور الفكري الذي يتضمن مبادئ ومسلمات معتبرة كحقائق تحتاج إلى براهين. وقد اختيرت خمس مسلمات أساسية في هذا المدخل تؤلف نظرية اللاعنف .

1-1- الكائن الإنساني هو في العالم ، القيمة المطلقة الوحيدة :

جميع الكائنات في العالم  الحية أو الجامدة ، الفكرية أو المؤسسية ، قيمتها نسبية تجاه الإنسان ويجب أن تبقى نسبية لتظل في خدمته .

النظرية الفلسفية والأيديولوجية التي تعتبر الإنسان كائناً نسبياً عرضياً زائلاً ، يصعب عليها أن تأتي إلى الجهاد اللاعنفي أو أقله أن تبرره إنطلاقاً من تصورها هذا للإنسان .

1-2- كل كائن إنساني له حق أول بأن يُعتبر كقيمة مطلقة ومن ثم كذات فاعلة وغاية أخيرة:

كل كائن إنساني، مهما كان جنسه، وعمره، وعرقه، ودينه، وحالته الجسدية والنفسية، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي ومسلكه.. له حق أول، تتبع منه باقي حقوقه وتجد فيه تبريرها العميق، أن يُعتبر:

- كقيمة مطلقة: فلا يُعامل كنسبي من قبل أي كان، شخصاً ، أم جماعة، أم مجتمعاً بل يجب

أن يرجع كل شيء اليه ويكون نسبياً تجاهه .

- كذات فاعلة لا كشيء: فلا يجوز أن تقلص قيمة أي كائن إنساني فيعتبر كياناً اقتصادياً أو سياسياً تضاءلت أو تلاشت حريته، أو رقماً في سلسلة ونسخة بشرية انصدمت فرادتها الشخصية وخصوصيتها.

- كغاية أخيرة لا كوسيلة: بسبب كون الإنسان غاية لا يجوز أن يستعمله كائن إنساني آخر

أو جماعة أو مجتمع ولا سيما السلطة فيه ، لغاية غريبة عن ذاته.

كل مجموعة من الناس أو جماعة أو مجتمع له هويته الخاصة، يجب أن تعتبر أيضاً كذات فاعلة لا كشيء، كغاية أخيرة ، لا كوسيلة، وأن يُعامل كالكائن الإنساني. وفي حال حصول التناقض يجب أن يوجد الحل الصحيح الذي لا يُضحي بالمجموعة أو الجماعة أو المجتمع في سبيل إنسان، ولا بالإنسان في سبيل أي منها وإلا تكون الفاشية أو الاستبداد أو اللاهوية.

1-3- كل ما يمس سلبياً كائناً إنسانياً أو جماعة أو مجتمعاً كقيمة مطلقة أو كذات فاعلة أو كغاية، يعتبر عنفاً ، وظلماً غير مقبول به:

كل علاقة، وكل عمل من قبل شخص، لا سيما سلطة (ظاهرات ذاتية ) وكل بنية، شريعة، أمر واقع  (ظاهرات موضوعية)...

كل ما يمس سلبياً كائناً إنسانياً:

- كقيمة مطلقة، فيجعله نسبياً .

- كذات فاعلة فيشيئه.

- كغاية أخيرة ، فيستعمله.

. . . كل ذلك يعتبر عنفاً ، خرقاً لأحد حقوقه ، اجتياحاً لداخليته ، ظلماً بالمعنى الأوسع للفظة (لا إنسانية في بعض التعابير) .

ويعتبر غير مقبول به في نظرية اللاعنف.

1-4 - كما يعتبر عنفاً وظلماً كل ما يمس سلبياً كائناً إنسانياً في احدى قيمه الأساسية، هويته، فرادته، سلامته الجسدية والنفسية، حريته، استقلاليته، ابداعيته، نموه، تكامله، مساواته مع الآخرين:

هذه القيم الأساسية تنبع من القيمة المطلقة... وهي تشكل حقوقاً لا يجوز المساس بها.

فكل علاقـة أو عمـل، أو  بنيـة، أو شـريعة، أو أمر واقع  يمـس  سـلبياً احدى القيم يعد عنفـاً وظلماً.

1-5 – كل كائن إنساني ، ولو كان سبباً ، ذاتياً أو موضوعياً للعنف أو للظلم يظل أبداً رغم ذلك ذا ضمير قادر على الوعي ، ومن ثم تغيير أحكامه ومسلكه:

قد يوجد العنف في البنيات والقوانين المستقلة ظاهرياً عن إرادة الناس أي قد يظهر موضوعياً لا ذاتياً . ولكن خلف الظاهرات الموضوعية هناك أشخاص يفيدون من الواقع الموضوعي ، فإذا أرادوا يستطيعون أن يغيروه.

فإذا تغير حكم ضميرهم يمكنهم أن يغيروا مسلكيتهم ومن ثم أن يزيلوا العنف أو الظلم القائم.

إذا صح تسمية المسلمتين الأوليين "ايماناً بالإنسان " فالمسلمة الخامسة يمكن تسميتها فعل

"رجاء الإنسان "رجاء لا ييأس أبداً بالرغم من كل المظاهر ، بل من كل ظاهرات الفشل المتنوعة التي قد تحدث.

2- الأخـلاقيـة اللاعنفيـة:

الأخلاقية هي مجموعة من الأحكام القِيَميّة على العلاقات والأعمال الإنسانية ، تعتبرها مقبولة أو مرفوضة ، بالنسبة إلى النظرية الإنسانية المعتمدة ، فهي تنص على ما يجب عمله ، على الواجبات ، في منطق هذه النظرية، لذلك فالأخلاقيات اللاعنفية تنبع من النظرية اللاعنفية .

وهذا اللاعنف ليس إلا اللاعنف الأخلاقي الذي سميناه في المقدمة "غير منظم".

2-1-كل ما يمس سلبياً كائناً إنسانياً في إحدى قيمه الأولى أو الأساسية يجب تجنبه أو إزالته.

كل ظاهرة ذاتية أو موضوعية، أي كل علاقة وعمل، وكل بنية وشريعة وأمر واقع ، في كل الحقول ، المدنية أو الدينية ، الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية أو الثقافية... كل ما يمس الكائن الإنساني سلبياً، أي ما يكون ضد إنسان أو جماعة أو مجتمع...

في إحدى القيم الأولى، كقيمة مطلقة، وذات فاعلة، وغاية أو احدى قيمه الأساسية في هويته، أو سلامته أو حريته...

يجب على الإنسان اللاعنفي:

-أن يتجنبه: أي أن لا يقوم به ، وهذا هو الوجه الوقائي للاعنف، ويتضمن حتى تجنب كل    ظاهرة "حيادية" أخلاقياً قد ينتج عنها ما يمس سلبياً بكائن إنساني.

2-2-  بينما هناك فئة ثانية فيها التباس لا تمس بصورة أكيدة واضحة كائناً إنسانياً أو جماعة أو مجتمعاً ، فمن الضروري تحليلها لاكتشافها على حقيقتها الصحيحة ، ومن ثم لتعهدها ، أو بالعكس لتجنبها أو إزالتها بسبب عنفها وظلمها.

قد تبدو هذه الظاهرات مؤاتية، بينما هي تمس سلبياً كائناً إنسانياً أو جماعة أو مجتمعاً:

- ذاتياً، قد تكون دوافعها غير مقبول بها فتصنف في الفئة الأولى.

- موضوعياً، قد لا تخدم حقاً القيمة المطلقة والقيم الأساسية لذلك من الضروري تحليل ما فيها من إيجابي حقاً، وما ليس الا مظهراً خارجياً، بغية العمل على ضؤ ذلك التحليل.

2-3- الغاية لا تبرر الوسيلة في أي حال من الأحوال:

الغاية (كالهدف الوسيط أو الجزئي)، غاية عمل أو علاقة بنية أو شريعة، مهما كانت عادلة وهامة، لا تبرر استعمال وسائل ظالمة عنيفة.

وبديهي أن الغاية الظالمة لا يمكن قط تبريرها، حتى لو كانت كل الوسائل المتخذة عادلة ولا عنفية.

3- الممارســة اللاعنفية (البراكسيس):

»البراكسيس« هي ممارسة مجموعة من الوسائل والأساليب القادرة أن تغيّر واقعاً ليصبح أفضل.

3-1- اللاعنف العملي المنظم هو طاقة إنسانية تغييرية للواقع الإنساني العنفي الظالم من أجل استبداله بواقع غير عنفي عادل.

نُعت اللاعنف هذا بالعملي لأجل تمييزه عن جميع أشكال "السلبية" التي ذكرت في المقدمة، ونُعت بالمنظم لأجل تمييزه عن اللاعنف الأخلاقي وحسب .

وهو يذهب إلى أبعد من اللاعنف الأخلاقي ، لأن الإنسان اللاعنفي الفعلي المنظم لا يكتفي أن يسلك سلوكاً أخلاقياً لا عنفياً في حياته الشخصية والاجتماعية بل يسعى  لتغيير الواقع وفقاً لإمكاناته.

والواقع المذكور هو الواقع الإنساني فرداً ، ومجتمعاً ، الذي يحتوي على أشكال الظلم والعنف المتنوعة.

3-2- "البراكسيس " اللاعنفية تتضمن "تقنية" قادرة أن تكون ذات فاعلية ضد القوى العنفية وذلك دون أن تلجأ إلى العنف في أية مرحلة من نضالها.

التــوعيـــة... وتتضمن:

- مسيرة سلمية

- الإعتصام: بالصمت أو مع التعبير الموافق.

- الصيام: رمزياً مؤقتاً، أو دائماً جتى ما قبل خطر الموت.

- الإضراب: عن العمل بعد استعمال كل طرق الحوار:

* محدوداً أو شاملاً.

* محدوداً بالوقت أو مفتوحاً.                   

- المقاطعة:

* الاقتصادية لمنتجات المحتلين أو المستغلين.

* الثقافية الاجتماعية: للحفلات، للأوسمة...

- العصيان المدني أو الإمتناع خارج القانون عن الاشتراك أو العمل.

....................................................................

1- النسوية ومابعد النسوية/سارة جامبل

2- جندي اللاعنف/ عبد الغفار خان.

3- ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة.

4- د. محمود البستاني/ البلاغ.

5- د. سعد الإمارة/ مجلة النبأ.

6-مبارك عوض وعبد العزيز سعيد/ مجلة معابر.

7- تيار المجتمع المدني.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14 حزيران/2007 -26/جمادي الأول/1428