الالتزام الديني... بين التسامي في السلوك وعودة المكبوت

 الدكتور اسعد الامارة

 عرف الالتزام الديني منذ القدم في كل الحضارات الانسانية قبل الميلاد بالاف السنين والى يومنا الحاضر، فكان الانسان الملتزم بفلسفة ما، او دين وضعي سبق الاديان السماوية، او مذهب معين او دين سماوي، يظهر سلوكا مختلفا يتميز به عن الافراد الاخرين في المجتمع، سواء في اسلوب التعامل او في الشعائر او الطقوس التي تنعكس على تصرفاته بشكل واضح، حتى في اساليب التفاعل الاجتماعي مع افراد المجتمع الذي يعيش فيه. انه حقا يطبع السلوك بسمات متعلمة لدى الملتزم حتى تبدو وكأنها سمات ثابتة لدى جميع الملتزمين دينياً.

اما التسامي " العلو- الاعلاء" فهو كما يرى علماء النفس بأنه الارتقاء او التعالي بنزعات الفرد الغريزية العدوانية او الجنسية الى اتجاه نافع ومفيد ومقبول من الذات والاخرين وصولا لنوع من التوافق الذاتي الداخلي، والتوافق الخارجي مع البيئة. وفي التسامي لدى الانسان يحاول فيه هذا الانسان انسنة سلوكه ويطبعه بمفهوم يطرحه التحليل النفسي بانه.. الانسان بما هو انسان.

اما الكبت يعني رد الانفعالات والدوافع والرغبات ونحوها الى الجزء اللاشعوري من العقل لانها مؤلمة جدا او لانها مناهضة المجتمع وعدم السماح بدخولها في مجال الشعور، فالكبت اذن هي الافكار غير المقبولة وغير المرغوب فيها التي تؤلم الانا ولا يقبلها لتعارضها مع مقتضيات الواقع الخارجي والانا الاعلى وبضمنها الضمير.

فحوارنا مع انفسنا اولا ورصدنا لسلوك الالتزام الديني ثانيا ينبع اساسا من هذا الحوار الداخلي، ويبقى تساؤلنا : هل التسامي فعلا تثبيت لقيم جديدة وسلوك مغاير لما كان في حنايا النفس من رغبات تصل في بعض الاحيان الى الممنوعات ؟

وهل استطاع التسامي تشذيبها وانسنتها ؟

 ام هي كبت لمشاعر هائجة في رغبات متلاطمة لم تجد التفريغ المناسب فتحولت بطريقة او اخرى الى تحريف يرضي النفس على وفق اسلوب به من الحيل الشرعية لكي يضفي على النفس الراحة وعدم احساسها بالذنب ازاء الرغبات الممنوعة ولكنها غلفت بآطر بها جوانب شرعية ذات ابعاد دينية او مذهبية.

ليعلم قارئنا الكريم ان الكبت هي حيلة لا شعورية يلجأ لها جميع الناس في مرحلة ما من حياته للدفاع عن نفسه ضد الصراع والقلق، ولكن لما كانت المادة المكبوتة تطل بمثابة خطر كامن يهدد الذات "النفس" وهو ما يدعوه مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد (عودة المكبوت) فأن الجزء اللاشعوري من الانا لا يكتفي بالكبت بل يستخدم وسائل اخرى وهي باقي اليات الانا الدفاعية.

عد الكبت من اقوى الاليات الدفاعية النفسية التي يلجأ اليها الانسان واشدها قسوة على النفس، وغالبا ما تربك السلوك وتدهور الشخصية وتحول الانسان الى سلوك الحيوانية والافتراس. فالانسان عندما لا ينجح في استخدام الكبت الناجح لرغباته يمارس الرغبات الممنوعة،مثل الرغبات المحرمة ومنها الاشتهاء الجنسي ولو على مستوى التخيل، لا الواقعي، وهو سلوك ايضا يمارسه البعض في مواقع عملهم او ادائهم اليومي والذي يتناقض مع طبيعة هذا العمل وخاصة لدى البعض من رجال الدين او المدراء او الاشخاص المهمين في مواقع الدولة، هنا يكون عودة المكبوت في اشده، ويفشل الفرد من تأجيل الرغبات وكبح جماحها.

 ولنا امثلة كثيرة في حياتنا اليومية رغبات القتل او رغبات الاستيلاء على املاك الاخرين او رغبات الاقصاء او الغاء الآخر ودوره في الحياة او ممارسة سلوك القتل المقدس او التصفية الجسدية تحت مسميات دينية مثل الجهاد من اجل نشر المذهب او الشريعة الدينية او الافتراس الجنسي"الاغتصاب"، نساء عدونا حلال علينا، وانتهاك عرضه وماله جائز لنا لانه كافر ويجوز ذلك، وهذه تعد بحق رغبات النزعة الحيوانية يمارسها الانسان ضد اخيه الانسان، وهي تتعارض بقدر كبير مع انسنة الانسان واعتباره انسان بما هو انسان.

دعونا نقول هل يبرأ الاسوياء من التشبث بمبدأ اللذة بحثا عن الاشباع المفقود في مرحلة سابقة وهو يمارس دوره في الحياة كرجل دين وظيفته الوعظ وابداء الرأي واعطاء المشورة والافتاء ولم يستطع كبح جماح رغباته السابقة لا سيما ان وظيفته الاساسية هي الاعلاء في التعامل والسلوك السوي امام الجميع، وينظر له بمنظار واحد هو يمثل خيرا دائما على الاطلاق وله رؤية واحدة تتفق مع رؤية الخالق للانسان. انها جدلية غير منتهية تذكرنا بقول الفيلسوف"نيتشه" قوله :

ان ذاكرتي تقول اني فعلت ذلك،ولكن كبريائي يقول: لا يمكن ان اكون قد فعلت ذلك، وفي النهاية تذعن ذاكرتي.

ان الحدود القائمة بين الناس في الايمان والاعتقاد لا يضع معاييرها الانسان، لانه سوف يختلف مع الآخر حتما في طريقة التفكير اوالتعامل اوالسلوك او حتى التطبيق، ثم تصل ان يصف الآخر اذا كان مختلف معه في اللون او الجنس او طريقة اداء الفعل او التفكير او المعتقد بأنه عدو او مختلف معه في الرأي ولا الزام على اي انسان ان يخضع نفسه لرأي الآخر حتى وان كان الآخر ملتزما دينيا او سياسيا او مذهبيا ونقول ان ابداء الرأي في اية قضية او موضوع او فكرة او رأي هو حق طبيعي لكل انسان، كفلت حقوقه لوائح السماء وقوانينه قبل لوائح الانسان، وان ما يصدر من قرار عن شخص سواءا كان ملتزما دينيا او مذهبيا او فكريا او سياسيا سيان لا سيما ان جميع البشر لديهم النقاط العمياء في دواخلهم ولا يمكن ازالتها لانها سبب استمرار الحياة وبقاء البشرية في صراع دائم بين الخير والشر وازالة هذه النقاط العمياء تعتمد على القدرة على الاستبصار وهذه تتطلب المعرفة، وطلب المعرفة يأتي بعد مجهلة في النفس ومجهلة في معرفة الآخر ولا يتحقق ذلك الا من خلال الاستضاءة بما يقتنع به من معرفة، لذا لا حق للملتزم ان يحزم امره للتصدي لسلوك الناس بكل صغيرة وكبيرة وكأنه سلطان عليهم وقوله سبحانه وتعالى : ولست عليهم بمسيطر.

ان عودة المكبوت يذكرنا بسلوك مرضى العقل (الفصامي،الاكتئابي،البرانويدي، الهوسي) حيث يقوم بخفض التوترات الناجمة عن ضغوط الرغبات من خلال اشباع هلوسي محرف، ربما يكون هذا التحريف مستندا على الاساس الذي بني عليه سابقا،وهي في الحقيقة ليست الا صور متكررة للموضوع الاول، اعني ما بناه لنفسه من رغبات ولم تشبع وكبتت كبتا فاشلا لذا انطمست لديه الحدود بين الذات ومتطلباتها والآخر وما يحمل من فكر، واذا جاز لنا ان نقارن بين سلوك الملتزم الذي فقد الحدود لديه وبين مريض العقل ولكن قولنا كما اكده عالم النفس مصطفى زيور : ان الاسوياء لا يبرأون من اللبس بين الواقع الذاتي والواقع الفعلي وما يتضمنه ذلك من مسحة سحرية وفساد في الحكم على الواقع وعلى الاشياء وحتى على افكار الاخرين ومعتقداتهم، ومن ذلك ينطلق الحكم غير السوي.

* استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10 تموز/2007 -25/جماد الاخرى/1428