اطفال العراق: ادمان الخوف والمهدئات.. والكراهية

 شبكة النبأ: طاحونة العنف في العراق المستمرة تماثل مدرسة كبيرة لتخريج جيل معقد نفسيا يتعاطى المخدرات والكراهية والافكار الهدامة في عباءة قاتمة من السوداوية ليس فيها منفذ ولو بسيط لدخول مفهوم حياتي متوازن.

والنقش على الحجر اللدن المتمثل بالطفولة العراقية انما يظل يتصادى مثل الرجع لسنوات قادمة متعاقبة يكون من العسير محوها او الكتابة النورانية عليها.

مشاهد القتل التي تلتصق في الذاكرة، اصدقاء الملاعب الطفولية الذين فقدوا موتا او قتلا او تحت طائلة الخطف او الاغتصاب .. صور مرعبة وضغينة كامنة في الشعور اليقظ والشعور الكامن، تتحول كلها الى فعل مدمّر لخطاب اليوم القادم.

موت المقربون من الآباء والأمهات او الاخوات والاشقاء ثأر متراكم وجذوة تحت رماد مموه يحتاج فقط الى نسمة لتذكي الحريق المضاعف.

العنف والكراهية السمة الاكثر تفاعلا في مستقبل الشعب العراقي ان لم يتولاها العلاج السريع. وان كان ثمة من يهمه الشان الاجتماعي فان في هذه الطفولة خطر محيق بالجميع  وعلى الجميع ان يتصدوا لهذا الخطر بالعلاج السريع ليبرءوا الجسد الاجتماعي المتهالك.

الطفلة العراقية مروى حسين 13 عاما تشاهد المسلحين وهم يقتحمون بيتها ثم يقتلون والديها.. بعد هذه الحادثة المروّعة جلبها عمها الى دار العلوية للأيتام، وهو مجمع عالي الجدران يقع وسط بغداد وفيه ساحة للعب، كان ذلك قبل ما يزيد على عامين، وبالنسبة لمروى فتاة خجولة نحيلة وذات عينين عسليتين وشعر بني طويل، لا مجال لنسيان ذكرى اللحظات الأخيرة مع والديها.

وقالت وهي تجلس على سريرها الضيق «لقد قتلا»؟!.. وكانت موظفة الرعاية الاجتماعية ميسون تحسين تخفف عنها، بينما اليتيمات الأخريات في الغرفة حيث تبيت 12 فتاة يراقبن بهدوء. بحسب الشرق الاوسط.

ويفرض النزاع في العراق ضريبته النفسية الهائلة على الأطفال والشباب والتي ستكون لها عواقب بعيدة المدى، وفقا لما يقوله موظفو الرعاية الاجتماعية وأطباء الأمراض النفسية والعقلية والمعلمون في مقابلات معهم في بغداد وفي الأردن المجاور.

وقال حيدر عبد المحسن، وهو واحد من قلة من أطباء الأمراض النفسية والعقلية لدى الأطفال، في ظل مواردنا المحدودة، فان تأثير المجتمع سيكون سيئا جدا.. هذا الجيل سيكون عنيفا جدا وأسوأ بكثير مما كان عليه الامر في ظل نظام صدام.

ومنذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، فر أربعة ملايين عراقي من بيوتهم نصفهم من الأطفال، وفقا لصندوق رعاية الطفولة (اليونيسف) التابع للأمم المتحدة. ويقتل كثيرون في داخل بيوتهم، وفي ساحات اللعب وملاعب كرة القدم وفي المدارس، ويقوم المجرمون بعمليات اختطاف للأطفال من اجل الفدية في ظل غياب القانون، وقد ادى العنف الى عشرات الآلاف من الايتام.

وقالت ميسون تحسين ان مروى تتكيف عبر (رعاية) شقيقتيها عليّة (9 سنوات) وسورة (7 سنوات)، فهي تساعدهما بالواجبات الدراسية والاستحمام وتراقبهما أثناء اللعب في الملعب. وأضافت ميسون، وهي موظفة رعاية اجتماعية منذ 15 عاما، انها تحاول التعويض عن دور والدتهم، ولكن حتى عندما تحاول ملء هذا الفراغ فانها بحاجة عميقة الى الدعم العاطفي أيضا.

بدأ عبد المحسن التركيز على علاج الأطفال العام الماضي بعدما كان يعالج البالغين فقط مثل الكثير من اطباء الأمراض النفسية والعقلية الذين يقدر عددهم بـ 60 طبيبا ممن بقوا في العراق، ولكن الأطفال من ذوي المشكلات النفسية حينئذ كانوا نادرين، حسب قوله.

وفي داخل مكتبه الفارغ في مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية والعقلية حيث يفتش الحراس المسلحون المرضى عند المدخل، ثمة عدد كبير من المرضى؛ ففي الاشهر الستة الماضية، عالج 280 طفلا ومراهقا من مشاكل نفسية، تتراوح اعمار معظمهم بين 6 الى 16 عاما. وفي عيادته الخاصة عاين أكثر من 650 مريضا في العام الماضي.

وفي مسح أجرته منظمة الصحة العالمية لـ 600 طفل تتراوح اعمارهم بين 3 الى 10 سنوات في بغداد العام الماضي، قال 47 في المائة انهم تعرضوا الى صدمة كبيرة خلال العامين الماضيين، ومن بين هذه المجموعة، 14 في المائة يظهرون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وفي دراسة ثانية شملت 1090 مراهقا في مدينة الموصل الشمالية اظهر 30 في المائة أعراض ذلك الاضطراب.

العاب الاسلحة ترويج العنف لدى الاطفال

وفي الوقت الحالي، تعتبر ألعاب الأسلحة من بين أكثر المبيعات في الأسواق المحلية، ويلعب الأطفال بين العربات المدرعة في الشوارع حيث الشاحنات مليئة بالمسلحين الملثمين، وفي احد الأيام الأخيرة كانت مجموعة من الأطفال يلعبون قرب عربة همفي مموهة مركونة في حي الكرادة ببغداد، وكان أحد الأولاد يمسك عصا غليظة ويضعها على كتفه الأيمن كما لو أنه يحمل قاذفة آر بي جي، وكان يوجهها الى السيارات العابرة متظاهرا بأنه يريد تفجيرها، وكان جنديان يؤشران الى الأطفال ويضحكان.

والكثير من الأطفال الذين يعالجهم عبد المحسن قد شهدوا اعمال قتل، وهم يعانون من مشاكل قلق وكآبة، وبعضهم يعاني من كوابيس ويتبولون في أسرة نومهم، ويعاني بعض آخر من مشاكل التعلم في المدارس، وقال ان الأطفال العراقيين يظهرون أعراضا شبيهة بما يعانيه الأطفال في مناطق حرب اخرى مثل لبنان والسودان والأراضي الفلسطينية.

وفي هذا الصباح كان محمد عمار البالغ 4 سنوات تبدو عليه امارات الدهشة، وعندما سقطت قذائف المورتر على الشارع الذي يعيش فيه قبل سبعة اشهر كان مرتعبا الى حد فقدان القدرة على البكاء، وقال والده عمار جبر وهو يقف في فناء مستشفى ابن رشد انه كان يتجمد من الرعب ويظهر اعراض الاصابة بالصرع الخفيف.

وقال عبد المحسن انه يعتقد ان هناك صلة بين التفجيرات والنوبات المرضية، وأوصى بتصوير الدماغ لمعرفة ما اذا كانت هناك أسباب أخرى، وقال ان العنف، على اقل تقدير، جعل حالة الأطفال أسوأ.

وبعد انتهاء الزيارة، ألقى جبر نظرة على ابنه الصامت وقال «من المحتمل أن يكون سبب مرضه هو الخوف.. نحن الكبار نخاف مما يحدث في العراق.. فكيف الأطفال؟».

وقبل ثلاثة اشهر عالج عبد المحسن الحالة الأكثر رعبا وهي حالة فتاة تبلغ الثالثة عشرة اختطفت في حي المنصور ببغداد واحتجزت لمدة أسبوع في بيت مع 15 فتاة اخرى، وقد اغتصب بعضهن أمامها، بينما أطلق الرصاص على أخريات، وأطلق سراح الفتاة بعد أن دفع أهلها مبلغ 6 آلاف دولار فدية، ولكنها ما تزال سجينة تجربتها، وقال عبد المحسن «عاشت ظروفا مرعبة، كانت تصرخ.. انها تسيء معاملة والديها لفظيا وجسديا» ويقول مع اخصائيي اطفال آخرين ان ما يصل الى 80 في المائة من الأطفال المصدومين لم يعالجوا بسبب الشعور بالعار والحرج المرتبط بمثل هذه الأمراض.

وقال عبد الستار صاحب، أخصائي امراض الأطفال في مستشفى الصدر العام بمدينة الصدر، ان «مجتمعنا يرفض الذهاب الى اطباء الأمراض النفسية والعقلية».

ويعيش كثير من الأطفال في مناطق قصية وخطرة ومعزولة عن بغداد بسبب المتمردين والتفجيرات ونقاط التفتيش، وقال عبد المحسن ان «بعض الآباء يتصلون بي بالهاتف فقط وأحاول ان اقدم لهم المشورة».

وفي مستشفى الصدر العام يأتي ما يصل الى 250 طفلا لغرض العلاج يوميا، وهو ما يقرب من الضعف بالمقارنة مع العام الماضي، وقال صاحب «نحن نعالج أول 20 طفلا ممن يصلون في البداية ثم تشح الأدوية»، وليس هناك طبيب أخصائي بالأمراض النفسية والعقلية بين العاملين، اما دينا شادي فتنام في دار الأيتام على مسافة قريبة من مروى حسين، وكانت دينا، 12 سنة، قد تلقت في الآونة الاخيرة مكالمتين هاتفيتين من أقرباء لها، وعلمت ان شقيقها البالغ من العمر 17 عاما قد قتل وان عمتها قد اختطفت وأعدمت، وقالت ميسون ان دينا قد انهارت تماما لدى سماعها هذه الأخبار، ميسون نفسها اجهشت بالبكاء في تلك اللحظة ولم تتمالك نفسها، قائلة ان هذا المكان يملأه كم هائل من الحزن، وانهم مهما فعلوا لهؤلاء الأطفال، فإن جهودهم لن تحل محل حنان وعطف الأم والأب.

وأضافت ميسون ان دينا تتوقع الآن مكالمة اخرى تحمل المزيد من الأخبار السيئة، وان رؤيتها تجاه المستقبل متشائمة وباتت تخشاه تماما، ويقدر مسؤولو اليونيسيف عدد الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين او كليهما بعشرات الآلاف بسبب النزاع خلال العام الماضي، وتشير التوقعات الى ازدياد هذا العدد في حال استمرار الاوضاع بصورتها الراهنة، طبقا لتصريح كلير حجاج، المتحدثة باسم اليونيسيف في العاصمة الأردنية عمان، خلال زيارة الى مدرسة زيونة، تحدث ثلاثة مدرسين حول أثر النزاع الطائفي على سير العمل في فصول الدراسة، إذ ترك حوالي ربع التلاميذ الدراسة بحثا عن مناطق آمنة، كما ان ذوي التلاميذ يشعرون بالخوف من ارسال اطفالهم للمدرسة، وتقول مديرة المدرسة ان التلاميذ عندما يدخلون المدرسة باتوا يسألون زملاءهم في الفصل ما اذا كانوا سنّة ام شيعة، وتقول أم أميل انها كانت تتمشى قبل أيام مع حفيدها البالغ من العمر ست سنوات ليسألها عندما وصلوا الى احد الشوارع ما اذا كان الشارع تابعا للسنة ام للشيعة، وتتساءل قائلة: «ترى، كيف يصبح حال هذا الطفل عندما يكبر؟».

وقالت مدير مدرسة زيونة، ناغر زياد صالح، ان الأطفال يستخدمون اسماء جماعات مسلحة في ألعابهم في المدرسة مثل «جيش المهدي» ويتبادلون تعابير مثل «سأستعين بجيش المهدي للانتقام» او «عمي في المقاومة السنية وسينتقم منك»، وتتساءل المدرّسة أم هانم قائلة: «ترى، ماذا سيكون مستقبل الطفل الذي يقتل والداه بواسطة مسلحين سنة او شيعة؟ انه سيعيش ضغينة داخلية»، ولاحظ مختصون في مجال العلاج النفسي للأطفال ان النزاعات الطائفية باتت تؤثر على مرضاهم من الأطفال، ويتذكر محمد قريشي، أخصائي العلاج النفسي بمستشفى ابن رشد، في هذا السياق، انه عالج طفلين احدهما يبلغ من العمر 9 سنوات والآخر 6 سنوات، من القلق بسبب المضايقات التي كانا يتعرضان لها من زملائهما في المدرسة، وأضاف انهما كانا يريدان ان يعرفا ما اذا كانا ينتميان الى الشيعة ام السنّة، مؤكدا ان فظاعة الأمر تكمن في حدوث مثل هذه الحالات في هذه السن المبكرة للأطفال، ياسر غيث، البالغ من العمر عشرين عاما، لا يستطيع النوم ليلا، فعندما سقط صاروخ على منزل أسرته بحي الأعظمية في نوفمبر(تشرين الثاني) الماضي، زحف ياسر الى المطبخ، حيث بقي وهو يرتجف من الخوف. ويقول ياسر، الذي ينتظر بمستشفى ابن رشد للحصول على حصة من أدوية العلاج النفسي تكفي لمدة 10 أيام، انه بات يرتجف كلما سمع صوت انفجار، وفي أحد الأيام اندلعت اشتباكات عنيفة في الشارع حيث يقيم وحلقت اثر ذلك مروحيات اميركية فوق المنطقة وتناول ياسر بندقية كلاشنيكوف وصعد سطح المنزل وبدأ إطلاق النار في الهواء، وقال في تفسيره لتلك الحادثة إنه أراد ان يثبت لوالده انه لا يقل عن الآخرين في شيء، وأضاف قائلا انه بعد ذلك بدأ يشعر بالرضا، ويتناول ياسر الآن أقراصا لمساعدته على السيطرة على العنف ومنعه من ضرب شقيقتيه اللتين تصغرانه سنا او الاعتداء على والديه، وقال ان عددا من أصدقائه انضموا للمعارضة السنية، وان الفكرة تروق له، خصوصا بعد ان علم بخبر مقتل واحد من اصدقائه على يد جيش المهدي، عندما خرج ياسر من الغرفة متوجها الى الحمام، قالت والدته ساهرة أسد الله، 57 سنة، انها تخشى من ان يرتكب ابنها جريمة او ينضم الى جماعة متمردة، وقالت انها لا تعرف الى متى سيظل ابنها يتناول هذه الأقراص، ثم أجابت قائلة: سيتوقف عن تناولها عندما تنتهي الحرب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 7 تموز/2007 -21/جماد الاخرى/1428