يبدو واضحا أن الفدرالية أصبح لها سوقا رائجا، في بلد مثل
العراق الذي حُكم على مدى العقود الثلاثة الماضية بقبضة المركزية
المفرطة، بقيادة الرجل الواحد، خاصة منذ عام 1979 بعد أن تولى صدام
حسين الرئاسة بشكل رسمي، وبعد أن رأى الأكثرية من هذا الشعب أن السلطة
المركزية المفردة تشكل خطرا لا يمكن التكهن بعواقبه، ولاسيما أن لهم
تجارب مُرة في هذا السياق وهذا ما حدث لهم على مر القرون الثلاثة
الماضية.
وبالتغير الحاصل على الساحة السياسية الناتجة بعد الغزو الأمريكي
للعراق أخذت الأصوات تتعالى بنماذج جديدة للحكم في العراق، وإتباع نظام
مغاير لما سبقه من الحكم حفاظا وخوفا على أسلوب التداول السلمي للسلطة.
ولعل النظام الفدرالي المعمول به في كثير من الدول أضحى أكثر توقعا
للحصول في عراق ما بعد البعث، ولاسيما إن من يعارض هذا النظام يبدو
وكأنهم محاطون بزخم كبير من الإجماع على تطبيقه.
فالاتجاه الأول الذي حرص على درج بنود الفدرالية في الدستور
وبموافقة ومباركة الأكراد هو الائتلاف العراقي الموحد وهو المستوى
نفسه من التأكيد الذي كان سابقا وفي إطار معارضته للنظام السابق قد
حاول مرارا إنشاء منطقة حماية للشيعة العراقيين في وسط وجنوب العراق
لحمايتهم من هجمات نظام صدام على غرار المنطقة التي أقامتها الأمم
المتحدة للأكراد في الشمال وبمظلة أمريكية ـ بريطانية.
غير إن الوضع ليس مجمع عليه تماما َ كما يصّور في واقع السياسة بل
انه لا يوجد إجماع سياسي تام أو شعبي على تطبيق النظام الفدرالي حاليا
في البلاد ولا يوجد حتى إجماع طائفي والحقيقة تُظهر على إن هنالك
إطرافاً تختلف في أسلوب وآلية التعامل مع القانون وكما يأتي:
الطرف الأول: المطالب بهذا النوع من الحكم ( وهو الائتلاف العراقي
الموحد) ورغم اتفاقهم على مبدأ الفدرالية ودستوريتها إلا إنهم يختلفون
في آلية تطبيقها، حيث يرى بعض قيادات هذا الائتلاف بزعامة السيد عبد
العزيز الحكيم وبعض القوى المساندة له بان الفدرالية أو إقليم ( الوسط
والجنوب) مطلب لا يمكن التفاوض عليه، وان من يرفضه يرفض حق أغلبية
محرومة عانت الأمرين من النظام المركزي في التحكم بمصيرها والانتفاع من
ثرواتها وتحييدها عن دورها التاريخي لمئات السنين وهذا ما لا يَسمح به
في العهد الجديد، ويجد الواضع لهذا الطرح رواجا كبيرا في الأوساط
المكتوية بنار الدكتاتوريات المتعاقبة مستفيدا من الأحداث التي تمر بها
هذه الأوساط من فقدان الأمن و تدني مستوى الخدمات اليومية.
فيما يرى الاتجاه الثاني في الائتلاف بان الفدرالية نظام متطور وهي
حل صحيح ألا إنهم يرون إن أي تطبيق لها في زمن الاحتلال(حسب وجهة
نظرهم) إنما هو بداية لتمزيق العراق وتقسيمه وقد ينتهي ذلك بالأقاليم
ذاتها، ولذلك هم يرون إن فكرة التطبيق يجب أن تتم بعد الحصول على
السيادة الكاملة الحقيقية وعرض القانون على الشعب ليتخذ القرار عن طريق
الاستفتاء وكون الفدرالية شكل إقليم او محافظات، حيث يتبنى التيار
الصدري وبعض الشخصيات المساندة له هذا الرأي.
فيما يرى حزب الفضيلة الإسلامي (الذي اتخذ في الآونة الأخيرة منحى
الاستقلال عن الائتلاف) بان فكرة التيار الصدري اقرب للقبول ولكن على
شكل حكم لا مركزي وإعطاء صلاحيات أوسع للمحافظات وبدون الحاجة إلى
إقامة الأقاليم التي قد تسبب مستقبلا في نشوب مشاكل بين تلك الأقاليم
لعدم وجود الخلفية الثقافية الكاملة لدى المجتمع من حيث صلاحيات
وقوانين التعامل فيما بينها.
فيما يبقى تكتل قليل من الائتلاف يلزم الصمت حتى الآن من قضية
الفدرالية وعنوانها تاركا لغيره مسؤولية قبولها أو رفضها متخذاً موقفاً
شبه الحياد التام منها ليرى ماذا ستسفر عنه آراء الآخرين من أقطاب
الائتلاف.
هذا فيما يظهر في الموقف الشيعي المتمثل في الائتلاف العراقي
الموحد، أما ما يدور في الوسط الأكثر رفضا لقضية الفدرالية وهم العرب
السنة يبدو أنهم منقسمون في حقيقة الأمر وان لم يظهر ذلك جليا.
فالعرب السنة والذين كانوا أكثر رفضا تجاه هذا الطرح، وبعد مرور
أربعة أعوام على الاحتلال يبدو إنهم بدأوا يفكرون جديا بالتعامل مع
النظام الجديد بعد أن كان الرفض التام لكل عمل سياسي بوجود الاحتلال
والذي يعدَّ الميزة العامة لهم، ورغم بقاء بعض منهم على رأيه القديم
إلا إنه هنالك أصوات كثيرة بدأت تتعالى مطالبةَ بالتعامل مع النموذج
الجديد في العراق ولكن بتمهل أكثر مع الواقع لحساسيته الكبيرة في الوقت
الحاضر.
فيما يرى آخرون من العرب السنة إنهم حرموا من اخذ دورهم الحقيقي في
التعبير عن رأيهم في الدستور ومضامينه وبما يحتويه من نقاط بما فيها
النظام الفيدرالي ويعدّون إن من دخل العملية السياسية بصفة السنة ليس
بالضرورة هو ممثل لهم بل إن هنالك أراء أخرى تريد أن تدلي بدلوها في
ذلك.
لذلك تعالت بعض الأصوات هنا وهناك بصفات الإدارات المحلية أو مجالس
للإنقاذ تعارض في رأيها في اغلب الأحيان القيادة السياسية التي تعتبر
ممثلا لها في البرلمان، ناهيك عن البعض الباقي الذين يعدّون إن ما
يجري من العملية السياسية إنما هو إجراء باطل لان الاحتلال قد أتى به
وهو سيرحل برحيل الاحتلال.
إلا إنهم( ونقصد هنا الرافضون لنظام الفدرالية) وكما يظهر وجدوا
حلا بديلا لرفضهم للنظام الجديد للحكم بصيغة أكثر مرونة، حيث قدم
ممثلوهم في لجنة صياغة الدستور وثيقة ركزت على:
أولا: العراق يتكوّن من محافظات تتمتع بنظام الإدارة اللامركزية
لتنظيم شؤونها وصلاحياتها وإدارتها وعلاقاتها مع الحكومة المركزية،
وفقا لأحكام الدستور.
ثانيا: المحافظات الكردية (اربيل والسليمانية ودهوك)، تشكّـل
بحدودها الإدارية المعترف بها إقليم كردستان العراق.
ثالثا: تمارس إدارات المحافظات وإقليم كردستان سلطاتها ضمن حدودها
الإدارية، ويحدد ذلك بقانون.
رابعا: لا يحق لأي محافظة أو إقليم كردستان الانفصال عن الدولة
العراقية بحدودها المعترف بها دوليا.
خامسا: يمارس إقليم كردستان العراق سلطاته التشريعية والتنفيذية
والقضائية داخل حدوده، وبشكل لا يتعارض مع أحكام الدستور.
سادسا: تتكوّن مؤسسات الإدارة اللامركزية للمحافظات من مجلس
المحافظة، والمحافظ والإدارات المتخصصة، وتنظم صلاحياتها بقانون يسمّـى
(قانون الإدارة اللامركزية( .
أما الموقف الأكثر اندفاعا وترويجا لهذا الطرح وهم أكراد العراق فهم
يرون إن الفكرة التي طالما حملوها في أذهانهم قد جاء وقتها كي تضع على
الأرض وتصبح حقيقة لهم وبزيادة في المطلب دأبوا على وضع كركوك ضمن
إقليمهم ، ومما يزيد أنفسهم راحة إن الشريك القوي لهم في العملية
السياسية الائتلاف العراقي هو من يحمل أثقالا وهموما كهمومهم في إنجاز
النظام الجديد.
إما فيما بقي من التكتلات السياسية الأخرى المتحالفة أو غير
المتحالفة مع تكتل آخر والتي تمثل بعض الأقليات في البلاد فهي تنظر
بعين المتابع والمعاتب لكل ما يجري وتمسك بأوراق المطالبة في كل حين
عسى إن يصيبها من الخير ما يصيب الآخرين وهي تنشد دورها الذي مازالت
غائبة عنه ولم تُذكر إلا في مراحل الإبعاد والقتل والنفي. وهذا ما حصل
لـ(الأكراد الفيليين والشبك والايزيديين وغيرهم) على الرغم من إن
التحالف الكردستاني يعدّ قسماَ من هؤلاء تابع له.
هذا من الجانب السياسي الذي يتسابق فيه المتبارون على الساحة
العراقية في أيهم يصل الهدف قبل الآخر.
ولكن هل هنالك آليات يعتمدها بعضهم
لانجاز المشروع الفدرالي؟
لعل في ضفة ما يقال الآن أن اللعب على الساحة السياسية وسحب
الأوراق هو الأكثر نفعا في توجيه ركب العملية السياسية، إلا انه من
الواضح إن الداعين لضالتهم في الفدرالية قد سخّروا كل ما يملكون من
اجل إنشائها وإنجاحها.
فالملف الأمني الذي كان الشاغل الأول لكل حكومة مقبلة والسبب الأول
في كل حكومة راحلة لم يفارق قاموس الفدرالية على أساس إن واحدة من أهم
أسباب التخلص من العنف اليومي والاستقرار المنشود قد يتوج بإنشاء هذا
النظام, وهو الطريق السالك لإنشاء مراحل الأعمار المتتالية التي طالما
حلم بها الكثيرون من فقراء المناطق الناشدة للعيش برفاهية حكمها الذاتي
الذي أصبح في رأيهم الخط الأول للشروع بالعهد الجديد.
هذا قد يكون من باب القانون القائل إن الأمور تسير ما بين ركبين
ترهيبا أو ترغيبا ويبدو إن هذا الطرح في اللغة السياسية القائمة في
الوقت الحاضر هي من مفردات التلويح بخطورة عودة الدكتاتورية و استمرار
القتل الطائفي الذي أنتج خطوطاً وحدوداً لا يمكن معها العيش والتعايش
مرة أخرى في نطاق التشابك السابق لطوائف المجتمع الواحد على فكرة إن
الصداميين لن يرتووا من دماء الأبرياء وأنهم قد يظهروا في أية فرصة
تكون الأمور مؤاتية لهم ولضمان الابتعاد عنهم إلى غير رجعة فالنظام
القادم سيغلق الباب بوجوههم إلى الأبد.
أما الطرح الجديد الذي قد يكون أكثر رواجا لمفهوم التوزيع الجديد
للسلطة والثروة والذي يتميز عن سابقه بإنه يختص بأطراف وطوائف اكبر،
حيث يلقى هذا الطرح أكثر توزيعا للفكرة على مستوى الخريطة العراقية،
على إن الجميع من عرب وأكراد وسنة وشيعة لم يكونوا منتفعين في حقيقة
الأمر من موارد البلاد الطبيعية بما فيها الموارد النفطية والمائية
والسياحية والثروات الأخرى والتي تتوزع على شكل شبه تام على الأرض
العراقية.
ومن هذا يبدو إن فكرة إنتاج القوانين الخاصة بتوزيع الثروة ومن
ضمنها( قانون النفط والغاز) والذي من المزمع التصويت عليه في مجلس
النواب بعد إقراره في مجلس الوزراء في الأشهر المقبلة وعلى اقرب وجهه
ما قبل نهاية حزيران المقبل، ولعل هكذا نوع من القوانين أو ما يتبعها
لهي دلالة كبيرة على إن الجميع سيسلكون هذا الاتجاه لان جريان التيار
قد يوصلهم إلى حيث يرغبون.
أما المسائل المتعلقة بقانون الانتخابات البلدية لمجالس المحافظات
فيبدو إن معالمها ستكون متأثرة بهذا النوع من القوانين والتي يتجنب
الكثير في الوقت الحاضر الحديث عنها لانشغالهم في بادئ الأمر بالقانون
الخاص بالخطوط العريضة لسن التعامل في طبيعة وتكوين الأقاليم وفي ضوئها
سيرون هل إن المجالس المقبلة في المحافظات تستحق المتابعة والهرولة
خلفها أم إنها ستكون أداة استشارة لدى مجالس الأقاليم، التي يملكون هم
زمام الأمر فيها وبذلك هي خاضعة عنوة بحلقة الإقليم الأوسع.
وبين ما قيل ويقال فان ما يجري على الساحة غير منسجم حتى الآن مع
قانون ثابت بل إن نظرية التغيير محتملة في أية لحظة.
الموقف الشعبي من الفدرالية
ليس بالغريب على الإطلاق أن تجد المتناقضات منتشرة بشدة على الواقع
العراقي ولاسيما في وضع كالوضع الحالي,بين رواد السياسة وبين القواعد
الجماهيرية، وفي القضايا المهمة والمصيرية تعُدّ الشعوب مصدر أساس في
الاعتماد عليها لكسب سياسة الفوز بالقاعدة الشعبية التي تكون أساسا في
الانطلاق بقوة نحو التصدي للمسؤوليات الجسام أو لقول كلمة الفصل.
ولعل قضية الفدرالية بوضعها الحالي هي في واقع الحال من الأمور
التي لا تخلو من التعقيد والمداخلة في تشابك المصالح، وهي بذلك تحتاج
إلى نفس عميق وفكر أعلى لترجمتها على ارض الواقع.
ورب قائل إن الشعب في ظرف كهذا ليس بمستوى الحدث لإقرار أو رفض نظام
متطور لا يعرف عنه شيء سوى ما يسمعه من المنظرين لذلك المشروع سواء
سلبا أم إيجابا.
وهو( أي الشعب) يدور الآن في فلك واحد يشغله وهو الاستقرار والعودة
إلى مرحلة تنفس الصعداء، وبعدها من الممكن التفكير في زج الشعب بهذا
الموضوع، ثم لا يفوتنا إن للشعب نواباً ممثلين عنه قد انتخبهم في
استفتاء شعبي وهم بذلك ينوبون عنه في إصدار القرارات.
غير إننا نستطيع أن نجيب عن كل التساؤلات فيما لو عرفنا آلية
وماهية حركة العملية السياسية في البلاد، فهي بطبيعة الحال لم تكن
فعلاً معرفياً ناتجاً عن أبعاد سياسية وفكر توعوي يقوده مشروع وطني
متكامل، بل كان ردة فعل باتجاه أساليب القمع والحكم الاستبدادي ودفع
الشر الأعظم بما متوفر من الموجود وليس عن قناعة تامة او فهم كامل
للعملية الديمقراطية.
هذا بالإضافة إلى العامل العاطفي والطائفي الذي ظل يعزف طيلة فترة
الانتخابات لتحشيد الآراء والأصوات حول أقطاب مميزة لكونها تمثل عناصر
معرفة كلا في طائفته.
وعلى هذا الأساس ليس بالضرورة ان تكون القرارات الصادرة من مجلس
النواب هي تمثيل حقيقي في مجملها عما يرغب به الشعب على اقل تقدير في
الأوقات الحالية، بل ان الكثير من تلك القرارات هي إفرازات مرحلة وليس
حل شمولي.
لكن يمكن صياغة مفردات التوجه نحو النظم العالمية ببرامج مترجمة من
ارض الواقع تطرح على الإنسان البسيط لفهمها وملاحظة آثارها كي يكون
المواطن على بينة من أمره فيما لو عرضت عليه قضية الفدرالية للاستفتاء،
وحتى لايتبع أهواء الآخرين ويكون ممن يعمل وهو على بصيرة من أمره.
وهنا نطرح بعض الرؤى:
1. أن تبدأ الدولة ومنظمات المجتمع المدني برنامجا شاملا لتوعية
المواطن بأبعاد وأهداف وإيضاح معنى النظام الفدرالي وإعداده بصياغة
مستقلة بعيدة عن المدح والذم.
2. إبراز أهم نقاط قوة وضعف الأنظمة الفدرالية وإعطاء نماذج في
تطبيقاتها في دول العالم مع ملاحظة الواقع الاجتماعي العراقي وخصوصيته
وبيان سبب فشل بعض الأنظمة الفدرالية في بعض الدول ونجاحها في الأخرى.
3. عدم فهم النظام الفدرالي على أساس نجاح بعض الشرائح من المجتمع
وغبن لشرائح أخرى، بل يجب أن تكون القوانين واضحة في التعامل مع
الأنظمة بشكل واحد وباختلاف الاستحقاق والمسؤولية ، كي لا يصور على انه
استفراد بالسلطة بصيغة جديدة.
4. البدء بحملة استطلاعات واسعة على المستوى الوطني لمعرفة الآراء
مسبقا في قضية الفدرالية وكيفية وآلية وزمن تطبيقها حتى لا تكون تجربة
الاستفتاء او التطبيق محفوفة بخطر الرفض أو الفشل المسبق مع فارق الزمن
والجهد.
5. التخلص من أهم نقاط التوتر الجارية في البلاد مابين الأحزاب
السياسية كي تكون العملية الاستفتائية مهنية محضة وان لا تكون عملية
مساومة او سباق من اجل النفوذ.
إننا ومن خلال التجارب المشابهة للوضع العراقي في تركيبته
الاجتماعية يمكننا دراسة وملاحظة التجربة البلجيكية وكيفية التقسيم
المذهبي والعرقي فيها وكيف استطاعت أن تتخلص من هذه النزعات الطائفية
باستخدام النظام الفدرالي مع ملاحظة الخصوصية العراقية (كما أسلفنا).
حيث تتكون بلجيكا من ثلاث طوائف هي(الفئتان الرئيستان وهما سكان
الشمال الناطقين باللغة الهولندية ويقطنون المناطق المحاذية لهولندا ,
وسكان الجنوب وهم الناطقون بالفرنسية ويسكنون المناطق المحاذية لفرنسا،
أما الأقلية العرقية الثالثة توجد على حدود بلجيكا الشرقية مع ألمانيا
وهؤلاء يتكلمون اللغة الألمانية).
وبعد فترة من الزمن وتوحد أوربا واختفاء الحدود ومع سيادة مفاهيم
السياسة لغرض الاقتصاد واضمحلال السياسة القومية, وهدوء المنطقة من
الأوضاع المتأزمة الناتجة من الحرب العالمية الثانية اكتسبت مناطق شمال
بلجيكا وسكانها الناطقون بالهولندية زخما كبيرا بكون إن هذه المناطق
تحوي أكثر الصناعات تطورا واقتصادها أكثر ازدهارا من المناطق الأخرى .
لذا طالبوا باستعادة ما خسروه من موقع سياسي منذ انتهاء الحرب العالمية
الثانية . فتوصل الشعب البلجيكي إلى صيغة الحكم الفدرالي , وتم تقسيم
البلد إلى ثلاث مناطق , هي : المنطقة الشمالية الناطقة بالهولندية ,
والمنطقة الجنوبية الناطقة بالفرنسية , ومنطقة بروكسل المختلطة
ويوجد في هذه المناطق الثلاث , ثلاث حكومات للمناطق , كما توجد
حكومة مركزية فدرالية، ويبلغ عدد الوزراء في هذه الحكومات الأربعة أكثر
من مئة وخمسين وزيرا.
ورغم كون بلجيكا يحكمها نظاما مركزيا في الثمانينات إلا إن تحولها
في التسعينات إلى النظام الجديد لم يكن إلا حافزاً جديداً للبناء
والتطور وقبل هذا وذاك لم يسبب النظام الجديد أية تجزئة في سيادة
الدولة.
ما يمكن فعله في القادم
ليس من العيب مطلقا أن تجرب الشعوب أنظمة مختلفة في أسلوب تعاملها
مع الحكم ولاسيما عندما تكتشف بعد فترة من الزمن إن تلك السياسات لم
تصل بها إلى مطلب النجاح، ومن هذا فان ما يجري الحديث عنه في أروقة
السياسة العراقية من تغيير واستبدال أسلوب الحكم المركزي بأسلوب
المشاركة الواسعة للسلطات المحلية انما ينبأ بتقدم وتطور كبير على
أسلوب أشراك الشعب في التداول السلمي للسلطة والارتقاء بالمواطن إلى
أحقية المسؤولية الوطنية وبثها في ذاته من جديد بعد إن كادت التجارب
المرة مع الدكتاتورات السابقة أن تلغيها من قاموسه الوطني.
وعليه فان ما يجري من سن القوانين وتغير الذهنية السائدة في العقول
بان الحُكم ونيل القيادة هي حكر على من تقمص دور القائد ولا يسمح لأحد
بان يقل له (تفضل أخطأت الهدف)، هي نتاجات جيدة وأهداف يجمع الكل
تقريبا على بثها ولكن في هذا حديث .
حيث نرى على وفق ما يقتضيه الواقع إن الوقت الحالي يتطلب منا:
1. إن القرارات ذات الطابع التاريخي يجب أن تكون بعيدة عن كل
المؤثرات الخارجية وان لا تحسب على عناصر وقتية أو حسابات خاصة، لان
الفشل فيها يعني علامة كبيرة ترسل بالاتجاه الخاطئ، وعليه وفي وضع
كالوضع العراقي المتشابك سياسيا والمتداخلة فيه القوى العربية
والإقليمية والقوى المحتلة فان طابع ولمسات هؤلاء يقينا ستكون موجودة
على أي قرار يتخذ وهذا ما يشكل سابقة خطيرة قد تمتد إلى الأجيال
المستقبلية.
2. في كل تحرك شامل يجب أن لا نضع درجة النجاح كاملة لأي قرار
يتخذ مسبقا ولاسيما في النظام المطلوب إقامته ويكون احتمال الفشل
أمامنا، و نضع لكل شيء حسابه فإذا نجح المشروع كان هو المرجو وان لم
ينجح علينا أن نكون مستعدين لمعالجة آثاره أو واضعين البدائل له، أما
أذا لم نكن بذلك المستوى من التخطيط فنعتقد بان ما رجوناه من الحل
سيصبح مشكلة بحد ذاته حيث يقول د. برنكاتي: (أن الفدرالية ليست حلاً
سحرياً فهي لم تكن ناجحة دائماً، وقد فشلت في بلدان مثل إندونيسيا
وماليزيا والنيجر على وجه الخصوص، لأنها لم تقدم الضمانة الكافية
للتوازن ما بين توزيع السلطة من جهة، وتوزيع الثروة من جهة أخرى)،
وعلى الرغم من إن الخائضين في هذا الاتجاه يعون حقيقة ما يريدون
الوصول إليه ولكن هذا لا يعني أن تكون جميع القوى الحية والأنظمة
الكونية تسير بما يشتهون.
3. إن إعطاء الوصفات الجاهزة بدون تثقيف الجماهير والمواطن عنها
سيكون بمثابة وصف العلاج وترك التطبيق، وهذا قد ينتج أخطاء متراكمة في
تطبيقها بل إن التأني في شمول المناطق والمحافظات بالقانون قد يكون ذا
فائدة كبيرة ، فان نجحت في موقع ما تطبق تدريجيا في الآخر وان فشلت
تدرس بشكل مستفيض وبمراعاة خصوصية كل مجتمع وطائفته.
4. إن الأساس الذي بني عليه الدستور وهو الشعب يجب إن يكون هو
صاحب القرار الأول والأخير ، وعليه يجب أن يكون هو نفسه صاحب الحق في
المطالبة أو الرفض في تمرير أي قانون، ولكن يجب أن يكون أولا في وضع
يسمح له بذلك وان لا يتخذ أسلوب الترويع والتطميع له طريقا لكسب قبوله.
قد يكون في سير الإحداث غير ما نراه الآن ولكن بطبيعة الحال فان ما
يمكن فعله هو الدراسة والملاحظة بدقة والعمل الجاد وهي عوامل أساسية في
إنجاح المشاريع الاستراتيجية في كل اتجاه وبأزمنة قد تكون ليست القصيرة
ولكنها كفيلة بإنجاحها او درئ فشلها وآثاره المدمرة.
* قسم الرصد والتحليل
مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات
www.shrsc.com |