هواجسنا كادت تقتلنا

 الدكتور اسعد الامارة

 دأبت نفوسنا نحن البشر على البحث عن الطمأنينة والهدوء دائما تجنبا لما يثير فيها القلق او الصراع او مواجهة الاحباطات المختلفة، لذا فالكل ينشد الراحة النفسية اولا ثم استكمال متطلبات الحياة المادية الاساسية، ولكن علينا ان نعرف ان اسعد الناس في هذا الكون يتعرض للمواقف الصادمة والآزمات او الهزات او الانفعالات النفسية التي ربما تنطلق من داخله، رغم ان البيئة الخارجية المحيطة بنا جميعا مشجعة في بعض الاحيان، تخلوا من المثيرات او المنغصات. وتساؤلنا المهم في هذا الموضوع: هل هواجسنا هي محركات لمشاعرنا الداخلية بسبب البيئة الخارجية وانعكاساتها علينا ام ماذا ؟

ويمكننا تعريف الهاجس بأنه:

تلك المشاعر والانفعالات الداخلية التي لا يمكن السيطرة عليها، مما تؤدي الى اختلال التوازن النفسي والتصرف بطريقة غير سوية ازاء المواقف واساليب التعامل مع الاخرين.

ويثير الهاجس التوترات المختلفة لدى الفرد حتى تستمر عضلات الجسم بالتوتر حينها تظهر انواع الاستثارات حتى تصل الى درجة عالية من عدم الاستقرار الذي يؤدي الى سوء التوافق.

ولما كانت الهواجس محركات قوية لتفكيرنا، فهي اذن محركات ايضا لافعالنا وسلوكنا، بكل انواعها ابتداءا من مظاهر القلق والضيق الى التشتت في الذهن عندما تستفحل هذه الهواجس ويكون الأمر في بعض الاحيان مغافلة للوعي وظهورها غير المتوقع حتى وان سيطر البعض منا على نفسه او على اعصابه بغية اظهار ما يمكن اظهاره من اتزان، فمهما غفت النفس عن استدعاء الهواجس فهناك بقية من الصحو تزجر حتى تطفو على السطح وتبدو ظاهرة للعيان وخصوصا اذا استمر التحمل لفترة طويلة، فلا بد من ظهورها باية صورة من صور السلوك الانساني الواضح. فهي اذن رغبة منفلتة تأخذ صور مقنعة تبدأ بالافكار غير الواضحة ثم تتدرج الى السلوك الملموس والمشاهد على ايماءات الوجه او الحركات الخارجية للجسد، وهي عادة لا تخضع لقواعد المنطق التي يخضع لها عقلنا حتى في اوجه وقمته في الوعي، بل ربما تسير الهواجس في الانسان على وفق منطق اقرب الى منطق الطفل في اللاسيطرة على سلوكه او تصرفاته.

ان فكرة السلوك هو تكوين فرضي يتقارب كثيرا الى فكرة شحنات الهواجس المنفلتة من دواخلنا، فالتكوين الفرضي يعني اساسا ان كل شئ لا يمكن معرفته الا بعد ان يتحول الى شئ ملموس كما هو السلوك او الافكار او الافعال المادية، فالهواجس هي ايضا تكوينات فرضية لا وجود لها في الواقع الا بعد ان تأخذ حيز التطبيق الفعلي وتبدو واضحة امام العيان في ادراكها من قبل الاخرين الاخرين.

هل البواعث عوامل دعم للهواجس في دواخلنا ؟

تعرف البواعث في علم النفس بأنها المثيرات التي تسهم في حركية الدوافع، وتتضمن المثيرات الداخلية المتمثلة في الحاجات والمثيرات الخارجية المتمثلة في الحوافز وفي ذلك يقول (د. مصطفى خليل الشرقاوي) الحاجة في حد ذاتها هي مطلب الفرد للبقاء او النمو او الصحة او الانتاجية او ما شاكل ذلك من سلوك، وتنشأ في حالة شعور الفرد بعدم التوازن البيولوجي او النفسي في موقف ما.

اما الحوافز فهي الدوافع المتولدة عن اثارة الحاجات لها، فالحوافز اذن هي التسهيلات المادية او المعنوية التي تقدمها البيئة المحيطة بالافراد بشكلها الايجابي المتمثل بالوصول الى الغايات، او بشكلها السلبي المتمثل في التخيلات الناجمة عن موقف ضاغط او ازمة قوية من الصعب تفتيتها او تحييدها او عزلها ولو لبعد حين من الوقت، كما هو الحال في الهواجس.

ويناقش التحليل النفسي فكرة التخيلات ويعدها نتاج الخيال من حلم يقظة داخلية لا شعورية، وهناك الاخيلة الشعورية التي تتخذ شكل احلام اليقظة وتتصف بصفات مستقلة عن صفات التخيلات اللاشعورية ويؤكد سيجموند فرويد في كتاب الموجز في التحليل النفسي، بقوله فطابعها الشعوري دليل على وجود (أنا) على قدر كاف من النضج يسمح بظهورها والسيطرة عليها ويحصل بها على اشباع معين، فالتخيلات الشعورية بهذه المثابة توفيق ناجح بين مبدأ الواقع ومبدأ اللذة، ولكن الحال يختلف في بعض جوانبه في الهواجس عن التخيلات، حيث تتفق التخيلات بانها شعورية وبنفس الحال الهواجس كذلك، اما انها تعد توفيق ناجح، فهي تختلف كثيرا حيث انها تخل توازن الفرد من ناحية الواقع وتجعل تركيزه النفسي يتدهور بمرور الزمن حتى يكون الادمان عليها وتصبح مشكلة مستعصية تجر اعراض مرضية اخرى ابتداءا من القلق مرورا بالوساوس والتوهمات.

هل القلق مكون اساسي في الهواجس ؟

نعم ان القلق يرتبط بالهواجس بشكل مباشر، لأن القلق هو المادة الخام لجميع الامراض النفسية، ونستطيع اذن ان نستنتج بان صاحب الهواجس صاحب هموم كما عبر عن ذلك سيجموند فرويد بقوله: ان صاحب الهموم صاحب خمور، يعاقرها ويدمنها. كما هو حال صاحب الهواجس. ومما لاشك فيه ان الهواجس تسبب الهموم وتؤدي الى القلق ويمكننا استنتاج ما يلي:

الهواجس ــــ تؤدي الى ـــ الهموم

الهموم ــــ تؤدي الى ـــ القلق

القلق ــــــ يؤدي الى ـــ المرض النفسي اوالعقلي

اذن:

الهواجس ـــ تؤدي الى ـــ المرض النفسي او العقلي

ان الهواجس حينما تحتل الجزء الاكبر من تفكير الفرد وتسيطر عليه وتكاد ان تشغله وتصيبه بالشلل في كل صغيرة وكبيرة، حتى يبدا يتحسب في كل عمل يؤديه، ولكل موقف يمر به في هذه الحياة، ابتداءا من خروجه من بيته متوجها الى عمله حتى في عمله وهو يتوجس في ما آل اليه وضع اسرته او ابناؤه عند خروجهم للمدرسة او للعمل وما الى ذلك من الافكار المتلاطمة غير المنتهية.

متى يتم استدعاء الهاجس لدى الفرد؟

الاستدعاء هي القدرة على تذكر معلومات مطلوبة على وجه السرعة ومرتبطة بمفتاح او مؤشر او لمحة او موقف يستدعي هذه القدرة باشكالها المختلفة(فكرة، صورة، اخيولة، نسيج من تداعيات سابقة..الخ) وتتم العملية برمتها من تحول الكلمات التي تتوارد الى الذهن الى صور، اما بدؤها فهو يستلزم خيال يشكل مسار متعدد من الكلمات تتزاحم حتى تتحول الى صور تتزاحم ايضا مع بعضها البعض ثم تختفي صورة وتظهر صورة اخرى اشد منها في الهلع وتصوير السئ، يقترن كل ذلك بشتى المعاني والافكار المعقدة، وفي النهاية فأن التفكير يزدحم والذاكرة تستدعي الصور والمواقف السيئة والتآملات المؤلمة لكل حدث الى ما لانهاية حتى ينهك الفرد من هذه الصور والتداعيات المؤلمة.

يقول علماء النفس ان الاستدعاء يتطلب نوعين من النشاط:

اولا: البحث في الذاكرة لتحديد المعلومات المطلوبة

ثانيا: اختيار المعلومات المألوفة التي يحتاجها الفرد لدعم الهاجس السئ لذلك يذهب الفرد في الهواجس الى التخمين المستمر بدون انقطاع وهو ما يسمى التخمين العشوائي لغرض البحث عن ما يزيد متاعبه ويشدد على افكاره من تداعيات مؤلمة دون انقطاع، حتى تكون الخيالات المستمرة بكل سيئاتها داعما قويا للهواجس، فيذهب الفرد الى شتى الصراعات التي لا يفطن بنفسه لها مما تؤدي الى الامراض النفسية او العقلية.

* استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت 30 حزيران/2007 -14/جماد الاخرى/1428