شبكة النبأ: قوتين قاهرتين ينتابا المثقف العراقي
المغترب وكل واحدة تشده الى جهة مغايرة للقوة الاخرى وهو بين تينك
القوتين يعيش الاشكالية المريرة، بين الحنين الى بلده الام موطن
ذكرياته ومرآته الاجتماعية التي يرى فيها نفسه كمعنى وكمنجز وكمشاركة
حميمة يتوقع هو ان ينجزها في صنع غد مفترض للعراق الجديد، وبين ما
يعرفه او يستطلعه من اخبار المأساة والحريق الذي يأكل النماء وبؤرة
المخاطر الماحقة وغيوم العنف والارهاب السود التي تخيم في سماء العراق.
ومن هؤلاء المثقفون ما نعده انموذجا هو الشاعر عدنان الصائغ وخيبته
في تحقيق الحلم المؤجل الذي عبر اليه المسافات الشاسعة متوجسا وفاجأه
الواقع المرير منتصبا بوجه قبيح وجسد مشوه وفكر ظلامي.
ما ان انتهى من القاء قصيدته امام جمهوره العراقي المتعطش للشعر
ونزل من المنصة محتفيا بعودته الى العراق بعد سنين الغربة حتى انبرى له
احدهم وصار يكيل له التهم ويتوعده بالويل والثبور والقتل والتنكيل.
لقد نزل الامر حينها على الشاعر العراقي عدنان الصائغ بحسب وكالة
(كونا) اشبه بالصاعقة وهو يتلقى الوعيد بعد طول اغتراب من شخص عراقي
اللكنة مجهول الهوية مكشوف الوجه داخل قاعة مهرجان المربد في البصرة في
عام 2006 وعلى مرأى ومسمع الكثيرين بعد ان انتهى من قراءة قصيدته (نصوص
مشاكسة قليلا)
اضطره هذا الامر حينها الى اللجوء الى السلطات المحلية في البصرة
لتأمين خروجه من العراق ثانية بعد ان ظن انه لن يلوذ بالغربة من جديد.
حكاية الصائغ الذي أتى من العاصمة البريطانية لندن لا تختلف كثيرا
عن قصص اخرى جعلت الكثير من عراقيي الشتات يعلنون تأجيل احلام العودة
لبلدهم بمن فيهم المئات من المثقفين الذين كانت افكارهم وكلماتهم سببا
في هروبهم من عراق الدكتاتور صدام.
الارهاب الذي يعصف اليوم بالعراقيين في الداخل فتح مشاريع جديدة
للهروب من البلد واجل في المقابل مشاريع العودة اليه.
ومثلما كانت هذه التهديدات سببا لمنع الكثيرين من العودة الى العراق
كانت هواجس العودة والحنين الى الوطن في المقابل تدفع اخرين الى
المجازفة وتجاهل التهديدات والعودة من جديد رغم المخاطر التي تحف
الطريق وكان من بين العائدين الشاعر عدنان الصائغ نفسه حيث صادفناه في
اربيل زائرا بعد عام من تلقيه التهديد في مربد بالبصرة. وهناك وجهت
وكالة الانباء الكويتية (كونا) سؤالا للصائغ: لوح لك العراق بالسيف في
زيارتك الاخيرة للبصرة ثم نراك تعود اليه من جديد. الصائغ رد قائلا: لم
يلوّح لي العراق بالسيف ابدا بل هم الارهابيون الذين سرقوا الوطن في
غفلة منا مثلما سرقه الطغاة والغزاة والقتلة لقد اثخنوه بالجراح من حرب
الى حرب ومن انقلاب الى انقلاب ومن حزب الى حزب ومن وصاية الى وصاية
ومن فتوى الى فتوى .. هؤلاء القتلة القدامى والجدد يتناسلون ويورثون
احقادهم وايديولوجياتهم ونصالهم.
وتابع الصائغ: البلد الذي ولدت على ارضه المباركة اولى الحضارت
والكتابة حوله الفاشيون الى كومة انقاض وحرائق وخراب .. لكني على يقين
ان بلدي كطائر العنقاء سيولد من رماده ليحلق في فضاءات الحرية التي حرم
منها لعقود طويلة ليسهم في اثراء الانسانية بروافده المعطاءة من خيرات
وابداع وجمال.
ورأى الصائغ ان خلف هذه العتمة والسيوف والدخان هناك عراق لاتراه
عيونهم الكاحلة عراق هو والشعر صنوان لايفترقان .. عراق الكلمة والنغم
والنهر والجمال والعمق .. التاريخ والمعاصرة .. الاختلاف والتسامح
التواصل والتجدد .. هذا العراق .. سينفض ما علق في ردائه من صراصير
وغبار ليتسامى بكل عنفوان روحه الى فضاء الحرية الذي لا ابهج منه ولا
ابهى.
وكان الصائغ الذي يعد أحد كبار الشعراء العراقيين عاد الى العراق
بعد سقوط الدكتاتورية مباشرة في عام 2004 ثم عاد مرة اخرى في مهرجان
المربد في عام 2006 فضلا عن زيارته الاخيرة لمهرجان المدى الثقافي في
عاصمة اقليم كردستان العراق أربيل في مايو من عام 2007.
هاجس العودة الذي يصطدم بالخوف الكامن في دروب بغداد وازقتها كان
محور حديثنا مع كتاب عراقيين اخرين اذ سألنا الكاتب والباحث العراقي
مدير معهد للدراسات الاستراتيجية في لندن فالح عبد الجبار عن مدى
واقعية تحقيق حلم العودة الى بغداد فأجاب السؤال:
يبدو لي نافلا .. من منا بلا اماني العودة الى بغداد .. او عودة
بغداد الى بغداد حاضرة التنوع والثقافة والمدنية .. بغداد الحبيبة التي
تركت.
واضاف عبد الجبار: تبدو بغداد لي اليوم هرمة تنوء التياعا.. كمدا..
ألما.. بدت لي بغداد بعد كل لقاء تشحب فاقدة تلك النضارة.. تلك
العافية.
وقال: اعلن رغبتي في لقاء قادم في بغداد.. واعلن خوفي منه.. من ذا
ينجينا من لوم لائم او تهمة الخرق. واستدرك عبد الجبار قائلا: لا
ادري.. لحظة يدهمني احساس بأنني فقدت بغداد الى الابد .. لحظة اخرى
يدهمني شك في هذا الفقد.. لعل.. ربما.. من يدري.. هل تحبون تمزقات
السؤال.. اذا واظبوا على التمني.. والتفكر في هذه الاماني عجافا كانت
ام لا.
من جانبه قال الباحث العراقي رشيد خيون: لا يجب ان نستبق الظروف
ونطمع بحضن بغدادي وهي تقبع تحت تهديد الارهاب والعنف... يجب ان يكون
المكان خاضعا للحرية لذا لا استطيع ان اقول سوى لكل حادث حديث.
الصورة القاتمة هذه حاول ان يبددها الشاعر عدنان الصائغ حين قال: لن
يستمر الكابوس طويلا.. ففجر الحرية قادم لامحالة.. وساعود وتعود كل
الطيور المهاجرة الى وطننا.. نعم اعود اليه.. ولن تمنعني نصالهم من
التغني بعذاباته، وارتشاق مياهه والارتماء على ضفافه وشم نسائمه.
وراى الصائغ انه عندما ينجلي هذا الغبار البغيض عن سماء وطني ويرحل
الغزاة ويندحر الطغاة وفلولهم.. وتتحطم قواعد الارهاب وتنحسر موجات
العنف الطائفي والعرقي والفكري والسياسي والاجتماعي.. عندما يعود
العراق معافى من هذه الاوبئة ستعود له كل طيوره وشعرائه واغانيه
واحلامه وغيومه وازهاره ومكتباته ومسارحه وحدائقه وسينماته ومقاهيه وكل
ما ضاع منه في تلك الحقبة المظلمة.. فالحرية هي شرط الوطن مثلما هي شرط
الابداع".
وكان حقا ما انتهى اليه الصائغ فالحرية شرط الوطن وربما يعيش
الانسان غريبا في وطنه دون حرية تضمن له العيش الامن والرغيد. |