لوغوس
(Logos)
شبكة النبأ: اللوغوس أحد المفردات
المعقدة متشبعة الدلالات والإيحاءات تعود إلى الموروث الإغريقي فلسفة
ولغة، بل إن اللفظ الإغريقي واللفظ العربي للمفردة يكاد يتوحد في كلمة
(لغة). وقد شاعت حديثاً مع تركيز جاك دريدا على ربطها بالتمركز.
فأهم مفردات طرح التقويض (أي التمركز المنطقي): المرادف الحقيقي
للتمركز الصوتي اللفظي) تقوم على هذه المفردة. وقد وظف دريدا هذا
التمركز لكي يكشف أن الفكر الغربي عموماً (مهما تشعب وتعقد) يعود في
النهاية ليعلي من شأن الكلمة المنطوقة (Logos) ويستبعد الكلمة المكتوبة
بوصفها صورة للنطق وتمثيلاً ينوب عنه في غياب المتحدث.
ولهذا فإن المفردة تعني اللفظ أو الصوت اللفظي؛ غير أن ارتباط هذا
الصوت بكينونة متعالية جعلها صفة تخص قوى التحكم بالكون في الموروث
الإغريقي وتخص الذات الإلهية في الفكر المسيحي. لكن الفكر المسيحي نقل
الفكرة إلى مرحلة ثانية هي مرحلة الخلق المتجسد، ومن هنا كانت
الافتتاحية الإنجيلية (في البدء كان اللوغوس، ثم تحول اللوغوس إلى
كينونة متحققة). وقد أخذ الفكر المسيحي مفهوم اللوغوس الإغريقي بمعانيه
الفعالة كالعقل الخلاق (أفلاطون) والمعرفة الإلهية، ليصبح اللوغوس
معادلاً للعقل الإلهي، ومبدأ الخلق الأول في الكون، ولئن كان اللوغوس
لدى الإغريق قوة غير مرئية تدير نظام الكون، فإن رجال الكنيسة نقلوا
المفهوم إلى مرحلة (الحلول) والتحقيق الدنيوي، أي أصبح كينونة متجسدة
لحماً ودماً، في ذات المسيح عليه السلام.
ومهما تعددت معاني اللوغوس، فإنه يتوافق مع المقولة الكلاسيكية التي
تذهب إلى أن (الإنسان حيوان ناطق) بمعنى أن اللوغوس خاصية الإنسان التي
تميزه عن سائر المخلوقات وبهذا يصبح الإنسان وحده المؤهل لاكتشاف
(اللغة) وهي الخاصية التي كررها فرديناند دي سوسير في طرحه الألسني حين
ميز بين ثلاث مراتب للغة: الملكة الإنسانية لتأسيس الإشارات اللغوية،
ثم اللغة النظام، فاللغة الأداء، وهذا هو ما ذهب إليه أبو نصر الفارابي
في تعريفه (المنطق) وما ذهب إليه أيضاً أبو سعيد السيرافي في مناهضته
(المنطق) وتبجيله (النحو) العربي.
ويذهب جورج بريسكو كيرفيرد في أحدث ما كتب في موضوع اللوغوس إلى أن
هذه المفردة من التشعب بحيث لا يمكن حصرها في استخدامات معينة، فهو في
تتبعه لمعانيها ترجم المفردة مرة بالمقولة وأخرى بالجدل والحجاج
والمحاجة، وتارة بالقول واللفظ وأخرى بالخطاب وغير مرة بما هو متجسد في
بنية الأشياء. بل إن كيرفيرد يرى ان ما يواجهنا مع هذه المفردة ليس
كلمة ذات معاني متعددة بل بالأحرى كلمة لها سلسلة من الاستخدامات
والوظائف المرتبطة بنقطة بداية معينة، ويقترح أن نتعامل معها بوصفها
كلمة بؤرية أو مرجعاً بؤرياً إذ هي تحيل باستمرار إلى مرجع خارجي غير
لغوي تعتقد بأنه موجود وجوداً حقيقياً في العالم من حولنا. ثم يخلص إلى
أن المفردة عموماً من شأنها أن تحيل إلى فضاءات ثلاث، كلها تتصل ببعضها
من خلال بنية مفهوماتية متكاملة، هذه الفضاءات الثلاث هي: فضاء اللغة
والتشكل اللساني، وبهذا يكون من معانيها اللفظ والقول والخطاب والوصف،
والمقولة، والمحاجة (بحكم أن الكلمات هي التي تنقل الحجاج وتعبر عنه)،
وهلم جرا. ثم فضاء الفكر والعمليات الذهنية، وهنا يكون من معانيها:
التفكير والتعليل العقلي، والاعتبار والشرح وما إلى ذلك. ثم فضاء الكون
الحسي من حولنا الذي نستطيع الحديث عنه أو التأمل الفكري فيه. وهنا
تأتي معاني المبدأ التأسيسي التركيبي، والمعادلات الرياضية والقوانين
الطبيعية وما شابهها، والشرط الأساسي لمثل هذه المعاني في الفضاء
الثالث هو أن كل حالة منها تقتضي اعتبارها حاضرة مكشوفة في صيرورة
الكون.
متعلقات
لوغوس(1)
لوغوس (بالإغريقية: Λούος) (بالإنجليزية : Logos)
وتعني حرفياً (الكلمة الإلهية)، ولكن اختلفت معانيها بين الفلاسفة
المتقدمين والمتأخرين وكذلك بين المدارس الفلسفية والفلسفة الدينية.
عند هرقليطس
هرقليطس، أول من قال بـ اللوغوس، في أنه "القانون الكلي للكون".
يقول هرقليطس : " كل القوانين الإنسانية تتغذى من قانون إلهي واحد :
لأن هذا يسود كل من يريد، ويكفي للكل، ويسيطر على الكل". ووافقه
الرواقيون وقالوا أن العقل أو اللوقوس هو المبدأ الفعال في العالم، وهو
الذي يشيع في العالم الحياة، وأنه الذي ينظم ويرشد العنصر السلبي في
العالم ويعنون "المادة". وقال ذيوجانس اللائرسي عن مذهب الرواقيين :
"يقول الرواقيون أن اللوغوس هو المبدأ الفعال في الهيولي، إنه الله،
وهو سرمديّ، وهو الفعال لكل شيء من خلال المادة".
عند فيلون اليهودي
قال فيلون عن اللوغوس أنه أول القوى الصادرة عن الله، وأنه محل
الصور، والنموذج الأول لكل الأشياء. وهو القوة الباطنة التي تحيي
الاشياء وتربط بينها. وهو يتدخل في تكوين العالم، لكنه ليس خالقاً. وهو
الوسيط بين الله والناس، وهو الذي يرشد بني الإنسان ويمكنهم من
الارتفاع إلى رؤية الله. ولكن دوره هو دائماً دور الوسيط . ويقينه بأنه
" إلهي " θέος ويميزه من الله بأداة التعريف التي تضاف إلى الله οθέος
ولكنها لا تضاف إلى اللوغوس.
في العهد القديم
من بين اسفار العهد القديم في الكتاب المقدس، هناك سفر بإسم " سفر
الحكمة لسليمان" ويصف فيه صاحبه الحكمة بأنها بالقرب من الله أو عند
الله تشاركه عرشه الإلهي وأنها صادرة عن مجده، وتساعده في عملية الخلق،
وتسري في كل الأشياء وتحقق وحدة العالم. ويمكن أن تتصل بمن من البشر
مستعدين لتلقيها، لتقدس أرواحهم وتؤمّن لها الخلود عند الله : وهذه
الحكمة تسمى في عدة مواضاع بإسم " اللوغوس " ، وهذا اللوغوس (الكلمة)
الذي فيه جعل إله إسرائيل، رب الرحمة، كل الأشياء. وبه نجى شعب إسرائيل
وسينجّي كل النفوس التي تتلقاه.
في العهد الجديد
يستهل يوحنا في الإنجيل الرابع المنسوب إليه، بالحديث عن (الكلمة) :
" في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة، به كل
شيء كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان". وجاء في خاتمة رسالته الأولى وفي
الرؤيا المنسوبة إليه أيضاً أن هذا اللوغوس أو الكلمة، هو الذي كان قبل
خلق الكون، كان عند الله، وهو هو الله، وهذا اللوغوس أو الكلمة، تجسد،
أي اتخذ جسداً، وحلّ بين الناس، فكشف لهم حقيقة النجاة (الخلاص) وبث
فيهم الحياة الخالدة، ممكنا لهم من أن يصيروا ابناء الله. وبالجملة :
أنه يسوع المسيح. وهذا اللوغوس، عند القديس يوحنا، لا يماثل تماماً
الحكمة في سفر الحكمة، ولا اللوغوس عند فيلون والأفلاطونية المحدثة،
لأنه عند يوحنا هو الله نفسه، وليس قوة تابعة لله كما هي الحال عند
فيلون.
عند آباء الكنيسة
في أثر يوحنا جاء الآباء المسيحيون : يوستينوس، وكليمانس السكندري،
واوريجانس السكندري، فوجدوا في فكرة اللوغوس وسيلة لتفسير الاتفاق بين
الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية، بأن ادعوا أن اللوغوس هو مصدر
كلتيهما، والينبوع الوحيد لكل حقيقة. وفي تصوّر آباء الكنيسة لـ
اللوغوس، أكدوا أمرين:
التساوي التام بين اللوغوس وبين ابن الله وبين الله الآب. مشاركة
الجنس البشري في اللوغوس من حيث هو العقل.
عند الغنوصيين
قرر الغنوصيون أن اللوغوس هو أدنى الأيونات، وأنه الذي يتولى تكوين
العالم، فتصدى لهم القديس ارينايوس وأكد المساواة التامة بين الله وبين
اللوغوس وبين الروح القدس.
عند أوريجانس فيما بعد
حاول أوريجانس في القرن الثالث أن يفرّق في الدرجة بين الله الآب
وبين اللوغوس. وقرر أنه يمكن ان ننعت اللوغوس بأنه وجود الموجودات،
وجوهر الجواهر، وصورة الصور، لكننا لا نستطيع أن ننعت الله الآب بمثل
هذه النعوت، لأنه يتجاوزها جميعا. صحيح أن اللوغوس أزليّ مع أزلية الله
الآب، لكن ذلك ليس بنفس المعنى. إن الله الآب هو الحياة و "الابن"
يستمد الحياة من "الآب".
قرار المجامع الكنسية
رفضت الكنيسة في مجامعها (نيقيه، أفسس 325 - 431) تفسير أوريجانس،
واعتبرته هرطقة. وبقيت على الرأي الأول وهو القول بالتساوي بين الله
وبين الابن والذي هو الكلمة (اللوغوس). ومنذ ذلك التاريخ صار اللوغوس
يشكل معنى دينياً، أكثر منه فلسفياً عند
الصوفية المسلمين منذ تحول اللوغوس إلى معنى
ديني، وُجد خصوصا عند الصوفية المسلمين، بخاصة عند ابن عربي.
عند الفلاسفة المحدثين
لم يعد لـ اللوغوس مكان عند المحدثين، اللهم إلا على سبيل التعبير
الديني عن بعض الإتجاهات، كما هو موجود عند فتشه Fichte في كتابه "
المدخل إلى الحياة السعيدة" حين استشهد بمطلع إنجيل يوحنا للتدليل على
الاتفاق بين مثاليته وبين المسيحية، لكنه يرى فيي اللوغوس أنه هو "
الأنا ".
دراسات ثيوصوفية(2)
أن المستويات الثلاث العليا في النظام الشمسي هي: Adi, Anupadaka,
atmic، أو كما تقول الهندوسية، هي الثالوث براهما، فيشنو، شيفا؛ أو هي
الثالوث المسيحي: الآب والابن والروح القدس. لكن هذا الثالوث في
الدراسات السرَّانية الميتافيزيائية هو انعكاس متجلٍّ للثالوث
اللامتجلِّي (ما قبل التجلِّي الكوني)، المؤلف من اللوغوس اللامتجلِّي
(الآب)، ومن بوروشا–براكريتي (الروح القدس – الأم العذراء)، ومن ماهة،
الفكرة الكونية (الابن).
اللوغوس الشمسي، اللوغوس الثالث المتجلِّي ماهة، هو الآب السماوي
الذي نحن فيه متجذِّرون، ومن خلاله متجذِّرون في المطلق. وهو ثالوث،
ويدعى أيضاً باسم خريستوس Christos، أو براهما، أو كوان شاي ين
Kuan-shai-yin في البوذية، أو آدم قدمون في القبالة السرَّانية. وهو
نور الله، أو نور المطلق الذي تكلم عليه بولس الرسول، وهو "روح الله
التي ترف على وجه المياه"، كما جاء في التوراة.
اللوغوس الثاني، كوان ين Kwan-yin، أو فيشنو، أو حكمه chokma (أي
الحكمة) في القبالة؛ وهو ما تدعوه المسيحية بالروح القدس، أو صوفيا
Sophia، الحكمة الإلهية.
اللوغوس الثالث، شيفا، هو الابن، أو الطاقة المتجلية التي "بها
صُنِعَت العوالم" في رسالة بولس إلى العبرانيين؛ وهو يدعى أيضا
باللوغوس الكوكبي.
وهذه اللوغوسات الثلاثة يرمز لها بالثالوث r، الذي، بدوره، يعطي
الرباعية £ والمستويات الأربعة الدنيا المتبقية للنظام الشمسي.
* في كتاب العقيدة السرية، باستعمال الرمزية الكونية، نقرأ أن
"الثلاثة تعطي أربعة، والأربعة تعطي بدورها ثلاثة." أي أن الثالوث
العلوي (المؤلف من اللوغوس الشمسي براهما، ومن فيشنو، ومن شيفا) يبدع
بدوره الرباعية الدنيا، أي المستويات الأربعة الدنيا في النظام الشمسي.
وهذه الرباعية تعطي، بدورها، ثالوثاً، ليتشكل الثالوث في الرباعية،
فيصير سباعية، رمزاً للسلسلة الكوكبية المؤلفة من سبعة كواكب، أو سبع
سفيرات sephirots، أو سبعة مراكز طاقة (لايا laya). وعلمياً، كما
وباطنياً، تُحدِث الطاقة الكونية فوهة fohat سبعة ثقوب في الفراغ
الكوني لتشكل سبعة كواكب. أي أن مراكز الطاقة السبعة هي من عمل الطاقة
الكونية فوهة في النظام الشمسي المتجلِّي، بدءاً من المبدأ السابع،
اللوغوس أو العقل الكوني.
أود، قبل الاسترسال في هذه الدراسة، التشديد على بعض النقاط
والأسماء الواردة في الصفحات السابقة المتعلقة بانبثاق الكون
اللامتناهي، وصولاً إلى ظهور النظام الشمسي الخاص بنا، وذلك بالمقارنة
مع التجلِّيات الكونية في أديان أخرى.
1. اللوغوس الأول اللامتجلِّي هو ما دعاه فيثاغوراس باسم
الموناد، أو الشمس المركزية في القبالة السرَّانية، وهو الإله المثالي
Abraxas عند أفلاطون. وهو ثالوث معنوي يحوي اللوغوس المعنوي، والحكمة
الكامنة، والفكرة الكونية.
2. اللوغوس الثاني، أب + أم (الروح والمادة في الثيوصوفيا)، فهو
ما تدعوه القبالة باسم سفيرة أو كتر kether الذي فسَّره أحد الأصدقاء
باسم "قطر" الدائرة. وفعلاً فإن رمزه هو X، وهي Bythos، الأم السامية
في الغنوصية، والأم العذراء Nout عند المصريين.
3. اللوغوس الثالث، أو أول لوغوس متجلٍّ، هو الابن المماثل
لأبيه: "أنا في الآب والآب فيَّ." (إنجيل يوحنا) وهو المبدأ الكوني
السابع في النظام الشمسي، و"روح الله الذي يرفُّ على وجه المياه" (سفر
التكوين). وتدعوه الهندوسيَة باسم نارايانا Narayana الذي يعني في
اللغة التيبتية "الإله الذي يحوم فوق المياه". ويُرمَز له بالثعبان
الملتف على نفسه، مذكِّراً إيانا بالحية في الفردوس. إنه الثعبان
المصري Ptah، المطابق لأهورامزدا الفارسي.
من اللوغوس الثالث يبدأ النظام الشمسي بالانبثاق. وهذا اللوغوس،
بدوره، ثالوث – آب، ابن، وروح قدس – في التجلِّي. إنه براهما – فيشنو –
شيفا (في الهندوسيَة)؛ كتر – حكمه – بينه (حيث كتر، في القبالة
السرَّانية، تعني "القطر"، وحكمه تعني "الحكمة"، وبينه تعني
"البيِّنة"). وفي التيبت يُطلَق عليه اسم كوان شاي ين؛ ومنه تنبثق كوان
ين، أو صوفيا الغنوصيين، أي "الحكمة" نظيرة حكمه. وهذا اللوغوس الثالث
mahat هو آدم قدمون في القبالة الذي لا يختلف بشيء عن جوبيتر Jupiter
أو زفس Zeus. إنه خريستوس، "البكر من بين الأموات" كونياً، أوزيريس
المصري وأهورامزدا عند المجوس. وهو يذكرنا بالإنسان السماوي عند هرمس،
وهو ما يطلق عليه أفلاطون اسم اللوغوسLogos أو الأتمان Atman عند
الهندوس. وهو أخيراً تنين الحكمة. ففي رؤيا يوحنا نرى الصورة الرمزية
لامرأة حامل، بينما يستعد التنين لالتهام الوليد القادم. إنها صورة
رمزية كونية، حيث تمثل المرأة بينه binah، الروح القدس الذي يتهيأ لوضع
الطفل (رمز الكون)، "المولود من الروح القدس"؛ بينما يمثل التنين
اللوغوس المتجلِّي الذي، بإدراكه وبحكمته السامية، يعرف أن الطفل (أي
الكون المهيأ للولادة والانبثاق) ليس إلا وهماً ومصدراً للآلام، لأن
ذلك يعني انغلاق الروح في المادة الكثيفة. وللأسف فإن التفسيرات
اللاهوتية بعيدة كل البعد عن الحكمة الإلهية في هذه الصور الرمزية.
كيف ندرس الفكر الإسلامي اليوم؟(3)
المفهوم الأساس للفكر وللنشاط الخطابي النقدي في الغرب هو مفهوم
"اللوغوس" Logos الذي نجده في أواخر المصطلحات الدالة على الكثير من
العلوم، مثل Sémiologie (علم العلامات)، Écologie (علم البيئة)،
Embryologie (علم الجنين)، إلخ. مدار مؤلَّفات أرسطو جميعًا هو
اللوغوس؛ والفكر العربي، هو الآخر، عاش عالة على اللوغوس، حتى موت ابن
رشد في العام 1198. فماذا جرى للُّوغوس في الفكر الإسلامي؟ ابتداءً من
القرنين الثامن والتاسع، احتدم الصراع بين الفقهاء والمتكلِّمين،
باعتبارهم أصحاب العلوم الدينية (التي كان يرى المتحزِّبون لها بأن
العلم بأكمله محفوظ في كتاب الله وأحاديث نبيِّه)، وبين الفلاسفة،
أصحاب العلوم النقدية.
اللوغوس دخل إلى الفكر الإسلامي عن طريق المسيحيين السريان الذين
ترجموا مؤلَّفات أرسطو وغيره من فلاسفة الإغريق إلى السريانية (لغة
الشام والعراق قبل الإسلام)، ثم ترجموها من السريانية إلى العربية. ومن
خلال هذه الترجمة كان لا بدَّ من تطوير "مَفْهَمَة" conceptualisation
للظاهرة الدينية. لقد فصل النظر الفلسفي بين "المقدَّس" و"الحرام"، بما
أبرز الفارق بينهما في الفكر الغربي لاحقًا.
ومع انحسار الفكر الأوروبي في العصر الوسيط، استمرت الفلسفة العربية
تتطور وتطوِّر أدواتها المفاهيمية بقواها الذاتية الخاصة، بالافتراق عن
التيار الغربي الذي ظلَّ يقتات على اللوغوس فيما بعد. لماذا؟ يجيب
أركون بأن العرب لم يترجموا عن اللاتينية، مثلاً؛ عرفوا الفكر الإغريقي
عبر ترجمات، لكنهم لم يعرفوه في مظانِّه الأصلية، مكتفين بالترجمة
ومتفلسفين بالعربية. الإغريقية واللاتينية لغتان متوسطيتان، كالعربية؛
لكن هذه الأخيرة لم تتبع الطريق نفسها. وهذا، برأي أركون، أحد
التعليلات الأساسية للقطيعة المفاهيمية والدلالية العربية عن الفكر
الغربي الذي تواصل في أوروبا باللغات الأصلية نفسها التي نشأ فيها.
دريدا ونظرية التفكيك (4)
يعد التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد بنيوية في النقد الأدبي
فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً . وربما لا توجد نظرية
في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور
والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة . فمن ناحية نجد أن
بعض أعمدة النقد ( مثل ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن
وهارولد بلوم ) هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على
الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم ، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من
النقاد الذين ينضوون في خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم على التفكيك
الذي يعدونه سخيفاً وشريراً ومدمراً . ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا
وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد .
فهل أن التفكيك مدمر حقاً ؟ إذا كان الجواب نعم ، كيف يكون ذلك
ولماذا ؟ وإذا كان الجواب لا ، فلماذا هذا الرعب ؟ لا يمكن الإجابة عن
هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها ، ولعل أفضل
موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب " في علم الكتابة "
Grammatology Of الذي يعد لسان التفكيك … العمل البارز الذي أنجزه جاك
دريدا ، الفيلسوف والناقد الفرنسي .
وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه
عقبتان رئيستان ، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة
فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه ، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية
التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات
misinterpretations محتملة ، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض
المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا . وسأعمد إلى توثيق بعض هذه
التعليقات النقدية قبل الشروع بوصف وتقويم مفاهيم التفكيك.
يؤكد م. هـ. ابرامز M. H. Abrams أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو : "
1ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة ، النص المكتوب أو المطبوع ، 2ـ
أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية " . ولم يعمد أبرامز إلى
تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكياً من خلال مساواته مع البنيويين
الفرنسيين الآخرين حسب ، بل إنه شوهه إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض
الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل " الكتابة " ecriture و "
النص" text . وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب
وأن مفهوم النص محدد على
نحو غير اعتيادي.
وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ما جاء به أبرامز لا
يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية
التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة .
أما نيوتن غارفر Newton Garvar فهو معلق آخر على دريدا ، إذ يؤكد أن
دريدا واحد من فلاسفة اللغة ، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق
:
ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه
الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة
والمعنى ، والذي بسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية.
وقد حظيت المحاجة التي تقول أن التفكيك حقل معرفي بلاغي ، بدعم
هيليس ميلر الذي يقول : " إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز
والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر ، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً
معرفياً بلاغياً " . ويعتقد موراي كريغر Murray Krieger أن دريدا "
بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها ، وربما يكون قد أبطلها أيضاً "
وأضاف إن الهجوم الذي شنه دريدا يعد " شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم
القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير" (6) . ويؤكد
فريدريك جيمسون Fredric Jemson أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي
الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير
المكتشف.
ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو
تقويماً سليماً لنظرية دريدا ، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث
في التفكيك ، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون
أن المنطق مستنبط من البلاغة ، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان
إدراك حداثة أفكاره ، كما إن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد أن دريدا
يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا ،
والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئا سوى نقل الاهتمام من " الكلام "
إلى "الكتابة " وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة ، لهو سوء تأويل حقاً
. إذ ينبغي للمرء أن يكون حذراً عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية
إلى فهم دريدا والتفكيك . وقد انقسم النقاد على فريقين … فهم أما
يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره ، ولهذا السبب لا يمكن
الاعتداد بالمادة الثانوية ، ولا يمكن أن نعدها طرقاً سالكة توصل إلى
عالم التفكيك ، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم Harold
Bloom وهيليس ميلر وبول دي مان Paul DeMan وجيفري هارتمن Jeoffrey
Hartman الذين هم بقدر أصالة دريدا ، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة
تقريباً ونادراً ما يفسر دريدا … المعلم العظيم الأول للتفكيك . ويعد
فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك ، ومما لا شك فيه أن
الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا .
ومن الجدير بالذكر أن " الكتابة " و " الكلام " كلمتان محوريتان
يمكن أن يبدأ بهما فهمنا . وتتمتع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في
المفاهيم التقليدية للغة ، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام
وأولويته على الكتابة ، وإن الكلمة المنطوقة " صوت" phone كلمة غير
خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي . كما تُعرف الكلمة المنطوقة
بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله
الصورة الصوتية . وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة
استحضار المفهوم ، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في
سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر .
ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال .
ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئا أشبه بالثالوث في هذه العلاقة :
الذهن الإنساني ، الدال (الصورة الصوتية ) ، المدلول (المفهوم) .
والآن ، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي
للغة ؟ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها
التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة : وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة
المنطوقة … وهكذا فإن " الكلمة المكتوبة هي دال الدال وتعد ثانوية
بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة " ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي
شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال .
فإذا أردت أنا استحضار مفهوم " زهرة " ينبغي لي عندئذ أن أنطق صوت "
زهرة " (زَهْرَ ة) ، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية .
لكني حينما أكتب كلمة " زهرة " فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من
خلال بنية كتابية graphic structure . ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية
بأية صلة بالمفهوم ، بل أن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم
لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية حسب ، أنها شيء أشبه
بالطيف . وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها ،
بل لا بد من إهمالها.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية
إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية
ولاهوتية . وكتب دريدا في تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز
عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً :
…. إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً .
ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضرٍ ذاتياً ، كما يمكن توليده من خلال
الصوت بوصفه صفة ذاتية . إنه ترتيب الدال الذي يمكن للذات من خلاله أن
تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت نفسه . وكذا
الحال مع تجربة الصوت ، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها
إقصاءً للكتابة ، بمعنى آخر إقصاءً للدال " الخارجي " ، " المحسوس " ،
" المكاني "
الذي يعيق الحضور الذاتي.
ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتابة التقليديين " يحيلان إلى
خارج المعنى" logocentric ، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به
ما هو متجه ميتافيزيقياً أو ما هو متجه لاهوتياً . ولكي أكون أكثر دقة
أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت
بهما الميتافيزيقا . والحق إن هذا " التمركز حول اللوغوس " هو " تمركز
حول الصوت " phonocentrism .. ذلك الاعتقاد الذي يرى أن الصوت يقارب
الواقع المتعالي transcendental . ونجد في نظرية دريدا أن التمركز حول
اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة :
النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم .
ويركز التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين
المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل
الإنساني والواقع المتعالي . ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم
الهندي لسلطة الـ mantras . الذي يمكن تعريفه " بأنه صوت أو سلسلة من
الأصوات. ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة
المتعالية ؛ إذ تعزى الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها … فكيف يمكن
لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم " mantra" أن يكون متمتعاً بالسلطة ؟
إنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل وسيطا بين اللوغوس
والسلطة المتعالية. وأنا لا أسعى هنا إلى تأكيد أن المفهوم الغربي
التقليدي الخاص بالتمركز حول اللوغوس ، التمركز حول الصوت هو المفهوم
نفسه الخاص بـ mantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه.
ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو " التمركز حول الكتابة "
graphocentrism ، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل الدخول في صلب
نظرية دريدا . ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية
graphic ، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع
الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم
phoneme ( الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظا ما أو
كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة) . وإذا علمنا أن الكتابة
كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم ، تبعاً إلى ما يذكره المفهوم
التقليدي ، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها أية صلة عدا كونها
تمثل الصورة الصوتية . ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول
الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة ، وهو يمثل قلباً
للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على
الكتابة أو الكلمة المكتوبة .
وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد
انتقالاً من التمركز حول اللوغوس إلى التمركز حول الكتابة ، وهذه ليست
ملاحظة بريئة ولا بد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير ،
وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من
خلال القياس . فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي
يمثلونه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذ يكون التركيز على
الكلام هو التركيز على الروح ( والتركيز على الكلام هو التركيز على
التمركز حول الصوت والتمركز حول اللوغوس) . أما التركيز على الكتابة
فهو التركيز على الجسد ( والتركيز على الكتابة هو التمركز حول
الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركزاً حول الكتابة ، وإذا كان التمركز
حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذ يمكن تعريف التفكيك بأنه
رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، وإنه تحد لما هو أخلاقي ، إنه
الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب … فهل من المقنع أن
نقول أن التفكيك عدمي nihilistic؟ يمكن القول أن هذه التوكيدات كلها
صحيحة ، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو " نعم " عن كل ما يقوله دريدا ،
وكل ما يقصده التفكيك . سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا
التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية .
فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام
والكتابة ، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني للغة والمفاهيم التي يحاول
الوصف بناءها . والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول
إن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول . وتزعم اللسانيات
الحديثة ، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول ، والبنيوية ، التي
تدين لذلك المفهوم ، أنهما جعلتا من دراسة اللغة وفعل النقد حقلين
معرفيين علميين ، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع حسب لأن مفهوم
الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم
الكلام والكتابة التقليدي . وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة
المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت، ما يأتي:
دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول
… حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولهذا السبب يبقى هذا
المفهوم ضمن تراث مفهوم التمركز حول اللوغوس الذي هو في حقيقته تمركزاً
حول الصوت : التقارب المطلق بين الصوت واللصوت والكينونة being ،
وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى . ( OG, p. 112 )
ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن
البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد ، هو في حقيقته النسق
القديم نفسه ، أي نسق " التمركز حول اللوغوس – التمركز حول الصوت "
الذي هو نتاج الميتافيزيقا.
ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة
وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة
اللغة في ضوء القطبية الثنائية ، بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية ـ
مفهوم الواقعي والمثالي ، مفهوم الجسد والروح ، مفهوم الخير والشر ـ قد
فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية
مشابهة . وتعد الحجة اللسانية ، التي تقول أن الصورة السمعية تستحضر
المفهوم ( أي أن الدال يستحضر المدلول) ، تركيزاً على أولوية الكلمة
المنطوقة على الكلمة المكتوبة ، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي
صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة ، ذلك الإهمال الذي نتج عن
النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد
للكلمة المكتوبة ، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي ، وخلف
مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة
اشتراطية قوية .
مقدمة لإنجيل يوحنا(5)
في الواقع؛ في بداية إنجيلهِ، في الأعداد الثَّمانية العشرة الأولى،
نجده يستخدم كلمة يونانية مميَّزة أصبحت مألوفة جداً لَدَيْنا، وهي "
لوغوس " أو " كلمة ".
1- "لوغوس" واليهود
عندما استعمل يوحنا هذه الكلمة "لوغوس" كان قادراً بهذه الكلمة أن
يتَّصِل بثلاثة عوالم مختلفة بطريقة مميزة ورائعة. ؛إنّ هذه الكلمة
بالنِّسبة لعالم اليهود عَنَتْ " قوة الله المُحَرِّكة الخالِقة
بالتَّحّدُّث أو بالتَّكَلُّم".
٠٢"لوغوس" بالنسبة لليونان
إنّ كلمة"لوغوس" قد عَنَت لليونان مبدأ إلهي سرمدي خارق للطبيعة لم
يكن مفهوماً لديهم وبه كانوا يقيسون كل فكر وعقل ومفهوم. إنّه مبدأ
يُمسك الكون كله معاً ،ومع أنّهم لم يستطيعوا أن يتَفّهَموا أن هذا
المبدأ ما هو إلا يسوع نفسه، فإنّ يوحنا قد أتى لكي يُوَفِّق بينهم
وبين هذا المبدأ بقوله أن هذا "اللوغوس" الذي تتحدّثون عنه، هذا المبدأ
الإلهي لكل عقل وفهم ومنطق والذي يضبط الكون كله معاً، ما هو إلا يسوع
المسيح نفسه ابن الله الذي أتحدّث عنه. وهكذا فقد كان هذا بالنسبة لهم
له معنىً خاصاً ومميّزاً.
٠٣ "لوغوس" لدى الكنيسة الأولى
إن كلمة اللوغوس عند الكنيسة الأولى عَنَتْ "الكلمة المُبَشِّرة".
ماذا يحدث عندما تُبَشَّر الكلمة؟ لقد كان المعنى بالنّسبة لهم كما
عَنى عند اليهود "قوة حية" . إنّهم لم يرَوا الكلمة... كمخطوطة من
كتاب. إنهم لم يعبِدوا الكتاب. لقد عبدوا إله حي عمل فيهم من خلال
كلمات الكتاب. أريد أن أقول لكم أنه بينما كان يوحنا يستخدم هذه الكلمة
في ذلك الوقت كان أيضاً يبني جسراً بين ثلاث عوالم مختلفة.
وهكذا فإن يوحنا يعمل أعمالاً مختلفة لكي يصل إلى عالمه حتى يفهمون.
فهو سيصل اليهود واليونان والكنيسة باستخدام نفس الكلمة، وهو يقول أن
"لوغوس" "الكلمة"، كانت في البدء مع الله. هذه هي الطريقة التي ابتدأ
بها قصة إنجيله.
........................................................................
1- دليل الناقد الادبي/ د. ميجان الرويلي
2- محمد أركون
3- ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة
4- جهاد الياس الشيخ / مجلة معابر
5- أحمد تموز / / مجلة معابر
6- بقلم : س . رافيندران/ مجلة أفق
7- الموسوعة العربية المسيحية |