الطبيب والمقبرة

من مذكرات الكاتب التركي عزيز نيسين

ترجمة: أوزجان يشار

أصبحت شقيقتي البالغة من العمر ثلاثة سنوات مريضة فقد كانت لا تستطيع الوقوف على رجليها. بعد مرور سنة أدركت أنها مصابة بمرض كساح الأطفال (وهو مرض يصيب العظام) وهو ناتج عن سؤ التغذية وعدم الاهتمام اللازم.

ربما يتسآل البعض - ماذا عن الطبيب؟ في ذلك الوقت كنا نسمع فقط باسم الطبيب. كان الطبيب بالنسبة إلينا حالة من الرفاهية, لذلك لم يكن من المتاح لنا أن نستعين بطبيب أو حتى نسمع صوتة. عندما يموت طفل كان يقولون :" الله أعطى والله أخذ" ولكن لو تلقت شقيقتي تغذية سليمة وجيدة بإشراف طبيب، لتحسنت حالتها كثيراً وأصبحت في صحة افضل.

 جربوا كافة أنواع الأدوية و الأدوية التي اتكلم عنها هنا هي الوصفات الشعبية التي يتم تجهيزها بلا نقود- وعندما فشلنا، أخبروا أمي بطريقةٍ اخرى لمعالجتها.

قالوا.. "في المساء، عندما تقام صلاة المغرب، خذي الطفلة إلى المقبرة وأتركيها فوق ضريح قبر ثم أرجعي إلى البيت دون أن تنظري إلى الخلف. وبدون أن تشربي أي شىء حتى لو كان هذا الشىء قطرة شاي واحدة. سوف يتبعك البعض وسوف يحضروا الطفلة إلى البيت ".

أوضحت أمي للطفلة أنه إذا أردات أن تشفى و تتحسن وإذا أردت أن تمشي و تلعب كما كانت في السابق فعليها أن تتبع هذه الوصفة، قالت لها أمي "يجب الا تخافي أو تبكي عندما نتركك في المقبرة وكانت شقيقتي بنت ذكية و مطيعة ايضاً.

كانت امي تأخذ شقيقتي في ذراعها كل مساء وتأخذني بيدها لنذهب إلى مقبرة "جروكلوك" التي تقع بين منطقة "كاظم باشا" حيث نسكن و منطقة "بيغولو" حيث كانت أشجار الصنوبر الكثيفة المتناثرة في المقبرة تجعل من ظلام الليل أكثر حلكة و أشد عتمة.

في هذا الجو الكئيب تبدو القبور أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. عندما تبدأ أصوات آذان صلاة المغرب تأتي من المآذن والمنارات، تترك أمي شقيقتي فوق ضريح قبر وتأخذ يدي وبدون أن تنظر إلى الخلف, كانت تسرع الخطى بعيداً. استمر هذا الحال لشهور عديدة حتى دخل فصل الشتاء.

في كل مرة لم تكن أمي تلتفت إلى الوراء وفي كل مرة لم تصرخ شقيقتي ذات الثلاثة سنوات عندما كانت توضع فوق ضريح القبر.

لم أكن أستطيع رؤية وجه أمي أسفل خمارها. لم يكن أحد يدرك حجم المعاناة التي تعانيها, فقد كانت لا تتوقف عن البكاء وهي في الطريق بين المقبرة والبيت. عندما تعود إلى البيت عائدةً من المقبرة كانت ترمي بنفسها على المرتبة وتغمض عينيها حتى يعود أحدهم بشقيقتي من المقبرة.

أفكر كثيراً في تبعات ترك طفلٍ مريضٍ في مقبرة كملاذ آخير لكي يشفية و يعافية الله. إن الفقراء الذين لا يجدون طريقهم إلى الطبيب أو للأدوية والذين ليس لديهم القدرة حتى على اطعام أولادهم، يسألون الله:

" يا الله، تركت طفلي ها هنا عندك، فادفن مرض طفلي في الأرض، أرجعه يا الله لي معافى وسليم ".

في إحدى الأيام أحضر أبي تفاحاً إلى البيت. فأخبرني قائلاً :" أدر ظهرك" فأدرت وجهي ناحية الجدار ووقعت تفاحة أمامي، ثم تفاحة أخرى. ثم قال أبي :" لقد أرسل الله إليك هذا التفاح فأدعوه". إن الله الذي أرسل التفاح لي قد يشفي أختي أيضاً و لكن أختي ماتت..

حينما حملت أمي الكفن الصغير للقبر، كنت أظن أن الأمر لعبة وضحكت على العمة سارة التي كانت واقفة على باب الغرفة. أجل أنها لعبة، سيتركون أختي في هذا الصندوق الخشبي فوق الضريح في المقبرة وهناك سوف تطيب وتأتي راكضة نحو البيت.

قالوا:" خذوا الولد إلى الداخل ".

حبسوني داخل الغرفة لأني لم أتوقف عن الضحك و الضجيج. أتت إلى أمي وقبلتني. وأخبرتني:" ماتت أختك، يجب ألا تضحك هكذا".

خجلت بعد أن علمت بأني اقترفت شيئاً مخزياً.

دائماً كنت أسأل لماذا أصبحت كثير المرح و الضحك ولا أجد جواباً سوى "أن الشيء الذي جعلني مرحاً هكذا هو حياتي التي عشتها, لقد كانت حياتي طريق طويل حافل بالدموع".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11 حزيران/2007 -23/جمادي الأول/1428