كشمير العراق

أحمد جويد*

 مقدمة

     دأب الاستعمار بأساليبه المعروفة في خلق الأزمات والفتن في جميع البلدان التي يقوم باحتلالها من أجل فرض سيطرته عليها وضمان مدة بقائه أطول مدة ممكنة لغرض التحكم في جميع مقدرات تلك الشعوب وجعلها تدور في فلكه السياسي والاقتصادي، ومحاولة شق الصف الوطني وإضعاف اللحمة الوطنية بين مكونات هذا الشعب أو ذاك.

فهو حينما يدخل بلداً من البلدان، أول ما يخشاه هو تصاعد المقاومة ضده ومطالبته بالخروج والرحيل، وبذلك عليه أن يعمل على إضعاف هذه الأصوات أو أن يجد السبل الكفيلة في كم الأفواه والرضوخ له والمطالبة ببقائه كصمام أمان بدلا من خروجه والمحاولة على إبقاء الفتن الداخلية التي تحدث بعد رحيله.

فهو أول ما يعمل على تفخيخ احد الأماكن التي من شأنها أن تنفجر في أية لحظة بإشارة منه، ويتم التفخيخ إما بإثارة إحدى النعرات العقائدية أو المذهبية أو العرقية أو الاقتصادية أو...  الخ، حسب ما تقتضيه الضرورة لإضعاف هذا البلد أو ذاك وصرفه عن قضيته الأساسية.

سياسة قديمة استخدمها الإنكليز في أماكن عدة من العالم ومن أبرزها إقليم كشمير ذو الأغلبية المسلمة ليكون بؤرة للتوتر بين الهند وباكستان يمكن أن تعمل على تأزم الوضع بين الدولتين النوويتين في أي وقت من الأوقات، وبذلك أصبحت تلك المنطقة في شبه القارة الهندية تعد فوهة البركان الذي يغلي من الداخل.

هذه السياسة الاستعمارية على الرغم من قدمها إلا إنها أثبتت نجاحاً كبيراً في الوقت الحاضر داخل الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي، والتي جاءت بها المادة (58) من قانون إدارة الدولة في زمن الحاكم المدني الأمريكي للعراق لتتجسد إلى واقع لا يقبل المساومة ولا اللبس في المادة (140) من الدستور العراقي الدائم.

وللتشابه الكبير بين إقليم كشمير ومدينة كركوك في التنوع السكاني العرقي والمذهبي، ارتأينا أن نسلط الضوء على هذه المدينة العراقية التي طالما بقيت تنعم بالسلام والتآخي بين جميع مكونات الشعب العراقي حيث تمثل الوحدة الوطنية الحقيقية بين أبناء هذا الشعب بعيدة عن الصراعات الإقليمية والتداخلات الخارجية.

والتي أصبحت اليوم وبفعل فاعل عبارة عن برميل من البارود من الممكن أن ينفجر في أية لحظة، وقد يتم هذا التفجير عن بعد لا سامح الله.

كشمير

أولاً:- التقسيم الإداري لكشمير

كانت كشمير وقت تقسيم شبه القارة الهندية تتكون من خمس مناطق هي وادي كشمير، جامو، لاداخ، بونش، وبلتستان وجلجت. وبعد عام 1947 سيطرت الهند على جامو ومنطقة لاداخ، وبعض الأجزاء من مقاطعتي بونش وميربور ووادي كشمير – أخصب المناطق وأغناها، في حين بسطت باكستان سيطرتها على ما يسمى الآن بكشمير الحرة وهي مناطق بونش الغربية ومظفر آباد وأجزاء من ميربور وبلتستان. واتخذت الهند من مدينة سرينغار عاصمة صيفية للإقليم ومن مدينة جامو عاصمة شتوية له، في حين أطلقت باكستان على المناطق التي تسيطر عليها آزادي كشمير أي كشمير الحرة وعاصمتها مظفر آباد.

ثانياً:- الوضع السياسي للإقليم

يعدَّ إقليم جامو وكشمير من الناحية السياسية منطقة متنازعا عليها بتعريف القانون الدولي، وقد قامت الهند بضم الإقليم لها في 27/ تشرين الأول 1947م، وفرضت عليه حماية مؤقتة بعد أن تعهدت للشعب الكشميري وللأمم المتحدة بمنح الكشميريين حق تقرير المصير.

 وقد تضمن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 47 الصادر في عام 1948م النص على إعطاء الشعب الكشميري الحق في تقرير المصير عبر استفتاء عام حر ونزيه يتم إجراؤه تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما لم يتم حتى الآن.

ثالثاً:- بداية الصراع

أصدر البرلمان البريطاني في 17 / تموز 1947م  قانون استقلال الهند الذي أنهى الحكم البريطاني لها، وتم تنفيذ القرار في 15 / آب من العام نفسه. وأوعزت بريطانيا بعد انسحابها إلى تلك الإمارات التي كانت تحكمها في الهند بأن تنضم إما إلى الهند أو باكستان وفقا لرغبة سكانها مع الأخذ بالحسبان التقسيمات الجغرافية في كل إمارة، وتكونت تبعا لذلك دولتا الهند وباكستان، غير أن ثلاث إمارات لم تتخذ قرارا بهذا الشأن هي حيدر آباد وجوناغاد وكشمير، ثم قرر حاكم إمارة جوناغاد المسلم أن ينضم إلى باكستان برغم وجود أغلبية هندوسية في الإمارة، وأمام معارضة هذه الأغلبية لقرار الحاكم دخلت القوات الهندية وأجرت استفتاء انتهى بانضمامها إلى الهند، وحدث الشيء نفسه في ولاية حيدر آباد حيث أراد حاكمها المسلم أن يظل مستقلا بإمارته ولم تقره الأغلبية الهندوسية في الولاية على هذا الاتجاه فتدخلت القوات الهندية في 13/ أيلول 1948م  مما جعلها ترضخ للانضمام إلى الهند.

أما كشمير فقد كان وضعها مختلفا عن الإمارتين السابقتين، فقد قرر حاكمها الهندوسي هاري سينغ - بعد أن فشل في أن يظل مستقلا- الانضمام إلى الهند متجاهلا رغبة الأغلبية المسلمة بالانضمام إلى باكستان ومتجاهلا القواعد البريطانية السابقة في التقسيم.

وقد قبلت الهند انضمام كشمير إليها في حين رفضت انضمام الإمارتين السابقتين إلى باكستان بناء على رأي الحاكمين بهما، وخاف من رد فعل الأغلبية المسلمة في إمارته فعرض معاهدتين على كل من الهند وباكستان لإبقاء الأوضاع كما كانت عليه وللمحافظة على الاتصالات والإمدادات، فقبلت باكستان بالمعاهدة في حين رفضتها الهند ومن ثم راحت الأمور تتطور سريعا باتجاه الحرب.

فكانت الحروب التي نشبت في كشمير هي:

1- حرب 47 – 1948م

2- حرب 1965م

3- حرب 1971م

أهمية كشمير بالنسبة للهند

تمثل كشمير أهمية إستراتيجية للهند تجعلها شديدة التمسك بها على مدى أكثر من خمسين عاما برغم الأغلبية المسلمة بها وبرغم الحروب التي خاضتها واستنزفت من مواردها البشرية والاقتصادية الكثير، وتتلخص هذه الأهمية فيما يلي:

1- تعدَّها الهند عمقا أمنيا إستراتيجيا لها أمام الصين وباكستان.

2- تنظر إليها على أنها امتداد جغرافي وحاجز طبيعي مهم أمام فلسفة الحكم الباكستاني التي تعدَّها قائمة على أسس دينية مما يهدد الأوضاع الداخلية في الهند ذات الأقلية المسلمة الكبيرة العدد.

3- تخشى الهند إذا سمحت لكشمير بالاستقلال على أسس دينية أو عرقية أن تفتح بابا لا تستطيع أن تغلقه أمام الكثير من الولايات الهندية التي تغلب فيها عرقية معينة أو يكثر فيها معتنقو ديانة معينة.

أهمية كشمير بالنسبة لباكستان

أما أهمية إقليم كشمير بالنسبة لباكستان التي تعدَّها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه أو التفريط فيه، فيمكن تلخيصها فيما يلي:

1- تعدَّها باكستان منطقة حيوية لأمنها وذلك لوجود طريقين رئيسين وشبكة للسكة الحديد في سرحد وشمال شرقي البنجاب تجري بمحاذاة كشمير.

2- ينبع من الأراضي الكشميرية ثلاثة أنهار رئيسة للزراعة في باكستان مما يجعل احتلال الهند لها تهديدا مباشرا للأمن المائي الباكستاني.

ومازالت كشمير إلى اليوم تشكل بؤرة التوتر والقنبلة الموقوتة التي من الممكن أن تنفجر في أية لحظة بين دولتين نوويتين مسببةً دماراً في شبه القارة الهندية لا يعرفه إلا الله.

كشمير العراق

كركوك ... المدينة التي يشبهها الكثيرون بعراق مصغر، وهي حقاً كذلك، فبالإضافة إلى التكوينات العرقية التي تمثل الأكراد والتركمان والعرب والكلدو آشوريين والأرمن، يمكن أن تجد أفرادا من الصابئة المندائيين وأتباع الديانة الإيزيدية وينقسم الكرد والعرب والتركمان عرضياً ما بين سنة و شيعة، وينقسم السنة ما بين تيارات ومذاهب ايضاً والشيعة كذلك، ولا احد يعرف إلى أين يصل هذا التجزئ الفسيفسائي، وربما لا يوجد من يشغل ذهنه كثيراً بهذه التفصيلات، على حساب التفكير بالصورة الشمولية، الهوية الوطنية التي تغطي كل هذه الألوان المتقاطعة و المتجاورة و المتداخلة بغلالة لونية واحدة.

الصراع داخل كركوك

لسنوات طويلة كانت كركوك بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها مختلف القوميات لكن الأمر أصبح شائكا بعد الإطاحة بحكومة الرئيس العراقي السابق صدام حسين حيث تسعى القوميات المختلفة في كركوك لإثبات حقوقها التاريخية.

يحاول الأكراد من جهتهم إلحاق كركوك بكيان إقليم كردستان في شمال العراق بينما يحاول التركمان و العرب إبقاء كركوك ضمن الحكومة المركزية في بغداد. هذه الخلافات تم التعبير عنها بالعنف المسلح في بعض الأحيان والخلاف السياسي في أحيان أخرى.

بين قناعة الأكراد ومخاوف التركمان وقلق العرب

يسكن كركوك مزيج متجانس من قوميات مختلفة من الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين والكلدان والأرمن. كركوك عرفت منذ القدم بتجانس قومياتها المختلفة لكن هذا التجانس طرأت عليه تغيرات منذ ثمانينات القرن المنصرم حيث قامت حكومة الرئيس العراقي السابق صدام حسين بإجبار قسم من الأكراد و التركمان بالرحيل عن ديارهم وقراهم في مدينة كركوك كجزء من سياسة منظمة عرفت بسياسة التعريب. مدينة كركوك كانت ولم تزل موضع خلاف وجدل بشأن عرقية المدينة التاريخية الموغلة بالقدم.

فالأكراد يرونها جزءا من ما يطلقون عليه تسمية كردستان التي حاول غزاة المنطقة عبر التاريخ بتدمير إماراتها المتعددة واحدة تلو الأخرى. حيث كانت كركوك عاصمة لإمارة شهرزور الكردية في القرن التاسع عشر.

بغض النظر عن صحة هذه المزاعم التاريخية يصر الأكراد مؤخرا على تطبيق الفقرة 58 من قانون إدارة الدولة للمدة الانتقالية الذي كتب في مارس 2004 والذي عدّ بمثابة الدستور المؤقت للحكومة العراقية الانتقالية الذي تشكل عقب إحتلال العراق في 2003م والإطاحة بحكومة الرئيس السابق صدام حسين وبنظام البعث.

المادة 58 تدعو إلى اتخاذ إجراءات لرفع الظلم الذي نتج عن ممارسات النظام السابق بسبب سياسات التعريب و التهجير القسري التي شهدتها بعض المناطق العراقية ومن ضمنها مدينة كركوك، وجاءت المادة 140من الدستور العراقي الدائم تؤكد على ما جاء في المادة السابقة من قانون إدارة الدولة المؤقت على تطبيع الأوضاع في كركوك.

أما التركمان فهم يدعون بان أجدادهم قدموا إلى العراق أثناء خلافة الأمويين و العباسيين لحاجة الفتوحات الإسلامية لمقاتليهم الأشداء، ومنذ ذلك الوقت و على الخصوص أثناء حكم السلاجقة بدا الاستيطان التركماني لمدينة كركوك.

 دخل السلاجقة العراق سنة 1055 عندما قدم قائدهم طغرل بك على رأس جيش مكون من قبائل الاوغوز التركية و حكموا العراق لمدة 63 سنة.

يعدَّ المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني تركمان العراق جزءا من جيش السلطان العثماني مراد الرابع الذي احتل العراق بعد طرد الصفويين منها عام 1638م حيث أبقى على بعض من جنوده بالعراق لحماية الطرق بين الولايات العثمانية.

وهم يصرون في الوقت الحاضر على أحقية التركمان في تقرير مصير كركوك وليس للأكراد وحدهم حق تقرير المصير يسندهم في ذلك الموقف التركي المتشدد إزاء الأكراد في العراق.

بينما يرى العرب أنهم المواطنون الأصليون لكركوك ولا يمكن فصلهم عن الجسد العربي وإلحاقهم بإقليم كردستان تحت ظل إدارة كردية. وهم يقولون أنه كانت هناك عشيرتان رئيسيتان في منطقة كركوك، وهما عشيرة التكريتي و عشيرة العبيد حيث قدمت عشيرة التكريتي إلى منطقة كركوك من سوريا في القرن السادس عشر مع السلطان العثماني مراد الرابع الذي كافأهم على ولائهم للعثمانيين بإعطائهم أراضي و قرى في الجنوب الغربي لمدينة كركوك بالإضافة إلى مدينة تكريت. ومن العشائر العربية الأخرى التي استوطنت كركوك أثناء العهد الملكي في العراق، عشائر العبيد و الجبور، حيث قدمت عشائر العبيد إلى كركوك من منطقة الموصل بعد خلافات مع عشائر أخرى في الموصل واستقروا في منطقة الحويجة عام 1935م أثناء حكومة ياسين الهاشمي. (1)

كركوك بعد سقوط نظام صدام

تحت إشراف بول برايمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، جرت أول انتخابات بلدية في مدينة كركوك في 24 مايو 2003م لاختيار مجلس بلدية المحافظة حيث اختارت القوات الأمريكية 300 مندوب عن الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين كمجمع انتخابي قام بانتخاب مجلس المدينة المكون من 30 عضوا. وجاءت هذه الخطوة في ظل مساعٍ ترمي إلى تخفيف حدة التوتر العرقي السائد في المدينة. وقد قررت القوات الأمريكية منح الطوائف الأربع عدد المقاعد نفسها داخل المجلس الجديد.

وتألف المجلس من ثلاثين عضوا، أنتخب أربعة وعشرون منهم بمعدل ستة مقاعد لكل طائفة، و يعين الأمريكيون ستة أعضاء "مستقلين".أما الآن، فقد توسع مجلس محافظة كركوك في جولته الثانية ليضم 41 عضوا. أُختير الكردي عبد الرحمن مصطفى محافظا و وافق مجلس المدينة بأغلبية الثلثين على اختيار آشوري وتركماني وكردي كمساعدين للمحافظ. (2)

 

بداية التطبيع

إعادة توطين العرب

تشجع الحكومة العراقية العرب الذين استوطنوا في مدينة كركوك الواقعة شمالي البلاد على العودة إلى "مواطنهم الأصلية" جنوبي البلاد.

فقد وافق مجلس الوزراء العراقي على اقتراحات تقديم التعويضات لمن يريد الرحيل عن كركوك من العرب والاستقرار في المنطقة التي جاء منها - أو جاء آباؤه منها - أصلا.

تعويضات للعرب

وستقوم الحكومة بدفع تعويضات لأية عائلة عربية تغادر شمالي الإقليم طواعية، وتشمل هذه التعويضات تقديم قطعة أرض في الموطن الأصلي للعائلة ومبلغ 15 ألف دولار أمريكي.

وتتم الدعوة إلى مثل هذا الإجراء من خلال إحدى مواد الدستور العراقي الجديد التي تعالج وضع المدينة المختلطة الأعراق.

يذكر أنه خلال حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، تم توطين بعض العرب في منطقة كركوك الغنية بالنفط.

استفتاء

وسيجرى استفتاء في وقت لاحق هذا العام بشأن إلحاق المدينة بالأقاليم الثلاثة في المنطقة المعروفة بكردستان العراق.

وتعدَّ قضية كركوك واحدة من أكثر قضايا العراق شحنا عاطفيا وقابلية للتفجر.

وينظر الأكراد إلى كركوك على أنها عاصمتهم الطبيعية، وهم يتوقون لرؤية الإقليم الغني بالنفط يُتبّع إلى كردستان العراق، الفكرة التي لاقت مقاومة من قبل العديد من العرب والتركمان.

تحقيق الهدف

وتسن المادة 140 من الدستور الجديد الإجراءات التي يأمل الأكراد بأن تساعدهم على تحقيق هدفهم هذا. كما ترسم المادة المذكورة تصورا لإجراء استفتاء قبل نهاية العام الحالي، ولكن ستجري أولا عملية تطبيع تعاد بموجبها أجزاء من الإقليم كان صدام قد حشد فيها العديد من العرب.

وسيسمح على وفق الخطة الجديدة بعودة الأكراد والتركمان والمهجرين الآخرين إلى مناطقهم الأصلية بعد أن يرحل العرب إلى ديارهم التي قدموا منها في الجنوب.

عملية طوعية

ويتوقع أن تكون العملية برمتها طوعية، إذ سيتم توزيع طلبات الانتقال لمن يريد المشاركة في الخطة الجديدة.

إلاّ أن العرب السنة وآخرين في مجلس الوزراء عارضوا الخطوة الجديدة، كما تزداد التوترات على الأرض في كركوك نفسها حيث تتصاعد أعمال العنف في المدينة، وقد حذّرت تركيا المجاورة، التي تعدَّ نفسها حامية الأقلية التركمانية في العراق، من عواقب تسليم كركوك إلى الأكراد. (3)

الصراع المحتمل

     بعد ما أفرزته المرحلة الراهنة من أوضاع على الساحة السياسية الأمريكية في الداخل الأمريكي وما يتحقق على الأرض من إخفاقات عسكرية في عدم ضبط الوضع الأمني في العراق وعدم الوضوح للمشهد السياسي العراقي، أصبحت فكرة الانسحاب أو وضع جدول للانسحاب تلوح في الأفق، وسوف يترتب في إثر هذا الانسحاب متغيرات كبيرة على الساحة السياسية والجغرافية العراقية.

ومن بين تلك التغيرات ما يود الأكراد القيام به قبل انسحاب الأمريكان من العراق، وهو ضم مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان.

   يؤكد الأكراد في أدبياتهم وفي تصريحاتهم السياسية على إن مدينة كركوك هي قلب كردستان على الرغم من كونها لا تقع في وسط الإقليم، والتي لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها في أي حال من الأحوال وهي هدفهم الأول والأخير وذلك بحسب تصريحات قادة وسياسي الأحزاب الكردية.

    ان الكرد يرون في كركوك مدينة عراقية مثل باقي المدن كالسليمانية واربيل ودهوك وان عملية التطبيع والإحصاء والانتخابات هي التي ستقرر إن كانت مدينة كركوك وغيرها من المناطق التي غير بناءها القومي النظام السابق من المناطق التي ستكون ضمن إقليم كردستان. وحتى عندما يتقرر ذلك فهذا لا يعني إن كركوك وسنجار وخانقين وغيرها هي ليست من المدن العراقية فالعراق بلد له سيادته مثلما له دستوره وله تعريفه الدستوري. والعراق بلد فدرالي وليس في هذا أي انتقاص من عراقية العراق أو من أية منطقة فيه أو محافظة فيه تتبنى الأسلوب الفدرالي.

     كما إنهم يرون من التدخل الخارجي في الشأن العراقي أمراً يجب أن يتوقف والى الأبد فقد عانى العراق كثيراً من تدخلات بعض نظم دول الجوار وحان للعراق أن يتمتع بسيادته وبنظامه الديمقراطي الانتخابي وبتبني أفضل السبل في إدارة شؤونه وبما ينسجم وتركيبة الشعب العراقي وتعدديته.

العرب ..

    منهم من يرى أن تبقى كركوك مدينة للتآخي وأن تصبح إقليماً مستقلاً بذاته تشترك في إدارته جميع المكونات العرقية والمذهبية التي تقطن تلك المدينة وتحظى بوضع خاص بها يبعدها عن أي نوع من أنواع التوتر والصراع.

وذلك وفقاً لروح الدستور الذي ينص في إحدى مواده في باب الحقوق والحريات على انه (للعراقي الحق في التملك في أي مكان في العراق، ولا يجوز لغيره تملك غير المنقول إلا ما استثنى بقانون).

   ومنهم من يرى بقاء هذه المدينة مرتبطة بحكومة المركز ويرفضون رفضاً قاطعاً في أن تصبح كركوك ضمن إقليم كردستان أو حتى إقليما قائما بذاته وهو ما يطالب به العرب السنة سواء أكانوا في مدينة كركوك أم خارج مدينة كركوك.

وهذا الموقف مستند إلى رفضهم التام لمبدأ الفدرالية في العراق والدعوة إلى البقاء على ما يعرف بالحكم المركزي.

التركمان...

    فإنهم يَعدّون مدينة كركوك مدينة تركمانية وبانضمامها إلى إقليم كردستان سوف تضيع هويتها الديموغرافية والاجتماعية وإنهم سوف يبقون مهمشين تحت ظل الإدارة الكردية، وهذا ما لا ترضى به أنقرة.

    وتمثل تركيا العقبة الرئيسة أمام الطموح الكردي في الاستحواذ على كركوك وضمها إلى إقليم كردستان العراق، وعليه صار التركمان في هذه المدينة يوجهون أنظارهم إلى موقف الحكومة التركية تجاه ما يجري في مدينة كركوك دون أن يعولوا كثيرا على الحكومة الاتحادية في بغداد بشأن بقاء هذه المدينة بعيدة عن سلطة الأكراد.

    وعليه فإننا نرى بانضمام مدينة كركوك المتنازع عليها إلى إقليم كردستان ارتفاعاً في حدة الصراعات التي تجعل منها برميل بارود يمكن أن يهدد أو يزعزع أمن واستقرار العراق والمنطقة،وذلك بجرها إلى حالة الحرب الأهلية والإقليمية فيما إذا لم تصل الأطراف السياسية إلى حالة توافقية ترضي جميع الأطراف الموجودة في هذه المدينة.

وعلى أية حال فإننا نرى إن حدة التصريحات قد شهدت تصعيداً كبيراً في اللهجة بين رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود البارزاني وبين رئيس الوزراء التركي بخصوص تبادل الاتهامات بين الطرفين بشأن التدخل بالشؤون الداخلية.

    وما تعدّه انقرة تهديداً لأمنها في الوقت الحاضر من خلال الملاذ الذي توفره حكومة إقليم كردستان لجماعة حزب العمال الكردستاني في تركيا، سوف تعدّه خطراً وشيكاً على  أمنها القومي في حال انضمام مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان، بسبب العائدات المالية الكبيرة التي سوف تعود على هذا الإقليم الذي من خلاله تنطلق الهجمات على الحدود الجنوبية لتركيا.

   وما يثير مخاوف الأكراد هو عدم ثقتهم بالجانب الأمريكي الداعم لهم وبقوه في الوقت الحاضر، بحيث لولا احتضان الإدارة الأمريكية لأكراد العراق منذ عام 1991م لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من استقرار امني وسياسي وحكم أنفسهم بأنفسهم.

ومن جهة أخرى فان الولايات المتحدة تعدَّ تركيا ايضاً حليفاً مهماً في المنطقة لا يمكنها التخلي عنه بسهولة أو أن تحاول إثارته على حساب علاقتها مع الأكراد، وهذا هو سبب عدم الثقة بالإدارة الأمريكية من قبل الجانب الكردي.

   علاوة على العلاقات التركية الإسرائيلية المتينة التي يمكن أن تدعم مواقف الحكومة التركية في دخولها الأراضي العراقية في حال نشوب صراع مع الأكراد سببه انضمام كركوك ومسوغه حماية التركمان ومطاردة حزب العمال.

أطراف الصراع

تنقسم أطراف الصراع بين:-

أولاً: أربيل.

    ورجل القرار فيها هو مسعود البارزاني الذي يمثل الأغلبية الكردية وحاكم إقليم كردستان وصاحب الطموحات الكبيرة في إتمام مشروع والده مله مصطفى البارزاني في إقامة الدولة الكردية.

فالأكراد يمتلكون جميع الأوراق على الساحة العراقية وهذا هو السبب الذي يجعلهم لا يساومون على مدينة كركوك، لكنهم يدركون إن قضية كركوك تتعدى الحدود العراقية لتصل إلى انقره أو حتى إلى واشنطن وهؤلاء هم اللاعبون الأساسيون في هذه القضية وتأثيرهم اكبر من تأثير بغداد على الجانب الكردي.

ثانياً: بغداد.

    تخضع بغداد لتوافقات سياسية بين الكتل السياسية المشكلة لحكومة المركز، ويحظى الأكراد بصوت وتأثير قوي على تلك الحكومة التي تشهد هي ايضاً صراعاً سياسياً بين أطرافها تاركة المجال مفتوحا أمام الأكراد في إملاء رغباتهم بما يحظون به من استقرار امني وسياسي في إقليم كردستان.

وعليه فان عقبة بغداد أمام الأكراد ليست بالصعبة لخضوع القضية إلى مساومات بين الأطراف المشتركة في الحكومة، وبخاصة الأطراف التي تؤيد الفدرالية والتي سوف تستفيد من وضع العراق الفدرالي.

ثالثاً: أنقرة.

    وهي اللاعب الرئيس في قضية كركوك والعقبة الكبرى أمام الأكراد في استحواذهم على هذه المدينة، والخطاب التركي لا يقل وضوحا عن الخطاب الكردي في هذا الشأن، إذ وكما أسلفنا فان انقره تعدَّ مدينة كركوك خطاً احمر لا يمكن للأكراد عبوره أو تجاوزه.

فلا نستبعد أن تقوم تركيا بالتدخل عسكرياً في شمال العراق إذا لم يصل الأكراد إلى حلول مع الجانب التركي وإعطائهم الضمانات الكافية بشأن حقوق التركمان في كركوك ووقف دعمهم لحزب العمال الكردي على اقل تقدير.

لأن انقرة تخشى من أن يحذُ الأكراد الموجودون فيها حذو أكراد العراق، علماً إن أكراد تركيا يصل تعدادهم إلى أربعة أضعاف أكراد العراق وما حصل في المدة الأخيرة من تصاعد اللهجة بين أربيل وأنقرة لم تفلح بغداد على تهدئته برغم المحاولة والاتصال الذي أجراه الرئيس العراقي جلال الطالباني.

بينما علق رئيس الوزراء العراقي بالقول إن السياسة الخارجية للعراق يحددها مجلس الوزراء، وليس أية جهة أخرى، وهو محاولة للنأي عن التصريحات التي قام بها مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان.

وفي حال إصرار الأكراد على مطالبهم في انضمام كركوك إلى إقليم كردستان، وتدخل الأتراك المباشر لمنع ما يحصل في هذه المدينة سوف تكون كركوك ساحة للصراع الإقليمي الذي يجعل منها كشمير العراق الذي يزعزع أمنه وسيادته واستقراره.

كما وان الأطراف العربية لم تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يحصل للعرب من تهميش في هذه المدينة يجعل منهم جزءاً من الصراع الدائر فيها حتى ولو كان تدخلهم بصورة غير مباشرة عن طريق تمويل الجماعات المسلحة التي تقوم بهجمات انتقامية على المدنيين وعلى آبار النفط حتى لا يستفيد الأكراد من مردوداته المالية.

واشنطن

    صاحبة الحركة الفاعلة في المنطقة، والمتلهفة إلى إدخال شركاتها إلى العراق للاستثمار في قطاع النفط، وبما إن مدينة كركوك تعدَّ من المدن المهمة والكبيرة في خزين النفط في المنطقة فلابد أن تحظى باهتمام واشنطن مباشرة وتقوم برعاية الجهة التي تدير هذه المدينة والتي تمكن شركاتها من استثمار النفط فيها.

 إذ أصبحت واشنطن الحليف الرئيس للأكراد في العراق وهي من ساعدهم على التخلص من سلطة البعث في العراق وعدم بقائهم تحت حكومة بغداد منذ عام 1991م، وبالمقابل فان الأكراد يدركون تماماً ماذا يعني لهم هذا التحالف مع واشنطن قبال التهديدات الإقليمية والتحديات الداخلية لرسم مستقبل الأكراد وبسط سلطتهم على أراضيهم.

لكن واشنطن تدرك ايضاً مدى أهمية العلاقة الستراتيجية للولايات المتحدة مع أنقرة، ومدى أهميتها بالنسبة للاتحاد الأوربي الذي دخلت معه كشريك في حلف شمال الأطلسي أو ما يعبر عنه بحلف "الناتو".

وقد استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الأمريكي في أنقرة وطالبته بايضاحات بشأن ما نقل عن الجنرال الأمريكي المتقاعد جاي جارنر المسؤول عن إعادة بناء العراق، من إن مدينة كركوك مدينة كردية.

وكانت وسائل الإعلام التركية قد نقلت عن جارنر وصفه لكركوك بأنها "مدينة كردية" خلال محادثات أجراها مع الزعماء الأكراد في شمال العراق، وتخشى تركيا من احتمال قيام الأكراد بالسيطرة على حقول نفط كركوك الغنية مما يسمح لهم بالانفصال عن العراق.

 ومثار القلق التركي هو احتمال أن يشجع ذلك الأكراد في تركيا على استئناف نضالهم من اجل الحكم الذاتي.

وعليه سوف تعمل واشنطن على ضم كركوك للأكراد دون أن تزعج بذلك تركياً، وذلك مقابل ضمانات تقدمها واشنطن إلى أنقرة بعدم زعزعة الاستقرار الأمني التركي في الجنوب، وتقديم عروض مالية عن طريق إشراك الشركات التركية في الاستثمارات النفطية في إقليم كردستان وأن يتم نقل النفط عبر الأراضي التركية وموانئها، إضافة إلى ضمان وضع خاص للتركمان في مدينة كركوك يحفظ لهم جميع حقوقهم كمواطنين من الدرجة الأولى.

وبذلك تستطيع واشنطن أن تؤدي دوراً مهما في إقناع جميع الأطراف في خطواتها، باستثناء الطرف العربي السني الذي يبقى مصراً على عدم انضمام كركوك إلى إقليم كردستان، إضافة الى عدم شمول مناطق الوسط والجنوب بحقهم الدستوري في تشكيل فدراليات خاصة بهم.

 

الحلول المقترحة لتسوية الصراع

من المحتمل إن الوضع في مدينة كركوك سوف يشهد حالة من التصعيد في التوتر على المستوى المحلي والإقليمي في المدة المقبلة، وإذا بقى إلحاح الأكراد على تطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بتطبيع الأوضاع في مدينة كركوك، وإصرار الأتراك على عدم المساس بوضع المدينة الحالي، وبقاء العرب السنة على تمسكهم بإلحاقها بالمركز، فان كل تلك الأمور سوف تلقي بظلالها على وضع المدينة الأمني وتحويلها إلى بؤرة للتوتر والانفجار قد يؤدي إلى حرب أهلية أو إقليمية يجعلها أكثر خطورة من كشمير الهند وباكستان.

وعليه يجب أن توضع حلول عاجلة وجدية من قبل كل الأطراف المعنية لغرض نزع فتيل الأزمة قبل أن تشتعل آبار البترول والتي لا يمكن السيطرة عليها وإطفاؤها في حال اختلاطها بدماء المتصارعين لا سامح الله.

ومن خلال مركز للدراسات والتطوير نقترح الحلول الآتية والتي نأمل من المعنيين بشأن قضية كركوك أخذها بالحسبان حرصاً منهم على مصالح الجميع:-

1-     ترك مدينة كركوك بعيدة كل البعد عن الصراع الدائر حول السلطة والنفوذ والثروات بين القوى السياسية المتنافسة على الساحة العراقية.

2-     ترك التمسك بسياسة النفوذ القومي التي رسخها النظام البائد في أذهان أبناء الشعب العراقي والتأكيد على المواطنة والولاء للوطن وليس للقومية، وهذا ما يصب في مصلحة جميع أبناء مدينة كركوك ويحافظ على أرواحهم وثرواتهم بدلا من الصراعات والحروب التي لا تجلب سوى الخراب والدمار.

3-     إجراء استفتاء حر في ظروف أمنية وسياسية مستقرة وعدم الاستعجال في تطبيق المادة 140 من الدستور إلى حين حصول ذلك الاستقرار، وبعيداً عن أي تأثير حزبي أو طائفي وبحضور لجنة من الأمم المتحدة تشرف على الاستفتاء.

4-     ليس للأحزاب القومية أو الطائفية حق احتكار النفط في مدينة كركوك وهو حق لجميع أبناء مدينة كركوك كما وأنه حق لجميع العراقيين.

5-     تقديم تعويض مادي لجميع الأسر الساكنة أو التي كانت تسكن في مدينة كركوك عن الضرر الذي تعرضت له من جراء سياسات النظام السابق.

6-     حق الإقامة والسكن مكفول لأي إنسان في مدينة كركوك بغض النظر عن تعريفه القومي أو العرقي حسب المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحسب ما نص عليه الدستور العراقي الدائم.

.........................................

1 - الدكتور نوري طلباني/ دراسة حول مدينة كركوك/ ويكبيديا.نت.

  2- بي بي سي نيوز.

 3 - بي بي سي/ خطة لإعادة توطين عرب كركوك. 

*مركز الدراسات والتطوير

حركة الرفاه والحرية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4 حزيران/2007 -16/جمادي الأول/1428