يرن جرس الهاتف، يلقي رب المنزل بجريدته جانبًا.. يهرع الصغير نحو
الهاتف ويرفع السماعة، بينما يرفع أبوه إصبعه إلى شفتيه محذرًا ومشيرًا
إلى السماعة. الابن يحجب السماعة بيده وهو يهز رأسه مستفسرًا، الأب
يلوح بإصبعه يمينًا ويسارًا علامة أنه غير موجود قطعيًا، ويحني الصغير
رأسه علامة الفهم ثم يصيح:
- بابا غير موجود.
- متى سيأتي؟
- لا أعرف.
- هل تعرف أين هو؟
- لا أعرف.
- الأمر ضروري جدًا..
هنا يدرك الأب أن المتصل ربما ليس هو الشخص غير المرغوب فيه، فيقفز
ليقول للصغير وبالإشارة أيضًا: إنه قد وصل. فيقول الصغير:
- عمي: الباب يطرق، أعتقد أنه أبي.
الأمر يبدو أمرًا اعتياديًا جدًا لذلك أتقنه الصغير وبمهارة!
الأمر هنا مرادف لأسلوب أحد أطباء علم النفس في جامعة هارفارد وهو
البروفسور «أريدا فيليبس»، وقد اشتهر هذا المحاضر بإتقان واستغلال
«السيكودراما» إلى أقصى حد ممكن في محاضراته التي يحرص على أن تكون
عملية تطبيقية أكثر من كونها تحليلية، أو سردية، أو تاريخية.
وهذا المحاضر هو نفسه الذي أحدث زلزالاً شديدًا بأسلوب التحقيقات
الجنائية بالولايات المتحدة، وجعلها فوق منحنيات ما بين اليقين والشك!
فقد كان يتحدث إلى ستة عشر من طلابه عندما اقتحم باب القاعة رجل، وأخرج
من جيبه مسدسًا، وبدأ يطلق النار صوب الطلاب! فارتمى من ارتمى على
الأرض، وزحف البعض الآخر على بطنه، وقفزت طالبة تحت الكرسي.. ثم مضت
خمس دقائق، دعا بعدها البروفيسور «أريدا فيليبس» المحاضر طلابه للعودة
إلى أماكنهم، وأن يتمالكوا أنفسهم، حيث الأمر جزء من المحاضرة! ثم وزع
عليهم ورقة تحتوي على مجموعة أسئلة:
كم طلقة أطلقت؟ من الذي أطلق الرصاص؟ من أي جيب أخرج المسدس؟ ماذا
كان يرتدي صاحب المسدس؟ وما ألوانها؟ بماذا تفوه من كلمات؟ هل كان له
شارب أم حليق الشارب؟ هل كان غزيز الشعر أم كان بدون شعر؟ ما لون شعره
إذا كان له شعر؟ ما صفاته التقريبية؟ هل كان نحيلاً أم بدينًا؟ هل يوجد
بوجهه علامات مميزة؟ وأسئلة أخرى وصلت إلى عشرين سؤالاً. ولكن المهم أن
جميع الإجابات تفاوتت واختلفت اختلافًا يثير الدهشة. فالحادثة واحدة
ووقعت أمام الستة عشر طالبًا وطالبة في لحظة واحدة من الزمن، جميعهم
شاهدوها مشاهدة ترتقي لدرجة المعايشة ومع ذلك تناقضت الشهادات!
قال البعض: إن الذي أطلق النار عربي ملتحٍ، وقال البعض: بل زنجي
طويل القامة، وقال آخرون: إنه كان صينيًا قصير القامة. بل قالت طالبة:
إنها رأت أكثر من شخص واحد يطلق النار. وهكذا فقد اعتمد المحامون
الأمريكيون على هذا المشهد كمرجع كلاسيكي علمي إذا ما أرادوا تفنيد
وتزييف شهادة أحد شهود العيان.
المشهد الأمريكي هو نفسه المشهد العربي عندما يقوم الطفل بالرد على
المكالمة، ويقوم بالتمثيل مثل الطالب الأمريكي الذي تطوع بأن يقوم بدور
مطلق الرصاص، الدراما هي الدراما، والمحاضر هو الأب الذي درب ابنه على
الرد على المكالمات بمهارة.
إن مأساة البحث عن القدوة تستمر حيث إن البعض من الآباء والأمهات
يعلمون أبناءهم الكذب، ويحرضونهم عليه باستمرار، ثم يغضبون فجأة عندما
يكتشفون أن أحد هؤلاء الصغار قد كذب عليهم ليمارسوا بكل تناقض دور
الواعظ الحكيم عن تحريم وتجريم الكذب! |