بُعدا الوقاية والكمال في التعليم الديني النسوي

على هامش فتح ملف الحوزات النسائية البحرانية

كريم المحروس

اتخذت ظاهرة تأسيس المدارس الدينية النسوية بعدا ثقافيا حديثا، مكملا للأثر الاجتماعي والعلمي الذي كرسته الحوزات الدينية في الوسط الشيعي البحراني العام، منذ السنوات الأولى لعقد سبعينات القرن الماضي حيث سُجلت أولى صيحات الوقاية المناهضة لفكرة ‘’تحرير’’ المرأة من القيود الاجتماعية والثقافية على الصعيد القروي من بعد تطور مدى هذه الفكرة الحديثة وشيوعها في الوسط المدني بلا تأثير مباشر أثبت آنذاك حاكمية حال التخلف المدني والقروي الذي لم يكن يستوعب صيغا فكرية أو ثقافية جديدة غير صيغ العرف الجامد والتقليد الحاد.

وفي كلا البعدين، المكمل والوقائي، خضعت المرأة البحرانية لمؤثرات الظروف المعقدة والحساسة التي وضعت التعليم الديني الشيعي في حرج شديد عند بداية القرن الماضي أمام فاعلية وانتظام التعليم المدني ‘’المارد الجديد’’ ذي التميز الخطير والاستجابة الواقعية للمتطلبات الوظيفية الممثلة لقوام الدولة الحديثة الناشئة على جزيرة البحرين.

واستمرت هذه الحال حتى استفاقت طليعة المؤسسات النسوية التعليمية الابتدائية على وقع مؤثرات حركة الإصلاح في مناهج الدراسات الدينية العراقية عند بدايات عقد السبعينات، فانبهرت بميولها العلمية وبصورها التقدمية، حتى خلصت الأمور إلى انتساب المرأة البحرانية لذات المنهج التعليمي الديني الحديث البديل الذي صنعته هذه الحركة، في حين كان النقد والجدل بإزاء هذه الحركة اتخذ بعدا اجتماعيا خطيرا تزعمته أطراف حوزوية تقليدية عريقة، لم تستجب لمؤثرات الثقافة العصرية الوافدة عن مطبوعات ‘’جمهورية مصر العربية’’ ولا لمنطلقاتها ومناهجها وأهدافها الموصوفة بالتفسير العلمي المفرط للشريعة، والجمع بين المواد الدراسية الدينية وبعض من المواد الحديثة، ذات الاختصاص في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية في مناهج الدراسات الدينية. وكان الاعتقاد السائد بين رموز التعليم الديني التقليدي آنذاك تجلى في مقولة مفادها: ‘’أن مشروع إصلاح مناهج الدراسات الدينية كان ولادة حرام عن التفاعل الثقافي العراقي غير الشرعي مع النهضة القومية لاتجاه الخلافة في الشمال الإفريقي الذي اقتبس الكثير من نظم وأفكار ومناهج الغرب’’.

في البعد الوقائي الأولي حُرمت المرأة من فرص التعليم المدني، بعد إعلان علماء الدين الشيعة عن مقاطعتهم لهذا اللون الحديث الوافد عن خريجي مدارس التبشير المنتشرة في ولايات السلطنة العثمانية، ولم يكن للمرأة من خيار إلا الاستسلام أمام العرف الحوزوي الأصولي النجفي والإخباري الكربلائي، الذي كان يشكل العامل الأساس المحدد لموقف المقاطعة عند مدارس التعليم الديني في البحرين، حيث صُوِر هذا العرف موضوعيا بتجرده من فكرة عرض البدائل التعليمية المتجددة أو أي صيغة منقذة من صيغ التجديد في مناهج الدراسات الدينية المناسبة والممهدة لاستيعاب دور جدي للمرأة واستكمال مظاهر الحياة العامة بشراكتها في البناء الثقافي الديني والوطني.

ومَثّل مشروع مقاطعة التعليم المدني في البحرين امتدادا طبيعيا لأشكال النضال السلبي التاريخي، المساند للمبررات الدينية المستوحاة من النصوص والفتاوى الشرعية، الوافدة عن الحوزات الأم في العراق، ذلك أفضى إلى تمسك علماء الدين البحرينيين بمجموعة من المبادئ السلبية التي رسمت المستوى العلمي والثقافي البسيط الذي آلت إليه الطائفة الشيعية فيما بعد. ورصدت من بين أجلى مظاهر هذه المبادئ: التمسك بنظام المدارس الدينية على المنهج القديم المعتمد عراقيا وتجنب حداثة المناهج العقلية التي بدت سائدة في بعض مدارس حوزة قم المقدسة، والتأكيد على رفض انخراط المرأة في التعليم الديني والمدني معا، والرضا بمؤثرات العزلة عن نظام الدولة والقبول بنتائجها السلبية والخطيرة على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي.

لكن تقلبات الظروف الاجتماعية لم تؤلف حليفا مؤيدا ومساهما في استقرار هذه المبادئ وثباتها، ولم يستقم لها قرار ولا قوام في الاتجاه العام، فحدثت الكثير من الخروقات لنداء المقاطعة الدينية وانفرط عقدها تحت وطأة الضغط الكبير الذي أشاعه الارتباط الوثيق بين التعليم المدني وحاجات الدولة من بعد مقارنات واقعية بين نتائج ومخرجات التعليم الديني والمدني عقدها المقاطعون والمؤيدون، إضافة إلى مؤثرات التطور الاجتماعي السلبي الخطير التي نشأت في بلاد الحوزات الكبرى واطلاع بعض شخصيات البحرين من ذوي النفوذ الاجتماعي والثقافي على النتائج السلبية التي أفصحت عنها أخبار تدهور العلاقة بين عموم الناس في العراق وعلماء الدين وغلبة موقف الأكثرية المستجيبة لنداء الانخراط في التعليم المدني. فأفضت مثل هذه المعطيات الداخلية والخارجية إلى ضعف الصلة والرابطة البحرينية الوثيقة القائمة بين علماء الدين والاتجاه الشعبي العام في شأن خيارات تعليم البنين والبنات والخيارات الثقافية الأخرى المساهمة في صياغة شخصية كل منهما، فكان خيار إخراج المرأة على قيودها وإطلاقها في فضاء التعليم المدني من أكثر الضرورات إلحاحا عند عموم الناس.

وفي شأن البعد التعليمي النسائي المكمل للأثر الاجتماعي والعلمي العام، فقد سُجّل للمرأة البحرانية التحاقها بشكل ظاهر وملفت للنظر بمجموعة لا يستهان بها من المدارس الدينية النسوية المنتظمة تحت ألوية مرجعيات ومؤسسات دينية شاع صيتها منذ عقد السبعينات من القرن الماضي. وفي مراحل لاحقة لعب التعليم النسوي دورا مساهما وفعالا مطورا لمسيرة المرأة في الثقافة الدينية، واستقلت بعض مدارس التعليم الديني النسوي على الصعيد المنهجي والوظيفي ولكنها لم تشذ عن العرف الحوزوي المعاصر والمضطرب بين خيارات المنهجين الحوزي العقلي القمي والحوزوي التقليدي النجفي من جهة، وخيارات التجديد المتأثرة ببيئة الانفتاح الثقافي على أجواء النهضة العلمية والثقافية التي عمت الشمال الإفريقي انطلاقا من جامع الأزهر والزيتونة والقرويين ومن توابعها على متبنيات حزب الإخوان المسلمين من جهة أخرى.

إن هذه الحال من التبادل الثقافي والمنهجي غير محسوبة النتائج فضلا عن صيغ الاقتباس التي مثلت عادة تواكل في شأن التعليم الديني النسوي في البحرين؛ كشفت عن ضعف معرفي خطير غير متدارك من قبل مرجعيات هذه المدارس، إذ لم يؤخذ في نظم تأسيس مناهجها الحديثة بُعدُ التحقيق في جدل فكرة تجديد مناهج الحوزات الدينية وأصولها ومصادرها التاريخية وما إذا كان هذا التجديد صالحا ونافعا في سير المدارس الدينية النسوية البحرانية.

فالمنهج التعليمي المعتمد المستحدث والمشتمل على علوم مختلطة، دينية ومدنية، كان قائما على قيم حركة استمدت قواعد نهضتها عن أصول حركة مصرية علمية وثقافية متأثرة بالطبائع الفرنسية وميولها القومية والعلمانية التي صنعتها بشكل غير مباشر بيئة نابذة للدين وقيمه. وأقل ما يمكن أن يقال في شأن هذه الحركة، أنها كانت خاضعة خلال القرن الماضي لمحاولات إصلاحية ابتدائية غير مستقلة علميا وثقافيا نسبة لهوية التراث الشيعي الحوزوي وحجمه وامتداده العلمي الذي مثل صناعة إسلامية خالصة كانت علوم الفقه والأصول والحديث والرجال من أبرز نتائجها وعطائها، إضافة إلى كون هذه الحركة تجريبية لا أصالة نظرية تحكم قواعدها بازاء الهدف والوظيفة الدينية المتأملة. وقد تخلل هذه الحركة بساطة ووهن أمام التحديات الثقافية المذهبية والمعرفية والعلمية المعقدة التي جالت كل من العراق وإيران.

وقد يرى المؤسسون للمدارس الدينية النسوية في تجديد النسبة المعتمدة حاليا بين المواد الدينية والمواد العلمية الإنسانية أو الطبيعية أو الرياضية - تعبيرا صريحا عن تطور مناهج التعليم الديني، إلا أن هذه الرؤية لم تكن في ذاتها موفقة إذا ما تنزلنا وقلنا جدلا باستقلالية حركة التجديد في هذه المدارس وتجردها من أي مؤثر ثقافي وافد. لأن اعتماد مثل هذه النسبة المختلطة استدعى من مرجعيات هذه المدارس الخضوع لمآرب التعليم المدني ‘’العلماني’’ المنادي باستدراج التعليمي الديني إلى مراتب واقعية قريبة من مراتب التعليم العام تنتفي أمامها صور التمايز بين التخصصات، كما استدعى منهم أيضا خلق مبادرات بسيطة مخفضة للدرجة العلمية التي يشترط توفرها في طالب العلم الديني المتقدم للانتساب للمدرسة الدينية، فكان من نتائج ذلك بناء صفوف علمية مضطربة المعايير.

مع مثل هذه التحولات العلمية والثقافية فضلا عن الاجتماعية التي اجتاحت مجتمعنا في البحرين، كان الوجوب يحتم على وظائف تطوير المدارس ومناهج الدراسات الدينية الارتفاع بالمستوى العلمي للمدارس النسائية الدينية عوضا عن الانحدار به، وذلك من خلال تشذيب المواد الدينية الحوزوية القديمة وتقسيمها علميا وتجريدها من التفريعات الزائدة المتعلقة بالعلوم الآلية فضلا عن تحديد المنهج الدراسي على المواد الدينية من دون العلوم الإنسانية أو الطبيعية أو الرياضية الخالصة، وكذلك الارتفاع بالمعايير العلمية والمؤهلات التي تُشترط في المدرسين وطلاب الانتساب حتى تصل إلى أعلى معدلاتها بدرجتي الماجستير أو الدكتوراه وإن أفضى ذلك إلى قلة في عدد المدارس والمدرسين والمنتسبين، لأن من شأن هذا الاشتراط تعزيز دور الاختصاص الديني المرجعي في هذه الوظيفة وإيصال المدارس الدينية إلى التفوق النوعي في جميع المستويات حتى تتحقق الأهداف العالية المرسومة لبناء مجتمع متقدم في مرجعيته الثقافية والدينية.

ويبدو جليا أن بعض المدارس الدينية النسوية على اتجاه التشيع في البحرين في طريقها لبناء علاقة عضوية ووثيقة مع الصور السيئة للـ’’العلمنة’’ ومؤسساتها التعليمية بالمجان من خلال بناء منهج وسطي سطحي معبر عن ضعف وخلل وجهل بمتطلبات مرحلة الانسجام مع التحول العلمي الحضاري القائم في عالم اليوم وسبل التعاطي معه، في حين أننا إذا ما تتبعنا وقائع كفاح الكليات والمدارس الدينية النسوية في كل من الأزهر والقرويين والزيتونة على اتجاه الخلافة التي تأثرت بتجدده مدارسنا النسوية؛ سنلمس تضحيات جبارة بذلها علماؤه الأولون في سبيل المحافظة على المنهج القديم والتقدم به في مستوى مرونة التعديل والتطوير السليم، مع التجرد من فكرة إدخال بعض أقسام مواد العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية التي حاولت حجج التمدن والحضارة والحداثة فرضها - حتى تتمكن هذه الكليات والمدارس من المحافظة على خصوصيتها وتميزها المرجعي واستقلالها عن مناهج التعليم المدني ومخرجاته وتحصينها أمام ضغوط حاجات الدولة الوظيفية المؤدية إلى الحجر على التعليم الديني أو عزله. ولكن الأنظمة الحاكمة الحاضنة لهذه الجوامع والكليات والمدارس فضلا عن استسلام بعض علماء الدين إلى الكسب الوظيفي الحرام في مؤسسات هذه الأنظمة - نجحت في إخضاع التعليم الديني ومؤسساته للإرادة السياسية وفرضت تعديل المناهج وأقامت لونا خاصا منسجما مع معايير التعليم المدني وشاملا لنسب معينة من مواد العلوم الطبيعية والإنسانية والرياضية بما يضفي على التعليم الديني مسحة علمانية خارجة على قيم المرجعية الدينية ووظائفها ومحرضة على سيادة القانون والمواثيق الوضعية على النص الديني، فجرى التحول على هذه الجامعات والكليات حتى أصبحت اليوم مؤسسة تعليمية عامة مجردة من أي أثر ديني وبعد ثقافي روحي.

وإذا ما تتبعنا مسألة عرض مؤلفات المنهج الدراسي للمدارس النسوية سنجد أن أكثر المؤلفات التي أعدت لهذا المنهج حتى الآن كبدائل عن مؤلفات المنهج القديم لم ترق إلى أن تكون بديلا حضاريا متكاملا عن مؤلفات المنهج القديم، بل كاد أكثرها يمثل مدرسة فكرية أو حزبية خاصة لا علمية. وكان اعتماد الكثير من مثل هذه المؤلفات جاء على حساب مؤلفات أخرى كانت متميزة جدا وأكثر جدوى وفائدة في مجال اختصاصها، إضافة إلى كون الجهود المبذولة على تأليف وإعداد مثل هذه المؤلفات البديلة والحديثة المقررة للتدريس كانت فردية اعتمدت الاختصار والتقسيم ورفع التعقيد وسيلة للتجديد -حسب اعتقاد مؤلفيها- ولكن بعضها وقع في حال الضحالة في جانب، والتعقيد الممل والتفكيك غير المجدي في جانب آخر. ما يدل على أن مسألة إصلاح المناهج وتجديد مؤلفاته أو تعديلها بحاجة إلى التجرد عن المؤثرات الحزبية والميول الخاصة، وبحاجة إلى إمكانات مؤسسة بحث وتحقيق وتأليف ضخمة جدا من حيث عدد ونوع رجالها وانتماءاتهم المرجعية المؤهلة لتمثيل النص الديني وآلات تفسيره أو تأويله وتعليمه حضاريا.

البحرين بحاجة إلى إرادة علمية ومرجعية حريصة على اعتماد منهج تعليم ديني أصيل، مستحدث في آلات عرضه وتداوله، ومميز في أدوات استقلاله، وآخذ في الحسبان مهمة التطوير العلمي والثقافي النوعي لا الكمي أو العددي غير المقدر لحاجات مجتمع البحرين فضلا عن مهمة الارتفاع بمقدمات التعليم الديني ومخرجاته إلى مستويات عليا قادرة على تجنب أخطاء ماضي التعليم ومآسيه والنظر بعين بصيرة للمحيط الثقافي وتحدياته الاجتماعية والسياسية والتأهل للخوض فيه بإرادة مجردة من المؤثرات الحزبية أو الميول المرجعية الأحادية الضيقة حتى تؤلف من نفسها حاضنة للكفاءات العلمية الداعمة لمسيرة التعليم الديني بمختلف صور واشكاله.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29 آيار/2007 -11/جمادي الأول/1428