لماذا نحن قابعون في مواقعنا؟؟ ما إن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام
إلا ونتبعها بخطوتين أو ثلاثة إلى الوراء!!.
لماذا تراجع الحديث عن تجديد الخطاب الديني وغيره من الشعارات التي
اكتظت بها الساحة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر؟!.
ولماذا انتهت رحلة دعاة تجديد الخطاب الديني بارتمائهم أو عودتهم
إلى أحضان الخطاب القاعدي الوهابي الذي يرى أولوية مواجهة العدو القريب
(المختلف مذهبيا) بدلا من مواجهة العدو البعيد الذي يحتل الأرض ويفرض
إرادته السياسية والاقتصادية على الأمة؟!.
الآن توقف هؤلاء عن إلقاء مسئولية الأزمة على أعداء الخارج رغم أنهم
قد ملئوا الدنيا من قبل ضجيجا وعجيجا عن مؤامرات الغرب لتمزيق الأمة
والقضاء على دينها.
إنها حالة من التخبط تظهر بوضوح أن القوم لم يكونوا عقلانيين ولا
واعين عندما أنحوا بكل اللائمة على العدو الخارجي لتبرير تخلفنا
الحضاري ثم عادوا ليلقوا باللوم على عدو داخلي من صنع الوهم والخيال هو
الذي سلم مفاتيح بغداد والقدس (قبل 900 عام وليس قبل 40 عاما من الآن)
وربما جبال الهيملايا للتتار والفرنج وما زال حبل الهلاوس على الجرار.
إنها صناعة الاحتقار يقابلها صناعة القداسات الوهمية وما يعنيه ذلك
من رفض لمحاسبة النفس وممارسة التأمل في هذا التراث المليء بالغث
والسمين مهما كانت الحاجة ملحة لذلك.
صناعة القداسة تحتاج لإسباغ عشرات الصفات الرائعة على الأنا كائننا
الوهمي المقدس فهو إما جليل أو عظيم أو مستنير أما الخصم فهو دائما
مشبوه ومنافق يظهر عكس ما يبطن وهو أيضا رافضي صفوي خبيث عميل لإيران
بعد ما تبين أن الاصطفاف مع إسرائيل ضد أعدائها لم يعد عيبا على
الإطلاق!!.
لم يتوقف عرب القرن الحادي والعشرين وربما الثاني والعشرين عن إضافة
أسماء جديدة للائحة نحن أو الأنا الوهمية المقدسة التي لا يجوز
الاقتراب منها ولا نقدها واعتبار هؤلاء جميعا رموزا للدين يسعى
المغرضون والخبثاء للنيل منهم تمهيدا للنيل من الإسلام نفسه!!.
أنا الدين والحق, والحق أنا ولا حق
إلا لي أنا!!.
ورغم أن القوم لا يمارسون التشدد دوما في معركة الدفاع عن (المقدس)
بل يمارسون المرونة والتسامح خاصة إذا تعلق الأمر بمقام النبوة ولذا
فهم لا يمانعون على الإطلاق في إثبات دور مساعد لورقة بن نوفل الراهب
النصراني في تلقي صدمة أو مفاجأة الوحي أو محاولة النبي الأكرم محمد
صلى الله عليه وآله الانتحار ثلاث مرات ربما حزنا على موت ورقة (مساعد
النبي الأول لشئون الوحي؟!) حيث يقول البخاري (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ
وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْي فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ
مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ،
فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَي يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ،
تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ
فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْي غَدَا
لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ
جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ)!!.
ولأن تفنيد هذه الأكاذيب التي تستثمر الآن في الهجوم على الإسلام
ذاته وتقديمه كمجرد اقتباس مما سبقه من الأديان ليس بالأمر العسير إلا
أن الدفاع عن قدسية النبوة تعني المساس بما هو أقدس منها لدى القوم وهو
قداسة البخاري وعروة بن الزبير ومن ثم المساس بهيبة كهنة المعبد ودورهم
المزعوم في الدفاع عن الإسلام!!
الليبراليون وكهنة المعبد
ورغم أن البعض (كما يرى تقرير مؤسسة راند الأخير) يعقد الأمل على
من أسماهم بالمسلمين الليبراليين ويراهم الحل الأوحد لأزمة العقل
العربي والأقدر على ترسيخ قيم الديموقراطية واحترام التعددية والدفاع
عن حقوق الإنسان إلا أن التجربة أثبتت تواضع إمكانيات هذا الطرح وعدم
قدرته على مقارعة كهنة المعبد وصناع القداسة المزيفة.
السبب في ذلك أن منظومة الأفكار المعادية لاحترام التعددية والداعية
لاحتقار وقمع المختلفين دينيا أو مذهبيا لا ينقضها إلا أفكار أقوى
وأكثر رسوخا منها فضلا عن كونها منظومة مدججة بشتى أنواع الدعم المالي
والسياسي ومن هنا يصبح الدخول في مواجهة فكرية مع هؤلاء عملا محفوفا
بالمخاطر وليس نزهة فكرية بأي حال من الأحوال.
كيف يمكن لك أن تدافع عن حرية الآخرين في حين تبدو عاجزا عن الدفاع
عن حرية إرادتك؟!.
وكيف يمكن لك أن تستبقي حريتك إن لم تكن مستعدا للتضحية من أجل
تحقيق هذا الهدف؟!.
لماذا لم يسأل أحد عن سبب دفاع واحد من عتاة الليبراليين عن
الوهابية في مؤتمر الأقليات ولماذا تحول هذا الكاتب من خصم لدود لجماعة
الطالبان إلى مداح لرئيس مخابرات سابق كان أهم إنجازاته هو تأسيس جماعة
الطالبان؟؟.
الجواب واضح وهو أن لا معنى لدفاعك عن حرية الآخرين في حين تعجز أنت
عن استبقاء حريتك بيدك باعتبارها حقا أصيلا لا يجوز التنازل عنه مهما
كان الثمن المدفوع.
الفقر النفسي وليس المالي هو الذي دفع هذا الليبرالي للقبول بقسمة
ضميره على اثنين واحد يهاجم به الطالبان والثاني يمدح به عراب
الطالبان!!.
الإصلاح الديني والفكري لا يتوقف على جودة الأفكار المطروحة وحسب بل
يحتاج إلى صلابة وقدرة على الصمود في مواجهة الرأسمالية الكهنوتية التي
تقاتل بضراوة من أجل الحفاظ على منجم القداسة الذي يدر عليهم ذهبا
وموقعا اجتماعيا متميزا لا يمكن التخلي عنه هكذا لأن أحدهم أثبت أنهم
لا يبيعون لجمهورهم إلا الوهم!!.
كيف يمكن لتجار مفاتيح الجنة أن يتوقفوا عن بيع بضاعتهم؟!.
كيف يمكننا أن نصدق أن تحالف الرأسمالية الكهنوتية الذي يتاجر بكل
ما له علاقة بالدين بدءا من المسابيح والمساويك ومرورا بالبردقوش
بنوعيه الطبي السياسي ويتحكم في حياة الناس فهذا حلال وهذا حرام وهو
يقدم أيضا للمترفين المتورطين في فضائح شخصية فتاوى (غسل الحياة
والأموال) لتبقى ثيابهم دوما بيضاء ناصعة أمام الناس وليس أمام الله!!.
هل رأيتم ذلك الترابط الوثيق بين المترفين والمتطرفين ولماذا يحرص
المترفون على الدفاع عن مؤسسة الرأسمالية الكهنوتية ولماذا يستأسد
هؤلاء على دعاة إعمال العقل ونقد التراث ويترفقون في نفس الوقت بكل من
يسهم في بقاء هيمنتهم على رقاب الناس؟!.
القضية لم تكن يوما ما طعنا في هذا الشخص أو ذاك بل إزاحة للعوائق
التي تحول بين العقل والتأمل في النص والتمييز بين المقدس الحقيقي
والمقدس الزائف.
القداسة الزائفة لا تقف حائلا وحسب أمام الإصلاح الاجتماعي والسياسي
بل هي عبادة لغير الله وانتزاع للحاكمية الإلهية وإعطائها لبشر هم في
الحقيقة عباد أمثالكم ولكنهم غاصبون لحق التشريع الإلهي, أي أنهم
يقومون بهدم الدين رافعين راية الدفاع عنه!!.
إنها محاربة الدين بالدين وتلك هي القاصمة الكبرى. |