
الكتاب: اشكالية الشرعية في الانظمة
السياسية العربية
المؤلف: د. خميس حزام والي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
سلسلة أطروحات الدكتوراه (44)
ط1/ 2003
مفهوم الشرعية
يثير مفهوم الشرعية قدراً واضحاً من الاختلاف والالتباس بين
المفكرين والباحثين فيها، فهي على وجه الخصوص مشكلة مربكة عند الجميع،
عدا المنظرين الذين يعدّون أن السلطة تعتمد اعتماداً أساسياً على
القوة.
مع وجود هذا الاختلاف في إطار مفهوم الشرعية، فإن ذلك لا يعكس
اختلافاً أساسياً حول مضمون المفهوم بقدر ما يعكس اختلاف توجهات
المفكرين والباحثين بخصوص هدف دراسة الشرعية. إلا أنه لا يمكن إغفال أن
استخدام تعبيرات مختلفة للدلالة على ظاهرة واحدة، من شأنه إحداث بعض
الخلط لدى الباحث والقارئ، وهو الأمر الذي يجد تفسيراً له في حداثة هذا
الحقل من الدراسة من جانب، وتعدد المشارب أو الاتجاهات المهتمة به من
جانب آخر، على اعتبار أنه نقطة التقاء بين المفكرين والباحثين في
العلوم السياسية والقانونية.
في عصرنا الحديث، ظهر مفهوم الشرعية من خلال كتابات علماء السياسة
والاجتماع ومحاولاتهم لتحديد مصادر الحكم، وطبيعة ونتائج مواقف الناس
تجاه حكامهم ومؤسساتهم السياسية.
وقد سبر عدد من المنظرين أغوار مفهوم الشرعية، وعلى الرغم من أنهم
يختلفون في اتجاه تحليلهم، إلا أنهم جميعاً يتفقون في التحليل
النهائي، على أن قبول مواطني دولة ما، غير القسري (الطوعي) بالحكومة،
هو الذي يجعل الحكومة شرعية.
وهذا المفهوم للشرعية يتقابل مع مفهوم البيعة في التراث العربي
الإسلامي، فالبيعة، كما يقول ابن خلدون (هي العهد على الطاعة كأن
المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وبأمور
المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على
المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في
يده تأكيداً للعهد).
وفي عصرنا الحديث نجد أن ماكس فيبر (Max Weber) يعد من الرواد في
الأخذ بهذه التسمية، حيث نظر إلى الشرعية بوصفها صفة تنسب لنظام ما من
قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض
المواقف العاطفية أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بسبب
قيامه بطرق وأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. هذا يعني أنه يعرّف
ثلاثة أنواع من الشرعية: التقليدية، والكاريزمية، والشرعية العقلانية.
ويكون الولاء والالتزام في النوعين الأول والثاني إلى شخص (رئيس
تقليدي، أو زعيم بطل أو زعيم روحي)، أما في النوع الثالث، فتكون الطاعة
والقبول لشبكة المؤسسات المبنية بصورة شرعية التي تحمل الطابع الفردي،
والشرعية في الأنواع الثلاثة كلها معرّفة في سياق قبول المجتمع بحكومته
وزعمائه.
وهكذا يذهب ماكس فيبر إلى أن النظام الحاكم يكون شرعياً عند الحد
الذي يشعر فيه مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة.
والمواطنون لا يضفون الشرعية على نظام الحكم، أي لا يقبلون بحقه في أن
يمارس السلطة إلا لأسباب يقوم عليها هذا القبول سواء أكانت دينية أم
دنيوية، روحية أو عقلانية.
وينشأ عن هذا التحديد أن الشرعية تساهم في استقرار الحالة بين
الحكام والمحكومين، وتقود هذه الحالة ايضاً إلى استقرار المجتمع
بالكامل ما دام مفهوم الشرعية كما أشاعه مبدعه ماكس فيبر يرجع في آخر
تحليل إلى واقع الرضى الفعلي وليس إلى الإكراه.
ويوجز هربرت كيلمان (H.K. Kelman) تعريف الحكومة الشرعية بقوله:
(عندما يقبل بها كصاحبة الحق في ممارسة سلطاتها في حقل معين وضمن حدود
محددة، وهكذا، عندما تتقدم إدارة نظام سياسي شرعي بمطالب ما، يقبل بها
المواطنون سوءا أأحبوا ذلك أم لا. وقد يقتنع مواطن فرد أو لا يقتنع
بقيمة ما يطلب منه القيام به، وقد يكون متحمساً أو غير متحمس لتنفيذه،
وقد يكون في الواقع شديد الاستياء منه، ومع ذلك فإنه يستجيب برضى مع
المطلب دون أن يشعر أنه أكره على ذلك، ويعتبر أن واجبه أن يقوم بذلك.
ويذهب موريس ديفرجيه (M. Duverger) إلى القول إن الحكومة التي تمثل
رأي الشعب تتمتع بصفة الشرعية، من حيث أصولها وجذورها وهيكلها
وتركيبها. وكل حكومة عداها تكون غير شرعية، إذ إن الشرعية هنا ليست
أكثر من مجموعة من المعتقدات، يختلف معناها ومضمونها ومرماها باختلاف
البلدان والأزمان. إن هذا التعريف للشرعية بالمعنى الذي يصوغه ديفرجيه،
يكمن في تضمنه الموافقة العامة أو القبول العام الاختياري والعميق،
وليس ذلك القبول الذي يمكن تحقيقه عن طريق أداة خارجية، هي الضغط
والإكراه. والقول إن الحكومة شرعية لا يعني أنها حكومة صالحة وتحقق
الصالح العام، بل يعني فقط كون المواطنين المحكومين يعدونها ذات سلطات
شرعية دستورية.
أما هدسون (Hudson) فيرى أن الفرد قد يقبل بأن يطيع السلطات وبأن
يتبع مطالب النظام القائم لأسباب مختلفة، غير أن الدعم الأقوى ديمومة
لن يتأتى إلا عن اقتناع ذلك الفرد بأن قبوله بالسلطة وطاعته لها
وتنفيذه لمتطلباتها أمور محقة ومقنعة.
وقد ركز باحثون آخرون على عناصر أخرى غير التي ذكرت. فالشرعية في
تعريف بعضهم هي حالة أخلاقية تخدم الظرف الراهن. فضلاً عن ذلك، فإن
الشرعية حالة دفاعية، فعند محاولة صاحب سلطة أن يعطي لوجوده وحكمه صفة
شرعية، فهو يحاول إزالة الشكوك مهما كانت مرتبطة في جوهر وجوده. وقد
تكون هذه الشكوك شكوكاً داخلية أو خارجية. إن المشكلة الرئيسية تكمن في
أن هناك مطلباً ملحاً لاستبعاد هذه الشكوك.
وقد قدم تالكوت بارسنز (Talcott Parsons) تعريفاً آخر للشرعية يعتمد
على إظهار جانبها التقييمي، فالشرعية لديه هي تقييم للفعل وفق القيم
العامة والمشتركة، ضمن سياق المشاركة الفعلية في النظام الاجتماعي، وهي
الحلقة الأساسية بين القيم كمكون داخلي لشخصية الفرد، والنماذج
التأسيسية التي تحدد تركيب العلاقات الاجتماعية، وبهذا المعنى تتخذ هذه
النماذج شكل بناء تركيبي قيمي أو إطارا تتجسد فيه القيم والمعتقدات
والأفكار المشتركة لتحدد وتنظم وتؤثر في الوقت نفسه في الفعل، أي في
ممارسة القوة.
وفي السياق نفسه، يرى ليبست (Lipset) أن الشرعية تكمن في قدرة
النظام السياسي على توليد وتدعيم الاعتقاد بأن المؤسسات السياسية
القائمة هي الأكثر ملاءمة لذلك المجتمع، ويقدّر الأفراد والجماعات
شرعية نظامهم السياسي أو عدم شرعيته، طبقاً للطرق التي تلتقي بها قيم
هذا النظام مع قيمهم. فالشرعية هنا ليست مسألة تقييمية، بل هي تتحقق
بقدر ما يكون هناك تطابق في القيم.
وإذا ما اتفق المرء مع تعريف ليبست للشرعية، فلا بد من أن يتفق على
أن هذا التعريف ينطبق على كل نظام سياسي تقريباً، وينطبق أيضاً على أي
فرد أو مجموعة تحاول قلب نظام الحكم القائم أو تغييره بحجة أن هذا
النظام لا يشبع احتياجاتها.
ولا يختلف غرين (Greene) عن ذلك عندما يعرّف الشرعية بوصفها (تشير
إلى مواقف المواطنين تجاه كل من أشخاص وسياسات وقوانين ومؤسسات
الحكومة، فحين تكون الشرعية عالية، يؤمن أكثر المواطنين بأن الحكومة
لها الحق في أن تعمل ما تعمله، وحيث تكون الشرعية واطئة يؤمن أكثر
المواطنين بأن الحكومة خاطئة فيما تعمله.
إن الشرعية صفة يجب أن تلازم أي نظام سياسي، من أجل ممارسة الحكم،
وهي تقوم على جانبين: الأول جانب شكلي يتمثل بدستورية السلطة، أي
إقامتها وممارستها وفق قواعد الدستور. والثاني جانب موضوعي، يتمثل
بقناعة ورضا أفراد المجتمع بهذه السلطة، وهذان الجانبان لا ينفصلان
بعضهما عن بعض.
فشرعية النظام السياسي هي ظاهرة نسبية، لأنه لا يمكن أن يكون هناك
إجماع على شرعية النظام القائم، إلا ان هذا لا يعني أن السلطة تقوم على
القوة بالنسبة إلى الجزء الذي ينكر عليها صفة الشرعية، وإنما يعني أن
النظام السياسي يمكنه الحكم بمقدار ما تكون قاعدته الشعبية من الاتساع،
بحيث يكون عدد المعارضين له قليلاً، مما يجعل تأثيرهم في النظام ضئيلاً
بالقدر الذي يمكن تجاوزه.
فالنظام السياسي الشرعي هو الذي يمتلك القدرة على الحكم من دون
استعمال وسائل القمع والقسر والإكراه، ومن ثم تصبح الشرعية البديل
الأكثر إنسانية لقواعد الإكراه أو الإجبار المادي والمعنوي التي يتم
استخدامها لتسيير عملية الحكم، ولضبط الحركة العامة نحوها، ذلك أن أي
سلطة أو حكومة لا بد لها، كي تفرض وجودها واستمراريتها، من شيء من
القوة أو الترهيب، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، ولكن ذلك وحده لا
يستقيم إلا في الدكتاتوريات والأنظمة البوليسية البحتة، إن لم تصحبه
قناعة مجتمعية بقبول هذه السلطة، عبر الاقتناع الاجتماعي بجدوى هذه
السلطة، وبوجود أسس فكرية لها تبرر وجودها واستمراريتها. وهذا ما يمكن
وصفه بالشرعية التي كلما تزايدت نسبها على حساب القوة والإرغام والقسر
كانت المجتمعات المعنية أكثر استقراراً وجدوى وفعالية.
فالشرعية تقوم بالذات على قيام المواطن بأمور تتوقعها السلطة منه،
من دون أن يجد في ذلك حرجاً، ومن دون أن يشعر بالاضطرار، ومن دون أن
يكون محكوماً برهبة، فالشرعية هي على الأرجح المسلك الطبيعي المتوافق
مع وجود الدولة، ومع أسباب استمرارها وشروط بقائها، وهو مسلك طبيعي،
يمعنى أنه قابل للتبرير في ذهن المواطن من دون تدخل الغير، فهي تعني
التبرير الفكري أو الأخلاقي أو السياسي أو الاجتماعي للظاهرة محل
البحث، بحيث تجد الظاهرة شرعيتها، باستنادها إلى مجموعة من الحقائق
السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية المجازة اجتماعياً أو أخلاقياً.
وهذا المعنى يعبر عنه بالشرعية، وهو يشير إلى الأساس والمبرر، أو إلى
السبب أو جواز الوجود المستمد من حقائق مسلم بها، قانونية أكانت ام
سياسية أم اجتماعية أم أخلاقية.
وتأسيساً على ما تقدم، فإن مصطلح الشرعية يتحدد معناها بإيجاز في
أنه يمثل التعبير عن حالة الرضا والقبول التي قد يبديها المواطنون إزاء
النظام وممارسة السلطة. فهي القاعدة النابعة من ضمير الناس وقناعاتهم
وتأييدهم، ومن ثم فإنها تمثل قاعدة أقوى وأمتن للسلطتين، أي قاعدة
قانونية، فالرضا عامل نفسي، وقيمة معنوية لا تترتب إلا بناء على تفاعل
إيجابي بين المواطنين والسلطة. وتحقيق ذلك يفترض أمرين متكاملين هما:
- الوحدة الفعلية بين أهداف السلطة وأهداف المجتمع بغالبيته. أما
إذا كانت السلطة تمثل تعبيراً عن مصالح ضيقة، فإن ذلك يترتب عليه
انشطار في قاعدة الشرعية لتصبح قاعدة فئوية أو نخبوية.
- الممارسة الفعلية المعبرة عن هذه الوحدة في الأهداف، فالشرعية
قاعدتها الممارسة، وليس مجرد الوعود أو الخطب الحماسية، وأساسها
وحكمتها (أنه يمكن أن تضلل بعض الناس بعض الوقت، ولكن لا يمكن أن تضلل
جميع الناس كل الوقت)... والحديث عن الممارسة الفعلية، هو ذلك الحديث
الدائر في أوساط الرأي العام دائماً، سراً أو علناً، وهو الذي يمثل
الحركة الخفية.
وبالفعل، فإن ربط فكرة الرضا بفكرة تساوي حق كل فرد في المشاركة في
الممارسة السياسية – ممارسة السلطة – هو الذي سمح بالخصوص باتخاذ
النظرية الديمقراطية الحديثة، شكلاً واضحاً وشمولياً، فما كان لعدة
قرون أمراً بديهياً مقبولاً ولا خطر فيه، وهو أن الناس متساوون من حيث
المبدأ، وأن الرضا هو الطريقة الوحيدة المؤكدة لإسباغ الشرعية على
النظام والسلطة قد تحول إلى نظرية جديدة للقانون والدولة، بحيث صار
الحكم المستند إلى الرضا هو الحكم الشرعي الوحيد، لأنه وحده الذي يعترف
بالحقوق الأساسية للإنسان والمجتمع.
مصادر الشرعية..
تجسد سلطة أي دولة أو نظام إرادة إنسانية تسمو على الإرادات
الإنسانية الأخرى التي توجد في إقليم معين وفي مدة زمنية معينة، فكيف
يكون لها الحق في أن تصدر الأوامر ويكون من واجب الإرادات الأخرى
الطاعة لهذه الأوامر؟
هذه المشكلة شغلت الفكر الإنساني منذ بدأ الاهتمام بالمسائل
الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك فهي غير قابلة لحل بشري، لأنه لا يمكن
لأحد أن يفسر من الناحية الإنسانية كيف أن إرادة إنسانية يمكن أن تعلو
أو تسمو على إرادة إنسانية أخرى.
هذا السؤال هو الذي أجابت عنه، أو أدعت الإجابة عنه، النظريات
الباحثة في أصل السلطة أو مصدرها.
فنحن نعرف تاريخياً أن هناك اختلافاً في المصادر التي يستمد منها
الحكام أو القابضون على السلطة، في تميز سلطتهم، ويلتمسون فيها تبريراً
لقوتهم، فقد تكون قانون الطبيعة أو أوامر إلهية أو أفكاراً مثالية، أو
عادات قديمة، أو طقوساً أو رموزاً من التقاليد، أو حادثة عظيمة في
الماضي، ومثل هذا التأسيس يقوم عليه النظام السياسي في جميع هذه
الحالات، لأن الشرعية تستمد من أمور وأشياء خارج نطاق العمل البشري أو
على الأقل ليست من صنع هؤلاء الذين يتمتعون بالقوة ويمارسون السلطة في
المجتمع.
إن الشرعية تكمن في المصدر، والمصدر يعدّ شرعياً، وتغير المصدر
المقبول للشرعية في نظر أفراد المجتمع يرتبط بعوامل وأسباب كثيرة،
دينية، واجتماعية، واقتصادية، وقيمية، وفلسفية، فثقافة كل قطر أو
مجتمع، أو التباين في ذلك بالنسبة إلى المجتمعات، يحتم تباعاً التباين
في أسس ومصادر قيام السلطة وكيفية فهم الجماعة لوظائفها. إذاً، فإن
الثقافة السياسية – الاجتماعية هي الأساس لمفهوم السلطة وأساس لمصدرها.
ويعود المهتمون والباحثون في مسألة الشرعية ومصادرها إلى ماكس فيبر
حيث ميز بين ثلاثة نماذج للسلطة، تعتمد على تصورات مختلفة للشرعية
ومصادرها.
وإذا ما عدنا إلى ماكس فيبر وتصوراته عن مصادر الشرعية نجد أن
الشرعية بالنسبة اليه، يمكن أن تستمد من واحد أو أكثر من مصادر ثلاثة
هي: التراث والتقاليد، والزعامة الملهمة، والعقلانية القانونية.
فالفلسفة التقليدية تقوم لديه وتستمد شرعيتها في المجتمعات
التقليدية على أساس مميز من الاعتقاد في مبلغ قوة وقدسية العادات
والأعراف السائدة ويرتبط هذا النمط من السلطة بالمجتمعات الشرقية،
وعرفته أيضاً أوروبا في العصور الوسطى، فالمعتقدات التي وجدت منذ زمن
طويل، وشكلت قواعد سائدة هي التي تضفي الشرعية على الحكام التقليديين
وتؤكد هيمنتهم وتميز مكانتهم، ويكون للقائد أو الزعيم في ظل هذا النمط
من السلطة شخصية مطلقة تصل إلى حد الاستبداد، ويدين له أعضاء المجتمع
بالطاعة والولاء. كما تحدد أيضاً حقوق وحريات كل من الحكام والمحكومين،
وتقرن الشرعية بالمكانة التي يحتلها أولئك الذين يشغلون المراكز
الاجتماعية الممثلة للسلطة التقليدية. ويعتمد في إصدار الأوامر على
المكانة الوراثية، وغالباً ما تعبر هذه الأوامر عن الرغبات الشخصية
للقائد أو الزعيم. ولذلك تتسم بالطابع التحكمي، وإن كان ذلك في حدود
التقاليد والعادات المقبولة، أما ولاء الأفراد وطاعتهم، فيرجع إلى
احترامهم للمكانة التقليدية، أي قبولهم وقناعتهم بشرعية أولئك الذين
يمارسون السلطة التقليدية. ويندرج في إطار هذا النمط ثلاثة أنماط فرعية
هي:
- النمط الأبوي، ويسود في المجتمعات التقليدية البدائية، حيث يصير
أساس ومصدر تعامل صاحب السلطة مع أعضاء المجتمع هو المنطق الأبوي في
التعامل مع الأبناء، أي السلطة المطلقة، وحق الأمر والنهي، والتوجيه من
جانب الأب، والطاعة العمياء والالتزام، من دون مناقشة، من جانب
الأبناء. وتكون العلاقة بين القائد والمجتمع علاقة شخصية مباشرة لا
تتخللها أي أجهزة بيروقراطية أو تنفيذية.
- النمط الرعوي القبلي العشائري، ويغلف علاقة القائد أو الزعيم
بأفراد المجتمع – في هذا النمط – طابع سلطة شيخ القبيلة أو زعيمها.
وتنساب هذه العلاقة عبر شبكة معقدة من البيروقراطيين الموالين
والخاضعين للقائد الذي يعتمد في تقديم حكمه على أسلوب توزيع الغنائم
على الموالين، وذلك لاحتكاره وإدارته الثروة في المجتمع.
- النمط الإقطاعي، وهو النمط التقليدي للسلطة الذي ساد في أوروبا.
أما السلطة الملهمة (الكاريزما) فقد لاحظ ماكس فيبر أن الكاريزما
مصدر مهم للشرعية في المجتعات غير القائمة على أسس تامة من العقلانية.
وتقوم هذه السلطة على الولاء المطلق لقدسية معينة استثنائية، وترتبط
بزعيم بطل مهاب تاريخي وصاحب رسالة، له فضائل وخصال يعدها أعضاء
المجتمع خارقة، ويقرن وجوده أحياناً، أو هكذا يراد بمساندة قوة عليا
(غيبية أو إلهية)، وأحياناً يوصف بأنه مبعوث العناية الربانية. وقد
ارتبط هذا النمط في المجتمعات الحديثة ببعض القادة السياسيين أو
الوطنيين، سواء من قادة الدول أو زعماء الأحزاب السياسية، وفي هذا
النمط يصير أساس شرعية السلطة هو اعتقاد الجماهير وإيمانها بالقائد،
وإيمانه بنفسه، بما يتصف به من خصال وسمات فريدة. ومن هنا ترتبط السلطة
ارتباطاً وثيقاً بشخص القائد الذي لا يتقيد بأي قواعد أو ضوابط قانونية
حديثة أو عرقية متوارثة، ويعتمد على التأثير العاطفي في الجماهير،
ويتصرف وكأنه الوحيد القادر على تقرير مصير المجتمع وتجسيد أهدافه.
وعليه تصبح شرعية السلطة والنظام السياسي مرتبطة بالإنجازات
والأعمال الباهرة للزعيم، وإلا فإن إخفاقه يؤدي إلى زعزعة ثقة المجتمع
به وخلق حالة عدم الاستقرار السياسي، ومن ثم الصراع السياسي على صعيد
النظام.
وتقوم السلطة العقلانية – القانونية، على أساس عقلي رشيد مصدره
الاعتقاد في قواعد أو معايير موضوعية غير شخصية، أي أن هناك اعتقاداً
رسمياً في تفوق بناء معين في المعايير القانونية، أياً كان محتوى هذه
القواعد. كما أن مصدر هذه السلطة أيضاً هو إعطاء القابضين عليها الحق
في إصدار الأوامر، بهدف اتباعها والمحافظة عليها. فطاعة أفراد المجتمع
هنا تقوم على إيمانهم بأن هناك بعض الإجراءات والقواعد الملائمة التي
تحظى بقبول الحكام والمحكومين معاً. فالسلطة والنظام السياسي في هذا
النمط من السلطة يستمدان شرعيتهما من القواعد الدستورية والقانونية،
ومصدر السلطات قائم أساساً في طبيعة النظام الشرعي ذاته، وتجسد هنا
البيروقراطية السلطة الشرعية العقلانية والقانونية.
لقد طور ديفيد ايستون نماذج ماكس فيبر الثلاثة وأعاد تركيبها فحدد
ثلاثية أخرى، كمصادر للشرعية، تقوم على الزعامة الشخصية،
والايديولوجيا، والشرعية البنيوية، وتصنيف ديفيد ايستون بسبب طابعه
الوظيفي، لا يمس كثيراً بالأسس الفلسفية التي قام عليها منهج ابن خلدون
ولا بالنظرية الاجتماعية لماكس فيبر. ففكرة الكاريزما تطورت بعض الشيء
لديهن لكي يدخلها في عملية بناء الشرعية، فليس بالضرورة تمتع الزعيم
الملهم بوضع فذ أو استثنائي أو قدسية معينة، فهذا المصدر للشرعية يدخل
بالضرورة في بناء شرعية الحكم أياً كان إلهام ذلك القائد أو الحاكم.
ويطرح ديفيد ايستون الايديولوجيا كمكوّن أو مصدر آخر للشرعية. وهي
تتراوح لديه بين مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تظهر من سياسات النظام
القائم، ومن المنظومة المؤلفة من أفكار وشعارات يدّعي النظام أنه
أداتها، ويعتبر الايديولوجيا مصدراً مستقلاً، مثله مثل المصادر الثلاثة
(التقاليد، الكاريزما، العقلانية القانونية) فالنظام السياسي، قد يستمد
شرعيته من أيديولوجية واعدة (دينية، قومية، وطنية، اجتماعية، ثورية
اشتراكية) يتوجه بها إلى قطاعات أو طبقات مهمة في المجتمع، بل إن النخب
السياسية البديلة، أو قوى المعارضة خارج السلطة، في كثير من مجتمعات
العالم الثالث، قد تطرح وتروّج لايديولوجية معينة، تشكك في شرعية
النظام القائم من ناحية، وتعد بفعالية أكبر وأوسع من ناحية ثانية.
أما المكوّن البنيوي، فيرى به ديفيد ايستون المؤسسة، فإذا ما تحولت
المؤسسات من بنى بدائية إلى بنى معقدة مستقلة بعض الشيء، متماسكة في
بنائها الداخلي، وقادرة على التأقلم مع التطورات المجتمعية الكبيرة؛
آنذاك تصبح هذه المؤسسات قادرة على الإسهام في تحويل الثقافة السياسية
نحو تلك القاعدة الضرورية لأية شرعية دستورية أو بنيوية – مؤسسية.
ولقد قدم مايكل هدسون بعد ديفيد إيستون ثلاث قواعد ممكنة لبناء
الشرعية، وهي تشكل في الوقت نفسه ثلاثة مصادر شرعية هي:
- القاعد الشخصية، ويشير هدسون إلى العنصر الشخصي في الشرعية كمكوّن
أساسي في السلطات القبلية التقليدية، وفي السياسة المعاصرة، من دون أن
يرى مستقبلاً لهذه الشرعية في مجتمع أكثر تطوراً ونمواً (هذه القاعدة
شائعة في الأنظمة السياسية العربية الملكية والجمهورية).
- القاعدة الايديولوجية، تتلخص في مجموعة من المثل والأهداف التي
تساعد النظام على فهم الماضي وتفسير الحاضر، واستشراف المستقبل، ملمحاً
إلى أن الاستعمال الكثيف للايديولوجيا، قد يخبئ في الواقع هشاشة
الشرعية المؤسسية في الدولة.
- القاعدة البنيوية، أي تلك التي تنبع من المؤسسات، وبقدر ما يكون
الحكم متأسساً، يزداد الاعتقاد بشرعية القوانين والنظم (وفي الوطن
العربي ، نظراً إلى هشاشة القاعدة المؤسسية الشرعية، يقع اللجوء بكثافة
إلى بناء الزعامات الفردية وبخاصة اللعب بالرموز الايديولوجية).
ومع هذا التأكيد على دور الايديولوجيا – كمصدر مهم ودائم من مصادر
الشرعية – فإن الايديولوجيا، من دون شك، هي أبعد من أن تشكل العامل
الوحيد، لإضفاء الشرعية على الدولة والنظام والسلطة. فهي تشهد تراجعا
نسبياً ملحوظاً في تكوين الشرعية السياسية.
قد يضيف البعض، الفاعلية، كمصدر مهم للسلطة، وإن كان للفاعلية التي
يتمتع بها نظام سياسي ما دور مهم في بناء شرعيته.
ويرى ليبست أن استقرار السلطة – كنظام – وديمومتها ورسوخها، ولتجنب
تقويض شرعيتها، لا بد من وجود عنصر آخر يصون السلطة ويضمن الاستقرار
لها، وهو عنصر الفاعلية، كمصدر للشرعية، أي أن الفاعلية عنصر مهم في
كيان السلطة، وذلك لتحويل القوة من الكم إلى النوع، ولتحويل القوة إلى
حق، والتبعية والطاعة إلى واجب، لهذا يقول روسو: (إن الأقوى لا يبقى
أبداً على جانب من القوة، ليكون دائماً هو السيد، إن لم يحوّل قوته إلى
حق والطاعة إلى واجب).
فبغياب الفاعلية، تتوجب الطاعة للسلطة بالقوة، وبحضورها تتوجب
الطاعة للسلطة بالواجب والقناعة والقبول. ففي هذا التحول من الكم إلى
الكيف، تؤدي الفاعلية دورها الحاسم في رسوخ معتقدات شرعية السلطة
السياسية، ذلك لأن قوة أو ضعف المعتقدات الشرعية تعمل على استقرار أو
عدم استقرار النظام السياسي. فالفاعلية تدخل كعنصر حاسم، إما لتكيف
الوعي والمعتقدات مع المؤسسات السياسية للنظام السياسي القائم، أو
لتغير هذه المؤسسات طبقاً لطبيعة تطور العلاقات الاجتماعية، من دون
تعرض النظام السياسي وسلطته إلى تقويض أو إلى فشل في فرض الهيمنة
باستمرار على المجتمع. لهذا ذكر ليبست أن استقرار النظام السياسي سيكون
في خطر إذا انهارت الفاعلية لمدة طويلة، أو تكرر انهيارها أكثر من مرة،
وأنه لمعرفة مدى استقرار المؤسسات السياسية التي تواجه الأزمات، لا بد
من معرفة نسبة شرعيتها، ومدى علاقتها بالفاعلية. لذلك، لا يمكن لأي
نظام سياسي أن يبقى شرعياً بغياب الفاعلية. فهذه الأخيرة هي المعيار
الوظيفي لعمل وديمومة شرعية النظام والسلطة السياسية.
ويمكن أن تصنف مصادر الشرعية بحسب النظريات الباحثة في أصل السلطة،
وهي نوعان من النظريات:
- النظريات الثيوقراطية.
- النظريات الديمقراطية.
إن الخاصية المشتركة لهذه النظريات تكمن في أن سلطة الأمر في
المجتمع السياسي ترجع في مصدرها إلى الله، ونتيجة لهذه الطبيعة
الإلهية، فإن السلطة تخول صاحبها، ليس مجرد القوة العادية، ولكن تخوله
حقاً في الأمر يقابله واجب الطاعة عند الخاضعين لهذه السلطة، لكن إذا
كانت السلطة ذات مصدر إلهي، أو بعبارة أخرى، إذا كانت السلطة تأتي من
الله، فكيف يمكن تحديد صاحب الحق في مباشرتها؟ لقد تولى الإجابة عن هذا
السؤال نوعان من النظريات الثيوقراطية: نظرية الحق الإلهي المباشر،
ونظرية الحق الإلهي غير المباشر.
نظرية الحق الإلهي المباشر تدعي أن الحاكم أو صاحب السلطة يستمد
سلطته في الحكم من الله مباشرة، من دون تدخل أي إرادة أخرى، ومن ثم فهو
يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر، وبناء عليه، فإن سلطة الحكام تكون
شرعية، لأن الله هو الذي اختارهم لممارسة السلطة، وهذا الاختيار أسبغ
الشرعية على السلطة التي يمارسها الحكام، أي على النظام السياسي الذي
يقيمونه.
نظرية الحق الإلهي غير المباشر: تقوم على أن الله لا يتدخل بإرادته
المباشرة في تحديد شكل السلطة أو في طريقة ممارستها، وأنه لذلك لا
يختار الحاكم نفسه، وإنما يوجه الحوادث بشكل معين يساعد المجتمع على
اختيار الحاكم. فشرعية الحكام تأتي من اختيار المحكومين لهم.
وعليه يمكن القول بأن هذا الاتجاه يتفق مع أي طريقة من طرق اختيار
الحكام، ولذلك فهو يمكن أن يبرر الطريقة الديمقراطية في اختيار الحكام
(الانتخاب)، كما يمكن أن يبرر أي طريقة لا ديمقراطية في اختيار الحكام،
إذا استطعنا أن نثبت أن هذه الطريقة اللاديمقراطية في اختيار الحكام
تتناسب مع الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أرادها الله
لشعب ما.
لكن هذا الفكر السياسي بدوره لم يكتب له الاستمرار والبقاء، لأن
السلطة المطلقة للملوك قد طغت واستبدت وارتكبت الكثير من الآثام، فبدأ
التفكير جدياً في سند أو أساس للسلطة السياسية يجعلها بعيدة عن الملوك،
وهو ما ينقلنا إلى النظريات الديمقراطية.
تقوم النظريات الديمقراطية على أساس أن السلطة مصدرها الشعب، وبذلك
لا تكون شرعية إلا إذا كانت وليدة الإرادة الحرة للجماعة التي تمسكها،
وعليه، فكل حكومة لا تستمد سلطتها من الشعب هي حكومة غير شرعية، هذا
يعني أن سلطة الحكام لا تكون شرعية إلا إذا استمدت من الشعب. إلا أن
اختلافاً قد حدث حول تفسير معنى (الجماعة) أو (الشعب) (مصدر السلطة)،
الأمر الذي أدى إلى وجود ثلاثة مذاهب أو تفسيرات للديمقراطية، ومن ثم
ثلاثة مفاهيم للشرعية الديمقراطية.
فبالنسبة إلى روسو وتلاميذه، فإن السلطة (السيادة الشعبية) لا تتجزأ
بين أفراد الشعب، بحيث يملك كل فرد جزءاً منها، وتعتبر كل حكومة لا
تأتي عن طريق الانتخاب هي حكومة غير شرعية.
والمفهوم الآخر يرى في الأمة أنها صاحبة السلطة، وهي تمارسها بوساطة
ممثليها الذين تعينهم. أما التفسير الثالث فقد حدد مفهوم (الجماعة) أو
(الشعب) بـ(البروليتاريا) أي الطبقة الاجتماعية أو الأفراد الذين
يشكلون الأكثرية في المجتمع. وهم في الوقت نفسه الأكثر استغلالاً.
وعليه، فإن الشرعية الديمقراطية، تعني وفق هذا المفهوم، أن السلطة تأتي
من هذه الطبقة، وهي وحدها التي تختار من ينوب عنها في ممارستها للسلطة،
وقد استوحى أصحاب هذا المفهوم عناصره من الفكر الماركسي.
وهكذا يتضح لنا أن تاريخ الفكر السياسي والممارسة السياسية كذلك،
عرفا أكثر من مصدر للشرعية، فهذا التنوع والاختلاف في مصادر شرعية
السلطة والنظام دليل على إمكانية انتقال السلطة وتحولها وفق تحول مصادر
شرعيتها، ومن ثم وفق تحول إيديولوجية النظام السياسي الذي تقوم عليه
السلطة، سواء عن طريق العنف المسلح، أو عن طريق التطورين الاجتماعي أو
الاقتصادي الطبقي.
اسباب ضعف الشرعية او فقدانها
ومن أجل تحديد الاسباب التي تؤدي إلى ضعف أو فقدان الشرعية أو وضعها
موضع الشك والتساؤل من قبل المجتمع، لا بد من تحديد مجمل العوامل
والأسباب المؤدية إلى ذلك، وهي:
1- قد تكون أزمة الشرعية في أساسها مشكلة دستورية ومؤسساتية، ومن ثم
يمكن لأزمة الشرعية أن تلحق، إما بالمؤسسات السياسية أو بشاغلي الأدوار
في هذه المؤسسات، أو السياسات التي يضعونها، غير أنها تبلغ ذروتها
عندما يرفض الناس تقبل المؤسسات الرسمية. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى
سياسات أو شاغلي الأدوار السياسية، لأن معظم السياسات يمكن تعديلها
بسرعة، كما يمكن أيضاً تغيير الأشخاص الذين يشغلون الأدوار السياسية.
إن هذا السبب المؤسسي، ربما يكون أكثر وضوحاً في دول العالم الثالث
منه في البلدان الأخرى، وهذا ما يوضحه لابالومبارا (J. Lapalombara)،
من أن المؤسسات السياسية في دول العالم الثالث تفتقر إلى الشرعية عندما
تكون امتداداً للمؤسسات التي كانت قائمة في عصر الاستعمار، كما أن
المؤسسات المقبولة التي تتمتع بالشرعية أصلاً، تفقد هذه الشرعية عندما
تقع في أيد فاسدة، أو عندما تواصل إصدار مخرجات سياسية غير مقبولة
شعبياً، أو عندما تكون غير قادة على مواجهة المطالب والتكيف مع الظروف
المتغيرة.
كما تقاس شدة أزمة الشرعية بإحصاء عدد المتغيرات الدستورية، وكذلك
عدد القرارات التي تواجه الحركات المناهضة للنظام السياسي ومؤسساته،
الأمر الذي يعني أن الشرعية تتطلب تحقيق التوازن المؤسسي، وتغليب
اعتبارات الكفاية في ممارسة المؤسسات لأدوارها، وتطبيع هذه المؤسسات
(كالبرلمانات والأحزاب والمنظمات السياسية) بالطابع القومي وإقامة
أجهزة بيروقراطية على درجة عالية من التنظيم والكفاية.
2- إن إشكالية الشرعية لدى البعض الآخر هي أزمة تغيير، والكشف عنها
يتم في البحث عن طبيعة التغيير في المجتمع، فهي غالباً ما تحدث في
فترات التحول في البنيان الاجتماعي برمته، وتعرض مكانة البنى التقليدية
الرئيسة للتهديد إبان فترة التغيير.
وتجيء هذه الإشكالية التي هي حديثة العهد نسبياً من الناحية
التاريخية، كما يرى ليبست، إثر ظهور انقسامات قوية بين الجماعات التي
تمكنت نتيجة للاتصال بين الجماهير من أن تنتظم على أساس قيم جديدة، غير
تلك كانت مقبولة في الماضي. فهي تعني لديه أزمة تغيير شهدتها المجتمعات
الحديثة، ويجب أن يتم البحث عن جذورها في طبيعة هذا التغيير. وتحدث هذه
الأزمة خلال فترة انتقال إلى بنيان اجتماعي جديد في الحالات التالية:
- إذا تعرضت مكانة المؤسسات التقليدية الرئيسية للتهديد إبان فترة
التغيير.
- إذا لم يكن النظام السياسي، خلال التحول، مفتوحاً بالنسبة إلى كل
الجماعات الرئيسية في المجتمع الساعية إلى الإسهام في ممارسة الحكم
بصورة مباشرة أو إلى تحقيق أهدافها العامة.
فعندما تحدث تحولات اجتماعية عنيفة، تطالب الجماعات الجديدة الصاعدة
بالمشاركة في مسؤولية الحكم، إلا أن الفئة الحاكمة أو الجماعات
التقليدية ترفض مشاركتها، فتضطر إلى اتخاذ مواقف عنيفة في مواجهة
السلطة والنظام، بهدف الاستيلاء على السلطة والاستحواذ عليها بكليتها،
وطرح ايديولوجيا بديلة لايديولوجية السلطة لتبرير شرعيتها الجديدة.
وأكثر من ذلك، قد تظهر أزمة جديدة بعد إقامة تباين اجتماعي جديد إذا
لم يكن هذا قادراً على تحقيق ما تطمح إليه الجماعات الرئيسية في
المجتمع، ويعجز في الوقت نفسه، عن تنمية شرعية على اسس جديدة وبقدر
كاف. فغالباً ما تكون الآمال المعقودة على النظام السياسي الجديد أكبر
من إمكاناته، ولذلك فالسلطة الجديدة، بعد وصولها إلى الحكم، قد تواجه
معارضة شديدة من الجماعات والقوى الموالية للنظام السياسي القديم من
جهة، ومعارضة الجماعات التي ساهمت في التغيير ولم يحقق النظام الجديد
مطامحها من جهة أخرى.
والأزمة هنا تنجم، كما يحددها موريس ديفرجيه، عن التطور غير
المتكافئ لمختلف العناصر التي يتركب منها المجتمع، فإذا لم يصاحب هذا
التطور تطور مقابل في المؤسسات الاجتماعية والنظام السياسي، فإن هوةّ
ستتولد وتنمو وتفصل النظام السياسي القائم عن المجتمع. ولا شك في أن
هذه الفجوة ستتسع على درجات أو مراحل، وبخاصة إذا كان هذا التطور بفعل
عوامل خارجية في الأساس (كما يحصل في العالم الثالث والوطن العربي) ولم
يكن استجابة أو تعبيراً عن نمو التكوينات الاجتماعية المحلية. فهو تطور
مشوه ومعرقل للتطور السياسي الطبيعي والتدريجي. وهنا تتولد مطالب
وحاجات عارمة تبغي إدخال تطورات وتغيرات جوهرية وجذرية عميقة ومفاجئة
في بنية النظام القائم ومؤسساته، من شأنها تحريك ودفع النظام والمؤسسات
لجعلها متوافقة ومنسجمة مع الوضع الاجتماعي الجديد.
3- إن استقرار النظام السياسي الشرعي سيكون في خطر، إذا ما انهارت
فاعليته لمدة طويلة، أو تكرر انهيارها أكثر من مرة، كما هو الحال في
البلدان المتخلفة، حيث كثيراً ما تأتي أزمة الشرعية فيها، من عجز
سلطاتها عن إثبات فعاليتها في إدارة الشؤون العامة للبلاد، وبصورة خاصة
عجزها عن تحقيق الانجازات الكبرى في التنمية والتطوير.
4- انحسار مكانة السلطة وهيبتها نتيجة لضعفها، إذ كثيراً ما يأتي
فقدان أو ضعف شرعية النظام والسلطة، في نظر أفراد المجتمع، نتيجة لهذا
السبب، وغالباً ما يقرن ذلك بعدم قدرة السلطة ونظامها السياسي على
إدارة وتحقيق وظائف النظام وهذا الفشل من شأنه أن يفقد ثقة المواطن
بالسلطة، على اعتبار أن الشرعية في بعض جوانبها تعبر عن موقف مؤيد، وعن
علاقة نفسية رضائية يحملها الناس تجاه من يمارسون السلطة، وعن شعورهم
بقدرة وفاعلية النظام في تحقيق أهداف المجتمع.
وعليه، سيكون استقرار النظام السياسي الشرعي في خطر، وموضع شك، إذا
ما انهارت فاعليته لمدة طويلة، أو تكرر انهيارها أكثر من مرة، كما هو
الحال في البلدان المتخلفة، حيث كثيراً ما تأتي أزمة الشرعية فيها من
عجز سلطاتها عن إثبات فعاليتها في إدارة الشؤون العامة للبلاد، وبصورة
خاصة عجزها عن تحقيق الإنجازات الكبرى في التنمية والبناء.
وهناك الكثير من العوامل الموضوعية والذاتية التي تفرض نفسها على
السلطة أو تدفعها نحو ذلك أو ليس لها القدرة على دفعها، ومن أمثلة
العوامل الموضوعية دخول الحرب وخسارتها، ومهما تكن تبريرات ذلك، فالناس
ينظرون إلى أن حكومتهم قد هزمت إما بسبب عدم وجوب ذهابها إلى الحرب منذ
البداية أو بسبب عدم قدرتها وفاعليتها في إدارة الحرب. ومن ثم حالها في
الحالتين واضح ينم عن ضعف و عن عدم تقدير الأمور. وفي هذا السياق، يمكن
أن تضاف أيضاً الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المفاجئة التي قد تتأثر
بها قطاعات واسعة من أفراد المجتمع، الأمر الذي يكسر هيبة السلطات
والنظام ويثير حالة من النفور وعدم التفاعل معهما.
أما العوامل الذاتية، فتأتي بسبب عدم كفاءة أو قدرة السلطة والنظام،
أو أجهزتهما المختلفة، على مواجهة ما قد يعترضها من مشاكل ملحة، سواء
ما يتعلق منها ببعض المشاكل الاجتماعية والسياسية والانشقاقات العرقية
أو اللغوية أو الدينية، وهذه كثيراً ما تحصل في المجتمعات ذات التعدد
القومي أو العرقي أو الطائفي، الأمر الذي يثير الشك والتساؤل حول
السلطة والنظام وجدوى بقائهما.
5- عدم تمثيل النظام السياسي لقيم ومصالح المجتمع، وهنا يكون
للتفاوت واللامساواة، إذا ما بلغ درجة من الشدة، السبب المباشر في حدوث
أزمة الشرعية للسلطة والنظام. فحيثما تمارس الأنظمة السياسية التمييز
بين المواطنين أمكن القول بأن النظام تعوزه الشرعية تجاه من يمارس ضدهم
التمييز. فبقدر ما تكون الشرعية هي مسألة ولاء الناس تجاه السلطة
والنظام، مقابل التزام الحاكم بالعمل وفق كيفية معينة، فإن أي إخلال من
قبل الحاكم سوف يحل المحكوم من التزامه تجاهه، وبذلك فإن الشرعية تفقد
أساسها الذي تقوم عليه، وهو رضا الناس تجاه حكامهم. ومن لا يعترف
بشرعية نظام ما، لا يجد في نفسه أي التزام تجاهه، الأمر الذي يؤدي إلى
حرمان السلطة من مقومات شرعيتها، وهي الولاء للدولة والطاعة للقوانين
والتأييد للأهداف.
كما يسهم في الوصول إلى هذه النتيجة عدم مطابقة النظام القائم
للصورة المتكونة في وعي الناس عن النظام الأصلح للحكم. فمن أجل الحصول
على رضا الناس وولائهم ومساندتهم له، تلجأ الأنظمة القائمة على إقناع
أفراد المجتمع بقبول التصورات الخاصة للحياة السياسية والاجتماعية التي
يفرزها النظام وقيمه، والتي اتخذت كموجه لهم في نشاطهم الاجتماعي –
السياسي، وذلك من خلال أساليب وعمليات عدة، كالتنشئة والتربية
الاجتماعية والقوانين وقواعد الإلزام المختلفة. وهذا الوضع، أو هذه
التصورات، من شأنها أن تفسح في المجال أمام شكل من أشكال التطور والنمو
في مستوى حياة الناس، بجوانبها المختلفة، الأمر الذي يدعو الناس إلى
تبني هذه الصورة للنظام بوصفه النظام الأصلح للحكم، وبخاصة إذا استطاع
أن يكفل لنفسه البقاء والاستمرار لمدة طويلة، من خلال المحافظة على
الاستقرار واحترامه للقيم والإبقاء عليها سليمة، كما من شأنها أن تكون
محل توارث من قبل الناس جيلاً بعد جيل، لما يجب أن يكون عليه النظام
الصالح، أو قد تستند هذه الصورة الصالحة للحكم إلى أفكار أو عقيدة
دينية أو غير دينية – علمانية.
لذلك، فإن كل نظام قائم لا يأتي متفقاً وهذه التصورات التي يتبناها
الناس عنه، أو لا تكون توجهاته متطابقة مع الصورة التي شكلتها الأفكار
والايديولوجية التي طرحها، لا يمكن له أن يكتسب الشرعية، كما هو الحال
مع الأنظمة الكولونيالية التي جاءت على أنقاض الأنظمة السياسية القديمة
بعدما كانت هذه الأخيرة متمتعة بقدر من الموافقة عليها والرضا بها لعدة
أجيال.
غير أن أخطر ما يمكن أن يواجه به نظام سياسي ما هو وضع شرعيته موضع
التساؤل من خلال طرح أو اعتماد بديل يستخدم كأساس يجري توجيه النقد
باسمه. فالبديل يراد به المبدأ البديل الذي تقوم عليه الشرعية الجديدة
التي تطرحها جماعة أو قوى سياسية أو دينية معارضة من خارج النظام
السياسي القائم الذي يحظى بقبول ورضا قطاعات واسعة من المجتمع، لكونه
يتوجه إليهم ويمثل مصالحهم، كما يحصل عادة في الثورات والحركات الدينية
والسياسية، فكثيراً ما تطرح هذه ايديولوجيات ومبادئ تستحوذ على رضا
وموافقة قطاعات واسعة من أفراد المجتمع الذين يبدأون بفقدان ثقتهم
وانقطاعهم عن الأفكار والمبادئ التي كانت مطروحة من قبل النظام السياسي
القائم، الأمر الذي يهدم ويلغي الأسس التي كانت تقوم عليها الشرعية.
إذن يأتي انهيار الشرعية ليعني زوال كل المظاهر والدوافع الداخلية،
من رضا وقبول وموافقة، والتي تعمل على حث الناس على العمل باتجاه دعم
الأهداف والقيم كما يعكسها النظام السياسي القائم، وعليه، فإنه يمكن
لانهيار الشرعية أن يؤدي إلى حدوث عدم الاستقرار والعنف، وذلك من خلال
طريقين:
1- ينبعث من حقيقة انهيار الشرعية حين يؤدي إلى زوال الوازع الداخلي
للأفراد الذي يرتبط وجوده بالشرعية، فإنه يحل بذلك علاقات تقوم في
أساسها على الإكراه والقوة بدلاً من القناعة والرضا. فحيث يرفض الناس
طاعة حكامهم، فلا مناص لأصحاب السلطة من ممارسة الإكراه والقسر، بغية
العمل على إبقاء أفراد المجتمع ضمن حدود الوضع الراهن. بمعنى الامتناع
عن كل ما هو غير مقبول والعمل وفق ما تمليه وما ترتضيه عناصر وقوة
الوضع الراهن. وبهذا يقول ديفرجيه (المواطنون في ظل الحكم الشرعي،
يطيعون الحكومة طاعة طبيعية... أما في حكم غير شرعي فالمواطنون محمولون
بطبيعة الأمر على أن يرفضوا الطاعة وعلى أن لا يذعنوا إلا مكرهين
مقهورين... فحين تكون الحكومة غير شرعية، فإن ذلك يدفعها إلى استبداد
شديد وقسوة كبيرة)، وهذا وضع متوتر أو ثوري بقدر ما يمكن أن يؤدي إليه
من طاعة مؤقتة تنفجر على المدى البعيد مستبدلة هذه الطاعة والإذعان
القائمين على الإكراه بالمقاومة.
2- ينبعث من كون انهيار شرعية النظام القائم يؤدي إلى الانشقاق بين
الجماعات والقوى السياسية والاجتماعية. فقد تدّعي كل منها الشرعية
لنفسها، وبوصف أن الانشقاق يحدث كنتيجة للتعارض والاختلاف في السياسات
وفي وجهات النظر والمواقف أو أساليب الحياة. لذا، نجد أن هناك جماعات
من المجتمع سواء أكانت منظمة أم غير منظمة تحتشد وراء واحدة أو أكثر من
وجهات النظر هذه.
إلا ان مستوى وشدة الانشقاق يظل في أسفل درجاته متى ما كانت السلطة
تتمتع بالشرعية، إلا أنه، وحيث تضعف شرعية الدولة، يبرز الانشقاق
كنتيجة لضعف السلطة في ممارسة وظائفها في جعل الدولة تستمر ككيان موحد،
الأمر الذي يؤدي إلى التحول في الولاء عن السلطة ونظامها السياسي، وإلى
التعارض والتقاطع معهما.
وفي محاولات هذه القوى والجماعات السياسية طرح وفرض شرعيتها كشرعية
بديلة لشرعية النظام القائم، ومن خلال الصراع ما بين الولاءات
والانتماءات فيما بينها أو فيما بينها وبين النظام، تتصاعد ظاهرة العنف
وأساليبه، بوصفه معياراً لقياس مدى قدرة مثل هذه القوة المضادة على
البقاء، أو بعبارة أخرى، العمل على اكتساب شرعية وجودها الخاص، لتدخل
من ثم مرحلة اختبار القوة الحاسمة بينها وبين النظام.
الأنظمة السياسية العربية ومصادر
شرعيتها
من حيث المنشأ مثّلت، وتمثل هذه الأنظمة، حالة من التناقض بين
موقفين كونها تزعم تمثيلها للهوية العربية – الإسلامية والطموحات
المتصلة بها من جهة، ومن جهة ثانية، ضرورة معايشتها للحقائق السياسية
الواقعية التي يزخر بها الواقع العربي، من دون الإفصاح عن رغبتها في
التنازل عن أحد هذين الموقفين لمصلحة الآخر. هذا عدا كونها تمثل خلطاً
عشوائياً لمظاهر الحداثة مع الثقافة التقليدية العربية – الإسلامية.
أما عن شرعية هذه الأنظمة، فهي كما يقول عنها هدسون في فرضيته (إن
مسالة الحكم المركزي في العالم العربي، هي مسألة الشرعية السياسية.. إن
النقص الحاصل في هذا العنصر السياسي الذي لا غنى عنه، هو السبب الأكبر
للطبيعة المتقلبة للسياسة العربية وللسمة الاستبدادية وغير المستقرة
للحكومات العربية القائمة) فهي في واقع الحال لا تستند في معظم الأحوال
إلى مصادر الشرعية كما حددها ماكس فيبر، كالتقاليد والزعامة الملهمة
(الكاريزما) والعقلانية، والكفاءة والفعالية، ولكنها تدّعيها جميعاً،
والحال أن الشرعية يجب أن تقوم على نوع من الثقافة السياسية والوعي
الجمعي الوطني الذي يدخل في قناعة الفرد، ليس فقط قبوله للسلطة العليا
للحكم، ولا حتى رضاه عن سلوكه السياسي، وإنما يرى فيه تجسيداً لهويته
ولمبادئه الخاصة.
إن مثل هذه الشرعية غير متوفرة لأغلبية أنظمة الحكم العربية، وإن
توافرت لبعضها فما هي إلا شرعية شكلية تأتي بها أجهزة الحكم ومؤسساتها
الرسمية بالأساليب التعبوية التي عرفتها الممارسة السياسية العربية.
ولذلك تشعر هذه الأنظمة بالقلق والخوف الدائم، وتحاول التركيز على أنها
قوية وراسخة، وتمارس الاستعمال القسري والتعسفي للقوة في مواجهة أي
معارضة سياسية أو اجتماعية، مستخدمة في الوقت نفسه سبلاً متعددة لغرض
خلق شرعيتها، وبأساليب الترهيب والترغيب. ومع أن هذه الأنظمة كانت في
فترة ما قادرة على استيعاب بعض صور المعارضة، إلا أنها ضاقت في السنوات
الأخيرة، حتى بتقبل المعارضة الصورية، وأصبحت ظاهرة استمرارية النظام –
الحاكم مصاحبة لواحديته في القيادة والفكر والايديولوجيا. وأكثر من ذلك
تجسيد ظاهرة أبوية الحكام، وأصبحت التعابير التي تفيد ذلك من ركائز
الخطاب السياسي العربي.
شرعية النبى السياسية
إن السلطة في الوضع العربي الراهن هي (حاضنة) الدولة، وليس العكس أو
كما يجب أن يكون، لذلك فإن القضاء على (الحاضنة) يتضمن تهديد وليدها
بالخطر وربما بالموت، ولعل الإحساس الغريزي أو العفوي لدى عامة
المجتمعات العربية بهذا الواقع الخطر، وهذه المفارقة المرة، هو من ضمن
الأسباب التي تساعد الأنظمة السياسية العربية الحالية على الاستمرار في
مواقع السلطة؛ السلطة التي تتماهى مع الدولة ومع الكيان العام للوطن،
بحيث إنها لو انهارت انهار معها هذا الكيان (الدولة).
وإذا كانت مقولة الدولة الحديثة ليست بجديدة على العرب، ونحن نجدها
في مركز الفكر العربي في العصر الذي سمي (مجازاً) بعصر النهضة، ولكن
محتوى هذه المقولة كان وما زال غامضاً، ونجد هنا أيضاً أن معادلة اللفظ
– القوة أقوى بكثير مما هي عليه معادلة الفكرة – القوة.
فمفهوم الدولة، بمعناها المؤسسي الكياني الشامل، هو أكثر المفاهيم
غموضاً واضطراباً والتباساً في الوعي العربي بعكس مفهوم الكيان الثابت
المترسخ في المصطلح الغربي الاستاتيكي للدولة، ولم يعرف العرب هذا
المفهوم المؤسسي الثابت، إلا من حيث كونه مفهوماً أجنبياً خارجياً
يتمثل في (ممالك) الأمم الأخرى المحيطة بهم التي يملكها (ملوك جبارون)
لا يليق بالعربي الحر أن يخضع لهم.
وإذا كان العرب قد مرّوا بمرحلة (اللادولة) أي غياب السلطة المنظمة
وغياب الكيان السياسي المؤسسي الشامل معاً، في عصور من تاريخهم، فإنهم
عرفوا بشكل مواز الخضوع للسلطة الواحدة وللسلطة الإمبراطورية
(إمبراطورية الخلافة الأولى، والإمبراطورية العثمانية) في عصور تالية.
غير أن قيام السلطة يختلف عن بناء كيان الدولة المؤسسة الشاملة،
وكما لاحظ جورج بوردو في بحثه عن الدولة (ليس كل مجتمع سياسي منظم
دولة، وإذا كانت ظاهرة السلطة عالية، ثمة أشكال كثيرة منها لا تمت بصلة
إلى الدولة).
ويتضح أن تجربة العرب في الدولة – من أي زاوية ينظر إليها – كانت
تجربة محدودة، متقطعة غامضة، وأن علاقة الفرد بها عموماً، غلب عليها
السلب أكثر من الإيجاب. ومن هنا يكمن فهم مقولة ابن خلدون (فبعدت طباع
العرب... عن سياسة الملك) أي سياسة الدولة.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن (الدولة مدرسة السياسة) في حياة الأمم،
أمكننا القول إن العرب، بصفة عامة، لم تتح لهم هذه المدرسة إلا بقيام
الدولة الوطنية القطرية التي تمثل أول تجربة دولة مباشرة في حياة كل
عربي، وكل جماعة عربية، وكل منطقة عربية، على نواقص هذه الدولة وعلى
المآخذ التي رافقت ولادتها وتطورها، أي أن العرب، بمقارنة تاريخية، لم
تتح لهم الخبرة والمشاركة والمعايشة المستمرة للدولة، كما أتيح لغيرهم
من الأمم.
إن الدولة القطرية – الإقليمية – العربية أمست دولة مغروسة ومطبعة
بشكل متزايد. إنها ليست ظاهرة محلية، بل إنها ثمرة هجينة. ومع أن شكلها
يمثل سيادة الثقافة الأوروبية الحديثة، فإن محتواها يأخذ صيغة محلية
بصورة متزايدة، وعلى الرغم من هذا التناقض الموجود بين الشكل والمحتوى
لهذه الدولة، فإن القبول بها كأمر طبيعي يتنامى على الرغم من أن تكونها
لم يأت وفق رغبات ابناء المجتمع العربي.
هذه الدولة التي كانت وما زالت صفتها القطرية موضع شك أو تهديد،
تبتغي الحصول على مبرر وطني بتأكيد قدسية المبدأ الإقليمي حتى في
دساتيرها، أي تحاول باستمرار أن تؤكد وجودها وأن تبرر شرعيتها الوطنية.
كما أن هذه الدولة ظلت باسم الوعي القومي في موقع الباحث عن شرعية
مفقودة بشكل كلي أو جزئي منذ الأصل. فقد نظر إلى تأسيسها في المشرق
العربي على أنه مرحلة مؤقتة وخطوة انتقالية وتحضيرية، أو أي شيء لا بد
منه بانتظار الدولة القومية العربية.
فهناك ما يشبه الإجماع على أن الدولة العربية الحالية تعيش أزمة لم
تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، وأن هذه الأزمة تنذر في بعض
الحالات، وبخاصة في دول الأطراف ذات التنوع الإثني الكبير، بمزيد من
التفكيك أو الضم أو الزوال من الخريطة السياسية الإقليمية خلال العقود
المقبلة. فهي دولة قامت أساساً مكان غيرها، وهي بدورها إذا ما أخذ
بمنطق ابن خلدون، إلى زوال.
فالدولة العربية المعاصرة لا تجسم في سلطتها أو ممارساتها الحالية
المصالح المشروعة للتكوينات الاجتماعية الرئيسية في أقطارها، وإن
الفجوة في ازدياد بين المجتمع المدني من ناحية، والدولة من ناحية أخرى.
فهي لم تكن محور تكوين العلاقات الاجتماعية، أي التعبير عن المجتمع
المدني وتأسيسه في الوقت نفسه، وإنما كانت مجرد وسيط خارجي لتحقيق
المصالحة داخل الفرد، بين الولاء المحلي المشخص، والولاء الجماعي
المجرد للأمة.
فالدولة الوطنية (المجتمع السياسي العام) في أغلب الأقطار العربية
ليست إلا شكلاً ظاهراً يخفي في داخله هذا التشرذم وذاك التشتت، أما
الذي يحفظ هذا الشكل الظاهر من الكيان الواحد فهو السلطة المركزية
وليست آليات المجتمع المدني كما يفترض أن تكون عليه الأمور. فإن كان
هناك مجتمع مدني في أغلب الدول العربية، فهو ما زال دون الحد الأدنى من
الانصهار المجتمعي والوطني الشامل الذي على أساسه تقوم الهوية الواحدة
المتجانسة القادرة على البقاء حتى من دون تدخل أو رعاية السلطة
المركزية.
وعلى هذا الأساس، وكما يشخص جيمس تيراس، هناك في الأقطار العربية،
دولة توفيقية، تتميز بما أسماه (الدول التعددية) أي دول ثلاث في واحدة،
وأولى هذا الثالوث هي (الدولة التاريخية) حيث البيروقراطية التقليدية
التي تعمل كأداة للمحسوبية السياسية. وهذه الدولة التاريخية تخضع للنخب
السياسية ولأنصارها من الجماهير، كما أنها تستجيب لهم. وفي الأقطار
الفقيرة نفطياً تعمل الدولة التاريخية بطريقة مشابهة، غير أنها تكون
خاضعة أيضاً لإدعاءات الزعامة من قبل الحزب السياسي، ونظام المحسوبية
هذا، تصاحبه الدولة الثانية أو (الدولة الحديثة) التي تؤدي وظيفيتين في
الاقطار العربية، إنها دولة التقنوقراط أولاً، وثانياً دولة الرفاه،
وهي تعمل على دمج المواطنين المحليين في الأمة – الدولة، ولتأكيد شرعية
النظام، وشرعية النخب الحاكمة على وجه الخصوص. وتعمل أيضاً من أجل
تبديد عدم الرضا وتعبئة التضامن مع النخبة الحاكمة (مصر، انتهى برنامج
الرفاه (الساداتي) إلى أن يعرف شعبياً بكونه (معاش السادات)).
ونقطة التداخل بين (الدولة التاريخية) و(الدولة الحديثة) هي مواقع
السلطة القائمة على المحسوبية في وكالات (مؤسسات) التنمية والرفاه
المختلفة. وهذا الترابط يتوشج بكفاءة من أجل تأكيد شرعية النظام ومن
أجل حشد الدعم له.
أما الدولة الرئيسية الثالثة، فهي (دولة القمع)، وهي تدير أجهزة
القمع التي تملكها الدولة، والتي تحمي الطبقة الحاكمة.. وهي دائماً فوق
المجتمع وفوق القانون وكثيراً ما تضع هي قانونها الخاص. وتوفيقية
(الدولة في ثلاث) هذه هي التي تشكل هيكل الدولة المعاصرة في الوطن
العربي، وعلى أي حال، فإن تفسير كل هذا كثيراً ما يؤدي إلى أنساق
متناقضة ومتصارعة داخل الدولة وداخل المجتمع ككل.
لذلك يلاحظ أن الوطن العربي يمتاز اليوم لا بمحور واحد من الولاء،
بل بثلاثة مستويات منه، تتصارع وتتنافس، وهي:
1- الولاء للدولة، وهذا المستوى من الولاء ذو بعد سياسي سلطوي،
وأحياناً تسلطي.
2- الولاء للأمة العربية أو الأمة الإسلامية، وهذا المستوى ذو بعد
عقائدي ثقافي حضاري.
3- الولاء أو الانتماء إلى المجموعات المحلية، سواء أكانت هذه
المجموعات قومية أو دينية.
إذن ثمة خصائص معينة للبيئة السياسية العربية خلال الحقبة المعاصرة
جعلت للعنف السياسي الرسمي، وغير الرسمي، موضعاً مهماً في الحياة
السياسية العربية، الأمر الذي يطعن في شرعية البنى السياسية العربية،
وإن كان المقصود بالعنف السياسي الاستخدام الفعلي للقوة أو التهديد
باستخدامها، لتحقيق أهداف سياسية أو أهداف اجتماعية لها دلالات وأبعاد
سياسية بشكل يأخذ الأسلوب الفردي أو الجماعي، السري أو العلني، المنظم
أو غير المنظم.
أما الخصائص، فهي:
1- مركزية السلطة السياسية، وقد تمتعت مركزية السلطة المعاصرة
بمظهرين متكاملين: الأول، تركيز السلطة عسكرياً وسياسياً وأمنياً في
شخص رئيس الدولة، وقد اقتضى هذا الأمر الاعتماد الكلي على ضبط المواقع
الاستراتيجية الحساسة سياسياً وأمنياً، من أجل دعم وحماية السلطة، مما
أدى إلى ازدياد أهمية العنف والقمع في الحفاظ على الاستقرار السياسي.
المظهر الثاني هو الدور المتضخم للجهاز الإداري في الاقتصاد بعد أن
انتزعت الدولة لنفسها الدور الرئيسي في تسيير معظم المؤسسات
الاقتصادية، فأصبحت الدولة ربة العمل، والهيئة الموظفة الرئيسية للقوى
العاملة، وقد اكتسبت الدولة عن طريق احتكار السلطة الاقتصادية قوة
إضافية مكنتها من إحباط أي مبادرة سياسية للخروج من هذا الشباك المحكم.
والإزار الذي يأخذه مثل هذا النظام يتمتع بموقف أخلاقي هو حماية الحرية
الاجتماعية.
2- عدم إمكانية التناوب الديمقراطي للسلطة السياسية في المجتمع
العربي، وهذا يعود إلى أن الأنظمة السياسية العربية لا تملك قواعد
واضحة للعمل السياسي الديمقراطي ولا توجد فيها ايديولوجية مستقرة، إنما
تطغى عليها الاعتبارات الشخصية، إضافة إلى كون الدولة العربية وافدة من
الخارج، وليست معبرة عن واقع الحال العربي. فالصفة السائدة للأنظمة
السياسية العربية في السبعينيات والثمانينيات، هي وجود جماعة سياسية
واحدة وعدم وجود مجال للتناوب، والمعارضة لا تشتت ولا تصفى ولا تشترك
في الحكم، بل إنها تستخدم بما يفيد بقاء النظام، وهي تنحو إلى القبول
بهذا الاستخدام لسبب ما، وهو ليس أنها تتوقع أن تجد نفسها في السلطة في
المستقبل، سواء عن طريق الانتخاب أو غيره، وهذا ما يفقد الجماهير صدقية
المعارضة الشرعية، وكذلك جدوى العمل العام. ومن هنا كان عزوف المواطنين
عن المشاركة السياسية يتمثل في أبسط صورها.
3- صراع الاتجاهات المتلازم بين ما هو مطلق وشامل، وما هو موضعي
ومحدود، أو بين قوى تسعى نحو التوحيد والتوفيق والانسجام في الشكل
والمضمون، وبين قوى متأصلة موضعية تحاول الحفاظ على ما هو خاص في
هويتها.
إن هذه الحالة الصراعية هي الحالة السائدة بين مختلف القوى السياسية
في المجتمع العربي، وفي ظل غياب تقاليد الممارسة الديمقراطية، لا بد من
أن يكون العنف خياراً متاحاً لهذه القوى في نطاق صراعها السياسي،
وبخاصة حينما تكون الدولة في حالة من الضعف، وعندما تكون الدولة قوية
ومزدهرة، تسود حالة من التسامح.
4- عدم قدرة الأنظمة السياسية العربية على استيعاب القوى الاجتماعية
والسياسية الجديدة في المجتمع العربي (وبخاصة الشباب)، وعدم إنشائها
المؤسسات السياسية القادرة على استيعاب طاقاتهم وإشراكهم في صنع
السياسة المرتبطة بمستقبلهم، الأمر الذي أدى إلى أن تفقد قطاعات كبيرة
من المجتمع الثقة في جدوى ممارسة أي نشاط سياسي في إطار المؤسسات
الشرعية القائمة. وقد انسحب هذا الأمر أيضاً على التشكيك في شرعية
الأنظمة العربية، وذلك لأن الشرعية وبخاصة أثناء فترات التغيير
والبناء، تكون في موضع شك إذا حدث فيها تهديد لمركز الجماعات التقليدية
الرئيسية، أو إذا حرمت الجماعات الناشئة من دخول المعترك السياسي،
ولاسيما في الفترات الحاسمة، أو إذا انهارت فاعليته في تحقيق أهدافه.
طبيعة السلطة العربية
لعل أبرز ما يميز السلطة من بقية أشكال التأثير هو ضرورة صفة
الشرعية لها، فالشرعية تخلق اليقين والمبرر للأفعال التي قد تتخذ مهما
كانت. وأكثر من ذلك أهمية، أنها تبقى متعالية فوق السلطة. ولما كانت
مهمة السلطة تنظيم الرابطة بين الهيمنة والتبعية القائمة على ممارسة
القوة بمختلف أشكالها ضمن عملية الصراع، فإن ممارسة هذه القوة لا تتم
إلا بأسلوبين:
1- عندما تستخدم القوة باعتراف عام، كضرورة وكحق اجتماعي، تسمى
القوة الشرعية.
2- عندما تستخدم القوة للسيطرة على الآخرين من دون موافقة اجتماعية
أو سند اجتماعي، تسمى القوة غير الشرعية.
ولهذا فالسلطة بالمفهوم الأول، تعرف كقوة شرعية تأسيسية، بمعنى أنها
تعطي الحق للبعض ممن هم في مواقع السلطة لاستخدام هذه القوة، فمن دون
الشرعية، يصعب على أي نظام سياسي أن يملك القدرة الضرورية على إدارة
الحياة السياسية وعلى إدارة الصراع داخل المجتمع لفترة طويلة ومستقرة.
ويقول روي (Rowe) إن السلطة، توصف عادة كقوة تمارس بموافقة عامة،
وهذه القوة هي القوة الشرعية أو الاستخدام الرضائي للقوة.
أما بولنتزاس فيرى أن مفهوم السلطة استخدم في علم السياسة بمعنى
يراد به القوة الشرعية التي تمارس ضمن إطار قائم على حد أدنى من الرضا
والقبول. وعلى المنوال نفسه، يذهب فيبر إلى التأكيد أن السلطة هي
الاستخدام الشرعي للقوة، وبناء على حد أدنى من الاتفاق بين الأفراد
الذين يخضعون لهذه السلطة، بل يذهب فيبر أبعد من ذلك حين يعطي للسلطة
حق استخدام (العنف الشرعي) أيضاً.
وكما يقول بوردو، قلائل هم الرؤساء الذين إذا امتلكوا قوة الأمر لا
يسعون لتحقيق اعتراف بهذا الحق أن يشعروا بشرعيتهم، ذلك أن هذا الحق
يضع لقبهم في منأى عن مطالب منافسيهم، ويضمنه لهم ضد الآثار المخيفة
لعجز في القوة أو تخل من قبل الحظ، هذا الحق الذي يتمسك بالشرعية
وتاريخ الصراع حولها، يثبت كم هي ثمينة الصفة التي تمنحها الشرعية.
فإذا كان القابضون على السلطة (الرؤساء، الملوك، الأمراء) يعلقون كل
هذه القيمة على انتزاعهم صفة الشرعية، فذلك لأنها تؤكد حقاً في السلطة
لا يمكن الحصول عليه إلا عبرها، وتضيف إلى السلطة – التي تفرض نفسها –
الصفة التي تتعلق بسلطات مسلّم بها، طالما أن أحداً لا يستطيع أن يدّعي
سلطة شرعية إذا لم يكن معترفاً بها كذلك.
وهذا يعني أن السلطة السياسية في أغلب الأقطار العربية، لم تتأسس
على نحو كاف، بمعنى أن من يحكم ولا يزال يتمتع بقوة فعلية، أكبر كثيراً
من (الأطر النظامية والقانونية) التي يعمل في ضوئها، بحيث تصبح ممارسة
السلطة خاضعة لقيود ذاتية شخصية، وليست خاضعة للدستور والقوانين أو
حائزة على رضا وقبول الناس بها. وقد نجم عن هذه الحقيقة بعض الآثار
التي يمكن الإشارة إليها على الوجه التالي:
1- إن شخص الحاكم متداخل في وعي جهاز السلطة، وفي وعي الجماهير
بشخصية الدولة. ولهذا فإن الولاء السياسي يصبح ولاء لشخص الرئيس الأعلى
(ملكاً أم رئيساً أم أميراً)، والخلاف معه، هو خلاف مع الدولة والسلطة،
يضاف إلى ذلك ما تتمتع به السلطة التنفيذية من نفوذ قوي، كونها مجسدة
في شخص الرئيس، وما يعزز هذا التشخيص ما يضفيه بعض (الرؤساء أو الملوك)
العرب على أنفسهم من ألقاب تتصل بالقيادة والزعامة، وما يصاحبها من
إلهام وقدرات خاصة إلى حد القداسة والعظمة، والارتفاع فوق احتمالات
الخطأ.
2- شعور الكثير من الحكام العرب بعدم التمتع بالشرعية الحقيقية التي
تؤمن لهم الاستمرار في الحكم، الأمر الذي يدفعهم للجوء إلى أمرين:
أ- الاعتماد على علاقات القرابة والتابعين لملء المناصب ذات التأثير
السلطوي ليكونوا سنداً فاعلاً للحاكم.
ب- إقامة أجهزة قمع متعددة ومتداخلة الاختصاص لمتابعة المعارضين
أفراداً وجماعات وتنظيمات.
وقد نتج من غياب السلطة المنظمة في المجتمع العربي واستمرار السلطة
المشخصة، وإن أخذت ببعض الأشكال الحديثة للمؤسسات السياسية الغربية،
سلبيات عدة أهمها:
- الشك والغموض الذي يصاحب العمل السياسي للسلطة، مما يفقد المواطن
العربي الثقة في الممارسة السياسية من خلال المؤسسات السياسية القائمة،
لإدراكه أن هذه الأبنية المؤسسية ليست لها الفعالية السياسية المطلوبة
أو المؤثرة.
- صنع القرارات السياسية ذات المساس بحياة المجتمع والدولة يتم
بعيداً عن الأطر النظامية والدستورية، الأمر الذي يصعب معه على المواطن
التنبؤ المسبق بالقرار السياسي وبدرجة معينة من الثقة بالسلطة.
- انتقال نظام السلطة المشخصة إلى بعض المؤسسات السياسية غير
الرسمية كالأحزاب، فأصبحت هذه تقوم على أشخاص تتمحور سلطة الحزب حولهم،
مما يفقدها الممارسة الديمقراطية في نطاق بنائها الهيكلي وعملها
الحزبي.
إن هذه الوضعية تجعل ممارسة العمل السياسي خارج السلطة ممارسة
فردية، حتى وإن كان الفرد يعلن انتماءه لحزب معين. مثل هذه الممارسة
تكون غير فعالة ويسهل قمعها من جانب السلطة، الأمر الذي يدفع المواطن
إلى اللجوء إلى استخدام أسلوب العنف في مواجهة السلطة القابضة على
القوة. ومن هنا يذكر أحد الباحثين في الشؤون العربية (أن العالم العربي
لم يشهد تغيراً جوهرياً في العلاقات السياسية بين السلطة والمجتمع
المدني من شأنه إرساء مبدأ جديد للسلطة، وإقامة مؤسسات سياسية مستقرة
ذات فاعلية ونمط جديد للحياة السياسية).
ولما كانت علاقات السلطة بالمجتمع المدني في غالبية الأقطار العربية
غير ديمقراطية ولا تشجع المشاركة السياسية، فكان لا بد من أن ينعكس ذلك
على الحياة السياسية في شكل انخفاض معدلات المشاركة السياسية، وبخاصة
في ظل انتشار الخوف التقليدي والقهر السياسي من السلطة، وكل ما يرتبط
بها على مستوى المواطن العادي في الوطن العربي، وهو ما يقود إلى ما
يسمى بسياسة (التحاشي).
من هذا يستنتج أن مؤسسات (المجتمع المدني) العربية قد انتهت إلى أن
تكون محدودة الشرعية والكفاءة، كما أن المؤسسات الرسمية الوسيطة التي
كانت تربط بين الأفراد والسلطة فيما مضى، مثل (الاتحادات، الأحزاب...
الخ)، قد فقدت استقلالها ومضامينها، ومشروعيتها تدريجياً، كما أنها
تحولت إلى وسائط تستخدمها السلطة للسيطرة على (المجتمع المدني) بدلاً
من أن تكون بمثابة وسائل لتعبئة المجتمع، أو أن تعمل كمراكز مراجعة
وضبط لسلطة الدولة.
إن نمط السلطة الأبوي – الرعوي يتسم بجملة من الخصائص تؤثر بشدة في
العملية السياسية، وهي، كما أكدها بيل وليدن:
1- الممارسة الشخصية للسلطة: أو ما يسمى بـ(تشخيص السلطة) بمعنى
تمتع الرئيس أياً كان بسلطة شخصية مطلقة في صنع القرارات، على الرغم من
الوجود الشكلي للمؤسسات السياسية، ولا تختلف هذه السلطة كثيراً عن سلطة
الأب في نطاق الأسرة، وبخاصة في ظل تشبيه عدد من القادة العرب في
الأنظمة الملكية والجمهورية أنفسهم بالآباء، ومجتمعاتهم بالعائلات،
وتتضخم هذه السمة في البلدان العربية ذات التكوينات التقليدية كالأردن
وبلدان الخليج وبعض أقطار المغرب العربي.
2- الاقتراب من الرئيس كمحدد للتأثير السياسي: ففي ظل هيمنة الرئيس
في العملية السياسية يصير السبيل الوحيد والفعال للتأثير السياسي هو
الاقتراب من القائد وملازمته بصفة دائمة، مما يفسر لنا تزايد التأثير
السياسي لأعضاء أسرة أو عشيرة القائد أو المقربين منه.
3- انعدام الرسمية: بمعنى أن عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بحياة
المجتمع والدولة لا تتم في أطر مؤسساتية أو تنظيمية رسمية محددة،
ولكنها تتم في إطار العلاقات الشخصية.. وعادة ما يستمر هذا الهيكل
الشخصي غير الرسمي خلف الهيكل الرسمي الشكلي مع وجود عناصر معينة تابعة
وموالية للرئيس تحتل مكانة عليا داخل الهيكل الرسمي، كقنوات اتصال بين
هذين الهيكلين، الأمر الذي يدعم هيمنة القائد.
4- الصراع المتوازن: بمعنى لجوء القائد إلى إثارة الصراعات
والانقسامات بين أعضاء النخبة السياسية (الدائرة الضيقة)، لمنع ظهور
بؤر ومراكز للقوة والتأثير مستقلة عن شخص القائد مع اتباع الأسلوب نفسه
مع المعارضة لمنع تكتلها في جبهة قوية معارضة، أو في التعامل مع الجيش،
وبخاصة عن طريق إقامة تنظيمات شبه عسكرية لموازنة وضبط قوة الجيش.
5- القوة العسكرية: وتعني أمرين: أولهما، اعتماد القيادات العربية
على الجيش والتنظيمات شبه العسكرية لحماية وتأمين استمرارها في الحكم،
وقمع الاضطرابات التي تعجز قوى الأمن عن مواجهتها. وثانيهما، تأسيس بعض
القيادات العربية لشرعيتها على أساس ما أظهرته من بسالة وتحد في
المعارك والحروب (جمال عبد الناصر، الملك حسين،... الخ)، وحتى عندما
تفقد بعض القيادات فرصة إظهار قوتها وشجاعتها، ولو كانت هذه المناسبة
متعلقة بالنجاة من محاولة اغتيال أو انقلاب عسكري (الحسن الثاني، جعفر
النميري سابقاً).
6- التبرير الديني للسلطة: بمعنى تأسيس ممارسة السلطة على المنطق
الديني – الإسلامي، على سبيل المثال استناد القيادة الأردنية والقيادة
المغربية على الانحدار من نسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
واستناد القيادة السعودية إلى المبادئ الوهابية، واستناد القيادة
العمانية إلى المذهب الإباضي، فضلاً عن تظاهر القيادات العربية كافة
بأن سياساتهم تتفق مع القيم الإسلامية.
مصادر الشرعية وبناؤها
يرى هدسون خمسة مكونات اساسية لفهم مسألة الشرعية، وهي:
1- الهوية العربية، وهي قائمة برأيه على عنصرين أساسيين: اللغة –
الاثنية والدين، وهو يشير إلى أهمية الإسلام اليوم في الحياة السياسية،
إن كان ذلك في مجال شرعية الحاكم أو في مجال تجميع المعارضة.
2- التعددية الثقافية، فهناك الأقليات إلى جانب الأكثرية العربية،
والطوائف الدينية إلى جانب الإسلام، مع وجود المشكلات الفئوية هذه
لأنها برأيه لا تشكل نقطة للصدام، وإن كان يذهب إلى موقف سياسي صحيح،
وهو أن ارتباط اهتمام الدول الكبرى بالأقليات هو لأهداف امبريالية.
3- أزمة السلطة العربية التي ضعفت قواعدها التقليدية في وقت لم تصبح
قواعدها العقلانية قوية. إن القواعد التقليدية كما يراها هدسون أربع،
ومنها: العائلة، وبحسب الاتجاه المهيمن هو حكم أبوي صارم – وأحياناً
مطلق – ويؤدي هذا إلى نشوء تصرف سياسي فيه الكثير من الاحترام التقليدي
والحكم الاعتباطي والشورى المنبثقة من البنى العشائرية والإسلام. وهنا
يضع هدسون ميزتين للمجتمع الإسلامي، هما أولوية القوة القمعية، وعدم
استقرار قواعد انتقال السلطة، وإن كان يرى في النهاية أن هاتين
الميزتين ليستا نابعتين من مصدر الإسلام نفسه، بل من تفكك المجتمع
والنظام الإقطاعي، إذ يعتقد أن النظام السياسي للمجتمع الحضري العربي
كان، حتى أمد قريب، (شبه إقطاعي).
هذه الامتدادات لا تعني أن القواعد السابقة للسلطة التقليدية لم
تمس، والواقع أن هناك ايديولوجيات سياسية حديثة دخيلة عجلت في أزمة
عناصر السلطة التقليدية.
4- آثار الامبريالية في المنطقة، إن ثقل وطأة الهجوم السياسي الغربي
على العرب الذي رافقه هجوم ثقافي أشد إيذاء على الهوية العربية قد أضعف
من قدرة الحكام العرب على إرساء بنى سياسية شرعية.
5- مسألة التحديث، فهو تفجيري غير متكافئ.
على الرغم من هذه المكونات التي تشترك فيها جميع الأنظمة السياسية
العربية (ملكية أو جمهورية) فهناك في داخل كل نمط من أنماط أنظمة الحكم
العربية تنوعات مختلفة من حيث البنية الاجتماعية – الاقتصادية، ومن حيث
نشأة النخبة الحاكمة نفسها، ومن حيث الأفكار والايديولوجيا. ويستتبع
ذلك، أن مصادر الشرعية للأنظمة السياسية العربية لم تكن واحدة، وإن
تشهد أزمة شرعية وبدرجات مختلفة.
كما أن سعي الأنظمة إلى تأكيد شرعيتها بمضامين جديدة معاصرة، جعلها
تعتمد أساليب ووسائل أخرى غير التي ذكرت، لملء فراغ الشرعية، ولكي تبقى
في الحكم أطول فترة ممكنة، ومنها:
- الابتزاز: تقوم شرعية الابتزاز على أساس إثارة مخاوف الناس ضد أي
منافسين على السلطة، أو أي بدائل للنظام القائم، مع تشويه سياسات
الأنظمة السابقة من خلال تضخيم ما وقعت فيه من أخطاء. والقصد من توظيف
هذه الوسيلة، كمصدر جديد للشرعية، هو أن تفهم الجماهير أن أوضاعها هي
الأفضل في ظل النظام القائم، وأن أي تفكير في البدائل للنظام أمر ينطوي
على خطورة.
- القمع: تميزت الأنظمة (الثورية) بلجوئها بدرجات متفاوتة إلى وسائل
العنف الحديثة في مواجهة أي معارضة للنظام، أو إبقائها في حالة من عدم
التوازن سواء أكانت هذه المعارضة حزبية أم جماعية أم فردية، وقد ساعدت
عملية التحديث والعصرنة على أن تضع في أيدي الحكام وسائل للقمع
الاجتماعي والسياسي، الأمر الذي جعل من الوسائل السابقة كمصادر للشرعية
والسيطرة على الشعب تبدو وكأنها لا قيمة لها.
إن موضوع القمع، كوسيلة للحفاظ على النظام والسلطة، يبدو وكأنه بديل
مناسب لغياب شرعية النظام والسلطة، وهو يسمح أحياناً للسلطة بالاستمرار
والديمومة لفترة قد تطول، الأمر الذي قد يعطيها فرصة أو محاولة لإرساء
شرعية خاصة بها. ومن ناحية مقابلة، فإن القمع يشكل ثقلاً معيقاً
للسلطة. فهي في مأزق صعب، إذ تعرف أن لا بد لها من أن تقمع لكي تستمر،
وتدرك أيضاً أن ممارسة القمع يؤخر إن لم يلغ بناء شرعيتها من خلال قبول
ورضا المواطنين لها. |