يتصدر العنف السياسي قائمة العنف في القرن الحادي والعشرين، فهو
من أخطر أنواع العنف وأكثرها انتشارا على الإطلاق؛ لكثرة المبررات
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يحتمي بها دعاة العنف السياسي،
حيث يجد رجال السياسية والأحزاب السياسية والأيديولوجية في العنف
السياسي طرقا سهلا لتحقيق طموحاتهم في السلطة، أو رغباتهم في المحافظة
عليها.
إن مفهوم العنف السياسي بحسب دراسة حول "ظاهرة العنف السياسي في
مصر..." ينصرف إلى " توظيف آلية العنف بشكل منظم لتحقيق أهداف سياسية،
قد تتمثل في الوصول إلى السلطة السياسية أو على الأقل التأثير عليها،
وهنا نكون إزاء عنف منظم من جانب المعارضة. كما قد تكون تلك الأهداف هي
ضمان السيطرة على السلطة السياسية والتشبث بها، وهنا نتحدث عن عنف من
جانب النظام نفسه".
وقد برز في الآونة الأخيرة نوع من العنف السياسي، مضافا إلى عنف
الحكومة ضد المعارضة، وعنف المعارضة ضد الحكومة، وهو عنف الحكومة ضد
الحكومة، أو بتعبير أدق عنف أطراف حكومية ضد أطراف حكومية أخرى. ويحصل
هذا النوع من العنف عندما تتألف الحكومة من أحزاب سياسية غير متفق على
برنامج سياسي موحد، فتسعى بعض الأحزاب من خلال رجالها في البرلمان
والسلطة (نواب، وزراء، إداريين، رجال أمن إلى آخره...) إلى استخدام
أساليب ابتزازية ضد الحكومة وممارسة الضغط عليها لتحقيق مكاسب حزبية أو
فئوية من خلال وجودها في السلطة.
ويبرر هذا العنف السياسي مرة بان أطرافها إنما اشتركوا بالسلطة
مضطرين للحفاظ على أنفسهم ومكاسبهم؛ وتارة أن الأطراف الحكومية القوية
تمارس ضدهم نوع من التهميش للسلطة!.
يبدأ العنف السياسي –عادة- من أروقة السلطة وقصور الرئاسة؛
فالحزب الحاكم الواصل للسلطة لتوه، يمارس من طرفه نوع من الاستبداد
والعنف السياسي اتجاه الأحزاب الأخرى، سواء عن طريق استصدار التشريعات
والقوانين التي تصب لمصلحة الحزب وأعضائه، أو عن طريق قرار استئصال
معارضيه أو مخالفيه الذين يشكلون خطرا على مستقبل وجوده في السلطة، ثم
أن نفس أعضاء الحزب الحاكم يمارسون من داخل الحزب عنفا سياسيا ضد بعضهم
البعض يمكن أن نسميه بالعنف السياسي الداخلي لتحديد صاحب الرأي ومصدر
القرار الأول حيث أن أعضاء الحزب الحاكم يأتون جمعهم إلى السلطة وهم
متقاربون من حيث سلطة بعضهم على بعض، وتجمعهم في الغالب علاقات
الصداقة، ولكن وصولهم إلى السلطة، وتطلب وجود قائد يصدر القرارات
ويطيعه الآخرون، يحتم وجود علاقات متوترة بينهم، وبالتالي، اللجوء إلى
العنف في كثير من الأحيان.
وقد يبدأ العنف السياسي من أطراف سياسية خارج السلطة، تجمع قواها
لتأليف معارضة قوية تناهض الحزب الحاكم وتطالب بحقوقها السياسية،
كالمشاركة في السلطة، أو الاستحواذ عليها، فتتجه الحكومة إلى مقاومة
هذه المجاميع السياسية المتمردة بممارسة العنف السياسية المنظم ضدها
مثل: حل هذه الأحزاب وحظرها، أو تهديد أعضائها، أو سجنهم، أو قتلهم...
وأيا كان الطرف الفاعل في ممارسة العنف ( عنف رسميا أم غير رسمي
أو شعبيا ) فان اللجوء إلى العنف يعبر عن وجود أزمة في المجتمع ترتبط
درجة حدتها بمستوى ممارسة العنف على الصعيدين الكم والكيفي.
والواقع أن ظاهرة العنف السياسي تعتبر ظاهرة عالمية، لا يكاد يخلو
أي مجتمع معاصر منها، وينحصر الفارق بين المجتمعات في هذا المضمار في
درجة ممارسة العنف وفي نسبية أسباب الظاهرة.
ونظرا لتعقد ظاهرة العنف السياسي وتعدد متغيراتها ، تعددت
الاتجاهات والمدارس في تفسير أسباب هذه الظاهرة ، وتباينت باختلاف
المنطلقات الفكرية والسياسية بل والتخصصات العلمية للباحثين .
لقد أختلف الباحثون في تحديد أسباب العنف السياسي. فقد خلصت
دراسات أكاديمية كثيرة منها: دراسة أجراها ميلر عام 1985 في "56" دولة
إلى وجود علاقة مطردة بشكل دائم بين عدم المساواة في توزيع الدخل
والقهر الاجتماعي، وبين العنف السياسي. كذلك فان أعمال العنف التي كانت
إما على شكل إضرابات أو تظاهرات أو أحداث شغب التي مارستها قطاعات
وشرائح من العمال والطلبة وبعض الجماعات الإسلامية، وحتى بعض القوى
اليسارية في فترة السبعينيات والثمانينيات كانت مرتبطة أساساً بقضية
العدل الاجتماعي والاحتجاج على الفجوات الاقتصادية والاجتماعية المجحفة
والمطالبة بتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً. ومرجع هذه الأزمة أنه كلما
ساءت عملية التوزيع العادل للثروات وتضخمت التناقضات الاجتماعية
والاقتصادية، ساد إحباط فردي وسخط جماعي يمهد لإحداث سلسلة من بؤر توتر
وصراع يهدد بالانفجار متى سنحت الفرصة.
وكذلك أحداث الشغب التي عرفتها الأقطار العربية مثل مصر 1977،
وتونس 1981، 1984 والمغرب 1984، والسودان 1981، 1985، كانت نتيجة قيام
حكومات هذه الأقطار برفع أسعار السلع الأساسية وتخفيض الدعم وذلك
تنفيذاً لتوصيات صندوق النقد الدولي.
بينما يعتقد البعض أن أسباب العنف السياسي تكمن في السلوك
المنحرف للسياسيين ورغبتهم في الوصول أو الحفاظ على السلطة وهم في سبيل
ذلك يسخرون الأسباب الكبيرة والصغيرة، ويجمعون المتناقضات الاجتماعية
والاقتصادية؛ ويرجع ذلك إلى قوة الدوافع السياسية وقدرتها على النمو
واستجماع عناصر التواصل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. حيث يمارس
العنف السياسي من قبل أشخاص ينتمون إلى أحزاب أو منظمات سياسية أو
يعملون على تشكيلها بأنفسهم، لهم طموحات في القيادة والإدارة، وهم
يسعون إلى الوصول إلى أهدافهم بطرق وأدوات متعددة، وقد لا يفرقون كثيرا
-وهم يعيشون نشوة الطموح-بين الأدوات الشرعية أو المشروعة، والأدوات
غير الشرعية أو غير المشروعة، فالذي يقرر الأداة المناسبة للتعامل مع
الخصوم هو الظرف، وحجم العقبة التي تقف في سبيل الهدف.
فربما يلجا السياسيون الطموحون إلى استخدام الدبلوماسية العالية
والعلاقات المتداخلة، ثم تتدرج إلى شراء الذمم ودفع الرشا، وتتسلسل إلى
التهديد بالفصل من الوظيفة أو التهديد بالقتل، وتبلغ ذروتها إلى قتل
عدد كبير من الناس وسحقهم تحت شعار تحقيق مطالب "المعارضة" أو حماية
السلطة "الحكومة".
فالعنف السياسي في حقيقته ليس عنفا اجتماعيا أو اقتصاديا بل هو
سلوك منحرف وعنف يدور حول السلطة ويتميز بالرموزية والجماعية
والإيثارية والإعلانية، ولكنه يأخذ طابعا ظاهريا يتستر به، مثل: أن
يكون العنف السياسي قوميا، أو يكون اقتصاديا، أو يكون اجتماعيا، أو
يكون دينيا أو مذهبيا .
رأي ثالث يرى أن العنف السياسي سواء كان لسبب اجتماعي أو اقتصادي
أو كان بسبب نفساني والرغبة في السيطرة والتحكم، فان العنف السياسي
ظاهرة تكاد أن تكون طبيعة في سلم الصراع من أجل الديمقراطية؛ فعلى سبيل
المثال هناك عنف سياسي ظاهر للعيان في العراق، وهو يمثل الصراع بين
إرادات تريد أن تحدث تغيرا في أساليب إدارة الحكم في العراق، وبين
إرادات تريد أن تحافظ على سطوتها ونفوذها، لان الديمقراطية والسلم
الأهلي لا يمكن أن يقوم بوجود هاتين الإراديتين المتناقضتين، فيجب أن
تذهب إحداهما وتظل الأخرى، فان أذعنت إرادة التغير لإرادة السطوة
اختفت الديمقراطية والحكم الصالح، وأن تغلبت إرادة التغير على إرادة
السطوة، عاش الناس في أمان وحرية واستقرار.
وهذا يعني أن الانتقال من مرحلة العنف والاستبداد والقسوة
المتجذرة في النفوس إلى مرحلة اللاعنف واللين واحترام الآخر هي أيضا
بحاجة إلى زمن طويل. وكثيرا ما يصاحب الانتقال نحو المدنية هدر الأموال
والدماء، فالتجربة الديمقراطية في أوربا وفي فرنسا بالذات اقترنت
بالكثير من الانتهاكات وأعمال العنف الوحشي وقطع الرؤوس بلا حساب.
واحتاجت فرنسا وأوروبا الغربية إلي وقت طويل لتستقر الدولة على أسس
ديمقراطية برلمانية وسريان مبدأ الفصل بين السلطات وسيادة القانون
واحترام القضاء واستقلاله. وكان للمفكرين والفلاسفة والكتاب المتنورين
دورا أساسيا في ترسيخ مفاهيم التسامح، والمواطنة، وسلطة القانون.
إلا إننا نرى أن العنف السياسي اقتصادي كان أو اجتماعي، نفساني
كان أو طبيعيا في سلم الصراع بين الخير والشر، يناقض العمل السياسي،
وأن من الخطأ الفاحش أن نطلق على العنف بأنه سياسي، من حيث أن العمل
السياسي بطبعه يتطلب ممارسات دبلوماسية وعلاقات وثيقة، ولقاءات ودية
دائمة، واحترام وجهات النظر، والتفاوض والقبول بالحد الأدنى من المطالب
السياسية، والرضا بالتوافقات، والإيمان بالشراكة الاجتماعية والسياسية،
وربما تنازلات للصالح العام، بينما العنف السياسي هو سلوك منحرف يريد
أن يؤثر على نتائج العملية السياسية من خلال استخدام أدوات ضغط إكراهية
تجعل الطرف الآخر يذعن إلى مطالب فرقائه، فهو استخداما فعليا للقوة أو
تهديدا باستخدامها، لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والإتلاف بالممتلكات،
وذلك لتحقيق أهداف سياسية مباشرة أو أهداف اقتصادية أو اجتماعية أو
ثقافية لها دلالات وأبعاد سياسية.
إذن العنف السياسي ليس من العمل السياسي، بل هو نتاج عوامل نفسية
وعقد متراكمة لأشخاص استطاعوا أن يلعبوا على الاختلافات والمتناقضات
الاجتماعية والاقتصادية، ولو وعت الشعوب على حالها لوجدت نفسها أول
الخاسرين من ممارسة العنف السياسي، وآخر الرابحين إن كان في العنف
ربح!.
إننا اليوم بحاجة إلى حل هذه المتناقضات بالطرق السلمية وليس
أمامنا إلا العمل السياسي السلمي.
كتاب "إذا قام الإسلام في العراق" للإمام السيد محمد الشيرازي
كان منهجا يستوعب سائر المراحل التاريخية والسياسية والاجتماعية التي
شهدها عراق، وهو مشروع واسع وعميق وجدي، تناول الكثير من المشاكل
المتوقع حدوثها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين مثل عدم تلويث
الثورة والحكومة، والعفو العام، وحسن السمعة، والدستور والتدرج في
التطبيق والقوانين الحيوية. ومثل امتلاك القدرة وتوزيعها والحريات
وتقوية الأمن والاهتمام بالخبراء واحتضان الخبرات والتعاون مع الاعتراف
بحق الأقليات والأحزاب وبناء علاقات دولية والمحافظة على حسن الجوار
والنهوض الاقتصادي والعمل على الاكتفاء الذاتي ومكافحة البطالة والقيام
بعملية الإصلاح الإداري وتوفير الحاجات الأساسية وتبسيطها ليستطيع
المواطن البسيط تناولها ومحاربة الفساد والقيام بالإصلاح الاجتماعي
والعدالة والمساواة.
ومثل وجود الأحزاب والمنظمات والمؤسسات الدستورية التي يحركها نظام
التعددية الحزبية لمراقبة عمل الحكومة وتقويم الانحراف بالأهداف وحتى
لا تنجرف أمام الاستبداد لأنه هش لا يمتلك القدرة الواقعية وإن أمتلك
القوة العسكرية.
الساسة العراقيون هم بأمس الحاجة اليوم الى قراءة هذا الكتيب ولو
قرأوه سابقا وطبقوه لاستطاعوا حل الكثير من المشكلات وتجاوز الكثير من
السلبيات التي يمر بها العراق اليوم، وهم مدعوون اليوم لقراءته للعبور
بالعراق نحو الأمن والازدهار والاستقرار.
*مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |