من يسمع من العراقيين آلامهم؟

 شبكة النبأ: العراق الحزن والحرائق والدمار، مهانة الانسان وتدمير الحياة وتحويل اخضرارها الى هشيم تقف على رماده كل الرؤى الانسانية عاجزة تماما من ان تحمي غصنا واحدا من السنة النيران المستعرة.

طوفان القذارة كلها يطوي نظافة الطفولة وجهاد الانسان المقدس نحو كماله البشري، اغلقت الينابيع حتى دموعها الزلالية على رفات الذاهبين واغلقت الطرقات ابوابها امام الآتين، ارض من دخان وموت تتصدى لمن توهموا بانهم ربما يجدون في ارض العراق رمقا من حياة او عرق اخضر.

ويأتي الم العراقيون في كتاباتهم التي تنز المأساة منها ليس في السطور المكونة لقصصهم وانما ايضا الحروف تبكي وتستغيث وهي تتشبث في عروق واهية تتدلى من جرف هار.

فيما يقف النخيل وجلالة رمزه بانكسار، نازفا من جروح عميقة.

قراءة كتاب "جروح في شجر النخيل" الذي وصفت محتوياته بأنها "قصص من واقع العراق".. تبدو حينا كأنها طوفان كاسح جارف من أحزان لا حدود لها وحينا آخر أقرب الى آلام حادة في أعماق الوجدان مغلفة كما في كل فاجعة مماثلة بشكّ وبقرف من قيم عصرنا وما فيها من نفاق.

وقد يجد القارىء نفسه يتساءل كما في حالات كثيرة عن قدرة الفن على نقل الواقع ثم تطل عليه بوجهها النظرية التي تقول نقيض ذلك أي ان الحياة تحاكي الفن. الحالة الأخيرة قد تكون نتيجة فواجع كثيرة في الحياة تبدو غير معقولة وتظهر كأنها محاكاة لخيال رهيب فيه كثير من الهول والمرض.

ولعل الرمز غير العادي والأكثر وضوحا في الدلالة على مآسي العراقيين ان يلجأ الصليب الاحمر الدولي( كما نقلت رويترز) الى تمويل نشر كتابات عدد من الادباء عن معاناتهم ومعاناة سائر العراقيين الرهيبة وذلك من اجل لفت نظر الاطراف كافة بل العالم نفسه الى ما يجري في عالم الموت والآلآم العراقي.

وقد جاء الكتاب في 263 صفحة متوسطة القطع وصدر عن دار "رياض الريس للكتب والنشر". جميع الحقوق العائدة الى الكتاب تعود الى اللجنة الدولية للصليب الاحمر.

أما لوحة الغلاف فللفنان العراقي بلاسم محمد ولوحات الداخل للنحات العراقي محمد غني حكمت وتصميم الغلاف للبناني محمد حمادة.

كتب مقدّمة الكتاب الروائي اللبناني الشهير المقيم في فرنسا امين المعلوف، وحمل الكتاب نتاجا لخمسة عشر اسما بين كاتب وكاتبة.

وصفت كلمة الناشر الكتاب بالقول "شارك في تأليف هذا الكتاب عدد من الكتاب والفنانين العراقيين من مختلف المذاهب والأعراق جمعت بينهم محنة الوطن، كل عبّر بأسلوبه عما عاشه وعاناه وشاهده... اللافت في شهادات الكتاب انها لا تتصل بالسياسة، فقط تحكي عن حفلة مجون وجنون تضرب هذا البلد وشعبه من عقود ولا تزال... وشعب باتت أحلامه كوابيس... وقصصه ليست مشاهد عابرة أو حكايات مثيرة، الأمل كل الأمل ان يُحَرك ساكنا."

قال امين المعلوف في المقدمة "الأهوال كادت تنسينا عراقنا الأحب، طمر حيا أمام أعيننا لم نكترث، جلد ومزق وأهرق دمه، راح ضحية الجميع بلا استثناء، ضحية الآباء والابناء والاشقاء والأعداء وأعداء الأعداء، طمر حيا أمام اعيننا وكل منا رمى على الضريح حفنة من تراب وتمتم نصف صلاة ثم ادار ظهره وأسلم ضميره للنسيان."

وختم المعلوف بالقول "نفتح الكتاب.. نقرأ.. نصمت.. ثم نقرأ ونقرأ.. نغلق الكتاب.. نتأمل طويلا ثم نفتحه من جديد.. نتصفحه.. نقرأ ونقرأ ونقرأ.. نبتسم ونبكي ثم نضمه الى صدرنا ونصرخ.. عار على زمن يدعي النور وينشر في الارض الظلام عار على زمن يدعي الايمان ولا يزرع في القلوب الا الحقد والكفر عار على زمن يحول المباديء والقيم الى أدوات للتسلط والقهر والتدمير.. عار على جيلنا اذا ترك الموت يخمد نبرات الحياة."

أما كارل ماتلي رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الاحمر فقد كتب كلمة بعنوان "لماذا العراق؟.." قال فيها "من غير المعهود للجنة الدولية للصليب الاحمر ان تمول كتابا لا يتطرق مباشرة الى الامور المتعلقة بالعمل الانساني او باحترام القانون الدولي، لكن في العراق ربما اكثر مما في اي بلد اخر تعمل فيه اللجنة الدولية فرضت فكرة الكتاب نفسها نتيجة الصعوبة المتزايدة للالتزام كليا بمهمة المنظمة على الرغم من سعيها الدؤوب لذلك، لذا وتعزيزا لجهودها الرامية الى لفت انتباه السلطات والاطراف المعنية الى واجباتها حسب قانون الحرب ارتأت اللجنة الدولية للصليب الاحمر منح منبر للعراقيين لاسماع صوتهم فوق صخب العنف..."

وكتبت ندى دوماني مسؤولة الاعلام في بعثة اللجنة الدولية للصليب الاحمر الى العراق تقول "انها مجموعة حكايات لنساء ورجال لم تدون بهدف القاء اللوم او اصدار احكام سياسية فجاءت محصلتها كتابا مليئا بالدموع وخاصة بالكرامة الانسانية..."

اما الكتّاب والكاتبات الذين ساهموا في هذا العمل فهم.. احمد سعداوي واحمد خلف وإرادة الجبوري واسماء مصطفى محمد وتيلي امين وحسن العاني وخضير الحموي وسلوى زاكو وصباح ارام وطورهان كتانة وعماد كاظم حسن ولطيفة الدليمي ومحمد سهيل احمد ونرمين المفتي وهناء حسن غالب.

قصص جروح اشجار النخيل البالغة هذه.. بليغة في ما تقوله وكل منها تتناول وجها من وجوه المأساة الكثيرة. الموت والفقد والاطراف المبتورة وعائلة تنتظر عودة مفقود أو إعادة جثته.. والتشرد والتمزق والحزن والالم في كل هذه الحالات.

وبشكل عشوائي من حيث الاختيار نقرأ نموذجا من نماذج قصص جروح العراقيين وأحزانهم نموذج هو قصة احمد سعداوي وعنوانها "صورة لجسد ناقص".

تبدأ القصة بنقل صار يبدو "عاديا" لالام غير عادية، "ادفع بالكرسي المدولب على حافة رصيف الشارع باتجاه البيت والامطار تزخ بغزارة، كنا نقترب انا وعمي المعوق الجالس بجسده المترهل في الكرسي من منتصف الليل حين تحول الرذاذ المطري لليلة شتائية من منتصف الثمانينات.. الى زخات عنيفة تعودت هذه الرفقة مع عمي الى حيث يشاء ولكنني تجاهلت في تلك الليلة انزعاجه من قيادتي السيئة لكرسيه المدولب والالم الذي يمكن ان أُسببه في ساقه اليمنى المربوطة بالبلاتين.. سعيا مني لاختزال هذا التجوال الليلي بأقصر وقت ممكن.

"الذراع اليمنى المبتورة من أصل الكتف والساق اليمنى التي كادت تبتر من أصل الورك لولا عمليات جراحية معقدة.. كانا جانبين في جسد منقوص.. منحاني مواجهة اولى من هذه المسافة القريبة مع واحدة من اقسى نتائج الحرب، هذه الحرب التي لم أكن أفهمها بسبب صغر سني ولكنها كونت في مآلها النهائي صورة طفولتي الكاملة والجزء الأكبر من حياتي اللاحقة..."

ويختصر الحياة في عالم من هذا النوع بالقول "الروح هنا تتبع نداءات الجسد.. لا الشهوانية منها بل تلك المرتبطة ببقاء الكائن... مجرد البقاء.. بقاء الجسد فقط - لا احد يفكر بالروح في الغالب - هو انتصار وأيما انتصار في معركة مفتوحة على الجهات كلها وفي الاوقات كلها أيضا.. هذه التي تسمى حياة عراقية."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 23 آيار/2007 -5/جمادي الأول/1428