المأزق الأمريكي في العراق بات جليّا وتفاصيله لم تعد تخفى على
أحد !. فعلى أمريكا أن تتعامل على ضوء المعطيات والموجودات على أرض
الواقع العراقي الغارق في مصائبه. ليس هناك أمل موعود في إنفراج الحالة
العراقية أو تبلور الموقف وتحسنه رغم الخطط الأمنية المتوالية
والإجراءات العلنية والسرية التي تجريها الإدارة الأمريكية في العراق
وخارجه!.
لقد بدأ الصبر الأمريكي ينفذ، حيث كان ذلك واضحا من خلال الإنشقاق
الحاصل في الرأي العام الأمريكي ورأي رجال السياسة الأمريكيين وحتى بين
أعضاء الحزب الجمهوري الحاكم بل وبين رجالات الإدارة الأمريكية الحالية
نفسها!. إذ أن رقعة المعارضة لجدوى بقاء القوات الأمريكية في العراق
وهي تنزف الدم والمال وبشكل مستمر، بدأت تكبر وتتسع مع مرور الأيام
وحركة الزمن!.
الحلول المطروحة أمام الإدارة الأمريكية صعبة ومعقدة وليس من
السهولة لهذه الإدارة المتشددة نسبيا أن تتقبل نتائجها وآثارها. فليس
أمام هذه الإدارة سوى أحد أمرين وكلاهما صعب ومؤلم وأحلاهما مرّ وهما:
امّا انسحاب الجيش الأمريكي من العراق وإعلان الفشل أو البقاء في
العراق وتحمّل الخسائر المستمرة والجسيمة!. فإعلان الفشل والإنسحاب
المجرد يعني هروبها أمام أعدائها وانتصارهم عليها، ويعني أيضا إنكسار
الهيبة الأمريكية كأكبر قوّة ستراتيجية وعسكرية في العالم.
وحيث أن الثمن سيكون باهضا جدا، إذ لا يعني ذلك سقوط سمعة أمريكا
أمام العالم فحسب وإنما يعني تهديد مصالحها الستراتيجية في هذه المنطقة
الهامة من العالم!. أما بقاء قواتها في العراق فيعني إستنزاف قواها
الجسدية والمادية وبقاءها في نفق مظلم ومدلهم ليس فيه بصيص من نور!.
كما أن الرأي العام الأمريكي سوف يجبر الإدارة الأمريكية إن عاجلا
أم آجلا على هذا الإنسحاب الذي سيكون مطلبا شعبيا عاما وملحا بعد تراكم
الخسائر الثقيلة وإزدياد فداحتها.
قد يرى المحلل السياسي سيناريوهات محتملة، عملية وممكنة لخروج
أمريكا من المأزق العراقي الصعب وحسب المراحل أو الصفحات التالية:
1- مرحلة المراقبة:
سوف تحاول الإدارة الأمريكية المماطلة وكسب الوقت أملا منها في
إنحسار الموقف العراقي وتحسن الحالة، خصوصا بعد التنازلات التي أبدتها
الإدارة الأمريكية أمام بعض الفصائل المسلحة في العراق خلال مفاوضاتها
معها وإستمرارية خططها الأمنية والعسكرية والتي تأمل من ورائها السيطرة
على الأعمال المسلحة المكثفة التي تتعرض لها في البلاد. ستدوم هذه
المرحلة على الأرجح لفترة تتراوح بين 4 الى 8 شهور. فإن أفلحت هذه
الإدارة في خطتها وإستتب الأمن أو على الأقل تحسن الموقف، فستستمر في
مراحل برنامجها المثبته سابقا مع بعض التنقيحات والترتيبات التي
تقتضيها المرحلة. وأن بقيت الأوضاع على ما هي عليها الآن أو تفاقمت
الحالة فستنتقل هذه الإدارة في إجراءاتها الى المرحلة الثانية وهي
مرحلة الإنسحاب.
2- مرحلة الإنسحاب:
تحاول أمريكا سحب قواتها أما كليّا أو جزئيا من العراق وذلك
بإبقاء بعض القواعد العسكرية في بعض الأماكن الآمنة من العراق كمناطق
إقليم كردستان مثلا. أن التحضيرات لمرحلة الإنسحاب هذه ستكون متواكبة
ومتزامنة مع تحضيرات أخرى لحدثين هامين وستراتيجيين يسيران بخطين
متوازيين مع مسيرة التحضيرات الأولية لعملية الإنسحاب العسكري من
العراق وهما وعلى وجه التحديد: إستبدال حكومة المالكي الحالية بحكومة
ليبرالية وتوجيه ضربة عسكرية قاسية لإيران.
3- مرحلة إستبدال الحكومة العراقية
الحالية:
بعد فشل الخطط الأمنية الجارية الآن في العراق ستكون حكومة المالكي
في مأزق خطير وكبير. فهذه الحكومة لم تعد قد حققت ما وعدت به الشعب من
أمن ورفاه وإستقرار ورخاء، وما عليها إلاّ أن تتنحى عن سدة الحكم لفسح
المجال أمام حكومة إنقاذ وطني تنقذ البلاد من الهوّة التي هي فيها.
إن دواعي إسقاط هذه الحكومة ستكون مبررة، فالبكاء عليها سوف لن
يكون واردا في الحسابات العملية، والدفاع عنها سوف لن يكون مطلبا ملحّا
عند العراقيين الذين فقدوا الثقة والأمل بكل شيء!.
ثم أن الإئتلاف العراقي الموحد الذي أتى بالسيد المالكي يوم أمس
يتآكل شيئا فشيئا هذا اليوم وربما لن يبقى فيه إلاّ المالكي لوحده مع
مرور الأيام وحركة الزمن!.هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن اياد علاوي زعيم
القائمة العراقية يتحرك بكل الإتجاهات من أجل تكوين جبهة سياسية عريضة
تستطيع فرض نفسها على الساحة السياسية العراقية بعد تسديد الضربة
القاضية لحكومة المالكي المتعبة. وهذا ما سوف يفسح المجال،عند ساعة
الصفر، أمام حكومة ليبرالية تحضى بالدعم الأمريكي وبعض دول الجوار،
وتعتبر مكسبا للإدارة الأمريكية يلطف من حرارة الجو السياسي الأمريكي
الحار والعاصف.
4- مرحلة ضرب إيران:
من المرجح أن يتزامن الإنسحاب الأمريكي من العراق بتحضيرات لضربة
جوية موجعة لإيران في حالة إصرارها على الإستمرار في نشاطها النووي،
تدمر فيها منشآت إيران النووية والإقتصادية، كي يزول الخطر النووي
الإيراني عن المنطقة وربما الى الأبد!.
وهنا تكسب أمريكا فائدة مزدوجة: الأولى هي القضاء على المشروع
النووي الإيراني وبهذا ستنال رضى الأوربيين الذين أثاروا ضجة صاخبة
إبان إكتساح أمريكا للعراق، فيتلطف الجو وتزول الغمة من جهة ومن جهة
أخرى ستغطي أمريكا على ظلال فشلها في العراق إذ سيتحدث العالم عن
الضربة الجويّة الأمريكية لإيران أكثر منه عن الإنسحاب . وهكذا تضرب
أمريكا "عصفورين بحجر واحد"!، أي تهرب من محكمة الفشل أمام شعبها
والعالم وتبدل هذا الفشل بالإنتصار. حيث ستعلن أمام العالم نبأ تخليص
الإنسانيّة من خطرالسلاح النووي الإيراني!.
5- مرحلة تحريك عملية السلام في
الشرق الأوسط:
من المرجح أن توقظ أمريكا "عملية السلام" النائمة من سباتها الطويل
والعميق لتكون واجهة جديدة لمشروع جديد، وذلك طبقا للعادة الأمريكية
إبان الظروف الصعبة!. سيكون الحديث عن التفاوض والسلام على أوج عظمته
في هذه الفترة الإنتقالية، وهنا تحقق أمريكا بعض المكاسب المعنوية
والستراتيجية تسهّل عليها تجرّع مرارة علقم الفشل في العراق من جهة ومن
جهة أخرى سوف تقنع العالم الإسلامي الذي ربما يحتج على ضربة إيران!.
أن المراحل الأربعة الأخيرة قد تكون متزامنة مع بعضها من حيث
التحضيرات والتوقيت، إلاّ أنه من المتوقع أن لا تبدأ أمريكا ضربتها
الجوية لإيران إلاّ بعد إنسحاب قواتها البرية من المدن العراقية، تجنبا
للإمتعاض الشيعي ولردود أفعال مسلحة ربما تحصل من قبل المناصرين لإيران
والمتعاطفين معها، وهذا ما قد "يزيد الطين بلّة" حسب تعبير المثل
العربي الدارج، ويوسع ساحة المقاومة أمام القوات الأمريكية المنهكة
أصلا!.
كما أن الإعلان الرسمي عن الإنسحاب الأمريكي من العراق ومجيء حكومة
إنقاذ وطني لا يعني بالضرورة إنتهاء العمليات المسلحة وأحداث العنف
التي تضرب العراق حاليا ولا يعني إنتقال العراق الى مرحلة أحسن أو أهدأ
عما عليه الأوضاع السائدة الآن، بل قد تكون الأمور أسوأ وأشد!
هذه سيناريوهات محتملة الوقوع في المسار الأمريكي الشائك في العراق
وهي ليست أكيدة بطبيعة الحال، إذ أن الموقف بشكل عام حسّاس ومتغيّر
ويتحمل كلّ الفرضيات والإحتمالات الأخرى! |