مصطلحات انثروبولوجية: التثاقف (التكيف الثقافي)

مصطلحات انثروبولوجية: التثاقف (التكيف الثقافي)

Acculturation 

شبكة النبأ: التثاقف هو العملية التي يستطيع الفرد أو الجماعة عن طريقها اكتساب الصفات الحضارية لجماعة أخرى من خلال الاتصال أو التفاعل بينهما. غير أن التثاقف بالنسبة للفرد هو عملية تعلم اجتماعي أشبه بعملية التنشئة الاجتماعية التي تلعب فيها اللغة دوراً جوهرياً. أما بالنسبة للمجتمع فالتثاقف هو عملية انتشار القيم والمقاييس والأحكام الاجتماعية إلى المجتمعات الأخرى مع تعرضها لعملية التبدل التي تجعلها منسجمة مع ظروف وأحوال المجتمعات التي دخلت إليها. غير أن هذه المقاييس والقيم والأحكام التي دخلت إلى هذه المجتمعات غالباً ما تسبب لها ظاهرة الصراع الحضاري أي الصراع بين القيم الأصيلة والقيم الدخيلة. 

 

متعلقات

 

مسألة التثاقف(1)

تعد مشكلة التثاقف من المشكلات الفلسفية التي تثير اليوم اهتمام المفكرين على اختلاف مشاربهم، ويتجلى ذلك في الندوات الثقافية التي تعقد في هذا الموضوع، وفي المقالات والكتب التي تنجز تحت عناوين لها علاقة بمشكلة التثاقف، نذكر منها على سبيل المثال يلي: كتاب Figures d’altérité لجون بودريار، وكتاب Etrangers à nous-même لجوليا كريستفا وكتاب الحرب الحضارية للمهدي المنجرة... الخ. وأوضح في هذا السياق بأنني سأركز في مقالتي هاته على تناول مشكلة التثاقف من ثلاث جوانب أساسية:

ـ الجانب الأول: سأعمل فيه على تأطير مشكلة التثاقف تأطيرا فلسفيا وتاريخيا، لأن وضع المشكلات في سياقها التاريخي والفكري يساعد وييسر عملية الفهم والمساءلة.

ـ الجانب الثاني: سأنتقل فيه إلى تحديد معنى الثقافة والتثاقف.

ـ الجانب الثالث: سأبرز فيه بصورة موجزة كيف يمكن للمثقف العربي أن يساهم في عملية دعم ثقافته لمواجهة ثقافة الغرب الذي ينزع اليوم تحت فكرة العولمة إلى نمذجة ثقافته.

أولا: تأطير مشكلة التثاقف

الحديث عن مشكلة التثاقف هو في الأصل حديث عن مشكلة الغيرية التي ركز فيها ممثلو الفلسفة الحديثة والمعاصرة على مساءلة العلاقة بين الذات والغير، أي مساءلة العلاقة القائمة بين "الأنا والأنا الذي ليس أنا" كما يقول جان بول سارتر، ومشكلة الغيرية هاته من المشكلات الفلسفية التي تبلورت مع التحولات العميقة التي عرفتها أوروبا في القرن 18 على المستويات الثلاث الآتية:

1 – التحولات الاقتصادية: التي تجسدت مع الثورة الصناعية في إنجلترا.

2 – التحولات السياسية: التي تبلورت مع الثورة السياسية الفرنسية سنة 1789 بزعامة فلاسفة الأنوار الذين حملوا شعار "لتكن لديك الشجاعة على استخدام عقلك". إنها لحظة الدعوة إلى التخلص من الوصاية التي كانت تفرضها الكنيسة على الإنسان في أوروبا.

3 – التحولات الثقافية: التي عرفتها ألمانيا بزعامة عدة مفكرين وأدباء كهيجل وكانط ونيتشه وغيرهم.

ومشكلة التثاقف أو ما يسميه الفلاسفة بمشكلة الغيرية من المشكلات الفلسفية القديمة الجذور بمعناها المفهومي، بحيث نجد مفاهيم لها علاقة بمشكلة التثاقف في الموروث الفلسفي اليوناني وكذلك في الموروث الفلسفي العربي الإسلامي القديم مثل مفهوم: الذات، الآخر، الفقيه، الفيلسوف الخ. أما في الفكر الحديث فإن مشكلة الغيرية كمشكلة فلسفية لم تثر إلا مع هيجل في مؤلفه فينومينولوجيا الروح الذي تحدث فيه عن نظرية "جدلية العبد والسيد" وجاءت كرد فعل على مشكلة الذات أو ما يسمى بفلسفة الوعي التي أثارها ديكارت في القرن 17 من خلال مفهوم الكوجيطو.

فضلا عما تقدم تؤكد كتابات السوسيولوجيا الكولونيالية على أن مشكلة التثاقف من المشكلات التي ظهرت مع ظاهرة الاستعمار التي عرفتها دول العالم الثالث، وظهور ما يسمى بالحركات التحررية التي حاولت التصدي للمستعمر ومقاومته بكل الوسائل المتوفرة لديها. والسؤال الذي يطرح الآن هو: ما معنى الثقافة وما معنى التثاقف؟

ثانيا: الثقافة، التثاقف.

أ – الثقافة:

يقول محمد عابد الجابري في مقال له تحت عنوان: "العولمة والهوية الثقافية" في مجلة فكر ونقد العدد السادس من سنة 1998، معرفا الثقافة "بأنها ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطور بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء، وبعبارة أخرى إن الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده

وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل".

وفي تعريف آخر للثقافة يقول كارل ماركس إن الثقافة هي ذلك الوعي الاجتماعي الذي يتحدد انطلاقا من نوعية البنية الاقتصادية السائدة في المجتمع. ويوضح ذلك في قوله: "إن الحياة المادية هي التي تحدد الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عامة، وليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل على العكس من ذلك، إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". وفي سياق الحديث عن الثقافة أو الوعي الاجتماعي يشير كارل ماركس إلى أن هناك نوعين من الثقافة (الوعي):

ـ هناك وعي أو ثقافة خاصة بالبرولتاري وهي ثقافة تدعو إلى الثورة وتغيير الواقع القائم الذي يخضع فيه الإنسان العامل للاستغلال في مجال العمل والإنتاج.

ـ وهناك وعي أو ثقافة خاصة بالبورجوازي وهي ثقافة تدعو إلى السلم الاجتماعي والاستقرار لضمان استمرارية الاستغلال والاستفادة.

إذا تأملنا هذين التعريفين للثقافة سيبدو لنا بوضوح أنه ليست هناك "ثقافة نموذجية واحدة وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية أو بتدخل إرادي من أهلها قصد الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة". إذن ما معنى التثاقف؟

ب – التثاقف:

إذا سلمنا بأنه ليست هناك ثقافة واحدة نموذجية، وبأن مشكلة التثاقف من المشكلات التي أثيرت في فترة الاستعمار، فينبغي أن نعلم بأن عملية التثاقف هي:

العلاقة التي تجمع بين ثقافة الأنا وثقافة الأنا الذي ليس أنا.

إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة السيد وثقافة العبد.

إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة البورجوازي المستغل وثقافة البروليتاري المستغل.

إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة الإنسان الغربي المستعمر وثقافة الإنسان العربي المستعمر.

إذن، مما تقدم يبين بجلاء بأن عملية التثاقف علاقة تكشف عن اللاتكافؤ الواضح بين ثقافة الإنسان العربي الذي استغل واستعمر ولا زال، وثقافة الإنسان الغربي المستعمر القوي السيد الذي يراهن اليوم على فكرة العولمة "كأسلوب جديد للاستعمار"، وقد أصبحت ثقافة الإنسان الغربي ثقافة قوية مهيمنة بحكم قوته الاقتصادية والتقنية والعسكرية وهذا ما تجسد مع الغزو الاستعماري بكل بلدان العالم الثالث في مطلع القرن 19 بما في ذلك العالم العربي، وابتداء من هذه اللحظة بالذات فكر الإنسان الغربي المستعمر القوي، السيد، في مسألة تنميط وتكييف ثقافة الإنسان العربي المغلوب والضعيف، على ثقافته تحت فكرة التثاقف. وهذا ما يوضحه الأنثروبولوجي جيرار لكلرك في مؤلفه الأنثروبولوجيا والاستعمار قائلا: "يمكن استعمال التثاقف للإشارة إلى الأنماط التي يتم بموجبها قبول مظهر ثقافي معين في ثقافة أخرى بحيث يتلاءم ويتكيف معها مما يفترض مساواة ثقافية، بين الثقافة التي تعطي وتلك التي تتقبل، والتكيف هو السيرورة التي تتحول بموجبها عناصر الثقافة المستعمرة والمسيطر عليها نحو حالة تتلاءم مع شكل الثقافة المسيطرة". الاستفهام المطروح الآن هو: كيف يمكن أن يساهم مثقف "العالم الثالث" وأقصد هنا المثقف العربي كنموذج، في دعم ثقافته لمواجهة ثقافة المستعمر القوي الذي نزع بالأمس بناء على قوته العسكرية وينزع اليوم تحت فكرة العولمة إلى نمذجة ثقافته وفرضها على الإنسان العربي؟

دور الأديان في مستقبل الحضارات(2)

الإشكاليّة: تثاقف أم تصادم

إنّ التثاقف (acculturation) عمليّة تتمّ في الحركة بين الانفتاح على الآخر وبين العودة إلى الذات. وهي حركة ثقافيّة طبيعيّة تقود إلى السموّ بكلّ ما هو إنسانيّ عامّ واختياره وطرح كلّ ما هو محلّي أو ظرفيّ في الثقافات. فليس من علاقة على الصعيد الإنسانيّ إلاّ ومن شأنها التأثير المتبادل.

يخشى البعض من التثاقف (acculturation) بين الحضارات، وهي الحركة الطبيعيّة، ويترقّبون "صداماً محتملاً" بينها في العصر الذي انتفت فيه الحواجز واشتبكت الثقافات في حوار ومواجهات إجباريّة بسبب من وسائل الإعلام السريعة والبسيطة. كما يذهب صموئيل همنتغتون إلى توقّع حروب مقبلة ذات طابع دينيّ. فنقرأ عن العديدين عن جيو-إسلاميّة مثلاً، أو سواها، وكأنّ هناك سلطة عليا مركزيّة (chef d’orchestre, lobby) واحدة تخطّط لها كما تفعل المؤتمرات الصهيونيّة.

هل يجعل الخلل في التبادل الاقتصاديّ في دنيا العولمة، بين دول فقيرة وأخرى غنيّة، يجعل المعايير الدِّينيّة هي الأفضل لحريّة التبادل؟ إنّ اختلال التوازن في الخيرات يرجح اعتماد الحريّة في التثاقف الدِّينيّ هي الحلّ الأعدل للتعبير عن الذات وإيجاد مكان في عالم العولمة للحياة.

رفاعة رافع الطهطاوي: إشكالية التثاقف والدخول في التاريخ العالمي(3)

 تثير إشكالية التثاقف في موقع الطهطاوي إماما ( لبعثة طلابية أوفدها محمد علي باشا إلى باريس، ومترجما) لفكر فرنسي وإنجازات علمية فرنسية، كانت حينها في أوج تألقها وتجلياتها عبر الانقلاب التاريخي الذي كانت تشهده فرنسا والمجتمعات الأوربية عامة، والمتمثل بشكل أساسي بتحوّل أفكار عصر الأنوار إلى تجارب تاريخية معاصرة، بل ومعاشة بتفاصيلها، بدءًا من تداعيات الثورة إلى قيام مؤسسة الدولة/الأمة، إلى اشتراع دساتير وقوانين المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية التمثيلية وأساليب الاقتراع والانتخاب، تثير إشكالية التثاقف هذه، تأسيساً على ذلك التقاطع في الموقع، جملة من المسائل التي قد تحتاج إلى معالجة متعددة المداخل والفروض. وعليه فإني أقترح هنا مدخلين من المفيد التعبير عنهما بصيغة فرضيتين:

1- المدخل الأول: قوامه أو فرضه يقول بأن جزءا كبيرا مما قام به الطهطاوي سواء على مستوى الترجمة أو المهمات الإدارية الوظيفية، كان ينتظم في مشروع إصلاحي حكومي يتمثل بمخطط حاكم فرد، وبمنهج كان قد شمل العديد من مراكز العالم الإسلامي، (أستنبول، طهران، القاهرة، تونس، المغرب...) وهذا المنهج كان يحمل مصطلح المرحلة أو عنوانها الأساسي (محليا)، وبصورة غالبة (عثمانيا)، وهو عنوان التنظيمات). وقد ساد هذا التعبير منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر حتى أواخره لدى النخب والدبلوماسيين والدارسين. وكان يعني اقتباس أشكال من الإصلاحات الأوربية التي تتعلق بمؤسسات أساسية من مؤسسات الحكم، وهي الجيش والإدارة والتعليم.

أما فيما يتعلق بالنظام السياسي والأفكار الدستورية والحقوقية، وبما تعنيه من حق مشاركة وتحديد علاقات بين مجتمع ودولة، أو حقوق وواجبات مواطنة وهيئة حاكمة، فقد ظل استيعاب تلك الأفكار لدى النخب العربية والإسلامية الموظفة في إدارة الحاكم أو القريبة منه (وكان هذا حال الطهطاوي) متأرجحا بين السكوت والتعبير، كما ظل التعبير عنها بلغة محلية أمرا ملتبسا.

وأسباب هذا الالتباس تعود - في ظني - إلى أمرين:

أولاً: الاعتقاد، من ضمن الثقافة السياسية السائدة في التاريخ الإسلامي، بقدرة الحاكم الطيب أو الخير، على الإصلاح ورعاية شؤون الرعية من موقع مزاجه وإرادته.

ثانيا: الاعتقاد بتضمن الشريعة أصولا لما يسمى في الغرب، الحقوق الطبيعية والمدنية والشخصية، أو أوجه شبه لها في النصوص الدينية، الأمر الذي يجعل من عملية الإطلاع والاقتباس، عملية مركبة ومعقدة، وتقوم آليتها المعرفية - النفسية على التجاذب بين مرجعيتين معرفيتين: الليبرالية الغربية، والإسلامية التراثية.

كان هذا شأن الطهطاوي في مطالعاته وتحقيقاته وشروحاته على مشاهدته سواء عبر القول الصريح أو الفكرة المضمرة أو السكوت عنها.

على أن هذه الحال المعرفية المؤطّرة والمحددة بأمكنة وأزمنة معينة بالنسبة للطهطاوي (مصر، باريس، وقرن تاسع عشر فرنسي وقرن تاسع عشر مصري، أي عربي - إسلامي)، كان لابد أن تخرج بفعل ممارسة البحث المعرفي نفسه، وحال التبصّر المرافقة لها إلى إطار أرحب وأوسع من الزمن المعيش، والمكان الموطن. وأقصد إلى زمن عالمي وتاريخ عالمي. ولعل هذا ما عبّر عنه باشلا - عندما قال في تكوين العقل العلمي، اعتمادًا على برجسون إن الكائن الحي يكتمل بقدر ما يستطيع الوصل بين حياته المتكونة من لحظة ومن مكان، وأزمنة وأماكن أكبر. إن الإنسان إنسان لأن سلوكه الموضوعي ليس مباشراً ولا محليًا. والتبصر هو شكل أول من إشكال التوقع العلمي).

ولعلّ هذا الإشكال هو ما قادنا إلى المدخل الثاني في موضوع التثاقف لدى الطهطاوي.

2- إذن المدخل الثاني أو الفرض الثاني للمعالجة، يشير إلى أن الاطلاع بذاته على الآخر بداعي المعرفة وبدافع التعلّم، يحمل من داخله احتمال التجاوز للذاتي والمحلي، أي بتعابير أكثر رواجا اليوم للهوية أو الخصوصية. على أن احتمال هذا التجاوز لا يحمل معنى النفي، إنما معنى الانفتاح والفهم والاغتناء وإعادة بناء الهوية وتجديدها من خلال تخطي العوائق المعرفية الذاتية ومن أجل إعادة اكتشاف تاريخ عالمي يصعب عزل فصوله الزمنية وأمكنته الجغرافية، ومن أجل استئناف عملية تداول الحضارة الإنسانية بين الشعوب والأمم.

ومن أجل مزيد من فهم هذا الإشكال المعرفي لدى الطهطاوي لجأت إلى تقديم مقارنة بين حالتين ثقافيتين: حالة الطهطاوي في باريس، وحالة شمبوليون في مصر.

وألخص في هذا التقديم المدخلين كالتالي:

- المدخل الأول: الطهطاوي كجزء من مشروع التنظيمات وفكرها، أي كجزء من فكروية السلطان الخير، والرعية المطيعة.

- المدخل الثاني: شمبوليون والطهطاوي: ظاهرتان ثقافيتان تقعان داخل طرفي عملية التثاقف في تاريخ عالمي متصل.

حقوق (رعية في ظل طيبة الحاكم وحكمة التنظيمات)

كتب الطهطاوي كتبه التي تضمنت وصفا لبعض مظاهر الحضارة الغربية ولاسيما الفرنسية، وكذلك أنجز عددا من الترجمات، في سياق وضعيتين: وضعيته في بارس وهو طالب في البعثة التي أوفدها محمد علي باشا (6281-1381) حيث قدم كتابه الأول تخليص الإبريز في تلخيص باريز) كرسالة تخرّج في 91 أكتوبر 0381، ووضعيته بعد أن عاد إلى مصر كموظف تدرّج في مناصب عدة في عهد محمد علي باشا ثم في عهد سعيد (4581-3681)، وكانت أهم كتبه التي وضعها في هذه الفترة كتاب مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية) ط9681، وكتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين (3781)، إلى جانب عدد كبير من الترجمات في التاريخ والجغرافيا والعلوم العسكرية والعلوم والطب والقانون.

ولفهم أفكار الطهطاوي لناحية قربها أو بعدها أو تطابقها مع أفكار حقوق الإنسان، وكما اطلع عليها عبر كتاب الأنوار الفرنسيين (مونتسكيو وفولتير خاصة) وعبر شرعة حقوق الإنسان والمواطن وبنود الدستور الفرنسي، وبنود القانون المدني الذي قام بترجمته، وعبر مذكرات الحقوق الطبيعية( التي درسها في باريس(4)، لابد من تحديد موقعه في مشروع محمد علي باشا الإصلاحي، كطالب في البعثة، وكان قبل ذلك قد عيّن إماما لفرقة عسكرية، وكان يُفترض أن يكون إمام البعثة المصرية التي أوفدت إلى باريس. كما ينبغي متابعته كموظف مسئول في الإدارة، تسلم عدة مسئوليات تربوية، كمترجم في مدرسة الطب والمدرسة العسكرية، ثم كمدير لمدرسة الألسن، إلى مشرف على صحيفة الوقائع المصرية) الرسمية إلى قائمقام.

ومن خلال هذا الموقع ( نفهم كلمته في مناهج الألباب) أن الحال الراهنة اقتضت أن تكون الأقضية والأحكام على وفق معاملات العصر، بما حدث فيها من المتفرعات الكثيرة المتنوعة بتنوع الأخذ والاعطاء من الأنام.

 

الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟!

 

العولمة: جدل العدوان والمقاومة الثقافيين(4)

ليس صحيحاً أن العولمة الثقافية هي الانتقال من حقبة ـ ومن ظاهرة ـ الثقافات الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الثقافة الكونية، على نحو ما يدعي مسوقو فكرة العولمة الثقافية، بل إنها ـ بالتعريف ـ فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات. إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف ـ المسلح بالتقانة ـ فيُهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة. وإذا كان يحلو لكثيرين أن يتحذلقوا بإفراط في الرد على هذا الفهم للعولمة الثقافية، فيرجمونه بتهمة الانغلاق الثقافي أمام تيارات العصر، والدعوة إلى الانكفاء والتشرنق على الذات (والهوية، والأصالة، ومشتقاتهما...)، وإذا كان يحلو لهم أن يعيدوا على أسماعنا مواويل الانفتاح الثقافي غير المشروط على ((الآخر)) للانتهال من موارده ومكتسباته وكشوفه المعرفية... الخ، فإنه يطيب لنا أن نلفت انتباههم إلى وجوب وعي الفارق بين التثاقف والعنف الثقافي من جانب واحد.

يعني الأول الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، كما يعني الاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف وهو من أقدس حقوق الانسان، فيما لا ينطوي الثاني سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلى الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافته. يرادف الأول معنى الحوار والتفاهم، بينما يتلازم معنى الثاني مع الإكراه والعدوان. أما الأهم في الأمر، فهو أن التثاقف يجري بين الثقافات على قاعدة الندية، وهو ما يمتنع دون اعتبار أية ثقافة لشخصيتها وحرمتها الرمزية، فيما لا يعبر فعل الاختراق والتجاوب معه سوى عن دونية يأباها أي انفتاح وأي حوار! هذا درس بدائي من دروس الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة حري بدعاة الانفتاح أن يقرأوه ثم يفتتحوا طقوس التبشير.

أي اختراق ثقافي هذا الذي نعنيه، أو ماذا يمكنها أن تكون تلك العولمة الثقافية إن لم تكن صناعة لثقافة عالمية جديدة؟

ليست العولمة تلك ـ في مفهومنا ـ سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال. وهي التتويج التاريخي لتجربة مديدة من السيطرة بدأت منذ انطلاق عمليات الغزو الاستعماري منذ قرون، وحققت نجاحات كبيرة في إلحاق التصفية والمسخ بثقافات جنوبية عديدة، وبخاصة في أفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية. ولعل هذا يؤكد ما افترضناه ـ في مستهل هذه الورقة ـ من أن العولمة لا تؤرخ لنهاية عصر الدولة القومية، بل تعلن عن ميلاد حقبة جديدة من تمددها المستمر. وليس ما يدعى بالعولمة الثقافية، اليوم، إلا مظهراً من مظاهر ذلك التمدد خارج الحدود، الذي هو آلية طبيعية في نظام اشتغال الدولة القومية الحديثة.

الطــب النفســي عبـر الحضــاري(5)

اهتمامات الفرع:

يهتم علم النفس عبر الحضاري بالدراسة المنظمة للخبرة والسلوك اللذين يحدثان في حضارات مختلفة، ويتأثران بتلك الحضارات، ويصدران من خلال التغييرات الحضارية القائمة. وكلمة حضارة cultural وأخذ من تلك الأفكار التي مازالت حتى الآن تشغل المفكرين الاجتماعيين، والتي تعرف بطرق مختلفة حتى أنه لم يستقر بعد على تحديد لمفهومها.

ويشير مفهوم عبر الحضاري Cross culture للمقارنات التي تجري بين الحضارات، وهذا بالتالي يثير في الذهن سؤالا يختص بما هي تلك النواحي أو الوحدات Units التي تقوم المقارنة حولها؟. و يستخدم نارول (Naroll 1970) في هذا الصدد مفهوم وحدات الحضارة ِCultunits والتي يقصد بها "الناس الناطقون باللسان المحلي Domestics speakers و باللغة الأم Dialect language ، والذين ينتمون لنفس الدولة أو لنفس الجماعة". وعلى هذا الأساس فإن كثيرا من المتخصصين يقارنون بين تلك الوحدات الحضارية، وآخرون يقارنون بين وحدات أكبر تتضمن القوميات. ويعتمد تحديد مفهوم وحدة الحضارة، Cultunit على الوقت، والمكان، واللغة. ويعتبر الوقت محددا لذلك المفهوم لأننا عادة ما نهتم بفترة تاريخية خاصة، والمكان وذلك لأنه يتم التأكيد على الاتصالات بين الأفراد أو على النظام السياسي

أهداف علم النفس عبر الحضاري:

يمكن أن تحدد أهداف علم النفس عبر الحضاري بصورة عامة في النواحي الآتية:

1- يتمثل الهدف الأساسي من علم النفس عبر الحضاري في اختبار عمومية القوانين السيكولوجية، وفي هذا الصدد قامت مجهودات كبيرة تضمنت العديد من المحاولات لمعرفة ما هي الجوانب العالمية في نظرية جان بياجيه مثل، و أيها يتعدل بالمتغيرات الحضارية، و أيها أصدق على ابناء سويسرا. وقد أشارت البيانات التي تم جمعها أن فترات النمو التي صورها بياجيه --، موجودة في كل الثقافات، وفي ثقافات معينة تظهر مراحل النمو في فترات لا تسير وفق نظام ثابت -- فعلى سبيل المثال فغن الألفة بمواد خاصة من شأنها إكساب خبرة ما فإنها ستؤدي إلى استجابات ثابتة في وقت مبكر، وهكذا فإن الأطفال الذين يتعرضون لهذه المواد سوف يصلون للمرحلة الاجرائية -- عند بياجيه، في حين أن الأطفال الذين يحرمون من هذه الخبرات قد لا تظهر لديهم علامات تدل على وصولهم لهذا المستوى المعرفي. وباختصار فإن الدراسات عبر الحضارية تكشف عن كل النواحي العامة، والنواحي الخاصة في الحضارة.

2- إن المتغيرات الموجودة في كل حضارة تكون -- ببعضها البعض، لكنه ليس امتزاجا كاملا ويتضح ذلك في وجود حالات شاذة. فإذا كان المتغير أ، ب يرتبطان ببعضهما ارتباطا موجبا وعاليا، فمع ذلك نجد أن هناك حالات (وحدات حضارية) قليلة تكون عالية في أ، ومنخفضة في ب، و حالات قليلة منخفضة في أ، ومرتفعة في ب. فإذا درسنا الوحدات الحضارية (الحالات) الشاذة فإننا نستطيع أن نحدد أي العلاقات بين المتغير المستقبل (ج) والمتغيرين المعتمدين (أ، ب) يكون سببه أ، ب وسببه ب، أو سببه الاثنان معا أ، ب. وتلك المعلومات الأخيرة ذات قيمة كبيرة في علم النفس عبر الحضاري، فعندما يشير فرويد -- إلى أن عقدة أوديب -- عالمية، فانه بذلك قد لفت النظر للعلاقة الجنسية بين الآباء وزوجاتهم، ولم يشر إلى أن الآباء في فيينا عام 1900 كانوا صارمين في تأديب أبنائهم و غالبا ما كانوا يعاقبونهم. وعندما وجد مالينوسكي -- في دراسته على البدائيين من التروبرياندر -- أن لديهم أشكالا مختلفة من التنظيمات الاجتماعية فإنه يعني بذلك أن عقدة أوديب عبر متغيرات الزمان – والمكان -- واللغة -- ليست عالمية وهذا يفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في الظواهر التي لاحظها فرويد مثل الحسد.

3- تمدنا الوحدات الحضارية، -- بتجارب شبه طبيعية -- وذلك بإخضاع المتغيرات للبحث والدراسة، فعندما تكون بعض وحدات الحضارة مرتبطة بالزراعة والبعض الآخر بصيد السمك فإن التنظيمات الاجتماعية الخاصة بهما تختلف فالأطفال الذين تكون تنشئتهم وفق درجات مختلفة من الشدة تنم لديهم نماذج مختلفة من الإدراك حسب تأكيد الحضارة على الزراعة أو صيد السمك.

4- تشكل الحضارات المستقرة الوظائف السيكولوجية للأفراد. أما الحضارات التي لا يكون التنبؤ بالأحداث فيها عاليا بسبب الحروب المتكررة، والثورات، والانقلابات والزلازل، والفياضانات فإن التخطيط يكون أقل احتمالا في ان يؤدي إلى التنمية. إذ أن الناس في هذه الحضارات يكون الاحتمال أقل في نظرتهم للتخطيط كقيمة، أو في مساندة بعضهم البعض من لاأجل التخطيط ويرجع ذلك ببساطة إلى أن الناس لا يعززون السلوك غير المثاب. فحيث أن البراكين والثورات والفياضانات تقلب الخطط رأسا على عقب، فبالتالي إن الناس لا يهتمون بالتخطيط. وإن الدراسة العالمية المتكاملة لسلوك الإنسان هي التي تحاول الربط بين خصائص البيئة -- وخصائص الإنسان. وتساعدنا الدراسات عبر الحضارية في تعلم كيف ترتبط المتغيرات البيئية بالمتغيرات النفسية.

5- إنه من المهم معرفة التكرار الخاص بالسلوك والأحداث لدى مجموعات مختلفة من السكان. فعلى سبيل المثال إذا وجدنا أن العدوان -- موجود في كل الحضارات، فإننا نعلق على ذلك بأن هناك شيئا ما إنسانيا أساسا لا يتغير بالنسبة لهذا السلوك. أما إذا وجدنا أن هناك حضارات لا يلاحظ فيها العدوان إطلاقا فإن ذلك لا يتسق مع التحليق السابق ويفسر ذلك بالعوامل الحضارية.

تجاربنا الخاصة مع المظاهر عبر الحضارية:

يقدم المجتمع الأوسترالي نموذجا مثاليا للدراسات عبر الحضارية. فإلى جانب السكان الأصليين، الذين يملكون ثقافتهم الخاصة، هنالك السكان الحاليون الذين يحملون معهم ثقافات بلادهم الأصلية. وهؤلاء يكادون يتوزعون على أنحاء العالم قاطبة. حتى أمكننا القول بوجود نموذج مثالي للتثاقف هو كناية عن مجموعة معقدة من الارتباطات الثقافية. بحيث تلتقي مجموعتان عند عوامل حضارية مشتركة لتنتج نموذجا مختلفا عن النماذج الأساسية. ثم يلتقي هذا النموذج مع نموذج تعددي آخر لينتجا نمطا مختلفا عن النماذج وعن المجموعات الأساسية وهلم جرا.

وصولا إلى البنية الاجتماعية- الثقافية الراهنة للمجتمع الأوسترالي. هذه البنية التي تصيب القادمين الجدد بصدمة تثاقفية تتجلى أحيانا بردود فعل حادة. لكن هذه البنية الاجتماعية- الحضارية الشمولية لا تحول دون حفاظ كل مجموعة حضارية على ارتباطاتها الاساسية. فلو أخذنا العرب المهاجرين إلى اوستراليا فإننا نجد أنهم لا في يزالون على ارتباطاتهم بعائلاتهم في بلدانهم الأصلية وعلى لغتهم وعلى معتقدلهم وعلى امزجتهم. لكنهم في المقابل يستجيبون لقوانين البنية الاجتماعية- الحضارية الأوسترالية. فإذا كنا في سياق الحدث عن الطب النفسي عبر الحضاري فإنه من الضروري التذكير بأن الطب النفسي موضرع وفق المعايير الأجنبية. بحيث يواجه تطبيقه في الثقافات الأخرى معوقات عديدة من شأنها أن تعيق عملية التشخيص الموضوعي للحالة. في هذا المجال أود أن أذكر تحديدا الحالة التالية:

- شاب يعاني من حالة إحباط تتمازج مع علائم انهيارية واعتقاد جازم بأن عثراته و سوء حظه يتأتيان من تأثير جارته العجوز التي تقيم بمفردها والتي تمكنت من ممارسة تأثيرها عن بعد على حياته وأعماله.

عندما عرضت هذه الحالة على المعالج الأوسترالي الأجنبي الأصل كان تشخيصه لها على أنها حالة ذهانية. على اعتبار تأثير العجوز بمثابة شكل من أشكال هذيان التأثر (---). لكنني فحصت الحالة فوجدت أن هذا الشاب لا يعاني من أي مظهر ذهاني وإنما كان مؤمنا بأن هذه الجارة قد أصابته بالعين. وبما أن هذا الاعتقاد شائع في الثقافة العربية (التي ينتمي إليها الشاب) كما في ثقافات أخرى، فإنه من غير الموضوعي وصف حالته بالذهانية. ففي مثل هذه الحالة قد يمكننا الحديث عن مخاوف طفولية فجرتها هذه العجوز التي تسكن بمفردها.

كما قد يمكننا الكلام على استعداد زائد لتقبل الايحاءات ولكننا لا نتكلم بحال عن ذهان او عن مظاهر ذهانية. إن هذه الحالة المعروضة باختصار، هي نموذج عن الحالات الني تفرض على الجهاز الصحي في بلدان التعددية الحضارية، دراسة مفصلة عن أنماط الحضارات التي تنتمي إليها مجموعاتها السكانية. إضافة الى دراسة مفصلة لردود الفعل التثاتفية لأبناء كل حضارة على حدة.

العرب الأوستراليون:

من الطبيعي أن يشكل العرب المهاجرون إلى أوستراليا جزءا من اهتماماتي. خصوصا لجهة دراسة ردود فعلهم أمام صدمة التثاقف والآثار التي تخلفها هذه الصدمة. من هذه الآثار ما نلاحظه لدى قسم منهم في الإقبال القهري على ممارسة محظورات الثقافة العربية كمثل الميسر(لعب القمار)، وغيره من الممارسات التي تعتبر انحرافية في المفهوم العربي- الإسلامي. كما نلاحظ لديهم إقبالا تعويضيا قهريا ايضا على التمتع بالمظاهر الحضارية كمثل اقتناء السيارات والكماليات... الخ. لكننا نلاحظ أيضا آثارا ايجابية لصدمة التثاقف وتتجلى هذه الآثار في الإقبال استيعاب التطورات الحضارية والافادة منها بصورة عملية. وهكذا بحيث تختلف آثار صدمة التثاقف ونتائجها باختلاف الشخصيات وتغييراتها الدينامية.

الثقافة العربية والعولمة(6)

إن العولمة كظاهرة تفرض على أية ثقافة تحديات مختلفة تماماً عما تفرضه عليها مشاريع الثقافات الأخرى، وعليه يكون التمييز بينهما ضرورياً لتحديد الاستجابة وشروط إبداعها لأن تحديات الظاهرة تتطلب استجابة باتجاه إثبات الوجود، بينما تحديات مشروع الآخر تتطلب استجابة باتجاه بناء مقومات التكافؤ والشراكة في حركة هذا الوجود وعلاقاته، وعليه فإن تحديات مشاريع الثقافات الغربية للعولمة تتطلب من الثقافة العربية استجابة متحررة من رد الفعل والانفعال، ومنطلقة مما يترتب على استجابتها للظاهرة الكونية، حتى تكون قادرة على الشراكة والإسهام المتميز في دائرة التفاعل الحضاري بين الثقافات الإنسانية، ومعنى هذا أن تحديات العولمة على وجه العموم تفرض على الثقافة العربية استجابة قابلة للحركة في اتجاهين:

الاتجاه الاول: تحديد موقع الوجود على خريطة العولمة، وإثبات تميزه ببناء مقومات قدرته على تفاعل المتكافئ والشراكة المبدعة.

الاتجاه الثاني: توظيف متاحات الظاهرة في مشروع الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى والحفاظ على الهوية والخصوصية بإيجابية الحوار معها.

إن متاحات ظاهرة العولمة هي إمكانات مشاعة وقابلة للتوظيف إن توفرت المعرفة بها والإدارة لتوظيفها، وهذا هو التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية، وتلك هي شروط الاستجابة له، غير أن الأمر ليس باليسر الذي توحي به العبارة السابقة، لأن شيوع المتاح وسهولة توظيفه يجعلانه وسطاً قابلاً للتنافس بين الثقافات، وخاضعاً لمزايا وشروط الأسبقية في الوصول إليه وحسن توظيفه وتنميته. وعلى سبيل المثال، فإن متاحات التقنية في الاتصال والتسارع الكمي والنوعي في حركة المعلومات يتطلبان سرعة متساوية بين تمثل الاستقبال وإبداع الإرسال، فالجديد في ظاهرة العولمة هو التسارع الذي ألغى ماكان سائداً قبلها من وسطية بين عمليتي الاستقبال وإبداع الإرسال والاستقبال، وماكان متاحاً في هذه الوسطية من فرصة كافية للقيام بعمليات التجميع والتحليل، والفرز والتصنيف والتحكم والاختيار، ومعنى هذا أن المنع والسماح، والقبول والرفض، استراتيجية لم تعد متاحة ولا ممكنة في ظل ظاهرة العولمة، ووجه التحدي هنا أن تحديد المتاحات وتحويلها إلى إمكانات موظفة وقابلة للنماء والتطوير يتطلب من الثقافة العربية وعياً صادقاً بالذات، وتصوراً مطابقاً لتميزاتها القومية وخصوصياتها الحضارية، وهذا ماتقوم به صياغة الذات العربية صياغة ثقافية مواكبة لتطورات العصر، وملبية لاحتياجات التثاقف المتكافئ مع الأمم الأخرى، وعملية الصياغة هذه تعني أن تجدد الأمة العربية ثقافتها تجديداً يعبر عن هويتها الحضارية ويحدد وجودها في خريطة العولمة ويمكنها من التكافؤ مع الغير في كل مستويات التثاقف الإنساني المعاصر، وشروط النجاح في هذه العملية تجتمع في ثلاثة: الحرية والإبداع والانفتاح، بحيث تكون إشاعة الحرية مقدمة لتأصيل ملكات الإبداع الفردي والجماعي، وأساس لإقامة منظومة الانفتاح الحر والمبدع علىالذات في أصالتها وعلى الآخر في تطوره، وعلى العصر في تحولاته وتقدمه.

إن تجدد الثقافة العربية لن يكون ممكناً ولا ميسوراً بمعزل عن معرفة حقيقة وعلمية بالعصر وثقافاته، لأن حرية الذات تعني في الوقت نفسه حرية الآخر، وحقها في تعريف الغير بها مساو تماماً لحق الغير في تعريفها به، وهذا ما اشترطناه سابقاً لإنجاح التجدد الثقافي بعامل الانفتاح الحر والمبدع فالتثاقف ليس امتلاكاً لأدوات التقنية الاتصالية ولكنه حركة متكاملة في الخطة العلمية الهادفة إلى جعل الثقافة صناعة قومية يتوازن فيها الاستهلاك والإنتاج، ووجه التحدي هنا أن العولمة تظاهرة ومشروع للآخر، جعلت الثقافة صناعة محورية تتوقف عليها كل مناشط السوق إنتاجاً واستهلاكاً، فالعولمة أمريكياً مشروع ثقافي يسعى إلى فرض النمط الأمريكي على العالم حتى يحقق بهيمنته سوقاً رائجة لبضائعه ومنتجاته، وحماية مجانية لمصالح حكومته وشركاته، وهكذا تحدد العولمة للتثاقف آلية تبدأ من صناعة الثقافة وتعود إليها.

إذا كانت الرؤية العربية للعولمة ملتبسة بالمخاوف والانبهار، وكان الاندماج الثقافي مستبعداً، والانغلاق على الذات مستحيلاً، فإن هذا يحتم استجابة ثقافية محكومة بالتفاعل ومشروطة بالانفتاح، فالهوية التاريخية للثقافة العربية تدل على إمكانية تجددها في عصر العولمة، وهو التجدد المشروط بإبداع الإنسان العربي لذاته وتميزها، وإذا غابت الثقافة العربية عن موقعها في خريطة العولمة، فإن محاولات الهيمنة عليها وإلحاقها بالثقافات الغربية ستغير فيها عوامل الاستجابة لتحديات علاقاتها بثقافات عصرها، ومن المحتم أن تأتي هذه الاستجابة - مهما تأخر موعدها - معبرة عن هوية قومية ذات خصوصية حضارية لها مشروعها المتميز في دائرة، فهل تقدر التثاقف والحوار بين الحضارات. ووجه التحدي هنا أن تخرج الثقافة العربية من أسر الانبهار والمخاوف، وأن تتحرر من مفردات التهويل والصراخ التي لاتثق بالإنسان العربي ولا تطمئن إلى قدرة رسالتها على التأثير والإقناع، وإذا ماتوقف المثقف العربي قليلاً ليسأل نفسه: لماذا لايخشى الآخرون من ثقافته؟ لحملت الإجابة إلى نفسه قدراً من الاطمئنان يمكِّنه من تطعيم رسالة تثاقفه مع الآخر بمعززات التأثير الإيجابي والإقناع بالأفضلية.

...................................................................................

1- الراجي عبد الرحيم/ مجلة فكر ونقد

 2- بولس يازجي/ الندوة الدولية لحوار الحضارات/ سوريا2006

 3- وجيه كوثراني/ مجلة العربي

 4- عبدالإله بلقزيز/ للبلاغ

 5- محمد فاروق السنديوني/ شبكة العلوم النفسية العربية

 6- موقع النور

شبكة النبأ المعلوماتية- االجمعة 4 آيار/2007 -15/ربيع الثاني/1428