شبكة النبأ: قد نستطيع ان نسمي
الاستشراق بالحركة الاستشراقية وذلك بكونها تنتمي بشكل او بآخر الى
النفس السياسي والرغبة الاستعمارية مهما كانت مواربة بالحياد الكاذب
ومغطاة بالتجرد المزيف، وحتى بالادعاء من كون المستشرقين اناس عالميين
لا ينتمون الا الى الانسانية.
وقد ظهر ذلك جليا في منجزهم البحثي على نطاق المعارف الانسانية او
في دراسة التراث او العادات او قياس البنى المجتمعية والاقتصادية او
الآثار والتأريخ.
وان كثير منهم قد استظل بالاستشراق ومارس الجاسوسية باقوى صورها
ومكن لكثير من التحركات العسكرية بالنجاح والغلبة.
ويرى مؤلف كتاب الحداثة والامبريالية أحمد زكريا الشلق أستاذ
التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس أن الحملة الفرنسية على مصر في
نهاية القرن الثامن عشر كانت جزءا من الاحلام الامبراطورية لنابليون
الذي كان مأخوذا بسحر الشرق متأثرا بكتابات المستشرقين ومستخدما لهم
أيضا. بحسب ما نقلت رويترز.
وتجسد لوحة غلاف كتاب (الحداثة والامبريالية) الخيال الاوروبي عن
الشرق وفيها يدخل نابليون بونابرت القاهرة فوق فرسه بكبرياء في حين
يسجد بعض البسطاء أمامه كما يبدي شيخ من نافذة بيته حفاوته بالغازي
الذي لا يبالي بأحد.
ويضيف أن الجنرال الشاب كان يتوق الى الشرق بعد اعجابه بكتابات عالم
المصريات والاسلاميات الفرنسي كلود سافاري الذي عاش في مصر وتعلم
العربية وترجم القرآن وكتب خلاصة دراساته في كتابي (حياة محمد) و(رسائل
عن مصر) حيث أمر نابليون بتوزيع الكتاب الاخير الذي صدر عام 1786 على
جنوده ليشحذ هممهم ويغريهم بالعالم الذي سوف يغزونه.
ويشير الى أن نابليون اعتبر كتاب الفرنسي قسطنطين فولني (رحلة في
مصر وسوريا) الذي صدر عام 1787 بمثابة "توراة مغامراته الاسلامية في
مصر ومن ثم خص به قادة جنوده" حيث راودته أحلام الاسكندر الاكبر في
سعيه للسيطرة على مصر "قلب العالم القديم" ولم يهدف الى تحديثها بدليل
اعادته المطبعة لبلاده بعد الفشل الذريع والسريع للحملة (1798-1801).
ويحمل كتاب زكريا الشلق عنوانا فرعيا هو (الغزو الفرنسي واشكالية
نهضة مصر) ويقع في 188 صفحة كبيرة القطع وأصدرته (دار الشروق) بالقاهرة
ضمن سلسلة خاصة بالدراسات التاريخية عنوانها (الجانب الاخر.. اعادة
قراءة التاريخ المصري).
وكان المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد قد قال في كتابه (الاستشراق) قبل
نحو 30 عاما أن الشرق اختراع أوروبي وان الاستشراق "كيان له وجوده
النظري والعملي وقد أنشأه من أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة
على مر أجيال عديدة وقد أدى استمرار الاستثمار الى أن أصبح الاستشراق
باعتباره مذهبا معرفيا عن الشرق شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة
الشرق الى وعي الغربيين... الامبريالية السياسية تحكم مجالا كاملا من
الدراسات والابداع والمؤسسات البحثية."
ورغم نفي سعيد أن يكون الاستشراق مؤامرة فانه شدد على كونه ظاهرة
ثقافية وسياسية وأنه في بعض جوانبه كان متواطئا مع المصالح الاستعمارية
ومن الصعب "فصل مصالح المستشرق من طرف واحد عن السياق الامبريالي العام
الذي بدأ مرحلته العالمية الحديثة بغزو نابليون لمصر" مشيرا الى ما
وصفه بالرصانة المتعمدة لكتاب (وصف مصر) الذي أمر نابليون بوضعه حيث
تشهد مجلداته "بالجهود المنهجية لفيلق كامل من العلماء الفرنسيين الذين
يساندهم جيش حديث يقوم بالغزو الاستعماري."
ثم أشار سعيد (1935-2003) في كتابه (تغطية الاسلام) 1981 الى
التعاون بين الاستعمار والمستشرقين لدرجة يندر معها وجود أحد خبراء
الاسلام لم يكن مستشارا لحكومة بلاده مستشهدا بالمستشرق الهولندي سنوك
هوخرونيه الذي "استغل الثقة التي أولاه المسلمون اياها في تخطيط وتنفيذ
الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشيه المقيمين في سومطرة."
ويقول زكريا الشلق في كتابه ان حملة نابليون العسكرية على مصر كانت
"فريدة وشاذة عن المألوف بحق" اذ كانت تضم نحو 175 عالما في الرياضيات
وعلم الحيوان والكيمياء والفلك والجغرافيا وهندسة المناجم والهندسة
المعمارية والرسم والنحت وموسيقيين وفنيي طباعة ومتخصصين في المتفجرات
وأطباء وأدباء اذ كانوا يشكلون "كتيبة لغزو" معرفي ولم يكونوا أقل
أهمية من الجيش نفسه.
وينقل عن الفرنسي شارل رو مؤلف كتاب (بونابرت حاكم مصر) وصفه حملة
نابليون بقوله "لم يحدث من قبل اطلاقا لجيش ذاهب لغزو أحد البلاد أن
أخذ معه دائرة معارف حية مثل هذه."
ويشير الى أن نابليون أمر قبل التحرك بشراء مكتبة تضم 550 مؤلفا
أساسيا اضافة الى مكتبتين للتاريخ الطبيعي والفيزياء ومعمل للكيمياء
وتم توزيع العلماء على عدة سفن "حتى لا يسلم العلم لمصير سفينة واحدة".
ويقول ان المصريين لم يفرقوا في عدائهم بين الجنود الغزاة والعلماء
المصاحبين لهم وبدأ التعاون بين العلم والمدفع من خلال التنقيب عن
الاثار المصرية القديمة (الفرعونية) واستخراج تلك الكنوز وشحنها الى
فرنسا.
ويعد كتاب (وصف مصر) الذي وضعه علماء الحملة موسوعة كبرى عن مصر..
تاريخا وجغرافيا وموارد طبيعية ونباتية واثارا ومناخا وعادات وأساليب
حياة وصناعات وحرفا.
لكن هناك وجها اخر لهذا الانجاز اذ ينقل المؤلف عن الكاتب الفرنسي
أندريه ريمون قوله "ان الاهتمام الفرنسي بمصر أثمر هذا العمل العلمي
ولكن هذه الثمرة المتأخرة لا تملك تبرير مغامرة الفتح العسكري."
وعلى خلاف اللوحة التي يحملها غلاف الكتاب وهي ترضي الخيال الأوروبي
"المريض" عن الشرق فإن المؤلف يشدد على أن المصريين قاوموا الفرنسيين
فورا واعتبروهم "أعداء محتلين" وتكررت مواجهات ومعارك للمقاومة في
أنحاء البلاد بما لم يسمح للغزاة بالاطمئنان أو الاستقرار.
ويضيف أن كل وسائل المقاومة استخدمت في مناهضة الغزاة حتى أصدر
نابليون "أوامره باستخدام أعنف الوسائل لسحق الثورة كقصف الجامع الأزهر
واحتلاله بالجنود وقتل الثوار وإحراق المنازل."
ويشير إلى أن جيش نابليون دمر الكتب والمخطوطات في خزائن الجامع
الأزهر بل حاول هدمه وهو سلوك يناقض "ادعاء (نابليون) اعتناق الإسلام
والإيمان بنبيه" كما ينقل عن الروائي الفرنسي ستندال (1783-1842) وصفه
إسلام نابليون بأنه "كان نفاقا سياسيا مشروعا."
وفي مقدمة طويلة يعيد زكريا الشلق قراءة المشهد المصري قبل قدوم
الفرنسيين قائلا إن تلك الفترة كانت تشهد تحديثا على أكثر من مستوى
"وتتمتع بثقافة حية" وأن المؤرخ الأشهر عبد الرحمن الجبرتي "لم يكن
عبقريا في عصر مظلم كما يعتقد البعض."
ويستشهد المؤلف على ذلك بدراسات لمؤرخين ومستشرقين منهم الأمريكي
بيتر جران مؤلف كتاب (الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر 1760-1840)
والبريطانيان كينيث كونو مؤلف كتاب (فلاحو الباشا.. الأرض والمجتمع
والاقتصاد في الوجه البحري 1740-1858) ودانيال كريسيليوس مؤلف كتاب
(جذور مصر الحديثة 1760-1775) والفرنسي أندريه ريمون مؤلف كتابي
(المصريون والفرنسيون في القاهرة 1798-1801) و(الحرفيون والتجار في
القاهرة في القرن الثامن عشر).
ويأتي الكتاب بعد جدل حاد شهدته الساحة المصرية قبل سنوات في ذكرى
مرور 200 عام على الحملة التي اعتبرها البعض غزوا صريحا في حين رآها
آخرون بداية لتحديث مصر قائلين إن الفرنسيين جاءوا بالمدفع والمطبعة
وغادروا مصر بالمدفع وتركوا المطبعة.
لكن زكريا الشلق مؤلف الكتاب يشدد على أن المطبعة كانت "أداة مهمة"
للدعاية بين المصريين لحملة نابليون الذي طبع المنشور الأول وهو لايزال
في عرض البحر "ليبدأ حرب الدعاية قبل أن يبدأ القتال بالفعل" وبعد فشل
الحملة حمل الفرنسيون المطبعة والآثار والأجهزة العلمية إلى بلادهم.
ويضيف أن الغزاة لم يدربوا مصريا على استخدام المطبعة "بل إن
العاملين بها من الشوام مثل إلياس فتح الله ويوسف مسابكي لم يبقوا بمصر
بعد رحيل الفرنسيين" وأن فرنسا لم تهدف إلى تحديث مصر والمصريين وإنما
جاء الغزو "لمصلحة المشروع الاستعماري الفرنسي." |