اصدارات جديدة: الموت من النعاس

مجموعة قصصية

 

 الكتاب: الموت من النعاس/ مجموعة قصصية

المؤلف: عدنان عباس سلطان

عدد الصفحات: 220 قطع صغير

عرض: صباح جاسم 

 

 

 

 

شبكة النبأ: يحيلنا التقديم الذي كتبه الناقد جاسم عاصي كذلك ما كتبه الروائي انور عبد العزيز الى عالم عدنان عباس الخاص الذي يحمل معه ارتباكات الواقع المتشابك، مع امتزاج الحدث المتخيل لدى المنتج، باعطاء مغايرة تحمل خيوطا تقود الى حيثية الاحداث والمآلات المفترضة، ويتم ذلك باعتماد الكاتب على اسلوب الومضة المتلاشية في بنية النص، والذي يقودنا الى تراكيب لغوية وتوصيفات شعرية، تعزز من مستوى النص القصصي، وانتظام المقروءة ايقاعيا.

الومضات الموزعة في بنية النص، ومهارة استخدام التراكيب اللغوية والتوصيفات الشعرية التي تتاتى بنسق عفوي، هذه كلها تكون بمجموعها ايقاعا موسيقيا متصاعدا مع حركة النص، دون ان تترك فراغ ما يوهن هذا الايقاع، إضافة الى ضربة القصة التي تعد من وجهة النص فيصلا للتاويل، مما يجعل القارئ يعيد النظر جديا بقراءة القصة من جديد، وذلك لأن الكاتب قدم له ايهامات عدة، ليسلك سبيلا آخر في التاويل، ثم يفاجئه بعد ذلك بتاويل مقترح، مغاير لما توقعه المتلقي، ومن خلال الانطباعات التي يشكلها للقارئ لإبعاده عن تاويل مقترح، ويتوافق معه في تاويل عام، ويحاول خداعه، يجري ذلك عندما يكون منتج النص راويا محدود العلم،  او راويا بضمير الانا.

فهو في كلا الحالتين لا يسرد الحقيقة الكاملة، بل يترك هامشا واسعا لنص المتلقي، باعتباره مشاركا فعالا في كتابة النص، وهذه الشراكة التي يعول عليها الكاتب في مجمل قصصه تقريبا، ينتج نص واسع التأويل ومتعدد مستويات القراءة، وخصوصا وان التاويلات لاتفقد اتصالها مع الخيوط الرفيعة بالواقع، وان تلونت بهالة من الجماليات الفنية المتاحة في النص.

لإنطباعات التي قابلت الايهامات انما حققت مراد كاتب النص بايجاد إنطباعات اضافية انتجها

المتلقي، إضافة الى تاويل الكاتب المقترح باعتباره قارئا لنصه القصصي.

يتميز الكاتب باسلوبه الساخر المتهكم، ولكن هذا التهكم لا يظهر على الدوام بحيث يطفو على السطح وانما يجعله الكاتب ياتي من نسق عفوي او مبطن، بحيث ان الايهام يضع عليه ما يشبه الغطاء الشفاف ويستره حتى تحين لحظة التوظيف للثيمة والانطباع من لدن المتلقي، وهنا يجري تفعيله بحيوية وتفاعلية متبادلة بين النص والقارئ.

ولعل من المناسب ان نستشهد بقراءات الكاتب لنصه، ونستشف منها ما ذهبنا اليه في هذا التقديم، ولناخذ القصة الاولى في المجموعة والتي بعنوان – الترقية:

بطل القصة يتحدث لنا بضمير الأنا، يروي لنا ما حدث بسجية طاهرة عفوية بسيطة،  وبساطة رجل عادي، من أولئك الأشخاص الذين كثيرا ما نصادفهم، ممن ليست لديهم مطلبيات، أو أحلام عريضة، أو جاه أو سلطة قاصمة، إنسان متواضع ليست لديه حساسيات أو عقد نفسية، قال مباشرة بلا أدنى حذر أو مواربة:

( مات المدير )، ويصف حال المدير، وتزامن موته مع ظروف سيئة، وكيف أنه غطي بستارة الشباك، التي لم تصل إلى تغطية وجهه، وهو بهذا يرينا مدى الشفقة التي اعتملت في داخله، ثم وصف ضخامة الجسد وحيادية التعبير، وبذلك أعطانا صورة غير حقيقية وغير مقصودة، أي أنه وصف أحساسا انطباعيا، هذه الصورة الانطباعية ليست بغريبة عن شخص له صفات بطل قصتنا، فبسطاء المجتمع تكون أغلب تصوراتهم انطباعية، وليست مبنية على وقائع حقيقية محددة.

والانطباع له قوة هائلة، بأمكانه أن يوجه الأفراد باتجاه الزلل، أو الغلبة، أو الخراب، وهذا المفهوم يوضح لنا في الحقيقة: عبادة الشخصية، وتبنّي بعض الأفكار الراديكالية، والأحكام المسبقة والأوهام والشعوذة.

على هؤلاء أستطاع العتاة أن يبلغوا مطالبهم، وعلى هؤلاء أنجزت مآس تاريخية، وكوارث إنسانية مروعة.

فبطل القصة سجل لنا انطباعه كما هو، انطباع صغار الموظفين تجاه مرؤوسيهم.

الموظف المذيل في العمل الإداري، لا يرى في السلطة الفوقية ألا الضخامة، فهذه صفة مسبقة في انطباعه الداخلي، كذلك لا يرى لرمز السلطة التي كان يحملها المدير، أية تعابير، أنما هي وجه غير مميز القسمات، ربما كان يراه قبيحا لولا عاطفة الإشفاق التي ارتبطت فجائيا مع حادث الموت.

يحدثنا أيضا عن إقامة الطقس ألعبادي، في مثل موت مدير، له مكانة مرموقة، وجاه رسمي عريض، يدلل وصفه على روحه المباشرة، التي تربت في محيط اجتماعي عادي، وتشربت بالميول الشفافة .. والنزوع إلى الخير.  

فقد سامح المدير بكل بساطة، وهو يتقبل فكرة أن يسامح كل سلطة فوقية، ثم أرتقي عفويا

بالأنا، وحول مظلوميته إلى شئ من المعاتبة الرقيقة، من نفس ليست شائكة بالعقد.

كان يخشى على أم جنان ألا تقرأ كتابة أي لؤي، وخطوطه السريعة في الكتابة، كون المحامي يختزل الأمور، على طريقته الوظيفية، كان يخشى من مزيد من العثرات التي تشوه مأتم الفقيد المحترم، أخلاصا  ونبلا صافيين.

مكانة المرأة لدى بطلنا، ظلت مليئة بالأم الحزينة، وصوتها المفجوع، لقد أعاره إلى أم جنان مؤقتا، فليست أم جنان بذات ارتباط عاطفي أو قربى بالفقيد، ليصفها لنا بذلك الارتعاش المبحوح بالألم؟. لم يعلق بذاكرته سوى صوت الأم الملتاعة، المضغوطة بظنك العيش وظروفه القاسية المعقدة.

وهذا يدلنا إلى إن البطل لم يتصد لكثير من التجارب النسائية، عدى تجربته الوحيدة الفاشلة . وهي كانت تجربة عادية، لم يبذل فيها الوسع من أجل إنجاحها، بل تركها للظروف الوظيفية، وما يتأمله من مكتسبات مادية في قابل الزمن، والزمن أيضا مفتوح بلا نهاية محددة !.

بطل القصة يمتلك حس ديني غير متزمت، في أنه لم يرض بالخطأ، ولكن ليس بذلك الحزم والعناد، ونما أنتقده من موقع مخالفته للأصول التي أعتادها، وهو بنفس الوقت : يظن بأن ما حدث محتمل الحدوث في هكذا ظروف استثنائية!، وعلى هذا سلم بالأمر الواقع، وأصطف مع المصطفين، محترزا بصورة سرية ألا يتكرر الخطأ مرة أخرى، وأيضا بلا إصرار، حيث تخلى عن هذه الفكرة، وتراخت أصابعه لمجرد سماعه لأصوات الملائكة، وهم ينزلون الرحمة الآتية من السماء فوق سطح البناية، حتى عندما سقطت عليه الحصاة، فقد صرها دون أن يخبر أحدا !، متغاضيا عن عيونهم، وألا  لكان قد حذر الآخرين من مغبة المكوث تحت سقف سينهار بين لحظة وأخرى، هذا إذ لم يكن هو أول الهاربين من الخطر.

فكرة الموت بما فيها من آلام وغموض، تراوده كفكرة ثابتة متوقعة، ظهر ذلك جليا من خلال فرحته بعد اكتشاف إن الموت لا يحمل تلك الآلام الفظيعة، ولا ذلك الهول والغموض، كان الموت الذي أكتشفه: مجرد خروج  من غرفة والدخول في أخرى، فكان متواجدا إزاء العالم الآخر.

لم يأسف لمفارقته الحياة، وهو محتفل ببشارة الموت، بشارة  أعفته من ألآلام والأهوال، أندمج مباشرة بالواقع الجديد، وهو متيقن من توقعاته بما يجد من خير وفير، ومكتسبات لا تعد ولا تحصى،( وما  به توعدون ).

أخذ يصف بغبطة أكياس الجنة التي أنزلتها الملائكة، ويعد مابها من ثمار يسيل لها لعاب الوقور، واصفا الحياة الدنيا بالتفاهة.. وخداع النفس.. وصغرها.. وحقارتها ( مثل جناح بعوضة ).

لكنه وبعد أن توائم مع الحياة الأخرى، وتقبلها بكثير من الأمل والتفاؤل، شعر بصدمة عنيفة، وخيبة مرة، عندما رأى بأنه يعود ثانية إلى الحياة .. وكان لزاما عليه أن يعيد فكرة الآلام والأهوال إلى مكانها الأول،  وتوقعها بنفس القوة من جديد، ومع هذه الخيبة والإحباط، فأنه أيضا تقبل الواقع بحكم طبيعته البسيطة، الخانعة، التي تتقبل الأقدار، قال بطريقة مستحيية وهو يرى مساواته مع زملائه بالعطاء:

ـ لكنني لم أرقى بعد؟!.

كان يريد أن يتوثق من انه نال المرام، قال ذلك بصورة غير مباشرة، ففي رأيه: قد يستفز رئيس الموظفين من الأساليب الوقحة لنيل الحقوق، وقد كان ذلك تحت أيحاءآت قالها المدير، تشير إلى إمساكه بالاستحقاق الذي كان يتمناه، مما أخرجه من طبيعته المباشرة، لينزاح قليلا عنها، ولو بهذه اللحظة النادرة.

عندما أعطي الضوء الأخضر، عبر لنا عن سروره بالترقية،  وأن كانت ترقية اعتبارية أو فخرية لكنها في  رأيه تؤدي إلى أن يكون موظفا فعالا في الشراكة الجماعية، ثم صور لنا الحاسدين الذين ينظرون إلى مكاسب الرجال الأفذاذ !، وكانت تلك ترقيته التي نالها بعد معانات وصراع .  

القراءة الثانية

لمستوى آخر من القراءة المحتملة

في القراءة الثانية يدخل القارئ المتمرس، كطرف فعال في المعادلة القصصية، وهو ليس بالذي يأخذ المفردة بمعناها الوظيفي المجرد، دون فهم الإيماءات وما بين السطور، فلا تنطلي عليه الحيل والتلاعبات الكلامية، وهو في هذه القراءة ينظر من خلال نظارة بلونه الخاص، وهذه النظارة تغير لون النص بما يراه هو، وعلى هذا فهو يرى بطل القصة يروي ويصف ويثير انطباعات بخبث وكراهية، بكلمات وجمل مبطنة لكثير من المواقف، يتهكم ويسخر ويهزأ.

(مات المدير) !!. توحي بمدلول شامت.. شماتة مرة، كأنه كان ينتظر أن يأتي هذا الموت مبكرا، لينقم له من المدير، قالها بتشف وضغينة، ولم يكتف بذلك وإنما زاد في تحقير المدير وتسفيه الميت، وهو يصف كيف لف بستارة  شباك  صفراء لم تستر وجهه!، وكيف يمكن تصور ستارة صفراء في دائرة حكومية، تبدو عليها الأوساخ بكل وضوح، ثم وصف جسد الميت بالضخامة، ووجه بلا تعابير، بحيث أعطانا انطباع مقرف، لمجرد جسد كبير لا ينتمي لآدميته.. قد يكون لمجرد فطيسة!.

يتحدث إلينا عن أقامة الطقس ألعبادي، بظروف غير طبيعية أبتكرها بشكل خبيث، ليوحي لنا بان تلك الظروف المقلوبة ربما بتسليط رباني!، وان المدير لا يستحق غير ما حدث له فعلا. واختار أن يقوم طقس الصلاة عليه في دائرة حكومية بدلا من أن يجري ذلك في مسجد، وهذا ليس بالأمر العسير، بل تكون أقامة مثل هذا الطقس في دائرة حكومية هو العسير عمليا،

ثم يضع نفسه في مقارنة، وكيف سمى صعودا إلى السماء ولامس زجاجها الأزرق، فيما هبط

المدير إلى الدرك الأسفل من الدناءة والأنانية، كقوله: ارتفعت أمام ناظريه بهالة نورية ...ثوب ذاتي الأبيض....وهبته براءة الذمة ....وأنا أصلي بذلك الصدق والإخلاص..

كان يسخر طوال الحديث .. إصلاح أسنانه المتراكبة .. التقليل من سواد الوجه .. الترميمات .. مصاحبة حور العين ...

ثم يهزأ ببقية الموظفين الذين يعتبرهم بطانة المدير، وهم لا يعرفون أقامة صلاة الجنازة.. (لفتية زهدوا ببهرج الحياة ..انقطعوا للعبادة منذ ألف عام، فرفع الله عنهم الحجاب).

وقد أفتعل الموت الجماعي بحقد أسود، نكاية بهم، وليلوث جثة المدير ويدفنه بين الأنقاض تحت الكتل الأسمنتية، وقام بوقاية نفسه من ألآلام وخصها بوضع خاص، كقوله: (أخذت الكتل الأسمنتية تتدحرج بنعومة، أشبه ما تكون بقطع الإسفنج ..أحالني الموت إلى ذلك الصمت الرائب، دون ألم أو إزعاج).

ثم صور الموظفين وهم لم يسألوا عن مديرهم، ولا عن بعضهم البعض، حيث انشغلوا بالأكياس التي يختطفونها، بنفوس متوحدة بأنانيتها، واستحواذها، مثلما تفعل الحيوانات، بل جعلهم يختطفون الستارة الصفراء من المدير، التي كان مدثرا بها، ليحزموها على أكياس مطامعهم، رغم كونهم كانوا يجأرون بالبكاء عليه في بادئ الأمر.

وأخيرا هيأ الأجواء المناسبة ليستفرد بالمدير، مجبرا إياه على الاعتراف بأهميته، وهو يرفع

له الكيس ويوازنه معتذرا بتلك الكلمات الرقيقة الآسفة، مكنيا إياه بأبوة صافية!... أيها الفتى ... أيها الولد النبيه...

وقد أستطاع بطل القصة أن ينال ما أراد أمام الشهود، ممن كانوا يطقطقون بأصابعهم، وصار هو الصورة الواضحة أمام الجماهير الحاسدة لانتصاره الساحق، الذي كان يمثل لديه أعظم ترقية حصل عليها، وهو يرفع الوسام المادي، لكنه ورغم كل ما فعله، فقد أرجع جميع الموظفين إلى أهلهم، ألا  أنه أستبقى المدير، مغفلا جانبه الاجتماعي، وأبقاه في النهاية, صورة مهملة مجهولة المصير بين الركام، رغم كونه طنطلا لا يمكن إخفاءه، وقد أجمل المتحدث في القصة، علاقته بالمرأة، مجردا إياها من صفة الوفاء، وما عادت سوى كائن له رنين لوعة فارغة لا مجدية، مجرد ببغاء تردد الأقوال، ليس لها كيان يعتد به، شئ يطرح بعيدا عن الانظار، وهذا ما وصفه عن أم جنان، أما المرأة التي سماها بالحبيبة، فقد سيرها على مستقيم مادي ليس فيه خط رجعة إلى معاني المودة أو الجمال أو الصلاة الإنسانية الأخرى، وكان بتعبيره (..أنها ذابت في قلب الزمن، في المجرة الرابعة أو الخامسة ..) كان في الحقيقة يقذفها ذهنيا إلى بعيد، بكل ما يستطيع، لأنه لا يرى أي معنى لعلاقة الحب، فهي مجرد كونها مستقيما من المستقيمات التي سلكها مضطرا، مثل أنهر عليه عبورها، انسجاما مع إيقاع الظروف.

القراءة الثالثة

ضوء على التكنيك

تلاعب الكاتب في قصته بعواطف وفضول المتلقي، حيث أستهلها برسم صورة: تعني للمتلقي طرح سؤال كبير وغامض ومستفز(.. مات المدير!!. لم يظهر من جسده الضخم, غير وجهه الساكن .. كأنه قد من خشب).

صورة وصفية خبرية، لا تنم ولا تؤشر على أي طريق يمكن النفاذ من خلاله إلى الحقيقة أو احتمالاتها، وهذه أولى المصائد التي يضعها الكاتب للإمساك بالمتلقي، من خلال إثارة الفضول  لأحكام سلطته عليه، وقد رفد الاستهلال، وأدخل القارئ في صلاة جماعية، اظهر فيها بطل القصة غير متحمس، أنما أعطانا صورة ضبابية، وكأنه شخص ثانوي، قد لا يكون الدائر الفعال في الحدث القصصي، بحيث أبقى القارئ منتظرا، وهو يواصل القراءة على أمل وضوح الصورة، وظل الكاتب يرسل متونه الإخبارية المبطنة، في داخل القص، ليتمكن من رصف إنشاءاته، وتهيئة الأرضية المناسبة لما يريد أن يصل إليه، دونما أن يفرط بالقارئ، فارضا هيمنة على نحو ما لأن القارئ بالنسبة إليه هو الجندي الصائل نحو الهدف، مستخدما ألانا المتحدثة، كأسلوب فيه هامش واسع للمناورة، يتحدث عن أفعال خارجية، دون الدخول في عمق الشخصيات، وهو يترك فراغات كبيرة ليملأها القارئ، ويجعله شريكا فاعلا في التحليل وكتابة القصة بلونه الخاص، وفق تصورات وانطباعات محتملة. 

أسترسل في إدارة الأحداث، بزمن متصاعد، ومكان ثابت، واخذ يقترب رويدا رويدا من الفنتازيا، حتى حانت مرحلة التخليق القصصي،  تخليق فنتازي ساخر ومتهكم، بدرجات كبيرة  بلغت ذروة الحدث أو الحبكة القصصية، وقد أغنى القصة عن المتن الإخباري، حيث أذاب المتن الإخباري ضمن عملية القص من خلال بعض الجمل،(.. رغم إني حديث عهد بالوظيفة ... ألا تقرا خطوط المحامي أبي لؤي...إمامة امرأة... لا يعرفون صلاة الجنازة... حرمني من الكشوفات...أحصي التكبيرات...).

هذه الإخباريات وغيرها، جاءت بجمل قصصية على السياق المترابط، بين القص والمتن الإخباري، بحيث ذاب الأخبار في متن القص، وهو بذلك يحافظ على مسافة معقولة بين التصاعد العقلاني لعملية القص.. وحاجته المنطقية للمتن الإخباري والبناء عليه، وعدم السقوط في هوة التقريرية، متجنبا الأسلوب الإنشائي، وهذا ما ظهر في اقتصاده الشديد في المفردات، مما أعطى للنص كثافة كبيرة، باختزال فني لا يشكل أي مثلبة على ارتواء القصة المنجزة.

سجل الكاتب في الجمل الأخيرة أشارة كبيرة : هي بمثابة إيماءة إلى شئ ما وتعد هذه الإيماءة  إلى أشياء عدة تكون محتملة الوجود، لدى طيف واسع من مستويات القراءة، وتعد أيضا ضربة القصة.                                         

القراءة الرابعة

قصدية العمل او التاويل المقترح

ترتبط هذه القراءة بقصدية العمل القصصي، وهي محتملة أيضا، في مستوى معين من الطيف المتلقي، إذ لا يكون بالمستطاع الحكم على العمل القصصي ونحته في مفهوم واحد .. فهذا الحكم في الحقيقة قتل للنص، أو في  أفضل الأحوال الحكم عليه بالسجن المؤبد! في زنزانة تأويل أحادي، فالعمل الذي أستغرق كل هذه الإنشاءات البنائية، والمعالجة، والتكنيك، والتقطيع  وعقلنة اللبنية، والمتون، والحبكة، والزمكان، والتلاعبات الكثيرة، سار بها الكاتب، باتجاه هدف القصة، وأنجز عليها شغلا فنيا، ليصل بالنهاية إلى إيماءة كبيرة، تؤشر على الهدف الذي كان ببغيه.

الكاتب لم يؤشر خلال القصة إلى الفكرة، التي يزمع الوصول إليها، كان كمن يطرز شئ ما لا يمكن فهمه ألا عندما يكتمل .. وكانت إيماءة  كبيرة لكف مفتوح السبابة.

السبابة وحدها تشير، وقد طرزها في آخر مراحل القصة، وعلى هذا فأنه يأمل من القارئ أن يعود ثانية ليقرأ القصة من جديد، ليتطلع إلى الإشارات المنثورة بين ثنايا السرد، كومضات، وجمل متهكمة وساخرة، وفنتازيات، أو ترميزات، أو عبارات اعتبرت زائدة، مر عليها القارئ مرا سريعا، أو أنها إيقاعات كلامية أو إنشائية.

عندما نجد في  أنفسنا القسوة الكافية : للحكم على قصدية هذا العمل . فنقول افتراضا بأننا واجدون في هذه القصة : مجموعة من الموظفين الفاسدين !!! مات مديرهم بالمعنى، وهو أول المرتشين، باعتباره قدوة، يحتذي بفعله الآخرون، وكانت عملية الصلاة الزائفة هي ممارسة للدجل والكذب والفساد، تهافتوا فيه جميعهم ... وماتوا معنويا، متخلين عن إنسانيتهم، وعن الأمانة المقدسة التي في أعناقهم.

بطل القصة يبرر لنا سقوطه معهم، كقوله:

(أضعت عمري بلا جدوى...سائر على المستقيمات... من صراط إلى صراط...حياة موغلة بالسخف... حرمني من الكشوفات ....المهام الحسابية ... حديث عهد بالوظيفة). 

وهكذا يرفع علامة السقوط، رآه ألقاصي والداني، دون أن  يشعر بالخجل.

وتنتهي القصة، وظل أهل الحاجات من مساكين الشعب: يطقطقون بأصابعهم آلاما وحسرات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثلاثاء 15 آيار/2007 -26/ربيع الثاني/1428