رحلة إلى عمان.. أنت عراقي إذن أنت متهم

د. احمد باهض تقي الحميداوي

(الحلقة الأولى)

لم يكن يدر بمخيلتي أبدا أن تكون رحلتي الأولى إلى البلدان العربية ستكون إلى الأردن، ليس قصورا فيه بل لأنني أردت اكتشاف بني قومي من غير بوابة الأردن، رحلة بدأت بيوم شاق في مطار بغداد الذي تتوجه إليه وعليك أن تكتب وصيتك، فقبل أن تتوجه إلى ذلك المطار الذي أراد له في يوم ما صدام المقبور أن يكون مطاره الخاص يباهي به السلاطين والأكابر من الطواغيت، لكنه استحال إلى أن يكون بداية لمعركة كانت فيها نهايته.

انتظرنا من الساعة الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، نحن جمع من أساتذة العراق الذين أوعدونا بان هناك دورة تدريبية على أيدي متخصصين انكليز سوف ندخل بها لتطوير قدراتنا التي تراجعت في عهد الطاغية حسب قول القائمين عليها، وبعد اللتي واللتيا ركبنا العراقية التي تأخرت عن موعدها ثمان ساعات، وطارت لأرمق حينها بغداد الحبيبة أم الدنيا لأول مرة بعد سبعة عشر عاما لأول ركوب لي ومشاهدة لبغداد من الجو، لم يكن قائد الطائرة مخيرا في الطيران فعليه أن يسلك الطيران اللولبي ليطير بعيدا عن ( المجاهدين العراقيين ) لينأى بطائرته  عنهم،وأنت ترى بغداد من الجو تتوارد في ذهنك تلك القصيدة الرائعة لشاعرها الكبير الجواهري وتذرف دمعة تتمايل وتتهادى وتأمل بان تختلط مع دجلة الخير وتلوذ حينها لوذ الحمائم بين الماء والطين، وتصرخ مع صرخات شاعر الناصرية الكبير قيس لفته مراد... (لو في النعيم وجدت مقتعدي... لصرخت آه ردوني إلى بلدي).

 وتتوارى بغداد بعيدا وحينها ازددت شوقا لاكتشاف بني قومي العرب، العروبة.. القومية... النضال... الوطن العربي... اهلا بكم في بلدكم الثاني... وووو، حطت الطائرة في مطار الملكة علياء الدولي بسلام، وكان حينها يرافقنا احد الإخوة الأعزاء من الزملاء فصاح اللهم صلي على محمد وال محمد فردد بعده البعض ولم يردد البعض الآخر، فتأملت وقلت بداخلي حتى بهذه اختلفنا ياويل بني قومي من نبيهم الذي أتى بقران ربه وربنا وفيه الكثير من آياته البينات التي تصلي على محمد وال محمد.

تفاءلنا خيرا عندما تدافعنا كعادتنا نحن العراقيين بغض النظر عن مستوياتنا لنكون في طابور الانتظار من اجل ختم جوازاتنا والذهاب إلى الفندق علنا نريح أجسادنا التي أنهكها التعب في بغداد وكانت حينها الساعة العاشرة  ليلا في عمان، كان حينها في الطابور المجاور جمع من (المواطنين الاسرائيلين) وبكل أدب واحترام كان طابورهم يتحرك وسرعان ماتم إنهاء ترتيبات دخوله التي لم تتجاوز بضع دقائق معدودات ولكن الطابور الخاص بنا لم يتحرك إلى الأمام سوى سنتمتر واحد ناتج عن التدافع، ترى ما هو السبب ؟

نفد صبري واحمرت عيوني وازداد غيضي وأنا لااصدق ما أرى،  الإسرائيليون يدخلون بأمان وسلام ومودة، ونحن ننتظر.... تقدمت لأسال الموظف المعني بالجوازات بلهجتي العراقية الجنوبية الممزوجة بألم أمهات الاهوار ودموع الذين ذبحوا وماتوا ودفنوا دون وداع في المقابر الجماعية، وألم الثكالى اللواتي ترملن في كربلاء في كل حصاد جديد لأبطال المقاومة والمجاهدين من بني الزرقاء والعفراء وقوم لوط، تقدمت لأساله عن سبب التأخير، فقال بصوت بارد وبنظرة ازدراء: إجراءات روتينية ودواعي أمنية.

وأخذت الدقائق تمر ثقيلة على الوفد وبدا التذمر كبيرا، ومن ثم جمع موظف الجوازات وآخرون معه جميع جوازاتنا واخذوا بالدخول إلى غرف مغلقة لانعرف ماذا يريدون وماذا يفعلون؟، وبعد مرور أكثر من ساعة ثم ساعتين، اخبرونا بأنه إجراءات روتينية ليس إلا، ثم قالوا وماذا يعمل هذا الوفد ؟ وووو... وبعد اتصالات بين اليونسكو ووزارة الداخلية الأردنية / غرفة إدارة الأزمات،  وبعد أن أصبح دخولنا إلى البلد الهاشمي الشقيق، عبارة عن قضية دولية يجب مراعاة شروط السلامة الفكرية والمهنية حتى لا يتلوث البلد الشقيق بأفكار غريبة قادمة من بلد الاحتلال والمقاومة، وقفنا ثانية بالطابور، يسال الموظف وأنت تجيب: اسمك.. أبوك... لماذا هكذا اسمك ؟  وحينها تراءت أمامي أسماء الكثيرين من العراقيين البسطاء الذي سمو أبناءهم وبناتهم بأسماء قراهم  وأنهارهم وحتى حيواناتهم ليس إساءة لهم بل اعتزازا بارتباط العراقي بوطنه وبيئته، ووصل الدور لي: أنت احمد: نعم: أبوك باهض: نعم: اسمك جدك تقي ماذا يعني ؟ أنت من أي مكان في العراق ؟ وأنا  ساكت وكان لي صديق  يقف بخلفي اخذ يضغط على يدي بقوة عندما راني أستشيط غضبا، قلت له أنا عراقي بزفرة، وعندما راني هكذا سلمني جوازي وذهبت، حينها بقدر ما أنا ارتحت، كان هناك توقعا بقدر من المصاعب التي ستواجهنا خلال أيام الدورة، وحينها أيضا نظرت إلى ساعتي كانت الساعة تقترب من الثانية عشر ونصف ليلا، وقد أعجبني كثيرا موقف احد الاساتذه من المعهد التقني/ الناصرية الذي طالب موظفي الجوازات الأردنيين وبكل شجاعة العراقي وغيرته أن يعيدونا إلى بلدنا ويعطوننا جوازاتنا لا أن يهينوننا ويحاولوا إذلالنا وقد كنت مؤيدا له بكل حماس وكان هناك الكثيرين من الزملاء الذين طالبو بذلك.

 تساءلت مع نفسي وسالت الآخرين لماذا هم هكذا معنا؟ فقال من قال أنهم تغيروا على العراقيين كثيرا بعد  سقوط صدام، وأكثر بعد إعدامه، تساءلت مع نفسي ثانية.. اهكذا يختصر تاريخ شعب عريق بتاريخ اسود لطاغية كبير، الم يعش الأردن وشعبه بخيرات العراق وأمهات اليتامى يبعن سكر الحصة التموينية على قلته ليشترين به دفاتر المدرسة، عل يوم جديد يبزغ، الم يجلس المعلمون والمدرسون والمثقفون على قوارع الطرقات ليبيعوا (سكائر اللف) وأعواد الثقاب ويبيعو معها مهنتهم الجليلة فداء  للعروبة والنضال والوطن العربي ولينعم أبناء العمومة بعيش رغيد.

        طوال أيام الدورة التي اشرف عليها الانكليز الذين غمرونا بحق بدفء علاقتهم وسمو خلقهم، أولئك الذين كان يقودهم شاب بريطاني الجنسية عراقي الأصل دمث الخلق، لطيف المعشر، عندما تراه ترى كل أخلاق العراقي الأصيل المحافظ على شرفه ودينه وانتماءه، ترى ما أكثر العراقيين من أمثاله الذين أبعدتهم الغربة؟ انه الدكتور علي هداوي الذي لم ولن يبرح ذاكرتي قط.

        لم تكن الدورة بمستوى طموحنا ولم يكن منهاجها بمستوى ما نأمل نحن العراقيين التواقين لتعلم واكتساب كل ما هو جديد ولكن كانت بحق نقلة مهمة في طريق الانفتاح على العالم.

        في احد أيام الدورة كنا  قد استأجرنا سيارة للتنزه في عمان، كان أول سؤال للسائق من أين انتم من العراق؟ ففهمت سؤاله: فقلت له أنا عراقي مسلم شيعي كي اختصر عليه المسافة، فقال مباشرة لايازلمة ليس لدينا فرق بين مسلم وشيعي وغيره، وللنظر فأنهم يخرجوننا من خانة المسلمين وهو أمر غريب حقا... فقلت له لماذا تخرجنا من خانة المسلمين ؟ فقال بالحرف الواحد انتم نبيكم علي ولديكم قران آخر، فتعجبت... قلت له من أين أتيت بهذا الكلام ؟ قال ما هو في كتبكم موجود، عجيب..  فأخذت اشرح له ما معنى كلمة الشيعة وما هو الفكر الشيعي وبماذا نؤمن... فتامل بوجهي مبهورا وقال لايوجد اختلاف يازلمة بس اقسم لي برب العالمين بان كلامك صحيح... فأقسمت له وقلت له أنا يا أخي أستاذ جامعي وهذه هويتي حتى تصدق أكثر... فقال والله يازلمة انتم مظلومين فلماذا يقولون عنكم هكذا وهكذا.. وأنكم أدخلتم أمريكا على العراق وقبلتم بالاحتلال...حينها قلت له هنا امتزج النفط بالدم وراح ضحية ذلك العراق وشعبه، العراق احتلوه من بواباباتكم، والعراق استبيح من نوافذ غدركم وانتم الذين شجعتم صدام على استباحة دماءنا واستهتاره بحرمة تراب العراق.

وبعد ذلك وصلنا إلى المكان الذي نريد وذهب كل منا وهو يلوم، أنا الذي ألوم نفسي وكنت أمنيها برحلة تبعدني عن هوس مجرمي الإرهاب وعصاباته، وهو الذي أقحمته الحقائق في دوامة التاريخ.

(يتبع)

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثلاثاء 15 آيار/2007 -26/ربيع الثاني/1428