مكامن التعبير الأدبي وجدلية الإبداع

فريد عبدالله النمر

لعل ما جاء من تزاحم مفردات ثقافية وغير ثقافية في الآونة الأخيرة ولما يحمله الفكر الأدبي من شروخ في فهم الحقيقة الفلسفية و إطلاق الصفة التعبيرية الغير دقيقة يدل على الفوضى الثقافية التي نعيشها بعيدا عن التأصيل لأبعاد الحقيقة المعرفية المعتمدة على رسالة الأدب في النص والأهمية الجمالية البحتة في المحتوى مما سيجرنا إلى جدلية النص والرسالة والجمال وكيف يقرئه المتلقي وبأي لغة يترجمه وهذا ما سقط فيه الكثيرون عندما تزاحمت بهم المفاهيم وضاقت بهم السبل دون البحث عن مكامن المولدة بهكذا نوع من الكتابة

لقد كان لظهور قراءة جديدة معتمدة على سيكولوجية الكتابة وأبعادها المعرفية في الآونة الأخيرة مثار جدال واسع وفتحا لمحاولة تفسير شامل لفكرة تأصيل المفهوم عند الأديب نفسه.  لقد ظن في البداية إن الثقافة الأدبية معتمدة على  قدرة الكاتب في توليد نص منسجم وجميل بعيدا عن مدى تقديم فلسفة خاصة تعكس مفهوم هذا النص لكن ما أن تسارعت الاكتشافات لهوية النص والأبعاد الأخرى التي هو بصددها. حتى طفت  الفكرة المبسطة للمفهوم على غرار تلك الثقافة المختزنة عند الكاتب والإشارة الموجهة من خلالها

فمن منطلق مثلا إن اللغة لا تموت لكنها قد تفقد تأثيرها في تحولها من لغة حيوية إلى لغة جامدة و خامدة  تأصل فكرة ومفهوم المخزون للوعي والإدراك اللغوي والتعبيري على قدرة الاستفادة منه دون البحث عنه كمفقود أو استغلاله كموجود وهي كلمة ذات صفة تخيلية افتراضية قد خلقها يأس العقل عندما تهجره حيوية الروح. حيث أن اللغة مصانة بتحولاتها ولا شيء يفقدها, وهذا ما يدعم ما تحتويه عقولنا من أكوان فكرية متنوعة وعميقة مختلفة التفاصيل والتراكيب والدلالات والتي تتجلى في استيعاب هذه العقول لمنطق اللغة من عدمه

 وهو ما يجعل كثيرا من المبادئ والأساسيات تفقد صحتها في وقت ما وتارة تعود لرجحانها مرة أخرى بشكل تتابعي ومستمر يخلو من المفاجئة . لذا نرى التوافق بين الشكل الفيزياء للعقل من حيث التركيب الداخلي وعالم الفن الذي يتقنه هذا العقل على  سبيل المثال القريب جدا هو عكس ما كان يؤمن به سابقا إن نهاية الفيزياء المادة هي بداية للفن الحقيقي من خلال التحرر من تلك المادة,

إلا أن المعلومات المخزنة في رقائق الذاكرة لا تفقد تماما بل تنحسر وتغطى  وتحجب أي يمسي هناك حجاب بينها وبين من يبحث عنها ولكن لا تندرس تماما, وهي تقبع في مكان ما من هذه الذاكرة الفيزيائية محافظة على ألقها مهما تقدم بها الزمن و إن المسألة الرئيسة هو مبدأ الأمل والعودة لها بروح متفائلة تحمل سائلا محركا متجددا كالمطر إذا نزل بالصحراء فهو يبللها ويبعث في بذورها  الروح من جديد لتخرج نبتة خضراء متفرعة بعد أن كانت جامدة, وهذا الحفظ يدفع بنا إلى تملي فكرة الخلق والنشأة وفكرة الفن أصلا والصلة بخالقه سواء كان هذي اللغة لغة شعرية أو أي لغة من لغات الفنون المختلفة.

لذا نجد أن اللغة الشعرية هي غرْف روحي من تلك الذاكرة التي غلب عليها السبات الوعي ِ والذي ترك فيها تجاويف من مداخل ومخارج العقل على شكل متاهة كهوف متشابكة لا حدود لتقاسيمها ولا يعرف عنها إلا ما يطفو من عالم اللاوعي من خلال إثارة الإنسان واستجابته لما يصيب الجانب الإنساني عنده كالموت أو جنبة من جنباته

و من هنا إن التوقد الحسي في منطقة موغلة في الذاكرة يحتاج لقدرات عالية وتمكن حقيقي يمكننا من سبر تلك المسافة وذلك البعد للوصول لمركز فصول التراكم ومكامنها الخامة وبعناية مركزة نظفي عليها خصوصية الاشتعال  لتحويلها من صفة الماضي السحيق إلى الحاضر المتوقد, وهذا التوغل هو بمثابة من يقطع الجبال والهضاب والأودية  لتحقيق عمل استثنائي خاص وبنكهة تختلف, إذ قد نجد في انسدال زاوية مثل الموت قمة الحياة واستعادة توازن يتوازى مع لغة الخروج عن تشظيات المشهد الذي يعنيه الموت دائما .. وهكذا

ومن هنا تظهر جلية خصوصية الشعر في تحليقها مع صور في غاية الإتقان مليئة بالمشاعر يتحول من خلالها المفهوم عند من يشتغل به وكأنه يذهب لعالم آخر غير العوالم المألوفة لعالم أشبه بعوالم الماورائيات  والتجلي ولعل هذا ما يفسر القول السائد قديما عن الهروب الروحي نحو وادي عبقر الشهير عند العرب القدامى ولعل كانت هذه التسمية هي أيضا بمثابة ظلمات تلك الكهوف التي يسبح من خلالها الشاعر في تجاويف تلك الذاكرة المترامية الأطراف والمداخل. وهذا ما تكون عليه أودية الروح المختزنة لوادي عبقر المركب من عدة غرف ومعابر ظلماء  تختلف عن بعضها من حيث العمق والاحتواء يكون آخر نفقها هي بحبوحة النور والإشعاع     و الاشتعال

وهذه الفكرة تعكس وتكشف عن الماضي السحيق في مفهومنا للأدب وكيف نشأ وأين يعمل ومن أين انطلق والى أين ومن أي عالم يتكون ؟حيث هو الرابط العجيب الذي ربط متناقضات الحياة وجمعها تحت قبة الروح وتحت مظلة الإنسان, لتجده أي( الشعر) في بعض الأحيان دينا وحكمة وفي مكان آخر سحرا وبيانا وفي مكان ثالث تنفسا وجوديا ووجدانيا يطل على الإنسان من باب عمقه الميثولوجي الذي لم ولن يصل لعمقه الحقيقي ذات يوم.

وعودة للنص الشعري ومن خلال ما تقدم نجد أيضا إن الشعر لا يفسر بتفاسير حقيقية ثابتة الاعتقاد ,فمن خلال المتابعة لأي نص عليه سمة العظمة النصية نجد إن نهايات ذلك النص لابد و أن يحتويها الكثير من الغموض و التشتت عن الحقيقة المطلقة مهما قدم من جمال وإبداع منقطعي النضير وهذا ما يؤكد ظنونا هنا بان الشعر هو من صناعة الموت عند النفس البشرية المترقبة للنهاية الفيزيائية الحتمية التي تقترب منها يوما بعد يوم وانتظار ذلك التحول الرهيب لها وذلك لرؤيتها لمرايا تجاويف اللاوعي عندها وهذا ما يجعلها تخلق جوا من خلخلة واهتزاز متوافق ترتاح لتهاويده

إلا إن فكرة الموت لوحدها هي فكرة ناقصة بالنظر لإشارات التفاؤل التي قد تومض بها النفس من خلال التحدث بلغة الحياة بفلسفة الوجود المطلق وكأنها تنطبق المقولة للحديث الشريف( اعمل لدنياك كأنك تعيش مؤبدا.....) فاللغة الشعر وميكانيكيتها المتأثرة بشؤون الروح لا تنفك  إن تحدث مثيراتها الخاصة نحو بوصلة الأفق المرئي- بجنب الغير مرئي- لتوجد جمالا متمازجا ومنسجما مع طبيعتها اللدنية الطيعة الخلاقة التي تأنس لموسيقاها وعالمها الغنائي المتحرك بحركة الإيقاع والموسيقى

فالمتأمل في الطقوس الأدبية والشعرية خاصة يجد إن تلك الحيوية المعبرة تظل باقية تضفي شيئا من الشد والارتخاء والدفع نحو مكامن السحر الذي تتدفق منه اللغة والمعاني التي تنوي صبّها في ذاتية التعبير وجدلية ارتباطها بحلقات الانقطاع الروحي انتهاء بفكرة ضرورة ترك الأثر فوق هذه الأرض بعد الموت, كما سيجد إن المنظومة الأدبية في فلسفة الروح هي عبارة تصالح غريب بين الحياة والموت من جهة وجموح الروح عن  مفارقة أليفها وغريمها المختزل في الجسد, فهي أي الروح تحاول أن تهدأ جنباتها بإيقاعاتها الخاصة كما تفعل الأم عند تنويم رضيعها وذلك بإحداث إيقاع يهدأ من روعه وتنويمه, ولعل هذا أيضا يفضي بان أول ظهور الشعر كان على يد الأمهات بالسجع الرقيق كما يعتقد- تطور بعد ذلك لبحر الرجز المشهور والذي تطور بعد ذلك لرجز الفخر عند الحروب لذب الحماسة والشجاعة عند المحاربين أثناء القتال, وهذا أيضا دليل عميق على تجلى صورة الموت وعدم طواعية الروح له بصور الإقدام والشجاعة وبنفي الخوف من الموت نفسه.

إلا إن النفس البشرية المعروفة بالتقلب والسأم لا تنفك من تطوير أساليبها ومقتنياتها , فعبر الحقب الزمنية استطاعت بالاعتماد على التجارب المتقدمة أن تصنع تراكما ضخما خدمها في توظيف اللغة الشعرية وإخراجها من إيقاع  أحادي الصفة  إلى عدة إيقاعات موسيقية سميت بالبحور الشعرية كما جاء على يد العالم الخليل الفراهيدي و الذي أبدع في توظيف هذا الفن وذلك بضبطه وتحييده للشعر بالشكل العمودي والإيقاعي  من خلال التفعيلات المعروفة

وهكذا تطورت اللغة الشعرية لتنتقل  من عمق التراكم الحسي في اللاوعي إلى عالم الوعي المشهود تحت تدرج زمني كبير ونمو لفظي متفجر وتحرك موسيقي متفرع ,مما أفضى بعد ذلك إلى منحنيات ومنعطفات شكلت في العصر الحديث لعينات مخبرية سميت بالحداثة أو التحديث في مختبرات النفس الطامحة للتغيير باءَ بعضها بالفشل وبعضها تعداه للنجاح ليركب سلم اللغة الشعرية ويهيمن على  قممها رغم خروجه على الأوزان الموسيقية المشهورة والمنضبطة  إلى الانطلاق نحو أفق أرحب لترمي خلفها القيود باستنهاض المادة الغير محسوسة وتعريتها  وملؤها بالرموز التي تعيد الروح لذلك الوادي السحيق من تراكمات العقل بحثه على تجاوز الزمكانية اللغوية التي يعيش فيها ,رافعة بذلك سقف بحثها عن مجهولها الذي تبحث عنه تارة وتارة تقتفي أثره مهيجة الرغبة عندها في ولوج تلخيص الحياة بأدوات الماضي ورائحة المستقبل تحت منبه الإبداع

ولكن ما تنفك تلك النفس المتمثلة بالروح العبقرية حتى تعود إلى هدوءها ولغتها دون ترك أدواتها المكتسبة والجديدة نافضة عنها تقليدية الشعر على عتبة الحياة الخجولة وعبورها نحو مصالحة تعبيرية بين الفنون الأدبية المختلفة بلغة إشارة إبداعية ومنطلقة تتعمد فيها ترك الصورة لقراءة أكثر تفسيرية لإطلاق عنان البحث والقراءة والتحليل, ولتجعل من فنون الحياة مرسما تشكيليا كبيرا لا تفك شفرات لوحاته إلا من خلال البحث الجاد عن المعرفة وسبر مكامن ذلك التراكم الرهيب من الثقافة في تلك التجاويف العقلية وذلك بمزج نشوى كيمياء الروح السائلة بفيزياء ذلك العقل المجوف بطريقة أكثر توقد وابتكار.

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 11 آيار/2007 -22/ربيع الثاني/1428