مراحل نشوء وتطور التعليم الديني: شورى المراجع (1-6)

كريم المحروس

يصدر عالم الدين المجتهد عند اتجاه التشيع عن جهة علمية دينية كبيرة وعريقة وواسعة في تراثها العلمي والنفوذ الاجتماعي، ويتصف بملكة علمية مميزة وإيمان وتقوى يفوق بهما أقرانه،  ويمتلك الاستعداد الكامل الذي يؤهله لتحمل مسؤولية الوكالة عن الإمام المنتظر محمد ابن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويرقى به قمة المؤسسة التعليمية ويقود حياتها العلمية ويتصدى بها لشؤون المجتمع في مختلف أبعاد حياته.

وقد توسع التعليم الديني بقيادة المجتهد على مر التاريخ الإسلامي ليشكل مؤسسة متكاملة تضم تشكيلا إداريا ورتبا علمية، فيؤدي المجتهد من خلالها مهامه ومسؤولياته العلمية ووظائفه الإدارية بشكل مباشر، إلى جانب ذلك يستمر المجتهد في بحوثه وتحقيقاته العلمية لإثراء مبدأ الاجتهاد ومواد المؤسسة التعليمية في مجال الفقه وأصول الفقه خاصة، كما يؤدي وظيفة مراقبة سير حركة التعليم وشؤون طلبة العلم الديني واحتياجاتهم، ويفصل في شؤون المجتمع ويرعى حاجاته الشرعية ومراكزه الدينية الفرعية كالمدارس والمعاهد والمساجد وجهاتها الثقافية والإعلامية والمالية.

من هنا تعد المؤسسة التعليمية بالنسبة للمجتهد أهم مؤسسة علمية يرعاها بدعم من المجتمع الذي يقدم له عناصرها البشرية والاقتصادية ويحمي معاقلها وأسوارها ويحافظ على استقلالها ويوفر لها كل سبل الاستقرار حتى تتم أدوارها الدينية على أحسن وأكمل وجه، ولا يتعاطى معها كأية مؤسسة مدنية أو نفعية؛ لما لها من اختلاف جذري عن مؤسسات المجتمع من حيث وظائفها ومهامها المقدسة الموجبة لحفظ الدين وتعاليمه ومفاهيمه وعلومه. فهي ليست مكونا فكريا خاصا أو روابط مهنية لشؤون مادية ومعنوية مجردة. 

ولهذه المؤسسة تميزها الخاص في الفكر والروابط والقوانين والوظائف المرتبطة والمرهونة بمصادرها الذاتية والتزاماتها الشرعية. وتتصف مادتها بقدسية خاصة ترجع إلى النص القرآني والسنة المطهرة، ولها سلوك روحي وأخلاق راسية قائمة على معايير الالتزام والتقوى، ولها رتب تتعين بمعيار الانضباط في إطار حزم كبيرة من العلوم والمعارف المختصة في المادة العلمية المقررة في منهج المؤسسة ذاتها ومراحلها. ولها علاقاتها الداخلية التي تتحرك في إطار ضوابط صارمة على صعيد العلاقة مع الذات كلما ارتفع عالم الدين رتبة علمية.  وأما علاقاتها الخارجية فهي مستقلة ولا تخضع لتوصيات السلطة وتوجيهاتها أو أي  مكون من مكوناتها أو نفوذ من نفوذها بالرغم من تعارض ذلك مع دورها الكبير في التصدي لإدارة الشؤون العامة والتدخل فيها.

وإذا ما أخذنا بدور النظرية الشيعية المعاصرة "شورى الفقهاء أو المراجع"التي أطلقها في حوزة كربلاء المقدسة المرجع الفقيه آية الله السيد محمد الشيرازي (أعلى الله درجاته)، فإن فيها مركزية حضارية خاضعة للمجتهد تجمع بين إدارة الدولة وإدارة المؤسسة التعليمية الدينية بما تشمله من حوزات دينية، وهي تفوق في آثارها وعطائها الإيجابي المتوقع النظرية الأخرى في الولاية المطلقة التي تبنتها حكومة ولي الفقيه الواحد المطلق"فإذا صارت الحوزات كذلك وخضعت لشورى المراجع كان الفقهاء المراجع هم الذين يخططون (حسب تشاورهم وتحاورهم، وطبق تجاربهم وخبراتهم) مناهج الدرس والبحث، وبرامج التبليغ والإرشاد. فإنهم مثلا يعينون أول الدرس وآخره، وكيفيته وأسلوبه، فقهه وأصوله، عقائده وأخلاقه. وهم كذلك يعينون مرتبات الطلاب ورواتب المحصلين، ووظائف الخطباء والمبلغين، ودوائر عملهم وتبليغهم من حيث احتياج الناس داخل البلاد الإسلامية أو خارجها، أو من حيث  قدرات المبلغين العلمية ونشاطاتهم العملية، وتأمين معيشتهم وحياتهم اليومية...

 إن العالم الإسلامي بحاجة إلى نظام"شورى المراجع"وتثبيته في الحوزات العلمية وفي غيرها من المؤسسات القيادية، الروحية منها والسياسية، حتى يتمكنوا تحت ظل هذا النظام من استرجاع كيانهم وسؤددهم، وإصلاح دنياهم وآخرتهم)1.

وعلى ذلك فالمؤسسة التعليمية الدينية تعتبر مؤسسة عامة في جهة تعلقها بمصلحة الناس والسلطة وسط نظام إسلامي إذا ما تحقق وأخرج للواقع، ولكنها تظل مؤسسة مستقلة عن النظام السياسي مادام النظام غير إسلامي.  ويصعب تحديد كون المؤسسة التعليمية الدينية مؤسسة عامة أو خاصة، فالخصوص أيضا فيه مغالطة، لأن المؤسسة التعليمية الدينية ليست خاصة بشخص المجتهد أو سلطته أو نفوذ أحدهما أو غيرهما وان شهدت بعض الحالات التاريخية الخاصة كما هو الحال بالنسبة للمرجع الديني الشيخ محمد حسن النجفي صاحب (جواهر الكلام) الذي نص على مرجعية الشيخ مرتضى الأنصاري من بعده.

 كما أن المؤسسة ليست عامة أو خاصة في مناهجها وأهدافها أيضا.  ولكنها تبقى على وصف (المؤسسة) بحكم منهجها وعناصرها البشرية ونظمها وقوانينها والتزاماتها ورتبها الإدارية والعلمية ونفوذها الاجتماعي وتأثيرها على مرافق الحياة.

[1]- قم المقدسة رائدة الحضارة . السيد محمد الشيرازي . ص13

 

راجع القسم:

الثاني: 

الثالث:   

الرابع:

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1 آيار/2007 -12/ربيع الثاني/1428