مصطلحات انثروبولوجية: هويّة

 مصطلحات انثروبولوجية: هويّة

Identity 

شبكة النبأ: مع نهاية الخمسينيات، انبثقت إشكالية نقدية للهوية الإثنية من أبحاث الأنتروبولوجيين العاملين في إفريقيا (ف.بارث، م. غلوكمان، س. نادل، و. واتسون) أو جنوب شرق آسيا (ك. ف. كيز، إ. ر. ليتش، م. مورمان، س. تامبياه). فقد نتج عن سياق التحرر من الاستعمار والصراعات من أجل الاستقلال، وكذلك التوزيع السياسي الجغرافي الجديد، ومطالبات الأقليات بالاستقلال، أن واجه الأنتروبولوجيون ظروفاً جديدة للعمل الميداني مرتبطة بالتحضرن مثلاً، وسياقاتٍ اقتصادية وسياسية جديدة، وشركاء جدد أيضاً.

بحسب المثال البنيوي الوظيفي للأنتروبولوجيا الاجتماعية الكلاسيكية، والموروث عن رادكليف – براون ومالينوفسكي، والذي أعاد فيرث وايفانز – ريتشارد النظر فيه، تشكل الإثنية، التي تعرّف بهيئتها الثقافية، الهوية المرجعية بامتياز. يفترض هنا أن الجماعة الإثنية هي واقع أساسي وشامل للحياة الاجتماعية. وينطوي ذلك على التلميح إلى أن الجماعة الإثنية هي وحدة ذات طبيعة بيولوجية، كما هو النوع. قد يعكس الانتماء الثقافي بالتالي روابط الدم: يرى كايز (1981) أن الإثنوية (تتحدّر من التأويل الثقافي للسلالة). ويبرهن بارت في الجماعات الإثنية وحدودها (1969) أن الحدود الإثنية والهويات توجد وتصان بلعبة التواصل بين الجماعات. وهو يطلق بذلك مشروع تفكيك منهجي لمفهوم الإثنية، في أعمال ما تسمى مدرسة مانشستر (أ.كوهن، أ. إبشتاين، ك. ميتشل، ف. تورنر، ج. ويلسون)، أو في أعمال المستفرقين الفرنسيين المهتمين بالحراك الاجتماعي (ج. ل. أمسال، ج. بالاندييه، ج. ب. دوزون، م. إيزار، ك. مياسو، ب. ميرسييه، إ. تيراي).

لقد كانت بيئة استثمارات المناجم ومناطق الغيتو في المدن هي التي أتاحت تبيان تنوع وتعدد تشكيلات الهوية على أساس إثني، تلك التشكيلات التي تمثل رداً على مظاهر القهر والصراعات الخارجية، وتبيان دور القادة والعمل الفردي في إطلاق الهويات. لم تعد الهوية تمثل أمراً واقعاً، أي توزيعاً واضحاً للجماعات في مدى غير محدد المعالم الزمنية. فقد أصبحت مفهوماً نسبياً يرتبط في نفس الوقت بالنزاعات وموازين القوى، وبتوازن البنى أيضاً. إنها مسيرة في طور التشكل، وضع تاريخي، إلى الأبعاد العاطفية والنفسية للهوية وإلى أوليات اكتساب إدراك الهوية (عبر) تربية الطفل وعالمه الاجتماعي، ومع ذلك يبقى مفهوم الهوية

مفهوماً داخلياً يعكس معطيات خارجية.

تشير الصفة الاعتباطية للفئات الاثنية إلى طبيعتها السيميائية وليس إلى نقص في تأثيرها على العالم الحقيقي. ويصب تطور مفهوم الهوية من هذا المنظور في سلسلة من التساؤلات التي ينتمي أغلبها إلى مقاربة من النمط المعرفي. كيف تشاد وتنتظم هذه الإنشاءات؟ وكيف تتجذر في البعد الديني، وفي القيم والفنون؟ وما الذي يربطها ببنى التواصل؟ وعلى أي مستوى من الوعي تدل؟

إن واقع إقامة المجتمعات الأوقيانية في الجزر قد وضع الأنتروبولوجيين داخل حدود تعريف زماني – مكاني للهوية، وقد أنتج تأملاً يعتبر فكرة الهوية احد أشكال (العادة)، أو نمط حياة ومنظومة قيم، أو مرجعية وشيفرة أخلاقية. وقد ساهم سكان المجتمعات الأوقيانية أنفسهم في هذا التأمل فارضين وجوده في صلب السجالات حول نزع الاستعمار والاستقلال والوحدة الوطنية والنمو، ومستخدمين عبارة (العادة) للتعبير عن هويتهم (كيسينغ، 1989). قدّمت العادة في كل مكان وعلى مختلف الأصعد كمرجع رئيسي، كدرع الدفاع عن الهوية (دو ديكر وكونتز، 1998)ن وكخميرة وحدة تسمح بإعلانها. لا يقدّم لنا التاريخ الهوية كاملة على حد قول جان – ماري تجيباو، بل هنالك دائماً إعادة تأويل بحسب حاجة العاملين في الحاضر. وهذه هي حال العادة. فإن مطالبة سكان المجتعات الأوقيانية بالهوية (الطبيعية) للعادة تعكس تطلعهم إلى تخطي فكرة الإسناد إلى شرعية ماض غابر يجتهدون في ترسيخ فعاليته على الصعيد الراهن كما على صعيد الدول والدستور والقانون والبنى الإدارية.

إن اللجوء إلى مفهوم الهوية وإلى كافة مشتقاته من أجل إعادة تشكيل المفاهيم المؤسسة للأنتروبولوجيا – ثقافة، إثنية، شخصية – ينم عن الميل إلى قطيعةٍ مع أنتروبولوجيا تجيز ضمناً نوعاً من (لا مادية لا زمنية) بنسا، 1996) للمجتمعات التي تدرسها. يرمي البحث اليوم إلى تجاوز حتمية هذا الهدم للفئات من أجل عادة التركيز على تحليل (المشاريع الراهنة للهوية)، أي إلى وضع تقرير عن رهاناتها الموضوعية والرمزية، وفعاليتها الاجتماعية والسياسية، وتنظيماتها وأنماط تشكيلها، إن التطور في ميادين التواصل، والحركية المتزايدة، وتسارع التبادلات وتزايدها، والاتصالات ومختلف أشكال التهجين التي (تشوش) و(تناشد) في آن الأنظمة الاعتيادية لمرجعية الهوية، تفضي بنا إلى دراسة هذه الأنظمة عينها إذ أنها تطالبنا بأكثر من إعادة نظر في الهوية. 

 

متعلقات 

الهوية والمواطنة(1)

التعددية الثقافية.. الحرية والمواطنة..

الهوية: المعنى والاصطلاح

تتداخل كلمة الهوية مع عدد من المفاهيم التي تساعد في جلاء المعنى احياناً او تعقيده في احيان اخرى. وذلك بسبب مجالات الاستخدام مثل الثقافة والسياسة وعلم النفس والمنطق والاجتماع وغيرها من المعارف، مما يقتضي البحث عن جذر ثم تطويعه دون الابتعاد كثيراً. ولا تقدم المعاجم القديمة معنى شاملاً يعبر عن واقعها و نجد في معاجم اخرى، مثل المعجم الوجيز ان الهوية تعني: الذات «مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997، ص 654» وفي المعجم الوسيط: تعني حقيقة الشئ او الشخص التي تميزه عن غيره «الجزء الثاني، 1989، ص 998» وقد ساعد الفلاسفة اكثر من اللغويين في تفسير الهوية (بضم الهاء) وهي منسوبة الى (هو) وهي تقابل الآخر او الغيرية. وتعني في كتاب التعريفات عند الجرجاني:« الحقيقة المطلقة، المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق» ويكمل (الصديق) في قاموسه الفلسفي المعنى بقوله:

«هوية، ما يعرف الشئ في ذاته دون اللجوء الى عناصر خارجية لتعريفه، ويستعمل ايضا للدلالة على الجوهر والماهية. وعند المتصوفة هي الحق المطلق الذي يحتوي كل الحقائق احتواء النواة على الشجرة في الغيب المطلق. اما في المنطق فان هذه اللفظة تشير الى معنيين:

1/ التساوي او التشابه المطلق بين كمين او كيفين وهنا تعني التوافق.

2/ ان يكون الشئ ثابتاً لا يتغير بما يعتريه او يعتري ما يحيط به وهنا تعني الثبوت تقول «الموسوعة الفلسفية العربية» هي كلمة مولدة اشتقها المترجمون القدامى من الـ«هو» لينقلوا بواسطتها ا لى العربية كما يقول - الفارابي - المعني الذي تؤديه كلمة «هسست» بالفارسية وكلمة «استين» باليونانية اي فعل الكينونة في اللغات الهندواوربية الذي يربط بين الموضوع والمحمول، ثم عدلوا عنها ووضعوا كلمة «الموجود» مكان الـ«هو» والوجود مكان «الهوية» ومع ذلك فقد فرضت كلمة الهوية نفسها كمصطلح فلسفي يستدل به على كون الشئ هو نفسه.

تتداخل الهوية مع مصطلحات عديدة مثل الخصوصية بالذات حين يكون الحديث عن قيم ومبادئ عامة وانسانية مثلما نلاحظ في نقاشات حقوق الانسان على المستويات الدولية والاقليمية والمحلية. والاعتراض بسبب مفهوم الخصوصية يستدعى مباشرة وجود هوية مختلفة مما يتطلب سلوكاً وردود فعل مختلفة او حتى مقاومة لما يمكن ان يعتبر تهديداً للهوية بسبب «غزو ثقافي» مثلاً.

وتزايد التركيز على الهوية مع تصاعد سيرورة العولمة التي يرى فيها اصحاب فكرة الهوية الضيقة، خطراً ماحقاً على الثقافات الاخرى «غير الغربية». ويطابق البعض بين العولمة والامبريالية او القطب الغربي الواحد، ويرون فيها مخططاً او حتى مؤامرة للهيمنة على الثقافات الاخرى: بوعي وقصد فالعولمة حين تسقط الحواجز والحدود وتحول العالم الى قرية تهدد بالفعل ثقافات اخرى ولكن ليس بقصد المؤامرة والمخطط بل حتمية تطور التداخل: ثقافيا واقتصادياً.

وقد يقف دعاة الهوية عموما او المغلقة امام خيارين (اقرب الى المستحيل) وقف العولمة او تعميق الخصائص والميزات والصفات التي تحصن من دون اي تأثير خارجي. فأين الحل؟ هو حسب رأيي - التكيف باقل خسارة ممكنة. ولكن ماذا يبقى من الهويات؟ قد تكون هناك حالة انسانية عالمية لا يفترض فيها بالضرورة التعارض مع الهويات او تذويبها قسراً، اي تضمنيها والتبادل معها، وهذه وضعية تعبر فيها الثقافات التقليدية او الوطنية عن الحاجة الى الاندماج في العولمة وفي نفس الوقت تبحث عما هو خاص بها ويقول WALLERSTEIN «فالحقيقة ان الكونية يمكن معاينتها خلال الخصوصية والعكس صحيح».

يرى البعض صعوبة تحديد وتعيين الهوية او الخصوصية على صعيد الواقع وبالتالي اعتبر الكثيرون ان مفهوم الهوية مصطلح ايديولوجي اكثر منه علمي. وذلك لان الهوية يمكن التعبير عنها او تجسيدها من خلال الدين او اللغة او الدولة الوطنية او القومية. وكل هذه خصائص متغيرة حسب طريقة استخدامها وتوظيفها، لذلك يمكن لمجتمع واحد ان يبدل «هويته» حسب المراحل المختلفة تاريخياً ووفقاً للظروف الحاكمة.

ومثال ذلك التاريخ العربي المعاصر، حيث اثرت الايديولوجيا على تحديد الهوية. فالامة التي كانت مقتنعة بحتمية سيادة القومية العربية ورآها البعض رسالة خالدة للامة في الستينات، يتردد الآن بين الكثيرين شعار: الاسلام هو الحل.

هناك من يرى الهوية اصلاً مجرد مصطلح سياسي ولد ضمن عملية صراع سياسي. ويستهل المفكر الفرنسي «بابار» كتابه عن الهوية بمفهوم «بيان السياسة» منطلقاً من ان «العلاقات المعقدة بين التصورات الثقافية والممارسات السياسية والاساليب الشعبية في التحرك السياسي والخيال السياسي» هي سبب بالنزاعات التي تملأ العالم وترجعها الى الهوية. وذلك حسب افتراض يزعم بان «الهوية الثقافية» تقابلها بالضرورة هوية سياسية لا تخلو ايضا في الواقع من طابعها الوهمي.

والحق ان كلا الهويتين تكون في احسن الاحوال بناء ثقافياً او سياسياً او ايديولوجياً اي بناء تاريخي اصلا. فلا توجد هوية طبيعية تفرضها الاوضاع. ويؤكد ان الخبرة التاريخية تثبت ان هوية الفرد مرتبطة بالاوضاع ومتعددة الجوانب ونسبية وهي مفترضة ضمنياً. ويعطي مثالاً لهذه الهويات:« فالشخص المقيم في سان مالو سيعرف نفسه على انه مالوني (نسبة الى سان مالو ) في مواجهة آخر من رين، وكمواطن من مقاطعة بريتانيا في مواجهة مواطن من باريس، و كفرنسي في مواجهة مواطن الماني، وكاوربي في مواجهة امريكي، وكابيض في مواجهة مواطن افريقي، وكعامل في مواجهة صاحب العمل، وككاثوليكي في مواجهة البروتستانتي، وكزوج في مواجهة زوجته، وكمريض في مواجهة طبيبه.

وقد تكون هذه ادوار اجتماعية ولكنها هي التشكيلة الكبيرة لتعريف الذات. ويدين التفكير الثقافي الانغلاقي: «لانه لا يكتفي بتحويل الهويات المتغيرة باستمرار الى مسألة لا ترتبط بالزمن بل وتتستر على العمليات الملموسة التي يعرف انفسهم بها مجموعة من الافراد او فرد واحد في لحظة تاريخية معينة، وفي ظروف محددة ولفترة محدودة».

ويطرح اسئلة مهمة مثل لماذا انتظر الهوتو والتوتسي في رواندا طويلاً حتى يتقاتلا لو كان السبب هو يتعلق بالهوية الاثنية فقط؟ وسنجد صعوبة في فهم لماذا توقف الكاثوليك عن الصراع مع البروتستانت او كيف تصالح الفرنسيون مع الالمان؟

ويذهب «معلوف» في نفس الاتجاه، حيث يرى ان الهوية هي الانتماء الرئيسي الوحيد الذي يستمر في مختلف الظروف اقوى من الانتماءات الاخرى. وقد يكون لدى البعض هو الوطن او الدين او الطبقة. ولكن حين نتفحص النزاعات القائمة ندرك انه ما من انتماء له الغلبة بصورة مطلقة. فعلى سبيل المثال حين يشعر البعض بأنهم مهددون في عقيدتهم الايمانية يرتفع الانتماء الديني مختصراً لهويتهم.

ولو تهددت اللغة الام او جماعتهم الاثنية يمكن ان يواجهوا ابناء دينهم يقول:« فالاتراك والاكراد مسلمون لكنهم مختلفون في اللغة فهل النزاع بينهم اقل دموية؟ الهوتو كما التوتسي هم من الكاثوليك، يتكلمون نفس اللغة، فهل منعهما ذلك من التذابح؟ التشيكيون والسلوفاك كاثوليك ايضا فهل يسر ذلك العيش المشترك فيما بينهم».

التمسك بالهوية حصن الخائفين من العولمة(2)

غدت الهوية بؤرة السؤال ومدار السجال في الأوساط الفكرية والدوائر السياسية. وليس أدل على ذلك من مطالعة هذا الكم الهائل من الكتب والمقالات التي تتناول موضوع الهوية. فالإسلاميون يرون أن الهوية هي الحقيقة المطلقة المشتملة على كل الحقائق. ويرى بعض الإسلاميين أن الأمة الإسلامية في غنى عن رحلة البحث عن هويتها ما دام الإسلام قد حدد هويتها وقدرها. وهو وحده الذي يتوفر على نمط حياة شامل يقدم البديل المفتقد. ويرى الإسلاميون أنه بعد أن انهارت الشيوعية وفشل المشروع الليبرالي في قيادة العالم فإن الإسلام هو الخلاص.

وهكذا تصبح «الهوية الإسلامية» بمثابة حل للبشرية. ويرى بعضهم أن هذا التيار غير متناسق، فهو يعود إلى التراث لعله يمده بشيء يثبت كلامه.

أما القوميون فقد كانوا السباقين في إطلاق مصطلح «الهوية القومية» أي البوتقة التي تنصهر

بداخلها فكرة القومية العربية كما قال المفكر انطون مقدسي. ويأخذ التيار القومي على التيار الإسلامي عدم إمكان تعيين هويته سياسياً، وذلك لأننا أمام عدد من الأعراق والإثنيات واللغات والتواريخ العصية على التوحد.

أما التيار الماركسي الأرثوذكسي فإنه يعلن بأعلى صوته أن العولمة البربرية تهدد هويتنا إذ أنها ليست إلا «رسملة « للعالم. ويغدق هذا التيار في طرح الوصفات والنعوت الجاهزة التي ينتقيها بدقة خشية أن يفتضح إفلاسه المعرفي وفقر ايديولوجيته التي يفاخر بها.

يمكن القول إن الهوية في الخطاب العربي المعاصر باتت بمثابة المغارة التي يلجأ إليها الجميع للاحتماء بها في ظل ظلام العولمة الدامس على حد تعبير بعضهم. إنها الحصن الحصين لإثبات الذات، ورمز لمقاومة الذوبان.

ولكن عبثاً نحاول أن نحصل على تعريف واحد شامل لهذه الهوية. إنها تزداد التباساً كلما حاولنا الاقتراب منها أو الإمساك بها. إننا لا نعرف أين نجدها. أهي في الماضي حيث تكونت وتشكلت، وما علينا سوى الاقتراب منها بغية التطابق معها؟ وعندئذ ينبغي أن نعود إلى الماضي حتى تعود الأمور إلى نصابها أم هي في المستقبل؟ وإذا كانت في المستقبل فما هي مقوماتها؟ وكيف نستطيع تخيل مستقبل في عالم متحول؟

إن مفهوم «الهوية» يتضمن درجة عالية من الصعوبة والتعقيد والمشاكلة لأنه بالغ التنوع في دلالاته واصطلاحاته. وهذا ما ينفي الطرح التبسيطي والاختزالي الذي يتم تداوله لهذا المفهوم في الخطاب العربي المعاصر.

وكما لم يستطع العرب التعرف على النهضة الحديثة إلا من خلال الآخر، كذلك لم يستطيعوا أن يتلمسوا هويتهم إلا من خلاله. فعندما تحدث من يطلق عليهم «رواد النهضة» عن النهضة كان عليهم قبل أن يصلوا إليها أن يبشروا بها مجسدة من خلال الآخر (الغرب).

ولا أكون قد اكتشفت جديداً عندما أتحدث عن مدى تغلغل الغرب الحاضر فينا ومعنا في خطابنا. إننا لم نستطع صياغة سؤال النهضة الخاص بنا، أو أن ننتج هوية ناضجة تتسم بالحيوية مع الاتصال بالآخر بدل طرح هذه الهوية المأزومة عند كل احتكاك أو اتصال به.

الثقافة والهوية (3)

الهوية لا تكتسب سلميا وتطرح في مواجهة خطر الابادة من قبل هوية أخرى

ما دور الثقافات والأديان في تشكيل الهويات وكيف تكتب المؤسستان الدينية والوطنية كينونة الأفراد؟

أولا: الهوية الثقافية، الهوية الوطنية

كيف يمكننا اليوم أن نقيم الدور الذي يلعبه مصطلح الهوية الثقافية؟ سأحاول القول هنا إن ذلك الدور يكمن في الثقافة. وللاجابة على السؤال السابق سوف أدرس استخدامات مصطلح الهوية الثقافية في الوثائق الرسمية للمنظمات الثقافية الدولية. ذلك أن تلك المنظمات تعتبر مؤسسات نموذجية للخطاب الشامل، كما أنها تتميز بكونها أماكن انتاج وتلقي خطابات عامة. بالاضافة إلى ذلك تعد هذه المنظمات الدولية الثقافية أماكن عامة لاستقبال واصدار الملاحظات والتعليقات بل فرضها بطريقة جبرية.

لقد أفرزت تلك الخطابات الثقافية العديد من القضايا التي تأثرت بها - نذكر على سبيل المثال "الحقوق الثقافية" للأفراد والجماعات، "الديموقراطية الثقافية"، زالتنمية الثقافية س والعلاقات بين زالثقافة س و "التنمية" "تعزيز اللغات الوطنية"، العلاقة بين "الحفاظ على التراث الثقافي" وبين "الخلق" أو "الإبداع"، الإعلام في علاقته بحرية التعبير أو التأكيد على السلام، وغيرها من القضايا- سواء على شكل تصورات نظرية أو حتى على شكل بعض الممارسات السياسية. ويمكن تحديد تلك القضايا على شكل مصطلحات ضمن أربع فئات أساسية:

1- الموضوعي والشخصي

تظهر الهوية الثقافية كمجموعة من الميزات والبنى الموضوعية، كما هو الحال في التفكير العفوي ضمن الإطار الجمعي، والإطار الاجتماعي والإطار التاريخي. كما أنها تظهر كمبدأ أو عملية موضعة للأشياء (كما هو الحال في التفكير العفوي في إطار "الخبرات المعاشة"، "الوعي و اللاوعي الفردي"). بين هذين القطبين المتضادين يظهر عادة بعض التوافق أو التبادلية، لكن في حالات معينة يظهر بينهما نوع من الصراع أيضا. الفكرة التي يمكن التأكيد عليها هنا أن ذلك التناقض قد يترجم إلى كارثة (أو حتى حالات مرضية)، وفي المقابل يمكن اعتبار التناقض أو عدم التوافق قاعدة. إن التوافق الذي سيسمح بتمييز أفضل للموضوعية الفردية في الهوية الثقافية أو إدراك أفضل لمعايير الثقافة الجمعية لهوية الموضوعات، سيظهر كمحدد يمكننا أو يجب علينا تحقيقه.

2- العالمية والفردية

توصف الهوية الثقافية عادة بأنها ما يعبر عن تفرد "المجموعات"، أفرادا أو مجتمعات، وما يمنعهم من الصراع الفكري أو العملي، وما يمسح ببساطة ونقاء "الحدود" التي تفصل بينهم، وما يترجم ميل العلاقات المتبادلة بين الحقائق اللغوية، والحقائق الدينية، وحقائق النسب، والحقائق الجمالية بمعناها الواسع (اذا قلنا بوجود أنظمة للحياة فإنه يوجد أيضا أنظمة موسيقية وأدبية)، والحقائق السياسية. لكن في المقابل تطرح الهوية الثقافية سؤال العالمية أو الشمولية. وذلك لعدد من الأسباب، أولها أن الثقافات لا يمكن التفكير فيها ضمن التنوع الاجتماعي والإنساني دون عقد مقارنة شاملة لها لم سواء كانت موضوعية أو علمية ~. ثانيا، هذا التنوع يتضمن اتصالا بين الثقافات أو بين الحدود الفاصلة بين الثقافات الفردية التي تجتهد لتعبر الحدود. ثالثا، وبالإضافة إلى الأسباب السابقة، تطمح الهوية الخاصة بكل ثقافة إلى اعتبارها إطارا من القيم لها صفة العالمية. هذا السبب يرتبط مباشرة بالاسباب السابقة بل ويذكر بها. هذا الاطار القيمي يتيح لنا التفريق بين مصطلحات "الخير" و "الشر" في الشمولية الثقافية، بين الأخلاقي ووجهات النظر السياسية. كما يتيح لنا التفريق بين صيغ "الخير" و "الشر" في الاتصال: تلك التي تحاول التأسيس للعالمية بالانتباه إلى الفردية أو التي تبحث عن توحيدهما بشكل متوازن، كمقابل لتلك الصيغ التي تقضي على الفردية بذريعة الاتساق أو الانتظام (في الوقت الراهن يخشى من تأثير ثورة وسائل الاتصال الجماهيرية ومن سيطرة نماذج - معينة على المستوى العالمي) أو في المقابل المتطرف تماما تحاول التأكيد على الفردية لدرجة الوصول إلى حد العزلة. وبين هاتين الصيغتين المتضادتين، سيوظف البعض وسائل الإعلام في خدمة إنتاج الاختلافات، تلك التي تؤكد الفردية بتوسط العالمية، أو بشكل عكسي تؤكد حقيقة العالمية بتوسط الفردية.

3- النخبة والعوام (الصفوة والشعبي)

هذه الفئة من القضايا موجودة في كل مكان، لكن بصياغات مختلفة بتفاوت علاقات التناظر الوظيفي بين الفترات الزمنية المتعددة. لعل أهم هذه الصيغ في الحديث عن النخبة والعوام صيغة كلاسيكية - على الأقل منذ القرن التاسع عشر- للتفريق بين الثقافة لم العلمية، التقنية، الأدبية) والثقافات التعبيرية للجماعات الاجتماعية (أو بشكل أفضل انتماءات الأفراد إلى الجماعات). وفي هذا السياق تسقط هذه الصيغة الجدل السابق الذكر بشأن العالمية والفردية في حقل علم التاريخ الاجتماعي. كما تضيف هذه الصيغة دلالات جديدة أخرى، أهمها إعطاء السلطة للمعاها والأنشطة التربوية (في المجال التطبيقي، المدارس) لتكون هي الجانب الأهم لحل التوترات التاريخية بين الثقافة العلمية - التقنية وبين الثقافة الجمالية، وبين التطبيقات اللغوية على مستوى الإعلام الدولي وبين ضرورات اللهجات غير القابلة للاختزال، بين الحفاظ على التقاليد وبين التجديد الثقافي، وأخيرا بين أدب المشاعر وتطوير الملكات الذهنية. هذه النقاط جميعا تقود مباشرة إلى الفئة الرابعة.

4- الثبات والتحول

يعكس مصطلح الهوية الثقافية هنا بشكل معين نفسه تحت معيار الزمن، بفض النظر عن تحديد مرجعية التقدم أو نقد علاقة ذلك المصطلح - الهوية الثقافية - بالسلطة الزمنية للتاريخ والمفترضة سلفا في أي بحث عن تاريخية الثقافة.

يبدو أنه يمكننا طرح المطالبة التي تأخذ شكل التعارضات المتحدة: الهوية الثقافية تقاوم الزمن كرمز للتغيير، كما أنها تعتبر نفسها أساسا ضمنيا لأي تحول (بمعنى إعطاء صلاحية التمييز، والتسمية "المناسبة" للموضوعات الجمعية). كما أن الهوية الثقافية تظهر بنفسها كنموذج للتغيير (تسمى ابتكار، حياة، تطور، التي تظهر في النهاية وكأنها مطلب لمعظم مصطلحات ز الثقافة س). هناك حضور لبعض المسلمات الواهنة التي تحاول بشكل منتظم تثبيت أو مقارنة أثار الثبات بالآثار التاريخية، وتغير فردية الجماعات. في المقابل هناك حضور لمسلمات قوية دفعت بوحدة الجماعات إلى ما وراء النقطة التي يمكن تسميتها- في المفاهيم الهيجيلية - هوية الهوية والاختلاف.

ودون الرغبة في طرح جدال حول الاستخدام الدقيق أو غير الدقيق، المعقد أو البسيط لهذه الفئات الرئيسية السابقة والتي تعتبر استخدامات ومصطلحات كلاسيكية في الفلسفة، سوف أطرح هنا سؤالين أساسيين على اعتبار أنهما يتضمنان تفاصيل خطاب المؤسسات في الهوية الثقافية، كما أن السؤالين يطرحان مقدما إطارات الاختلاف المحتملة.

 أخيرا، مشكلة العلاقة بين الجماعات القومية والجماعات اللاقومية. هذه العلاقة قد تكون علاقة صراع وقد لا تكون، وقد تعني كذلك بالمواجهة مع الأمة، أي أنها بشكل عملي في مواجهة مع الدولة -التي تقدم نفسها على أساس أنها دولة قومية - سواء كانت جماعات متخطية للحدود (على سبيل المثال جماعات التوحد الديني) أو جماعات مناصرة أو رفض القومية لم على سبيل المثال، التي تناقش حدود الدولة، أو التي تصارع الظلم السياسي والاقتصادي وفق قاعدة "إثنية"، وتطالب بإعادة التفكير بالحقوق، وبالحكم الذاتي أو الاستقلال). الأمر المدهش هنا هو ذلك التعميم في العالم اليوم فيما يخص خطاب الثقافة من أجل تشخيص الهوية واللاهوية، وتشخيص مبادئ السيطرة الوطنية واستقلال الجماعات اللاقومية. وعندما تأخذ هذه العلاقة إطار الصراع بين الجماعتين القومية واللاقومية، يمكن تلخيص مطالبهما على الرغم من الاختلاف بينهما في الصفات الشخصية والعزم التاريخي في تأكيد حقوق الأفراد: اتخاذ قرار "الاختيار"، أو حتى على الأقل المفاضلة بين عدد من "الانتماءات" المتنافسة. وبالتالي لا يمكننا إلا أن نفرض السؤال التالي: ماذا إذا كان مصطلح الهوية الثقافية اليوم ليمر أكثر من استعارة للهوية الوطنية؟

ثانيا: الهوية واثبات الهوية في حقل الثقافة

تبدو هذه المشكلة إلى حد ما مكملة للمشكلة السابقة. لكن في الحالة الأولى تمكنا على الأقل من صياغة فرضية اعتمادا على السؤال الأول، هنا نكتفي فقط بطرح الأسئلة، التي لا ندعي شموليتها، ثم نحاول تصنيفها. كل واحد من هذه الأسئلة سوف يستدعي مناقشات مطولة، وبالتالي لابد من الاختيار، خاصة إذا ما توافرت صياغات أخرى أجدر بالتفضيل.

من الهوية في الثقافة الى الهوية في المؤسسة

السؤال الأول الذي يبدو بديهيا ولا يمكن تجاهله: هل هناك أية أهمية أو معنى للحديث عن الهوية في حقل الثقافة، في الوقت الذي لاحظنا سلفا ازدياد التشابك أو التداخل في كل معنى "للثقافة" بحيث يدل كتعريف لموضوع أكثر من المكان أو الوظيفة التي لا تزال غامضة كعناصر في التعريف. إن إضافة نعت "ثقافي" لمصطلح الهوية لا يعطيها صفة التأهل أو القبول، بل على العكس من ذلك يضيف لها ذلك النعت مشكلة التعريف. أما الانتشار المعاصر للخطابات التي تتحدث عن أزمة الهوية الثقافية من الأفضل لها الحث على إدراك الفصل بين المصطلحين (الهوية والثقافة).

من أنا؟ من نحن؟ من هم؟ هذه أسئلة أساسية ومهمة والإجابة عليها تحاول ترجمة معرفة الهوية، تلك الاجابة لا تتحدد بشكل دقيق بمجرد مرجعيتها الثقافية، لأن حالة انتماء "الأنا" أو "الأخر" وارتباطهما بحقل الثقافة أمر مبهم. أما حل هذه الاشكالية فيتم إما عن طريق اعتماد التشابه الوظيفي بين الثقافة والواقع لم الهوية في الثقافة تقارن بالهوية في الواقع، تلك التي يمكن تصنيفها وتحديد خصوصيتها المحلية)، أو عن طريق تبني منهج التضاد أو التناقض بين الواقع والثقافة لم تصور الهوية في الثقافة وكأنها رفض للشيء الخارجي أو الوجود الطبيعي للأشياء في الحالة العقلية أو الروحية). في الحالة الأولى نظام من الاستعارات، وفي الثانية نظام من حالات الرفض والإنكار. لكن لا يوجد مبرر للقيام بإعادة تعريف زالشيء الطبيعيس من أجل التأكد من أهمية البحث عن السؤال: من أنا؟ الذي لا يعطي خصوصية للفردية بشكل دقيق ولا رفض راديكالي للموضوعية. بل على العكس من ذلك سيفتح ذلك السؤال مشكلة قد نتمكن وقد لا نتمكن من حلها: كيف يمكنني (كيف يمكننا، كيف يمكنهم) التلقي من الأخر أو من مجموعة الآخرين إشارات عن خصوصيتي (خصوصيتنا، خصوصيتهم). هذا السؤال لا يتواكب مع ماهية الهوية في حقل الثقافة أو مع الطريقة التي تحدد بها الثقافة الهوية، خاصة عند تعريف الثقافة كحقل من الخبرات التي يمكن من خلالها تمييز الهويات، أو ذلك الحقل الذي يمكن وصفه بعدد من الإجابات الفلسفية من قبيل: وجودي، منطقي، وواقع وراء الخبرة.

لكنني سوف ألزم نفسي هنا بالاقتراح التالي: إن أي مصطلح يتضمن الهوية والثقافة يحتاج إلى ربطه بأكثر من مصطلح وبمتغيرات أصلية تفترض سلفا: الموضوع والمؤسسة - أو أي مصطلح أخر معادل – وبالتالي سأفترض هنا للتوضيح الفرضيتين التاليتين:

- هناك هوية عن طريق الموضوعات وللموضوعات فقط.

- وهناك ثقافة عن طريق المؤسسات وللمؤسسات فقط.

وبشكل واضح يمكن أن تكتسب هاتان الفرضيتان أهمية إذا لم يكن "الموضوع" تعبيرا أو كلمة أخرى للهوية - الهوية الذاتية – و "المؤسسة" ليست فقط مجرد كلمة أخرى للثقافة. ويبدو أنه يمكننا القول إن الموضوع يحمل مرجعية لأفراد يمكن تمييزهم من خلال اللغة، من مثل القول "أنا"، "نحن" و "هم" في السياق. أما المؤسسة فهي عادة تهتم بأي نشاط إنساني يتضمن نشاط توزيع محدد ´ لأوضاع بعينها أو تعهدات ووظائف منفعية، فعالية، واتصال. والمؤسسة قابلة أن تكون معبرة ومشرعة في خطابات معينة سواء عن طريق رموز، قصص أو برامج.

وفي هذا السياق يصبح سؤال الهوية أساسيا ويطرح بطريقة رسمية، لأن "أنا"، "نحن" و "هم"، تعبيرات متساوية لموقف ذاتي، ثم أن الموضوع -كاصطلاح - لا يمكن نسبته إلى أي من أولئك الأفراد (أنا، نحن، هم) لكنه يظل عائما باستمرار بين تلك الفئات الثلاث. كما أن سؤال الثقافة أساسي أيضا، لأنه باختلاف الزمان والمكان، لا تتقاسم كل المجتمعات - حتى وهي تمتلك طابع الدولة الوطنية بشكل عام - الأوضاع، ووظائف الإنتاج، واعادة الإنتاج، والاتصال، والذاكرة، والمعرفة وغيرها بطريقة واحدة. لكن ينتقل الموضوع من اللغة إلى الممارسة، وتنتقل المؤسسة من الممارسة إلى الخطاب.

إنه ليس من الضروري قبل أن نبدأ التأطير النظري للهوية الثقافية، السؤال عماذا يعني للأفراد أو الجماعات موضوع المواجهة مع المؤسسات، وما هي صيغ وأنماط تلك المواجهة، وهل هناك مخاطر من وراء تلك المواجهة؟ هذه المشكلة ليست لها علاقة بعلم الاجتماع أو النفس، أو حتى بشكل أقل بنظرية الفردية أو الأنظمة مثل علاقتها بنفعية اللغة أو الجانب السياسي لعلم دراسة الإنسان. لكن ليس من الضروري أيضا من حيث المبدأ تعطيل الافتراض المسبق الذي ينظر إلى الثقافة "ككل"، وبالتالي ينظر إلى علاقة الأفراد بالثقافة إما كعلاقة كلية أو أنها غير موجودة يحكمها منطق الهوية والاختلاف، والاندماج والإقصاء. لأن السؤال التالي لاستبعاد مثل ذلك الافتراض، ماذا يمكننا أن نضع مكانه؟ ببساطة نضع محله تلك الفكرة التي تؤكد أنه في مجال الممارسات الإنسانية، تزيد المواقف الذاتية من المعالجات المتعددة الإشكاليات في توزيع الهوية الثقافية. ثم أن تلك الإشكاليات في المعالجات كنظام أو كمجموعات تبادلية شاملة يمكن أن تصبح منطقيا ظواهر ثانوية.

الهوية أو إثبات الهويات

أليس من الضروري أن يستحضر أصحاب نزعات الاختلاف في صراعات أو أزمات معينة موضوع الهوية الثقافية؟ الهوية لا يمكن أن تكتسب سلميا: إنها تطرح كضمان في مواجهة خطر الإبادة أو الإلغاء من قبل هوية أخرى. وبالتالي يجب علينا أن لا نعمم ما وصف به علماء الاجتماع وعلماء النفس على حد سواء "صياغة الهوية" في الوقت الراهن سواء كانت عرقية أو دينية قائلين بأن الهوية التي تتم المطالبة بها -شكل علني أو صامت- إنما تتم دراستها كوظيفة للأخر، واستجابة لرغبته، وقوته وخطابه الذي يعرض قوته متفوقة على رغبته. إلى حد معين سيصبح مفهوم "الهوية التقليدية" (أو الهوية الموروثة) متناقض في معانيه. ونصبح أكثر دقة إذا قلنا أن الهوية هي خطاب التقليدية. في الحقيقة لا يوجد هويات وانما إثبات للهويات: سواء مع المؤسسة نفسها أو مع موضوعات تمر من خلالها، أو كما يفضل البعض، الهويات هي مجرد الهدف المثالي لعمليات إثبات الهوية، ونقاط ملكيتها، وهي تأكيد أو عدم تأكيد الشعور بها وبالتالي مرجعيتها المتخيلة. لكن هذا لا يعني أن عمليات إثبات الهوية مجرد عمليات متخيلة. ويمكن ببساطة وصف تأثيرات عمليات إثبات الهوية في بناء التمثيل أو الطريقة التي من خلالها توفر تلك العمليات مكانا يسمح للفرد بتصور نفسه "كذات"، بأنها تأثيرات غير كاملة. في الجانب العملي، نجحت بعض أنواع إثبات الهويات بطريقة متناقضة وسقطت أخرى بل أن التعايش معها أصبح صعوبة. فإلى جانب طابعها العام لابد من مراعاة هذا الاختلاف. إنه لا يتوافق ببساطة وبوضوح مع الاختلاف بين المطابقة أو عدم المطابقة، التلاؤم أو عدم التلاؤم مع الطقوس، الحكم والمعتقدات الموضوعة عن طريق المؤسسة المسيطرة. ويمكن الاقتراح بأن بناء الهوية ليست عملية ´ متخيلة إنما هي إعمال للخيال: سلوك، تاريخ أو استراتيجية فردية للموضوع في علاقته بالخيال (هو في علاقته بـ "الأخرين"). إذن، لماذا يجب أن يبلغ ذلك السلوك، الإستراتيجية أو التاريخ ذررته في إثبات مبهج لهوية ما، أو مقاومة عدائية تجاه ذلك الإثبات بعض الافراد مع أحادية وضخامة "نحن" أو مع رموز وشعارات تصور السلوك والإستراتيجية والتاريخ التي تحدد المقترح ككل متكامل أو لا يكون. في هذا الصدد أيكني تصور الفكرة العامة في الهيمنة أو السيطرة، او التفكير في التخيل كلحظة أو أداة لتوان ن القوة؟ لا يوجد ما يؤكد لنا أن التأثير العملي للحظة التخيل تلك، في أي ظرف، تعتمد على ضعف قدرة التمييز أو الفصل بين "الأنا" و "نحن".

مشكلة الانتماء

إذا تصورنا أن قضية الهوية على درجة من الأهمية، هل يعني ذلك أنها قضية متفردة؟ نفس هذا الخطاب هو الذي جعل كل ثقافة في كل الأطروحات صعبة الانتماء إلى عدد من الثقافات: وبالتالي فإنه لا يوجد مجتمع مؤسس - بشكل أدق لا توجد أمة - يمكن اعتبارها متعددة الثقافة.

لكن نقاد هذا الموقف - متأثرون بروح الحركات السياسية - ببساطة وبشكل واضح مترددين في اتخاذ موقف مضاد لها. وإذا غامروا باتخاذ موقف ما فإنهم يظلون مترددين بين عدة طرق للتعبير أو اتخاذ ذلك الموقف الناقد: هل يجب علينا الافتراض أن كل فرد ينتمي دائما إلى أكثر من ثقافة؟  أو أنه يجب علينا افتراض أن مصطلح الثقافة إذا نظرنا اليه بشكل معزول متناقض المعاني وبالتالي فإن الانتماء إلى ثقافة ما يعني الانتماء إلى وحدة متكاملة تمثل نقطة تقاطع والتقاء لثقافات؟

يبدو أن هذه المعضلة لا يمكن حلها دون السؤال عن كيفية عمل "منطق الانتماء" الذي يبدو أنه يربط الهويات بالثقافات. هنا يفترض جين ملينز Jean-Claude Milnerx) التمييز بين نوعين من الطبقات أو المجموعات: طبقات التخيل وطبقات الرمز. ويضيف اليها نوعا ثالثا هي طبقات التناقض أو التعارض. بالنسبة لطبقات التخيل يمكن إيجادها متفوقة على نسبة الملكية أو الملكيات العامة للأفراد، على افتراض أنها تميز وتوجد مستقلة عن قضية النسبة تلك. بعبارة أخرى تجمع طبقات التخيل أولئك الأفراد على افتراض الشبه المرئي (الأسود أو الأبيض، العاري أو المكتسي) أو بشكل عام الشبه القابل للعرض (الشبه الشخصياتي أو الأخلاقي) بين أعضاء تلك الجماعات. أما طبقات الرمز فتكمن في الحقيقة التي يصعب عرضها من أن الموضوعات تستجيب لنفس الاسم الذي تستجوبه ويستجوبها. ولذلك نقول "رجل فونسي"، "مسيحي"، "شيوعي". وبالتالي فإنه لا يتم تمييز أو تحديد الموضوعات على أساس تشابه الإفراد، بل على أساس أنهم أفراد متكافلون بالإضافة إلى أنهم مطلقا غير متشابهين (متفردين).

هوية الانسان في الوطن العربي - «مشروع قراءة جديدة»(4)

تعريف الهوية

اثبت العلم الحديث ان الانسان ، مهما كان لونه او عرقه ، يتساوى بصورة عامة مع اي انسان آخر مهما كان لونه او عرقه في المورثات البشرية ، التي تحدد قدراته وقابلياته واستعداداته واتجاهاته ، كما تؤكد الديانات والمدارس الفلسفية والمذاهب السياسية في الوقت الحاضر ، وفي سائر انحاء العالم ، ان الانسان مهما كان لونه او عرقه او عقيدته او جنسيته ، يتساوى تساويا كاملا ومطلقا في الحقوق والواجبات مع اخيه الانسان ، اينما وجد على سطح المعمورة ، كما تؤكد هذه الديانات والمدارس الفلسفية والمذاهب حق هذا الانسان في ان يعيش حياة كريمة لائقة بانسانيته ، حياة تسودها الحرية والعدالة والمساواة والامن والاستقرار.

ومع كل هذا التساوي ، فإن الانسان في اي مجموعة بشرية يختلف عن الانسان في اي مجموعة بشرية اخرى بشيء مهم جدا يطلق عليه اصطلاح «الهوية». يقول «احمد ماضي»: «... ان شعوب العالم واممه موحدة من موقع كونها شعوبا تشترك في كونها بشرا لهم آمال واحلام ومشاكل ، ولكنها متمايزة من موقع هوياتها. بعبارة اخرى ، ان للانسان هوية خاصة به تميزه عن غيره ، وبالتالي «هوية» خاصة بالمجموعة البشرية التي هو احد اعضائها وتميزها عن بقية المجموعات البشرية الاخرى في هذا العالم. من جهة اخرى ، ان هذه «الهوية» هي الرباط الرئيسي الذي يجمع ويوحد اناس هذه المجموعة ويجعل منهم شعبا او امة او غير ذلك.

ان معنى كلمة «الهوية» بفتح الهاء يختلف اختلافا بينا عن معنى كلمة «الهوية» بضم الهاء. يقول عبدالخالق «... ان الهوية (بفتح الهاء) تعني على الصعيد المعجمي العربي القديم: (البئر البعيدة القعر..) وجاء في معجم متن اللغة ان الهوية هي الهوة البعيدة القعر. ويقول حسن سعيد الكرمي «.. الهوية هي البئر البعيدة القعر: ويقال وقع الرجل هوية.. والجمع هوايا.. وجاء في لسان العرب لابن منظور».. الهوية بئر بعيدة المهواة..»

اما كلمة (الهوية) بضم الهاء فهي كلمة جديدة طارئة على اللغة العربية. يقول رسول محمد رسول: «.. ان مصطلح الهوية في حد ذاته لا يمت بصلة الى جوهر اللغة العربية ، فهو طارىء عليها ومن منظومة اخرى ، وهذا ما يؤكده ابن رشد في كتابه تفسير ما بعد الطبيعة. في معرض شرحه لهذا المفهوم.. ويقول احمد ماضي: ان المعاجم العربية القديمة تخلو من كلمة الهوية ، ولا نجد هذه الكلمة الا في المعاجم الحديثة.

ومع ان كلمة الهوية بضم الهاء كلمة مستحدثة في اللغة العربية فانها استقرت كاصطلاح له تعريفاته التي تعكس مفهوم المعرفيين لهذا الاصطلاح. فالهوية بالنسبة لجبران مسعود هي «.. الحقيقة المطلقة في الاشياء والاحياء المشتملة على الحقائق والصفات الجوهرية: هوية النفس الانسانية ، بطاقة الهوية منسوبة الى هو». ويعرف عبدالخالق الهوية ويقول ان «.. الهوية «بضم الهاء» تعني على الصعيد المعجمي والفلسفي العربي الحديث: «حقيقة الشيء او الشخص التي تميزه عن غيره» ، وعلى الصعيد الاجتماعي المدني العربي الحديث: «بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله.. وتسمى البطاقة الشخصية».

ويقول احمد ماضي: ان المعاجم الحديثة تعرف الهوية على «.. انها (الذات). ما يعرف الشيء في ذاته دون اللجوء الى عناصر خارجية لتعريفه. وتستعمل ايضا للدلالة على الجوهر والخاصية. ومعلوم ان تحديد الهوية بأنها تماثل الشي مع ذاته ، او ذات الشيء ، انما يعود لارسطو طاليس».

وجاء في معجم الوسيط ان «الهوية في الفلسفة حقيقة الشيء او الشخص الذي تميزه عن غيره ، وبطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله..» وفي المعجم العربي الاساسي فإن الهوية بطاقة يظهر فيها اسم الشخص وتاريخ ميلاده ، ومكان مولده وجنسيته وعمله. وفي الفلسفة حقيقة الشيء او الشخص الذي تميزه عن غيره. ويذكر جميل صليبا في معجمه الفلسفي تعريفا تتبلور فيه الدلالة الميتافيزقية واللاهوتية اكثر اذ تقرأ: ان الهوية هي الوجود المحض الصريح المستوعب لكل كمال وجودي شهودي. وجاء في تاج العروس ان (الهوية) عند اهل الحق: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق. ويقول احمد صدقي الدجاني ان كلمة (الهوية) مشتقة من كلمة (الهو) وهي حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية.

ويعرف محمد عابد الانصاري الهوية ويقول: ان «الهوية وجود وماهية.. الوجود سابق للماهية دوما ، الشيء يعني ان الماهية ليست معطى نهائيا ، بل شيء يتشكل ، شيء يصير».

ويقول امين معلوف ان الهوية.. «المسألة الاساسية للفلسفة منذ قال سقراط اعرف نفسك بنفسك وصولا الى فرويد ومرورا بالعديد من المعلمين الاخرين». ويعرف ابراهيم عثمان الهوية قائلا: «.. ان مفهوم الهوية هو: تعريف الانسان لنفسه من خلال انتمائه في اطار مرجعي يعود اليه في اطار تحديد هذه الهوية وتحديد الذات». واما حسن سعيد الكرمي فيعرف الهوية قائلا: «.. الهوية هي الانتماء. فيقال هذا عربي الهوية وذاك هندي الهوية. وتذكرة الهوية هي البطاقة الشخصية..». ويضيف تركي الحمد تعريفا آخر للهوية الهوية ويقول: «.. ان الهوية ممارسة وسلوك ، قبل ان تكون تصورا ذهنيا ، ومن خلال الممارسة تتكون». ويعرف عبدالعزيز الدوري الهوية ويقول ان «.. الهوية هي ما يشخص الذات ويميزها».

وفي الثقافة الغربية عرف احد الباحثين الهوية بأنها تنظيم الانسان لعلاقاته وخصائصه ورغباته وتوجهاته السابقة واللاحقة والتي تعبر عن ذاته وعن اتجاهاته نحو الناس. وعرفها باحث آخر بأن الهوية ليست عملية عقلية قائمة بذاتها ، وانما هي ايضا نتاج التفاعل بين الانسان والمؤسسات الاجتماعية التي يعيش الانسان في اطارها كالاسرة والطبقة الاجتماعية والمجموعة الاثنية والمحيط الثقافي والايديولوجي. ويعرفها باحث ثالث فيقول ان الهوية احساس الانسان بالاستمرارية عبر الحياة واحساسه بالولاء والانتماء الى فئة ما او فكرة ما.

ومن خلال استقراء عينة التعاريف آنفة الذكر للهوية «بضم الهاء» يلاحظ ان اغلبها يؤكد ان هوية الانسان هي حقيقته التي تميزه عن انسان آخر. وحيث ان اي انسان مهما كان لونه او عرقه او عقيدته او جنسيته او جنسه مساو لاي انسان آخر مهما كان لونه او عرقه او عقيدته او جنسيته او جنسه ، فإنه يمكن القول ان التميز الذي يحدد هوية الانسان ما هو الا شكل انتمائه. هذا ويلاحظ ان بعض التعاريف آنفة الذكر للهوية ربطت بين الهوية والانتماء. ويؤكد ذلك احمد ماضي: «.. ، ان مصطلح (الانتماء) عامل اساسي في تحديد الهوية..».

الهوية محصلة الانتماءات

خلاصة القول ، ان لكل انسان هوية هي عبارة عن محصلة انتماءاته التي يشترك فيها مع افراد المجموعة البشرية التي هو احدها ، وفي الوقت نفسه يتميز من خلالها عنهم. والهوية هي السمة التي تميز اي مجموعة من البشر عن اي مجموعة بشرية اخرى سواء أكانت شعبا ام امة. وتتطور هوية الانسان نتيجة محصلة متكاملة من انتماءاته. وآخذين بعين الاعتبار هذين الامرين ، فإن الغرض من هذا الكتاب هو وضع مشروع تصور لهوية الانسان في الوطن العربي من خلال تحديد الانتماءات الرئيسية ، التي تحدد هذه الهوية ، اذ ان المكتبة العربية تفتقر الى دراسة شاملة للهوية في الثقافة العربية في الوقت الذي تتعرض له هوية المواطن في الاقطار العربية لشتى التهديدات.

لقد اصبح وضع مشروع تصور لهوية الانسان في الوطن العربي ضرورة ملحة ، ذلك ان موضوع الهوية ، بصورة عامة ، اصبح موضوعا مهما في عالمنا المعاصر في خضم التطورات والتغيرات المتسارعة في العالم. يقول علي محافظة: «.. ان موضوع الهوية هو موضوع في غاية الاهمية..» ويقول رسول محمد رسول «.. بات امر الهوية امرا حيويا وفاعلا في الثقافات والحضارات المعاصرة ، خصوصا في مراحل الصراع والتصادم والتوحد والاندماج ، مراحل تقارب الثقافات وتباعدها. وكان هذا يتم وما زال وسيبقى متواصلا في عصر يتنامى فيه الاحساس بالاختلاف والقلق.. البشري بشأن التعايش والتواصل ، او الصدام والتقاطع ، ومن هذه الحالات تفترض الهوية كمرجعية في الفعل والسلوك».

ويقول صموئيل هنتنجتن «في عالم ما بعد الحرب الباردة اصبحت الاعلام تدخل في الحساب وتوضع في الاعتبار ، وكذلك رموز الهوية الاخرى مثل الصليب والهلال.. حتى غطاء الرأس ، لان الثقافة لها اهميتها ، ولان الهوية الثقافية هي الاكثر اهمية بالنسبة لمعظم الناس».

معاني المصطلحات

تأخذ المصطلحات التالية ، الواردة في هذا الكتاب ، المعاني المذكورة ازاءها ما لم تدخل القرينة خلاف ذلك :

- الحضارة: مجموعة الاعتقادات والقناعات والمفاهيم والاتجاهات التي تؤمن بها مجموعة الناس وبالتالي توحدهم فكريا وعقليا ووجدانيا.

- مرتكزات الحضارة: مجموعة الثوابت التي تتطور على اساسها الحضارة وتتشكل هذه الثوابت من قواعد ومبادىء.

- قواعد الحضارة: نظرة الحضارة للخالق والكون والانسان.

- مبادىء الحضارة: مجموعة المحددات المتطورة عن قواعد الحضارة والتي تنظم حياة الفرد والمجتمع.

- الحضارة الاسلامية: الحضارة التي ينتمي اليها المسلمون في العالم.

- المسلم: الانسان الذي يؤمن بالعقيدة الاسلامية وينتمي الى الحضارة الاسلامية.

- الاسلامي: المسلم الذي يعمل للاسلام فكريا او اجتماعيا او سياسيا.

- الثقافة: كل ما انتجه الانسان ، او بعبارة اخرى كل ما عند المجتمع من فكر وعلم وفن وادب ونظم وعادات وتقاليد وقيم ومثل وادوات ووسائل واساليب ، ويطلق على كل هذا اصطلاح مكونات الثقافة وتتحلل هذه المكونات الى عوامل يطلق عليها عناصر الثقافة. وتتأطر عناصر الثقافة في مجموعتين: الاولى عموميات الثقافة والثانية خصوصيات الثقافة.

- الثقافة العربية: ثقافة الانسان في الوطن العربي.

- عموميات الثقافة العربية: العناصر الثقافية التي يشترك فيها جميع سكان الوطن العربي.

- خصوصيات الثقافة العربية: العناصر الثقافية التي تشترك فيها مجموعة معينة من سكان الوطن العربي وتتكون خصوصيات الثقافة من خصوصيات قطرية وخصوصيات فئوية.

- الخصوصيات الوطنية: العناصر الثقافية التي يشترك فيها ابناء كل قطر من اقطار الوطن العربي.

- الخصوصيات الفئوية: العناصر الثقافية التي يشترك فيها ابناء مجموعة معينة في اي قطر من اقطار الوطن العربي.

- العالم الاسلامي: جميع الدول التي يشكل المسلمون فيها اغلبية سكانية.

- الوطن العربي: الارض المعروفة بالجغرافيا السياسية باسم الوطن العربي والتي تشمل اراضي جميع دول جامعة الدول العربية.

- الامة العربية: مجموعة سكان الوطن العربي الذين يشعرون عقليا ووجدانيا بانهم منتمون الى الحضارة الاسلامية والثقافة العربية.

- العربي: الانسان الذي ينتمي الى الحضارة الاسلامية والثقافة العربية وبالتالي الى الامة العربية.

- القومية العربية: انتماء يتعلق بارتباط الانسان في الوطن العربي الى حضارة هذا الوطن ، والى ثقافة هذا الوطن ، والى ارض هذا الوطن والى امة هذا الوطن.

- القطر: جزء من اجزاء الوطن العربية تقوم عليه دولة عربية معترف بها ذات سيادة.

- الشعب: مجموعة سكان اي قطر من اقطار الوطن العربي الذين يشعرون عقليا ووجدانيا بانهم ينتمون ، وفي اطار انتمائهم الى الامة العربية ، الى ذلك القطر الذي يتوطنون فيه ، والى سكان هذا القطر.

- الوطنية: انتماء يتعلق بارتباط الانسان في الوطن العربي بالقطر الذي يتوطن فيه على ارضه وبشعب هذا القطر.

- الفئة: اي مجموعة من سكان الوطن العربي يجمعها انتماء طائفي او مذهبي او اثني وفي اطار انتمائها الحضاري الاسلامي والثقافي القومي والوطني.

- الانتماء: حالة عقلية وجدانية تتطور عند الانسان ، عن اعتقاداته وقناعاته ومفاهيمه واتجاهاته ، وتحدد مشاعر هذا الانسان وولاءه نحو حضارته وثقافته وامته وشعبه وفئته.

- الهوية: حالة عقلية وجدانية متطورة عن محصلة انتمائات الانسان التي تحدد ارتباطاته وولاءه لحضارته وثقافته وبالتالي لامته وشعبه.

- الهوية العربية: هوية الانسان في الوطن العربي.

النظام العالمي الجديد والصراع على الهوية(5)

لا شك أن عالمنا عالم متغير، كل شيء يتطور فيه من السياسة إلى الاقتصاد، إلى البيئة، إلى الاجتماع، وتحصل اكتشافات علمية ومعرفية هائلة تضعنا أمام حقائق جديدة يصعب تجاوزها وتحدث قفزات كبيرة في زمن قياسي تتمظهر في تحولات كبيرة، وتبدلات كثيرة في المفهوم والرؤية، وتتعزز أكثر فأكثر فرص التواصل والاتصال بين الشعوب والحضارات بفعل التقنيات والوسائل التي تجعل التفاعل الحضاري مسألة شبه يومية، وحقيقة تعيشها الإنسانية جمعاء.

ولكن، إلى جانب كل هذا، ما تزال مسألة العلاقة بين الشعوب والأمم والحضارات في عالم اليوم تشهد تأزماً وخللاً في جوانب كثيرة تهدد الأمن والسلام العالميين، وما تزال هذه المسألة تبحث عن صيغ وأطر وأشكال سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تنظم الاختلافات القومية و تضبط ديناميات الأمم وتنظم حركة سير العالم باتجاه المستقبل.

ما من شك، أن سمة التبدل والتغير والتحول و«التطور» خارج مفهوم «الداروينية الحديثة» تفرض نفسها بقوة على الواقع العالمي، إلا أن هذا التبدل إذا ما تعمقنا في دراسة حركة انسيابه وشكل واتجاه هذا الانسياب لابد تظهر لنا جمل من حقائق تكمن في عمق هذه التبدلات والتحولات، حقائق تولد من رحم طبيعة هذا العالم ولا تأتي من خارج الزمان والمكان، وتفرض نوعاً من الاعتراف بأن العالم الذي تبارى الكثير من المنظرين إلى إطلاق التوصيفات المتنوعة حوله من العالم ـ «القرية الواحدة» إلى نظرية «العالم بلا حدود»، إلى «عالم عابر للقوميات» وغيرها من إرهاصات ما اتفق على تسميته «ثقافة العولمة»، هذا العالم هو من طبيعة شديدة التعقيد، متشابك إلى درجة كبيرة ولكنه يحتوي على تناقضات هائلة في النظرة القاعدية الأساسية لموقع «الإنسان» ودوره المحوري في هذا العالم، ويشتمل على تنوعات ثقافية وحضارية مؤثرة إلى حد بعيد في صياغة الواقع العالمي المعاصر.

فالتبرير العقائدي ضروري لإضفاء صفة الشرعية على سياسات العقل الإمبراطوري المتوجه نحو فتوحات جديدة، لا بل التبرير العقائدي يتحول إلى فلسفة قائمة بحد ذاتها ترتكز على مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، وغالباً ما يقع هذا العقل الاستئثاري في هذه الازدواجية المتناقضة التي عبثاً تحاول المزاوجة بين الهدف والآليات المعتمدة في تحقيقه.

إن لدى كل عهدٍ مَيْلاً إلى تمجيد منجزاته بلهجة المؤمن إيماناً عميقاً. فالمرء، إذْ يُفرِطُ في التعميمات عن روح العصر، يسارع إلى الاستشهاد بـ«الروح التاريخية العالمية»، بينما لا يعدو الأمر أن يكون في الحقيقة مجرد حماية لمصالح القوة المعرَّضة للخطر. لقد بيَّن ذلك هيغِل ـ كما فعل هايديغَر فيما بعد ـ في انتهازيته المحرجة بالحديث عن روح العصر التي بُرِّرت بمفهوم فلسفة التاريخ المثالية غير المنطقية، وحققت استمراريتها في الصور المتعددة للأنظمة الاستبدادية في هذا القرن.

ثم إن فرانسيس فوكوياما، أحد أبطال الدفاع عن نمط الحياة الأمريكية، الذي بولِغَ في تقديره كفيلسوفٍ في الحضارة، قد وقع في غواية الإشادة قبل الأوان بمنجزات النظام الغربي  وتحصينه، وذلك عندما أعلن أن انهيار الشيوعية هو بمثابة نهاية «التاريخ في حدِّ ذاته». ونظراً إلى كون «ديمقراطية الغرب الليبرالية» أثبتت في هذه التطورات ـ على حد زعمه ـ أنها النظام الاقتصادي الأكثر نجاحاً،وهو أي فوكوياما يجادل بأنها قد تشكِّل «نقطة النهاية لتطوُّر البشرية الأيديولوجي». إن النجاح الفعلي لهذا النموذج من التنظيم السياسي، من حيث سياسة القوة، يمكِّن المدافعين عن هذا النظام، مثل فوكوياما، من إهمال التحليل النقدي لمفهوم الديمقراطية إهمالاً يكاد يكون تاماًّ، والقول بوجود «إجماع مرموق على شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظامٍ للحكم»، حتى وإن انتشر في عدد كبير من الدول نظامُ قِيَمٍ يختلف عن ذلك اختلافاً تاماًّ.

وإن التصريحات القائلة بأن هذا النظام «خالٍ من أيَّةِ تناقضات داخلية جوهرية» تحول فعلاً دون مواجهةٍ عقلانيةٍ غير متحيزة مع الهياكل الأساسية لهذا النموذج من الديمقراطية. ويزيد في تعزيز هذه التفسيراتِ الاستنتاجُ الخاطئُ لسياسة القوة، القائل بأن فشل النموذج المناوئ قد أثبت بالفعل صحة النظام الغربي ـ  أي كفايتَهُ الديمقراطية.

ولذلك، بعد انتهاء الحرب الباردة حل التنـزيه محل النقد الذاتي. ويتجسد هذا الموقف في الحديث عن نظام عالمي جديد مصوغٍ على غِرار الخطوط الأساسية للديمقراطية «الليبرالية». وكُبِتَتْ أيُّ أسئلةٍ أخرى حول النوع المحدد من أنواع الديمقراطية ومدى تحقُّق هذا النوع في النموذج الذي يمارسه الغرب، لأن هذا النموذج ـ الذي يُدَّعى بأنه نموذجٌ يُحتَذى منذ نهاية الحرب الباردة ـ يمثِّل على أتمِّ وجهٍ الأساس الذي يقوم عليه ادِّعاء العالم الغربي بحق السيطرة على العالم ومكانةُ الولايات المتحدة كزعيمة له. بل إن الإيمان السياسي المصاحب لهذا الافتراض يسمح ببعثِ نظرية «الحرب العادلة» في خدمة الديمقراطية والسلام، التي يُفترَضُ أنها اندثرت. وهكذا نرى أن النـزعة المتطرفة غير الناقدة التي كانت سائدة في العهد الاستعماري، والتي ترى أن أوروبا هي مركز العالم، بُعِثَت من جديد بكل صلفها واستبدادها السياسي عندما نجد ممثِّلاً لما يسمىّ بالعقلانية «الناقدة»، مثلاً، وهو السير كارل بوبر، يتحدث عن «دول العالم المتحضِّر» ويفترض ضمناً أنها يمكن أن تستخدم أسلحة الدمار الشامل بمسؤولية وأن لها الحق في تأديب دول العالم الثالث «غير الناضجة». وهذه العنصرية الممجَّدة، التي تسمح لمفكرين من أمثال بوبر بأن يشبِّهوا العالم الثالث بـ«روضة أطفال» تتفق مــع كثير من المقالات الافتتاحية الصحفية التي كثيراً ما تبرر تدخُّلات الغرب العسكرية الوحشية.

ويتبيَّن من الفحص الدقيق للمُثُل، التي يتذرعون بها مراراً وتكراراً في الإعلانات السياسية، أن هذه المثل جزء لا يتجزَّأ من استراتيجية لإضفاء الشرعية على تصرفات هذه البلدان تروِّج سياسة المعايير المزدوجة لتحقيق مصالحها هي نفسها القائمة على القوة، أي أنها تهدف إلى جعل هذه السياسة مقبولة لدى العالم أجمع في هذه الظروف، وتماماً بمعنى القانون الدولي التقليدي، الذي كان يُعتقَدُ أن الناس قد تغلَّبوا عليه، يمكن تبرير ممارسة القوة ـ بل استخدام العنف ـ أخلاقياًّ. فإذا كانت هذه الأعمال تخدم «هدفاً أسمى» ـ كـ«ضمان السلم» والديمقراطية، مثلاً، أياًّ كان المعنى المفترض لهذه العبارة ـ فهي عندئذٍ أعمال مشروعة. بل يبدو من الممكن، في إطار النظام العالمي الجديد، التحايل على حظر استخدام القوة، المكرَّس في ميثاق الأمم المتحدة، إذا نجحت الدولة المعنية في إضفاء الشرعية على مصالحها تحت رعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ونتيجةً لذلك، يُعلَنُ بسخريةٍ أن الحروب العدوانية (التي تكون في شكل حروب ائتلافية) تدابير اتُّخِذت دفاعاً عن القانون الدولي.

والنظام العالمي ليس حالة سكونية جامدة بل دينامية متطورة دائماً وفق موازين دولية وأقليمية ومحلية تصنع ترتيباته وتحدد علاقات أطرافه بعضها ببعض، وهو بهذا المعنى ليس قدراً وإنما مسار تصنعه إرادات الشعوب والأمم الفاعلة في حركة الصراع سواء بالمعنى الايجابي أو السلبي لمفهوم «الصراع».

وقيمة هذا التحشيد الثقافي هو في كون الثقافة مرتكز الوعي، والوعي يحفز على معرفة الذات وحفظ الهوية، وحفظ الهوية يشكل مقدمة للمثابرة والجهاد من أجل أن نتحول من دائرة الانفعال ورد الفعل إلى دائرة التأثير والفعل الايجابي القادر على تحويل مسار الأحداث في الاتجاه الذي يحمي أمتنا وينقذ بعض الحاضر وكل المستقبل.

الهوية العراقية ونص المادة 41 من الدستور(6)

من بين المواد التي أثارت جدلا مازال مستمراً على ذات الوتيرة حتى اللحظة،وانه يتصاعد طردياً مع اقتراب موعد مناقشة التعديلات الدستورية المادة 41 من الدستور التي تنص على ما يلي ((  العراقيون احرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون.)).

 ومن خلال هذا الجدل المحتدم لفتت بعض الأفكار المطروحة الانتباه على إن هذه المادة تسعى إلى طمس الهوية العراقية والسعي إلى تأسيس للمذهبية الطائفية وعلى وفق المسوغات والمبررات المطروحة المؤيد لوجهة النظر تلك، وحيث إن هذا الأمر يستفز كيان كل فرد ومواطن متمسك بوطنيته وهويته العراقية لأنها المعرف له بين باقي الأمم فلولا هذه الهوية الوطنية لكان تابعاً لأمة ودولة أخرى، لذلك أهميتها تقترن بأهمية وجوده الاعتباري والقانوني، ومن تلك الالتفاتة التي أثارت الانتباه كان لابد من قراءة أحكام المادة (41) من الدستور برؤية جديدة تسعى للبحث عن مدى تمسك هذه المادة بالهوية العراقية أو حجم سعيها لتشظي وتفتيت وحدة الأسرة العراقية المكونة للمجتمع العراقي.

 ولهذا الغرض ولبيان هذه الرؤية سأورد الأمر على وفق ما يلي :-

1. الصياغة اللغوية وشكلية التقنين لنص المادة (41).

إن من يقرأ المادة سيرى وبوضوح إنها استعملت بكلمة (العراقيون) وهذا الذكر له دلالته الشكلية في كون الدالة لحكم النص على المدلول عليه هو الفرد أو المواطن العراقي ولم تسعى إلى غيره، وان هذا الحصر في استهلال وصدر المادة على العراقيين، هو تأكيد على إن المادة تأسس للهوية العراقية دون غيرها، وإذا كان السعي لغير ذلك لما وضعت في صدر المادة وقدمت في الترتيب على المعتقد والمذهب والقومية، بمعنى إن الصفة العراقية هي الجامع لهذا الترتيب في الاختلاف المذهبي او العقائدي او القومي.

 وان التعامل مع القومية او المذهب او المعتقد لا يكون في مجال الأحوال الشخصية إلا من خلال عراقية المواطن وعدم الجواز للقفز على الصفة العراقية والولوج المباشر في المذهبية او الطائفية او القومية. وهذا الامر من حيث الصياغة والشكلية يعزز القول بان الهوية العراقية كانت محل نظر واعتبار عند وضع نص المادة المذكورة مع العرض إن هناك مواد ذات صلة في الدستور تبين وبوضوح هذه الرؤية ومنها المادة (18) التي تنص على ما يلي:

 (أولا :ـ الجنسية العراقية حقٌ لكل عراقي، وهي أساس مواطنته) حيث اعتبرت تلك المادة الأساس في المواطنة هي الجنسية العراقية المعبرة عن هوية المواطن والمجتمع.

2.الأحكام القانونية الناشئة عن المادة (41) من الدستور.

إن من أهم الآثار القانونية التي ترتبها تلك المادة،  منح الحرية للفرد العراقي بالتعامل مع ما يتعلق بأحواله الشخصية على وفق مذهبه أو معتقده او قوميته، والأحوال الشخصية المقصود بها في هذا النص هي متعلقات الأسرة وتكوينها والروابط الاسرية وكيفية التعامل بين أفراد الاسرة الواحدة والآثار المترتبة عليها من حيث الزواج والطلاق والميراث والوصية والنفقة والحضانة وسواها، وجاء في نهاية النص إن تنظم تلك الأحوال بقانون.

 ولغرض بيان فيما إذا كانت هذه المادة من حيث الأثر القانوني المترتب على تنظيم العلاقات الأسرية والأحوال الشخصية يتقاطع مع وجود الهوية العراقية، ام انه يتناغم مع المسعى لتعزيزها؟ والجواب سيكون برؤية قانونية صرفة لا علاقة لها بالتجاذبات السياسية وكما يلي:-

إن القواعد القانونية المنظمة للأحوال الشخصية سواء كانت في العراق أو في غيره من البلدان، هي من الأحكام التي تكون محلاً للمنازعات من حيث الاختصاص التشريعي، إذ تتكون بعض الأسر من رجل وامرأة من جنسيتين مختلفتين أو إن ولادة احد الأشخاص في بلد غير الذي يحمل والديه جنسيته أو يتم عقد الزواج أو الطلاق في بلد غير الذي انعقد فيه او في غير البلد الأم لكلا الزوجين أو احدهم، وهذا التنوع والتنازع من حيث الاختصاص قد يكون منسجماً مع القول الذي يتردد بان نص المادة (41) من الدستور سيفقد العراقي هويته لو كان هذا الأمر متروكاً دون تنظيم، ومن الجدير بالذكر إن مفهوم الأحوال الشخصية لم يكن معروف في التشريع الإسلامي واستعمل للمرة الأولى في العراق في المادة (11) من بيان المحاكم الصادر في 28/11/1917 وبيان أيار عام 1921 وقانون المحاكم الشرعية لسنة 1923 و كذلك في القانون الأساسي العراقي، ومن ثم في قانون الأحوال الشخصية للأجانب رقم 78 لسنة 1931.

وهكذا بدء التعامل مع هذا المصطلح ويرى الدكتور عبد الواحد كرم في كتابه الموسوم (الأحوال الشخصية في القانون الدولي الخاص العراقي) مطبعة المعارف سنة 1979، إن هذا المصطلح استعمل لأول مرة في التشريعات العربية بعد تأثره بالفقه الغربي وأول بوادر ظهوره في الفقه القانوني، كان في الفقه الإيطالي القديم عندما ظهرت خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ولايات ومدن مستقلة في شمال ايطاليا وكانت كل منها تطبق قوانين خاصة بها سميت بالأحوال (statute) إلى جانب القانون الروماني الذي كان يعتبر القانون العام لجميع الولايات.

وعوداً على اصل الموضوع فان المنظومة القانونية العراقية قد عالجت هذا الأمر وجعلت الأولوية يكون لمفهوم الهوية العراقية بمعنى إن القواعد القانونية لا تطبق على أي شخص ما لم يكن عراقي وان هذه الصفة المتعلقة بجنسيته وهويته تجعله خاضع للأحكام القانونية العراقية بغض النظر عن مذهبه وعقيدته او قوميته فيكون للهوية العراقية الفضاء الذي يستوعب باقي الأوصاف المقترنة بالدقة تجاه مفردات تكوين الشخصية من معتقد وقومية وسواها، حيث ورد في نص المادة (17) من القانون المدني العراقي رقم 41 لسنة 1951 المعدل، بان القانون العراقي هو المرجع في تكيف العلاقات عند حصول نزاع في الاختصاص والقانون الواجب التطبيق منه كما ورد في نص المادة (19) من القانون ذاته وعلى وفق ما يلي ((يرجع في الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين إما من حيث الشكل فيعتبر صحيحاً الزواج ما بين أجنبيين أو ما بين أجنبي وعراقي إذا عقد وفقاً للشكل المقرر في قانون البلد الذي تم فيه، أو إذا روعيت فيه الأشكال التي قررها قانون كل من الزوجين)) وأردف النص المذكور في البند (2) من المادة المذكورة ما يلي (على إن القانون العراقي يسري بحق الزوج على العلاقات الناشئة من الزواج وأثاره إذا كان الزوج عراقي وقت انعقاد عقد الزواج وكذلك بالنسبة للطلاق التفريق والانفصال والبنوة الشرعية والولاية وسائر الواجبات وما بين الآباء والأولاد يسري عليها قانون الأب).

 وهذا النص في المادة (19) وسواها يؤكد على إن الأحوال الشخصية حينما يتم التعرض لها عند التطبيق تراعي أولا الصفة العراقية عند الزوج ومن ثم تأتي من بعدها التفرعات الأخرى سواء المذهبية أو القومية أو غيرها. كما أن القانون العراقي قد شمل بالاختصاص المرأة العراقية حينما تتزوج بأجنبي وورد في تأكيد ذلك نص الفقرة (5) من المادة (19) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 الذي بين بان القانون العراقي وحده الذي يطبق على العلاقات الناشئة عن الزواج والطلاق إذا كان احد الزوجين عراقي.

ومن ذلك التوضيح أرى إن المادة (41) من الدستور النافذ قد راعت الهوية العراقية بشكل دقيق وواضح وعبرت عن تمسك الدستور بهذه الهوية التي يتشرف بها كل عراقي يؤمن بوحدة العراق وسلامة أمنه وشعبه وأرضه.

اعادة انتاج الهوية العراقية(7)

محاولة اولية لمعرفة الذات ونقدها

يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم الحديثة التي ترتبط بالوجود والذات والتراث الثقافي، مثلما ترتبط بالتعدد والتنوع والاختلاف والتغير الاجتماعي في صيغها المختلفة ومستوياتها المعرفية المتنوعة وكذلك في سياقاتها المتعددة التي تنتج وعيا اجتماعيا يثير تساؤلات تقترن بالهوية من حيث دلالاتها وابعادها ومكوناتها الاساسية وعلاقاتها بما هو ثابت ومتغير من عناصرها، ومن حيث هي وعي متوتر وملتبس في علاقتها مع مكوناتها من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية، ومن حيث اقترابها وابتعادها عن الوعي بها والتذبذب بين العناصر التي تستوعبها داخل الثقافة الواحدة، وكذلك حضورها في العالم حيث تجري عملية التثاقف التي لا تكف عن التواصل والتحاور والتغيير، وبخاصة منذ ان اثارت العولمة وبدايات ما بعد الحداثة تساؤلات عديدة في مقدمتها اشكالية الثقافة والهوية على نطاق محلي وعالمي. وقد اخذ الحديث عنها يقترن بصورة متلازمة مع اطروحات التعددية والديمقراطية وصراع الحضارات، حيث اصبح الارتياب من العولمة هاجساً مركباً من اندماج عالمي لا يراعي المساواة بين البشر ويعمل على احتواء الآخر بصورة لا ارادية احيانا، وهو ما يوسع شقة الخلاف والاختلاف بين الأنا والآخر، وفي ذات الوقت يبعث على اساءة فهم معنى الاختلاف بين الثقافات، الذي يؤدي الى تفكيك بنية العلاقات الاجتماعية التواصلية وامكانية تزايد حدة الصراعات الحضارية.

ان الانشغال بالهوية ليس عيبا ولا سلوكا مثيرا للانتباه والاستغراب اذا كان ايجابيا، ولكن حين يكون سلبيا ويساعد على تراجعها ونكوصها والاستغراق في الاوهام والهواجس، فقد يتحول الامر الى مركب نقص حضاري يعمق الشعور بالعجز والقهر والاضطهاد ويزيد من القلق والاستلاب، دون اية مبررات احيانا. والاكثر خطورة هو ان يتحول تبرير العجز والنكوص الى القاء المسؤولية على الآخر وحده، والجري وراء "نظرية المؤامرة" التي تتركنا نبكي او نتباكى على حالنا وعلى هويتنا. يشير يورغن هابرماس، الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني، الى ان الخلاف وليس الاختلاف هو السبب الرئيسي في ازمة الهوية، الذي يعود في جذوره الى ضعف الوعي الاجتماعي، من الداخل، اي من الذات اولا ومن الآخر ثانيا، مع ان الفصل بينهما امر تعسفي دوما، لان هناك علاقة جدلية بينهما. وعلينا تحديد موقفنا من ( الأنا) ومن ( الآخر)، وان نبدء اولاً من (الآنا) لان الانشغال (بالآخر) دون (الأنا) يبعد الخلاف والاختلاف ونقاط التشابه والالتقاء بين الأنا والآخر.

لكن الانشغال بالآنا دون الآخر قد يبعدنا عن الاسباب الرئيسية التي ولدت الخلاف والاختلاف، سيما ان قياس حجم الخلاف والاختلاف وعمقه ليس بهين، فربما نغالي في الاختلاف على حساب الخلاف، فنجعل منه اكبر حجما وثقلا ونخلع عليه كل الصفات السلبية، وفي ذات الوقت، نغالي في(الآنا) فنخلع عليها كل الصفات والفضائل الحميدة.

والحقيقة فقد احتل مفهوم الهوية اليوم مساحة واسعة من التفكير والخطاب واخذ الاهتمام بالعمل والانجاز يتعدى وفي كثير من الاحيان حجم الاهتمام بالممارسة العملية لتوكيد الهوية واعادة انتاجها وحمايتها من احتواء الآخر.

فما هي الهوية؟

الهوية (Identity) هي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، لكن هذه السمة ليست ثابتة أو جاهزة أو نهائية، كما يفهمها او يعرفها البعض احيانا، ولذلك لا يمكننا صياغة تعريف اجرائي لها ولا توصيفها وتحديد خصائص ذاتية لها لانها مشروع ثقافي مفتوح على المستقبل. ولكنه مشروع معقد ومتشابك ومتغيرمن العناصر المرجعية المنتقاةالمادية والاجتماعية والذاتيةالمتداخلة والمتفاعلة مع التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي.

والهوية ليست احادية البنية وانما تتشكل من عناصر متعددة ، في مقدمتها الاثني والديني واللغوي والاخلاقي والمصلحي، اضافة الى الخبرةالذاتية والعلمية والوجدانية.

والهوية ليست مجموع هذه العناصر، بقدر ما هي محصلة مركبة من عناصر تشكلت عبر الزمن وتم تلقيحها بالخبر والتجارب والتحديات وردود الافعال الفردية والجماعية عليها. في اطار الشروط الذاتية والموضوعية السائدة والطارئة عليها.

والاصل في الهوية يرتبط بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني كما يرتبط بالابعاد الثقافية للشخص والمجتمع مثلما تتصل بالانتماء السياسي للدولة.

وعموما تتغذى الهوية من مصدرين هما:

اولا ـ التراث، وهو المصدر الثابت او الجوهر الذي يشكل الذهنية التي تقولب " الشخصية النموذجية " التي تنبثق عنها الهوية.

ثانيا ـ المجتمع، الذي يشكل المصدر الثاني الطارئ والمتغير من الهوية، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا، فمن الممكن انه يعيق ما هو ثابت او يعطله مؤقتا، لان الثابت غالبا ما يعيد انتاج نفسه من جديد، ولو بصفة اخرى يقتضيها هو في اللحظة المناسبة ووفق صيرورة المجتمع وشروط تغيره الذاتية والموضوعية.

ومن اهم المتغيرات الطارئةهي السلطة والمصلحة والكوارث والحروب والقوى الخارجية

وغيرها.

ويشير احمد زكي بدوي، بان الهوية هي التي تميز الفرد نفسه عن غيره، اي تحديد حالته الشخصية. ومن السمات التي تميز الافراد عن بعضهم البعض هو الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة .

ولكن هذا التعريف ينطبق على الفرد وليس الجماعة.

اما مبدأ الهوية فيقصد به ان الموجود هو ذاته، او هو ما هو، ويهيمن هذا المبدأ على الاحكام والاستدلالات الموجبة، ومن شانه ان يجعلنا نحرص على ان لا نخلط بين شيء وما عداه، وان لا نضيف للشيء ما ليس فيه.

ويمكننا توضيح المبدأ الذي تقوم عليه الهوية بمعادلة بسيطة: هي : أ= أ

وتتطلب هذه المعادلة بان كل مفهوم يبقى في مجرى عملية التفكيرالمترابطة محتفظا بمعناه نفسه فقط تماما، وبمعنى اخر، ان شيئا ما يمكن ان يتطابق مع نفسه فقط وفي جميع الصفات والخصائص الاساسية له. ولكن في واقع الامر لا يمكن ان يبقى الشيء من الناحية العملية مطابقا لنفسه دوما. لانه متغير او خاضع للتغيير، ولذلك يصبح مشابها لنفسه وليس متطابقا معها.

الهوية اذن ليست كلا متجانسا ومتكاملا، ولكن ثمة نموذجا مركزيا يضفي عليها طابعها العام ويميزها عن غيرها. كما ان هذا النموذج المركزي ليس جامعا لكل الصفات، وليس صلبا وجامدا، وانما هو نموذج يشتمل على عناصر ايجابية وسلبية دوما، بسبب اختلاف ثقافة الافراد ومصالحهم ووعيهم به وكذلك ممارستهم لعناصره، وتأثرهم بعوامل ذاتية وموضوعية. وما ينطبق على الافراد ينطبق على المجتمع، فمثلما للافراد هوياتهم كذلك للمجتمعات، والفرق هو ان هوية الفرد لا تمثل الا شخصيته في المجتمع، في حين تمثل هوية المجتمع جميع افراده تقريبا.

ومن الممكن القول ان اية جماعة اوطبقة او طائفة او امة هي مجتمع ضائع ولا وجود له دون هوية تطبعه وتهيء له اسباب وحدته وبقائه واستمراره.

اما عوامل تحديد الانتماء في هوية فهي: الارض والدم والعقيدة واللغة واقوى هذه العناصر هو الدم ثم العقيدة.

اذن فالهوية هي اشكالية ذهنية وليست واقعا ملموسا دوما، وهي الية من اليات الدفاع الجمعي وليس الفردي، تتحرك للعمل في حالات عدم القدرة على الفعل او على التعاطي مع الآخر بشكل طبيعي، او حين ينتابها احباط ونكوص فتعجز عن اقامة التوازن بين الأنا والآخر، وبخاصة في اوقات التحديات المصيرية كالحروب والكوارث والازمات الثقافية.

تطرح الهوية تساؤلات مركزية منها:

ـ من أنا ؟

ـ من هو الآخر؟

ـ وما هي علاقتي معه؟

ـ وما هي الخصوصية التي تميزني عنه؟

ولكن ماهي الأنا؟

(الأنا) هي الذات، التي تشير الى ذاتي المستقلة في مقابل (الآخر) وكذلك تاكيد عناصر الاختلاف بين ذاتي والذوات الاخرى. غير ان(الأنا ) هي الذات الحاضرة الان، هي ذاتي انا التي تطورت عبر سنين طويلة ـ من الطفولة الى الكهولة ـ وخضعت الى متغيرات عديدة، رغم ثباتها الشكلي. وهذا يعني ان (الأنا) متغيرة في الزمان والمكان في خصائصها وفي علاقاتها مع الآخر. وحين يتكلم المرء عن "الأنا" يكون قد عبر عن (هوية) معينة وذاتية محددة، من خصائصها ان الآخرين يعرفونني من خلالها. اما نواة الهوية فهي القيم والمعايير والسلوك التي تفرزها الثقافة وتعيد انتاجها لتحافظ على بقائها وديمومتها حية في الذاكرة.

وحين تكون الثقافة في عروق الناس، فان حياتهم تصبح ثقافتهم  وثقافتهم تصبح حياتهم. ولا يحدث انسلاخ عن هذه الثقافة الا حين تكون"الأنا" مفككة وعاجزة او مهزومة، او حين تكون وافدة من الخارج وغير منبثقة من داخل المجتمع.  اذن هناك علاقة جدلية بين الأنا والنحن، فالهوية هي الأنا الجمعية، اي النحن، التي انا ذاتي جزء منها او مكمل لها، ومن خلالها استطيع ان اعرف ذاتي وادرك هويتي، سواء كان هذا الادراك حقيقيا ام زائفا.

تصبح الهوية هي انصهار الذوات في بوتقة واحدة هي (الجماعة)، بمعنى ان (النحن) عندما تمتد في الزمان والمكان امتدادا يفوق عمري الفردي، اي عندما تنتفي الحدود الفردية بيني وبين الآخرين في كل موحد هو (الجماعة) حيث تنتقل (النحن) من حيز الحس الى حيز التجريد، ومن حيز المكان المحدود زمانيا الى حيز المكان الممتد في الزمان والمكان، لتشكل هذه (النحن ـ الهوية)، الضمير الجمعي والوعي الاجتماعي، الذي بموجبه افكر واشعر واعمل واسلك، كما تشكل "العقل الجمعي" ، الذي بموجبه احكم والمخيال الشعبي الذي بموجبه ارغب واحلم.

هويتي اذن هي ما انتمي اليه في حيز زماني ومكاني واعتبر نفسي جزءا منه مع تداخلها مع هويات اخرى يصعب الفصل بينها في احيان كثيرة.

............................................................................

معجم الأثنولوجيا والأنتربولوجيا

إشراف بياربونت، ميشال إيزار 

1 - د. حيدرابراهيم علي / جريدة الراي العام السودانية

2- هشام الدجاني / جريدة الحياة اللندنية

3- يتين بليبر ترجمة عبدالله الكندي/ مجلة نزوى

4- تأليف: د. سعيد التل / الدستور الاردنية

5- زهير فياض/ مجلة تحولات

6- القاضي سالم روضان الموسوي/ شبكة النبأ المعلوماتية

7- د.ابراهيم الحيدري/ مجلة الثقافة الجديدة

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1 آيار/2007 -12/ربيع الثاني/1428