المرجعية بين التاريخ وتحديات الواقع

بقلم: د. وليد سعيد البياتي

 إشكاليات التاريخ:

      كما انه لايمكن الهروب من حكم التاريخ، كذلك لايمكن الخروج من التأثيرات التاريخية في حركة الصراع. ولما كان موقف العقيدة الاسلامية من التاريخ يتجاوز عقدة التاريخانية الى مفهوم تفاعل العناصر المؤثرة في حركة التاريخ والصانعة له، ولما كان الفكر الاسلامي يفسر علاقة الانسان بحركة التاريخ من منطلقات تتجذر عند فلسفة نشأة التاريخ بإعتبار ان الانسان أحد اهم عناصر صناعة التاريخ، يصبح من التجني أن يتم الجمود عند نقطة الحدث التاريخي دون التفكير في الغايات، باعتبار ان الفكر الاسلامي ينحو باتجاه تحقيق غايات ومثل عليا حتى وإن اهملها التاريخ في مرحلة زمنية معينة، أو لم تظهر نتائجها في ذلك الوقت.

 والانسان في كل مراحل حركة التاريخ يعتبر عنصرا دافعا باتجاه المستقبل مستلهما في ذلك عقيدة الانسان الخليفة التي ستتكرس في عصر الظهور الشريف. وهكذا فأن الرؤية المعرفية لاتحدث قطيعة بين القضايا الاجتماعية و والاقتصادية والسياسية وخلفيتها الفلسفية والشرعية.

 ومن هنا يحدث ذلك التفاعل بين القيادة والقواعد الشعبية، ففي عصر الامامة الحاضرة كنا نشهد ذلك التفاعل العميق بين الامام وقواعده الشعبية علىالرغم من الملاحقة والمتابعة المستمرة لتحركات الامام من قبل الانظمة الحاكمة في عصره، وقد سعت الامامة الى تطوير وانضاج العقل الجمعي ليتحمل المسؤولية في عصر الغيبة، ولما كانت الامامة تمثل استيعابا كليا لحركة التاريخ، فانها لم تدعو الى الجمود عند الموقف التاريخي، بل دعت الى مراجعة التصورات السائدة في كل مرحلة حتى يمكن استنهاض العقل من حالة الركود ودفعه للتأمل في الماضي واستخلاص الحكمة منه، والتطلع للمستقبل باعتبار ان الفكر الاسلامي يشكل فكرا حضاريا ينحو نحوغايات مستقبلية تفسر العلاقة بين الانسان والمثل العليا، وهكذا اصبح لزاما على المرجعية بعد الغيبة الكبرى (329 للهجرة) ان تمثل هي الاخرى استيعابا كليا لحركة التاريخ بأعتبارها تقود الصراع الحضاري في المرحلة الحالية.

إن غياب الموقف النقدي سيشكل عائقا امام تقدم الوعي الجمعي للامة، حيث ان المجتمعات الانسانية لاتتقدم بالاستقراءات السطحية للاشكاليات التاريخية،  والانغماس في الحدث التاريخي الى حد الجمود يوقف تفاعلات العقل في تطلعه نحو المطلق، ومن هنا يجب ان يصبح الحدث التاريخي عنصرا دافعا في التحرك بأتجاه المستقبل، ولهذا يصبح على العقل الرشيد توجيه العقل الجمعي في الانعتاق من حالة الركود والتحول الى حالة الفعل, ولا زلت اذكر كلمات شيخ الخطباء وعميد المنبر الحسيني العلامة الدكتور الشيخ احمد الوائلي وهو يوجه الشباب في بدايات سبعينات القرن الماضي في خطبة له في حسينية عبد الرسول في الكرادة حيث قال: " ليست المشكلة في ان نبكي على الامام الحسين عليه السلام، ولكن المهم ان نعرف لماذا ثار الحسين مضحيا بنفسه الشريفة وأهل بيته الاطهار وصحابته الاخيار"؟ كان هذا التساؤل الثوري الذي طرحة الشيخ الكريم جزءا من عملية إصلاح العقل الجمعي وتحريكه نحو تقصي المفاهيم دون الجمود عند الموقف التاريخي.

 فحب الحسين  عليه السلام فضيلة لاتجازيها فضيلة, ومنقبة لاتساميها منقبة، لكن علينا إدراك القيم التي من أجلها ثار عليه السلام. ولهذا تتحمل المرجعية مسؤولية شرعية وتاريخية في اصلاح المجتمعات وتقويمها واستنهاض العقل من حالة الركود الى حالة التفاعل، ولكن ذلك لن يتم إلا بعد أن تصبح العلاقة بين المرجعية والقواعد الشعبية علاقة تفاعلية كما كانت على الدوام في عهد الائمة الظاهرين، ومن هنا جاءت هذه الدراسة الموجزة التي تناقش واقع المرجعية وتحديات العصر.

المرجعية الواقع والمستقبل:

   لاشك ان اعتماد القواعد الشعبية للطائفة الشيعية الاثنا عشرية على العلماء في المسائل الفقهية والشرعية قد تكرس بعد الغيبة الكبرى (329) للهجرة، وذلك بتوجيه من الامام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، متوخيا في ذلك متطلبات العصر ( عصر الغيبة الكبرى)، وقد شكلت العلاقة بين المراجع الاعلام والقواعد الشعبية اهم اشكال صيانة المذهب والحفاظ على اللحمة الشيعية، ولكننا وفي ظروف حركة التاريخ نكتشف دائما الحاجة الى بلورة مواقف تساهم في رسم الشكل المستقبلي للعلاقة بين القواعد الشعبية والمراجع العظام، سعيا وراء توطيد البناء الشيعي المستهدف عبر حركة التاريخ، ومن هنا كان لزاما على المهتمين بالوجع الشيعي ان يسهموا بأرائهم، ومواقفهم في وضع لبنات جديدة في البناء رغبة في منح الجسد الشيعي حيوية اضافية يحتاجها اي كيان مهمته التفاعلمع الاخر، ولذلك  وفي اواخر الثمانينات من القرن الماضي(1987) وفي عصر مرجعية آية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي (ت1409/1989) (قدس) كنت قد وضعت دراسة معمقة حول مأسسة المرجعية (تحويل المرجعية الى شكل مؤسسي) يقودها مجلس شورى المراجع المتشكل من المراجع العظام في العراق، وقدمت وقتها تصورا عن البناء الهيكلي والتنظيمي من وجهة نظر مستقبلية، وقد ارسلت الدراسة الى المرجعية في ظروف قاسية كانت فيها القواعد الشعبية تتعرض للضغوط والمطاردة والاعتقالات هذا غير الاعدامات التي طالت الكثير من رجال الفكر في الحوزات والصروح الاكاديمية، وبعد سقوط الصنم وتحرر النفس من الضغط الصدامي عدت وارسلت الدراسة مرة ثانية ( سنة 2004) بعد وضع الاضافات والتعديلات بما يناسب وظروف المرحلة الحالية، ولما لم استلم اي رد او تعليق فاجد نفسي ملزما التزاما ادبيا وشرعيا وتاريخيا في تقديم موجز بسيط لهذه الدراسة عسى ان تتم مناقشتها عبر التساؤلات والتعليقات التي ستسهم في تعميق الفكرة وتطويرها سعيا وراء استنهاض العقل والخروج من حالة الركود.

المرجعية، نظرة في البناء الهيكلي:

    بقيت المرجعية منذ تأسيسها على يد شيخ الطائفة الطوسي(460/1066) تتحمل مسؤولية توجية القواعد الشعبية للطائفة وقد عاصرت العديد من التحولات على مر القرون، وواجهت الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية بالكثير من الصبر، وقد شكلت فتاوى الكثير من المراجع العظام منعطفات تاريخية في تاريخ المرجعية، لكن الاشكالية تكمن في ان البناء الهيكلي لم يشهد تطورا نوعيا وكذلك مناهج التدريس والبحث في الحوزات، فمثلا والى عهد قريب (قبل اكثر قليلا من ثلاثين عاما) كان هناك اتجاها سائدا في الحوزة يمنع تدريس العلوم الفلسفية اضافة الى بعض المناهج العلمية التي تدرس في مراكز البحث الاكاديمي (الجامعات) إضافة الى التسجيل والدراسة في الحوزات والحاجة المستمرة الى كل ما هو جديد، ومن هنا جاءت نظرتنا في التطوير متمثلة بمايلي:

أولا: مجلس شورى المراجع: ويتكون من المراجع العظام في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية وسامراء المشرفتين ويكون مقرها النجف ووكلائها في كل انحاء العراق، ويتحمل مجلس شورى المراجع المسؤولية عن:

1-  انتخاب المرجع الاعلم والذي سيكون رئيس المجلس،  وهو ايضا زعيم الحوزة العلمية في النجف الاشرف.

2-  توحيد اصدار الفتاوى وبذلك يتم التخلص من الاشكاليات التي تواجه القواعد الشعبية وخاصة في المواسم الدينية ومعرفة المواقيت والتعامل مع الواقع مما يقدم تصورا رصينا للموقف الشيعي الموحد.

3-  مراقبة جهاز المرجعية لمنع اية توجهات لاتخدم المصلحة العامة.

4-  تشكيل الجهاز المالي.

5-  تشكيل لجان شرعية لمراقبة صرف الاموال.

6-  توحيد الخطاب الديني في التفاعل مع الحدث ايا كان دينيا، سياسيا، اجتماعيا او اقتصاديا.

ثانيا: بيت المال: لايمكن انكار حجم الاموال التي تقدمها القواعد الشعبية كحقوق شرعية من اخماس وصدقات ونذور اضافة الى التبرعات والهدايا، وهذه الاموال تحتاج الى حماية (بيت مال او مصرف) لتخزن فية الى حين التصرف بها وفق النص الشرعي بما يخدم احتياجات القواعد الشعبية، أضافة الى ما يصرف كمرتبات او مساعدات للاساتذة في الحوزات والاكاديميات الاسلامية التي هي من اختصاص مجلس شورى المراجع، مع ايجاد جهاز تقني شرعي يشرف على تصريف الحقوق وفق ما يشير به مجلس شورى المراجع مما يضمن عدم صرف الاموال في غير مستحقاتها الشرعية.

ثالثا: مراكز البحوث المتخصصة: وهذا الموضوع تم طرحه ايضا على الاجهزة الحكومية من اجل تأسيس مراكز بحوث متخصصة يشرف عليها اكاديميين في كل الاختصاصات المتداولة حاليا وتعمل هذه المراكزعلى:

1-  تقديم الدراسات والبحوث المتقدمة والتي ستكون اساسا لتطوير المجتمع على مختلف الاصعدة، كما انها اضافة الى كونها ستكون الارضية لمواكبة التقدم العلمي والتقني في كل المجالات التي يحتاجها المجتمع مع الحفاظ على القيم الشرعية والعقائدية انطلاقا من ان الانسان احد اهم عناصر صناعة التاريخ.

2-  تزويد الجامعات ومراكز البحث الحوزوي بكل ما هو جديد من بحوث علمية ودراسات متقدمة.

3-  المساعدة في تطوير مناهج البحث.

4-  مساعدة السلطة في تطوير عملها و التخلص من الجوانب السلبية عبر تقديم المشورة العلمية.

5-  تكون مركزا لانتخاب العقول العلمية و لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

رابعا: الجانب الاعلامي: إن تحول الاعلام من الشكل الاذاعي البسيط الى الفضائيات قد احدث ثورة في علم الاعلام الذي استغل سياسيا ودينيا، كما استغل ثقافيا واقتصاديا في آن، غير ان نظرة موضوعية الى القنوات الاعلامية العراقية، وخاصة ذات الاتجاه الديني تصيبنا بالاحباط، كما انها تطرح الكثير من التساؤلات حول مدى صدقية الاموال التي تصرف هنا وهناك بأسم الاعلام الديني، وجدية العاملين عليها اضافة الى الالمام الثقافي بالاعلام كعلم ومنهجية. ولهذا يجب استغلال الاعلام ليكون منطلقا نحو الاتي ويجب ان يكون مدرسة تنتقل بالعقل من حالة الركود الى حالة التفاعل مع الحدث، وهذا مما زلنا نبحث عنه.

ولايخفى ما للإعلام من دور كبير في توجيه الانسان وبالذات الشبيبة، فغالبا ما يتأثر الشباب بالموقف الاعلامي، وبالدعاية الاعلامية، وهم بذلك يشكلون قناعاتهم وفق ما يطرح عليهم وخاصة اذا وجد الاعلام الخبيث الذي يكرس القيم المنحطة وتقديمها على انها قيم ومثل عليا لاشغال الشباب وابعادهم عن الواقع الحقيقي، وكنت اتمنى لو يتمكن ثلة من المثقفين الشيعة المتنورين لانشاء قناة فضائية تطرح حقيقة الواقع الشيعي وتقوم بتوجيه الشباب نحو المستقبل وفق المنهج العقائدي.

خامسا: العلاقات الشيعية الشيعية: على الرغم من ان الحوزات العلمية تتصف بالتعددية، فطلابها من مختلف بلاد العالم إلا انني و من خلال بحثي وعلاقاتي في الاطراف الشيعية في انحاء العالم وجدت نوع من انقطاع التواصل إلا فيما يخص الحدث العالمي، ولهذا ولسنوات طويلة حاولت ايجاد حالة من التواصل المستمر بين الاطراف الشيعية من مصر الى البحرين فاليمن فايران، والشيعة في وسط وشمال افريقيا ثم في جنوب غرب آسيا الى كندا،  وبالتأكيد فان الجهد الفردي لايمكن ان يشهد نفس نجاح الجهد المؤسساتي، ولهذا قدمت دعوة الى المراجع العظام للتخلص من العمل الفردي والعمل على توحيد الخطاب الشيعي من أجل لم شمل الموقف الشيعي، فمثلا لم يظهر ذلك التوحد الشيعي المرجو اثناء الحرب بين حزب الله والكيان الصهيوني، وحتى البيانات التي اصدرها البعض لم تكن على المستوى المرجو في حفظ الكيان الشيعي الذي يتعرض للظلم في جميع البلاد العربية ومعظم تلك التي تدعي انها اسلامية.

 والغريب أن كل الدعوات السابقة وهي دعوات مخلصة لامنفعة شخصية لي فيها كل هذه الدعوات وكل ذلك الجهد في الدراسات التي قدمتها لم تلق آذآنا صاغية ولم استلم حتى كلمة شكر واحدة تعوض جهدي، ولهذا قررت ان اطرح الموضوع للنقاش العلني عبر هذا المقال، فمع خالص تقديري للمراجع العظام إلا ان الانسان غير المعصوم عصمة ألهية يبقى قابلا للنقاش، ونحن نأمل في يوم تصبح المرجعية خصنا وموئلا وملاذا للشيعة كما أريد لها من الامام المعصوم.

*المملكة المتحدة – لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 25 نيسان/2007 -8/ربيع الثاني/1428